السبت، 13 أبريل 2013

بحث حول : هل المندوب مأمور به حقيقةً أم مجازًا ؟


   الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد .
مرَّ معنا في الدرس الماضي شرح قول الناظم رحمه الله تعالى :


وَاخْتَلَفُوا في النَّدْبِ هَلْ مَأْمُورُ     

حَقِيقَةً فَكَوْنُهُ الْمَشْهُورُ         


هل المندوب مأمور به حقيقةً أم مجازًا ؟ هذا محل النزاع بين أهل العلم ، قال : ( فَكَوْنُهُ الْمَشْهُورُ ) ، ( فَكَوْنُهُ ) أي فكون المندوب مأمورًا به حقيقةً هو القول المشهور عند أهل الأصول وهو الراجح لِمَا سبق بيانه ، ومرّ كذلك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال بعد حكاية الخلاف : التحقيق في مسألة الندب مع قولنا : الأمر المطلق يفيد الإيجاب . نحن نقول : الأمر المطلق يفيد الإيجاب . حينئذٍ كيف نقول : المندوب مأمور به حقيقةً ؟ فثَمَّ فرق بين مسألتين :
- الأمر المطلق .
- ومطلق الأمر .
فالأمر المطلق لا يدخل فيه المندوب ، بل هو خاص بالإيجاب ، وأما مطلق الأمر فهذا يدخل فيه الإيجاب والمندوب ، لذا فرقٌ بين المسألتين ، فلذلك قال : التحقيق في مسألة الندب مع قولنا : الأمر المطلق يفيد الإيجاب . أن يقال : الأمر المطلق لا يكون إلا إيجابًا ، وأما المندوب إليه فهو مأمور به أمرًا مقيدًا لا مطلقًا ، ليس أمرًا مطلقًا وإنما هو مقيدًا ، فيدخل في مطلق الأمر لا في الأمر المطلق .
إذًا ( وَاخْتَلَفُوا في النَّدْبِ هَلْ مَأْمُورُ ** حَقِيقَةً ) الصواب أنه مأمور به حقيقةً ، حينئذٍ يدخل في أيّ النوعين ؟ نقول : في مطلق الأمر لا في الأمر المطلق ، لأن الأمر المطلق هذا يختص بالإيجاب ، ولذلك قال : فيدخل في مطلق الأمر لا في الأمر المطلق . يبقى أن يقال : فهل يكون حقيقةً أو مجازًا . والأصل كما ذكرنا أنه حقيقةً .
ابن القيم رحمه الله تعالى فَصَّل هذه القاعدة وهي فائدة ذكرها صاحب   (( التحبير )) وهي محلها ها هنا . قال ابن القيم في (( بدائع الفوائد )) : الأمر المطلق والجرح المطلق والعلم المطلق والترتيب المطلق والبيع المطلق والماء المطلق والملك المطلق غير مطلق الأمر والجرح والعلم .. إلى آخره ، كل هذه مما يحصل فيها نزاع بين أهل العلم سواء كان في باب الأصول أو فيما يتعلق بمسائل الفقه ، الماء المطلق غير مطلق الماء ، صحيح ؟ الماء المطلق لا ينقسم وهو قسم واحد وهو الطهور ، مطلق الماء هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
- طهور .
- وطاهر .
- ونجس .
لذلك النجس يدخل في مطلق الماء ولا يدخل في الماء المطلق ، إذًا ثَمَّ فرقٌ بين القاعدتين ، فالأمر المطلق والجرح المطلق والعلم المطلق والترتيب المطلق والبيع المطلق والماء المطلق والْمِلك المطلق غير مطلق الأمر ومطلق الجرح ومطلق العلم ومطلق الترتيب ومطلق البيع ومطلق الماء ومطلق الْمِلك .. إلى آخر ما يذكر في أمثلة لهذه القاعدة .  
قال : والفرق بينهما من وجوه ، الفرق بين الأمرين مطلق الشيء والشيء المطلق هكذا يُعنون لها ، مطلق الشيء والشيء المطلق ، ثم تُمثل لهذه القاعدة بهذه الأمثلة ، الفرق بينهما من وجوه :
أحدها : أن :
- الأمر المطلق لا ينقسم إلى أمر إيجاب وندب ونحوهما ، أليس كذلك ؟ فلا يكون موردًا للتقسيم .
- ومطلق الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب ، وأمر ندب .
*-* ومطلق الأمر ينقسم .
*-* والأمر المطلق غير منقسم .
هذا الفرق الأول :
مطلق الشيء ينقسم .
والشيء المطلق لا ينقسم .
مطلق الأمر ينقسم إلى : أمر إيجاب ، وأمر ندب .
والأمر المطلق لا ينقسم ، بل هو يتعين بماذا ؟ بالإيجاب .
الثاني : أن الأمر المطلق فرد من أفراد مطلق الأمر ، مطلق الأمر عام ، يشمل ماذا ؟ أمر الإيجاب وأمر الندب ، حينئذٍ الأمر المطلق خاصٌّ بماذا ؟ بالإيجاب ، أيهما يدخل تحت الآخر ؟ الأمر المطلق يدخل تحت مطلق الأمر ، إذًا هو فرد من أفراده ، كما نقول : الماء النجس [ يدخل تحت مطلق الأمر ولا يدخل تحت ماذا ] يدخل تحت مطلق الماء ولا يدخل تحت الماء المطلق ؟
إذًا الماء المطلق هو الطهور ، يدخل تحت ماذا ؟ مطلق الماء .
إذًا الشيء المطلق هذا فرد من أفراد مطلق الشيء ، الفرق الأول الشيء المطلق لا ينقسم ، ومطلق الشيء ينقسم . الثاني إذا عرفنا أنه ينقسم أو لا ينقسم هذا داخل في السابق حينئذٍ نفرع عليه ماذا ؟ أن الشيء المطلق فرد من أفراد مطلق الشيء ، أليس كذلك ؟ فيكون داخلاً تحته .
أن الأمر المطلق فرد من أفراد مطلق الشيء ولا ينعكس ، يعني فلا ينعكس بمعنى ماذا ؟
مُطلق الأمر هذا عام .
والأمر المطلق هذا خاص .
الخاص يدخل تحت العام ، وأما العام لا يدخل تحت خاص ، ولذلك قال : لا ينعكس ، بمعنى أن مطلق الأمر لا يدخل تحت الأمر المطلق ، لأن الأمر المطلق خاص ، ومعلوم أن الخاص لا يدخل تحته العام بل العكس ، هذا الفرق الثاني .
الثالث : أن نفي مُطلق الأمر يستلزم نفي الأمر المطلق دون العكس ، هو شبيه بالعام والخاص ، يعني فيه معنى العموم الشمول البدلي ، حينئذٍ إثبات الأخص [ ها ] يستلزم إثبات الأعم ، وإثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص ، فمطلق الأمر إثباته لا يستلزم ماذا ؟ إثبات الأمر المطلق ، لأنه قد يكون ندبًا ، عرفنا أن الأمر المطلق هذا هو الإيجاب بعينه ، إذًا إثبات الأمر المطلق يستلزم إثبات مطلق الأمر ، وإثبات مطلق الأمر لا يستلزم إثبات الأمر المطلق ، إثبات الأعم قلنا قاعدة سابقة مرارًا كررناها باعتبار الأعم والأخص وقلنا : سيذكرها المصنف رحمه الله تعالى ، يعني ابن القيم .
إثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص .
إثبات الأخص لا يستلزم إثبات الأعم .
[ هذا في النفي ، بقي ماذا ؟ ] هذا في الإثبات بقي في النفي [ ها ]
نفي الأعم يستلزم نفي الأخص .
نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم .
وكلها تقال هنا ، فحينئذٍ قوله رحمه الله تعالى : أن نفي مطلق الأمر الذي هو الأعم يستلزم نفي الأمر المطلق الذي هو الأخص دون عكس ، يعني ماذا دون عكس ؟ أن نفي الأمر المطلق لا يستلزم نفي مطلق الأمر ، لأن مطلق الأمر هذا عام يشمل النوعين : أمر إيجاب ، وأمر ندب . فإذا نفيت أمر الإيجاب لا يستلزم نفي مطلق الأمر لأنه يصدق على الندب .
الرابع : أن ثبوت مطلق الأمر لا يستلزم ثبوت الأمر المطلق ، يعني إثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص ، فإثبات مطلق الأمر لا يستلزم إثبات الأمر المطلق ، لأنه قد يُثبت الأول ويستلزم إثبات أو يثبت ماذا ؟ الندب ، ولا يثبت الأمر المطلق الذي هو الإيجاب ، إذًا إثبات مطلق الأمر لا يستلزم إثبات الأمر المطلق ، دون العكس وهو ثبوت الأمر المطلق يستلزم ثبوت مطلق الأمر ، لأن إثبات النوع يستلزم إثبات الجنس ، إذا قلت : هذا إنسان معناه ماذا ؟ حيوان ناطق ، لا يلزم منه أن يكون فرسًا الذي هو النوع الآخر ، حينئذٍ إثبات الأخص يستلزم إثبات الأعم ، فهذا الذي عناه بقوله : أن ثبوت مطلق الأمر لا يستلزم ثبوت الأمر المطلق ، الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص دون العكس ، وهو أن ثبوت الأمر المطلق يستلزم ثبوت مطلق الأمر ، لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم .
الخامس : أن الأمر المطلق نوع لمطلق الأمر ، نوع من أنواعه كما تقول : الاسم نوع للكلمة ، لأن الكلمة اسم وفعل ، إذًا الاسم نوع للكلمة ، مطلق الأمر ماذا ؟ ندبٌ ، والأمر المطلق الذي هو الإيجاب ، إذًا الأمر المطلق نوعٌ لمطلق الأمر ، صحيح ؟ الأمر المطلق نوعٌ لمطلق الأمر ؛ لأن مطلق الأمر هذا على نوعين :
- أمر ندب .
- وأمر إيجاب .
الأمر يجاب الذي هو الأمر المطلق فحينئذٍ صار نوعًا من أنواعه .
قال : الأمر المطلق نوعٌ لمطلق الأمر ، ومطلق الأمر جنس للأمر المطلق كالكلمة جنس للاسم ، والاسم نوع من أنواع الكلمة هذا الذي يكون تمثيلاً له .
السادس : أن الأمر المطلق مُقيد بقيد الإطلاق لفظًا ، لكنه لذلك الذي يستمع يقول : الأمر المطلق هذا قيد . لكنه في المعنى هو مجرد عن القيد ، ولذلك شمل النوعين ، أن الأمر المطلق مقيد بقيد الإطلاق لفظًا مجرد عن التقييد معنًى ، ومطلق الأمر مجرد عن التقييد لفظًا مُستعمل في المقيد وغيره معنى ، وهذا من بديع ما ذكره رحمه الله تعالى .
الأمر المطلق في اللفظ مقيد ، لكنه في المعنى مجرد عن القيد ، ولذلك دخل تحته الندب والإيجاب .
أما مطلق الأمر هذا غير مقيد لكنه ماذا ؟ يشمل ماذا ؟ المقيد وغيره ، دخل تحته النوعان ، ولذلك قال العبارة : أن الأمر المطلق المقيد بقيد الإطلاق لفظًا مجرد عن التقييد معنًى ، ومُطلق الأمر بالعكس ، مجرد عن التقييد لفظًا مُستعمل في المقيد وغيره معنًى .
السابع من الفوارق بين مُطلق الشيء والشيء المطلق ، أن الأمر المطلق لا يصلح للمقيد ، يعني في الاستعمال ، لا يُستعمل الأمر المطلق مرادًا به مطلق الأمر ، لا يستعمل كما أن الإنسان لا يستعمل يُراد به الفرس مثلاً لأن هذا له معنى وهذا له معنى ، ولو كان بينهما عموم وخصوص ، حينئذٍ لا يستعمل الأمر المطلق قال : الأمر المطلق لا يصلح للمقيد . يعني لا يصلح أن يستعمل في المقيد ، ومطلق الأمر يصلح للمطلق والمقيد ، يعني عام يشمل النوعين .
الثامن - هذه كلها متداخلة ، كلها بمعانٍ متداخلة ، لو علمت أن مطلق الشيء عام ، والشيء المطلق أخص حينئذٍ انضبطت عندك المسألة من أولها لآخرها .
الثامن : أن :
- الأمر المطلق هو المقيد بقيد الإطلاق فهو متضمن للإطلاق والتقييد .
- ومطلق الأمر غير مقيد ، وإن كان بعض أفراده مقيدًا .
يعني باعتبار ماذا ؟ هل هو مقيد في اللفظ والمعنى أو لا ؟ هو بعينه السابق .
التاسع : أن من بعض أمثلة هذه القاعدة الإيمان المطلق ومطلق الإيمان ، الإيمان المطلق المراد به الكامل ، ومطلق الإيمان المراد به الناقص ، الإيمان المطلق ومطلق الإيمان ، فالإيمان المطلق لا يُطلق إلا على الكامل الكمال المأمور به ، ومطلق الإيمان يطلق على الناقص والكامل ، يعني يراد به النوعان ، ولهذا نفى النبي r الإيمان المطلق عن الزاني وشارب الخمر والسارق ولم ينفِ عنهم مطلق الإيمان ، لأن معه أصل الإيمان بكبيرة بفعل المعصية لا يخرج بها عن الإسلام عن الإيمان ، وحينئذٍ معه أصل الإيمان ويطلق عليه مطلق الإيمان ، فلا يدخل في قوله تعالى : ﴿ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران : 68] . لأنه أطلق ﴿ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فلا يشمل إلا الإيمان المطلق ، ولا في قوله تعالى : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ المؤمنون : 1] ، ولا في قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الأنفال : 2] . ونحوها من الآيات التي جاء فيها الإيمان مطلقًا ، حينئذٍ لا يدخل فيها العاصي صاحب الكبيرة ، ويدخل في قوله تعالى : ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [ النساء : 92] . وفي قوله تعالى : ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا           [ الحجرات : 9] . دل ذلك على أن هذه الآيات يدخل فيها مطلق الإيمان ولو كان عاصيًا ، وفي قوله r : « لا يقتل مؤمن بكافر » . وأمثال ذلك ، فلهذا كان قوله تعالى : ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ﴾ [ الحجرات : 14] . نفيًا للإيمان المطلق لا لمطلق الإيمان لوجوده وإلا ما صاروا مسلمين ، لا بد من الإسلام ولا بد من شيء مصحح له من الإيمان ، إذًا معهم أصل الإيمان ، قال : والمقصود الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان ، فالإيمان المطلق يمنع دخول النار ، ومطلق الإيمان يمنع الخلود فيها ، كل منهما مانع ، الإيمان المطلق يمنع دخول النار ابتداءً ، لأنه كامل ليس معه معصية ، يعذب على ماذا ؟ ليس ثَمَّ معصية يعذب عليها ، إذًا يدخل مباشرةً الجنة ويمنع من النار ، لكن مطلق الإيمان هذا يمنع من ماذا ؟ لا يمنع من الدخول ولكن يمنع من الخلود لأن معه أصل الإيمان يمنع من الخلود ، إذًا كل منهما مانع ، إلا أن الإيمان المطلق مانع من دخول النار ابتداءً ، ومطلق الإيمان لا يمنع من دخول النار ولكنه يمنع من الخلود فيها .
قال : العاشر أنك إذا قلت : الأمر المطلق فقد أدخلت اللام على الأمر وهي تفيد العموم والشمول ، ثم وصفته بعد ذلك بالإطلاق في اللفظ ، وأما في المعنى فلا أثر له ، بمعنى أنه لم يُقيد بقيد يوجب تخصيصه من شرط أو صفة أو غيرهما ، فهو عام في كل فرد من الأفراد التي هذا شأنها ، الأمر المطلق ، الأمر دخلت ( أل ) أفادت العموم ، إذًا ينقسم ، المطلق مطلق من أي شيء ؟ مطلق من القيد ، هو مقيد في اللفظ لكنه في المعنى غير مقيد ، لأنك إذا قلت : الأمر المطلق مطلق من ماذا ؟ قلنا : مفعول معه . المفاعيل خمسة [ ها ] مفعول به ، له ، منه ، لأجله .. إلى آخره . المفعول المطلق مطلق من ماذا ؟ مطلق من قيد أنت قيدت الأول والثاني والثالث قلت : مفعول به ، له ، منه ، لأجله ، معه ، فيه ، قيدته إما بظرف أو بحرف جر ، ما لم تقيده بظرف ولا بحرف جر تعبر عنه بماذا ؟ بأنه مطلق ، أطلقته لم تقيده بشيء ، هنا كذلك هو في اللفظ مُقيد ، لكنه في المعنى ماذا ؟ مُطلق ، ولذلك التعبير دقيق فيما مر .
فقوله : الأمر المطلق هذا أفاد التعميم من جهتين :
أولاً : ( أل ) .
وثانيًا : كونه مطلق عن قيد يُخَصِّصَه من شرط أو صفة أو غيرهما .
وأما مطلق الأمر فالإضافة فيه ليست للعموم بل للتمييز ، فهو قدر مشترك ، مطلق لا عام ، مطلق لا عام يعني أراد به أن فيه شمولاً لكنه بدلي ، وأما العام الذي هو مصطلح عليه عند الأصوليين فهو كذلك شامل وفيه شمول لكنه    [ ها ] دفعي ، الشمول :
- قد يكون بدليًّا .
- وقد يكون دفعيًّا .
دفعيًّا بمعنى أنه يشتمل جميع الأفراد دفعةً واحدة دون تمييز بخلاف البدلي ، وعلى هذا فمطلق البيع التفريع الآن عرفنا الفروق وكلها متداخلة الفروق كلها متداخلة فهو قال هنا : وعلى هذا فمطلق البيع [ ها ] مطلق البيع ينقسم أو لا ينقسم ؟ ينقسم إلى جائز وغيره ، البيع المحرم يدخل في مطلق البيع ، لكن البيع المطلق خاص بالجائز ، ففرق بين النوعين ، وعلى هذا فمطلق البيع ينقسم إلى جائز وغيره ، والبيع المطلق للجائز فقط ، والأمر المطلق للوجوب ، ومُطلق الأمر ينقسم إلى واجب ومندوب كما تقدم ، والماء المطلق طهور فقط نوع واحد طهور ، ومطلق الماء ينقسم إلى طهور وغيره الذي هو الطاهر والنجس ، الأقسام ثلاثة :
- طهور .
- وطاهر .
- ونجس .
كلها تدخل تحت مطلق الماء ، أما الماء المطلق فيختص بواحد ، إذًا الماء المطلق لا ينقسم ، مطلق الماء ينقسم ، ينقسم إلى أنواع ثلاثة ، والملك المطلق هو الذي يثبت للحر ، الملك المطلق الذي يتصرف فيه بجميع أنواع التصرفات الجائزة له شرعًا ، ومطلق الْمِلك يثبت للحر والعبد ، لأنه يملك لكنه ليس استقلالاً لا بد من إذن سيده .. إلى آخره ، فإذا قيل : العبد هل يملك أو لا يملك ؟ لا بد من التفصيل ، إن أريد به الملك المطلق فلا يملك ، وإن أريد به مطلق الملك فيملك ، كان الصواب إثبات مطلق الملك له دون الملك المطلق ، وإذا قيل الفاسق مؤمن أو غير مؤمن ، لا بد من التفصيل مؤمن أو غير مؤمن لا بد من التفصيل ، إن أردت به الإيمان المطلق فليس مؤمنًا ، وإن أردت به مطلق الإيمان فهو مؤمن فهو على هذا التفصيل ، قال : وبهذا التحقيق يزول الإشكال في مسألة المندوب هل هو مأمور به أم لا ؟ هل هو مأمور به أو لا المندوب حينئذٍ نقول ماذا ؟ فيه تفصيل على ما أطلقه أهل الأصول أرادوا به ماذا ؟ [ ها ] مطلق الأمر ، فدخل فيه فهو مأمور به ، أما الأمر المطلق فالمراد به الإيجاب وليس هذا مراده ، لكن من باب تحرير العبارة يقال هكذا ..
الأمر المطلق لا يشمل المندوب قولاً واحدًا لأنه يختص بالإيجاب فهو نوع .
وأما مدخل الأمر فيدخل فيه أمر الإيجاب وكذلك يدخل فيه أمر الندب ،  قال : وبهذا التحقيق يزول الإشكال في مسألة المندوب هل هو مأمور به أم لا ؟ وفيه مسألة الفاسق الملي من سلب ملة الإسلام ملة ما خرج منها بعد هل هو مؤمن أم لا ؟ يكون بالتفصيل على ما ذُكر .
قال المرداوي بعد أن ذكر هذه القاعدة : وهي قاعدة عظيمة نافعة جدًّا في أبواب كثيرة ، وإنما ذكرتها كلها لعظم نفعها . ولذلك ذكرناها لعظم نفعها .
قال الناظم رحمه الله تعالى :


وَلَيْسَ مَنْدُوبٌ وَكُرْهٌ في الأَصَح     (

مُكَلَّفًا وَلاَ الْمُبَاحُ فَرَجَحْ               (


في حَدِّهِ إِلْزَامُ ذِي الْكُلْفَةِ لا     (

طَلَبُهُ .......................               (


هذه المسألة الثانية مما يتعلق بالمندوب هل هو مكلف به أو لا ؟ ( وَلَيْسَ مَنْدُوبٌ وَكُرْهٌ في الأَصَح ** مُكَلَّفًا وَلاَ الْمُبَاحُ ) خلافه في المسألتين فيما يتعلق بالمندوب وفيما يتعلق بالمكروه ، مفرع على الخلاف في حقيقة التكليف ، حقيقة التكليف ما المراد بالتكليف ؟
التكليف له معنًى لغوي ، وله معنًى اصطلاحي يقال فيه شرعي ، ( وَلَيْسَ مَنْدُوبٌ ) وعرفنا المراد بالمندوب ، المراد هنا المندوب مندوب إليه على الحذف والإيصال هكذا يقال فيه ، حذف إلى واتصل الضمير بمندوب لأنه اسم مفعول ، وقوله : ( وَكُرْهٌ ) يجوز فيه فتح الكاف وضمها ، كُره وكَره يجوز فيه الوجهان . قال الأزهري : وقد أجمع كثير من أهل اللغة - انظر التركيب كيف - وقد أجمع كثير من أهل اللغة أن الكَره والكُره لغتان فبأيّ لغة وقع فجائز . قلتَ : كُره . قلتَ : كَره . جائز إلا الفراء فإنه فرق بينهما ، فرق بين الكَره والكُره . قال الفراء : الكُره بالضم ما أكرَهت نفسك عليه ، والكَره بالفتح ما أكرهك غيرك عليه . يعني هل هو فعل مضطر أو فعل باختيار ، إن كان مضطر حينئذٍ أكرهك غيرك عليه حينئذٍ يكون بماذا ؟ يكون بالفتح ، وإذا أنت فعلته فعل اختيار صار ماذا ؟ صار بالضم ، تقول : جئتك كُرهًا ، وأدخلتني كَرهًا . صحيح ؟ جئتك كُرهًا بالضم وأدخلتني كَرهًا ، هذا قول الفراء التفصيل بين المسألتين ، ولذلك قال : وكَره يجوز فيها الضبط بضم الكاف وهو المشهور عند أهل الأصول ويجوز فيها الفتح والمراد به الحكم الشرعي التكليفي . والصحيح المراد به الكراهة ، ( وَلَيْسَ مَنْدُوبٌ وَكُرْهٌ في الأَصَح ** مُكَلَّفًا وَلاَ الْمُبَاحُ ) كذلك ليس مكلفًا به على الصحيح هذا إن أثبتنا فيه خلافًا ، والصواب أنه لا خلاف كما سيأتي إلا باعتبار .     
قال : التكليف له معنيان : معنى في اللغة ، ومعنى في الاصطلاح .
وهذه عادة أهل العلم بذكر المعنى الاصطلاحي بجانب المعنى اللغوي ، وإن كان المقصود ابتداءً ما هو ؟ المعنى الاصطلاحي ، وكذلك الحقيقة الشرعية ، الحقيقة ، المراد بالمعنى الاصطلاحي الحقيقة العرفية ، إذا قيل : اصطلاحًا . لا يذهب الذهن إلى أنه ماذا ؟ أنه مباين للحقائق ، الحقائق ثلاث :
- إما شرعية .
- وإما لغوية .
- وإما عرفية .
إذا قيل تعريف كذا بالاصطلاح ، حينئذٍ داخل في الحقيقة العرفية هكذا مطرد عند أهل العلم ، إذًا لم يخرج عن الحقيقة العرفية ، الحقيقة العرفية والحقيقة الشرعية ليست هي بعينها الحقيقة اللغوية ، والأصل في اللفظ والكلام والكلمة حملها على المعاني اللغوية ، لكن يأتي العرف ويأتي الشارع فيُخَصِّص بعض مدلول اللفظ اللغوي بعض الأفراد فيسميه ، فيطلق اللفظ ابتداءً على فرد من أفراده كالصوم والصيام يُطلق بمعنى الإمساك ، كل من أمسك عن شيء فهو صائم ، أمسك عن الكلام فهو صائم ، أمسك عن الجري والمشي فهو صائم ، أمسك عن الأكل والشراب فهو صائم .. إلى آخره ، كل من أمسك عن فعلٍ فهو صائم ، لكن الشرع خَصَّه بماذا ؟ بفرضٍ مخصوص ، حينئذٍ إذا أطلق لفظ الصوم انصرف إلى نوعٍ خاص لا يدخل فيه الإمساك عن الكلام ، وإنما المراد به إمساك عن المفطرات والمفسدات في زمن معين .. إلى آخره فيُسمى صيامًا ، حينئذٍ هذا الصوم يُسمى حقيقةً شرعية مثله الحقيقة العرفية إلا أن الفرق بينهما باعتبار الناقل ، فالناقل في الشرعية الشرع المتصرف ، والناقل المتصرف في العرفية هو العرف ، ثم هو إما عام وإما خاص .
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى العرفي أو المعنى الشرعي أن المعنى اللغوي موجود باعتبار أصله في المعنى العرفي وكذلك الشرعي ، ولذلك يجعل أهل العلم مقارنةً بين التعريفين كل ما عرَّفوا شيء لا بد يبدأ بماذا ؟ بالمعنى اللغوي ليُشير لك أنه إذا عرَّف المعنى الاصطلاحي أو المعنى الشرعي أن ثَمَّ مناسبة بين المعنيين ، فليس هو معنى مستقل بل هو الأصل فيه المعنى اللغوي ، لكن زيد عليه فصار ماذا ؟ حقيقةً شرعية أو حقيقة عُرفية .
قال الراغب : الكَلَفُ الإيلاع بالشيء . لأن التكليف لو صرَّفت المادة رددتها إلى أصلها فهي الكاف واللام والفاء ، الكَلَف الإيلاع بالشيء ، أولع بالشيء بمعنى ماذا ؟ أحبَّه وصار مُولعًا به أشبه ما يكون بالعشق ونحوه ، يقال : كَلِفَ فلان بكذا ، وأَكْلَفْتُهُ به جعلته كَلِفًا . قال : والكَلَفَ في الوجه سمي لتصور كُلْفَةٍ به . كُلْفَة هكذا بضم فسكون ، الكَلَف شيء يعلو الوجه قالوا : كالسمسم ، وكذلك الكَلَف لون بين السواد والحمرة ، وهي حمرة كدرة تعلو الوجه ، والاسم الكُلْفَةُ والرجل أَكْلَفُ . إذًا فيه معنى المشقة ، وتَكَلُّف الشيء ما يفعله الإنسان بإظهار كَلَفٍ مع مشقة تناله في تعاطيه ، تَكَلُّفُ الشيء ، إذًا تَفَعُّل جاء التكليف فَعَّلَ يَتَفَعَّلُ تَفْعِيلاً ، تَفَعُّلاً وَتَفْعِيلاً ، تَكَلُّفُ الشيء ما يفعله الإنسان بإظهار كَلَفٍ يعني إيلاع مع مشقة تناله في تعاطيه فثَمَّ مشقة فثَمَّ إيلاع به ، يعني يجمع بين الأمرين ، وصارت الْكُلْفَةُ في التعارف اسمًا للمشقة ، بمعنى أن التكليف وَتَكَلُّفُ الشيء في الأصل هو اسم لمسمًى مركب من شيئين :
- إيلاع بالشيء ، يعني تعلق به أشبه ما يكون بالمحبة ونحو ذلك مع ماذا ؟
- مع مشقة .
ثم صار في الحقيقة العرفية اسمًا للمشقة دون الإيلاع . قال : وصارت الْكُلْفَةُ في التعارف اسمًا للمشقة ، والتكلف اسم لِمَا يفعل بمشقةٍ أو تصنع أو تشبع . مشقة تصنع تشبع ، كل منها يطلق عليها ماذا ؟ التكلف والتكليف ، ولذلك صار التكلف على ضربين :
- محمودٍ وهو ما يتحراه الإنسان ليتوصل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلاً عليه ، هذا محمودٌ يعني يتكلف الشيء يتعاطى الأمر من أجل أن يصير ماذا ؟ سهلاً عليه ، هذا التكلفٌ وهو محمودٌ ، ويصير كنفًا به ومحبًا له يعني مع المشقة قلنا ماذا ؟ هذا يترتب عليه هذا كلامٌ آخر للراغب وهو أن التكلف على مرتبتين :
- منه ما هو محمود .
- ومنه ما هو مذموم .
المحمود قال : ما يتحراه الإنسان ليتوصل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلاً عليه ، يعني يمارس الفعل من أجل أن يصير هذا الفعل سهلاً عليه ويصير كَلِفًا به ومُحِبًّا له وبهذا النظر يستعمل التكليف في تكلف العبادات ، وهذا المعنى هو الذي جعل كثيرًا من أهل اللغة ومن أهل الأصول ومن أهله الفقه إطلاق لفظ التكاليف على العبادات حينئذٍ اجتمع فيه أمران - تنبه لهذا - المعنى اللغوي لأن المعنى اللغوي ليس في الأصل مختصًّا بالمشقة ، وإنما المشقة هذه حقيقةٌ عرفية ، جعل التكليف مرادفًا للمشقة ليس هو المعنى اللغوي ، وإنما المعنى اللغوي مركب من شيئين الأصل هو الإيلاع بشيء والمحبة له هذا الأصل فيه ، ثم لما كان فيه شيء من المشقة أُطلق أريد به المعنيان ، الإيلاع مع المشقة ، تخصيصه بأحد الفردين هذا اصطلاحٌ وليس هو المعنى اللغوي ، وحينئذٍ  تفسير التكليف بإلزام ما فيه مشقة هذا تخصيص بأحد معنييه ، ولذلك الراغب هنا أصاب في كونه عَلَّل إطلاق التكاليف على العبادات مُرادًا به المعنيان ، وهو الولوع بالشيء والمحبة له مع وجود المشقة ، عليه على هذا التعبير لا إشكال في إطلاق التكاليف على العبادات ، فيقال : التكاليف منها الصلاة والصوم و.. إلى آخره ففيها نوع مشفقة وهذا لا إشكال فيه لاسيما عموم المسلمين ، وكذلك فيها ماذا ؟ فيه إذا مارس الصلاة صار له شيء من الإيلاع والولوع به صار مُحِبًّا لها ، وكذلك لسائر العبادات .
الثاني : المذموم . وهو ما يتحراه الإنسان مراء ، وإياه عني بقوله تعالى : ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ ص : 86] نفيٌ هذا ، وقوله : ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : 286] له منطوق وله مفهوم ، ما هو منطوق الآية ؟ نفي التكليف فيما لا سعة للعبد فيه ، وفيه إثبات التكليف في ما هو في وسع العبد .
إذًا فيه نفيٌ ، وفيه إثبات .
قال : ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ أي ما يَعُدُّونه مشقةً فهو سعةٌ في المآل نحو قوله : ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ  [ الحج : 78] ، وقوله : ﴿ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً [ النساء : 19] الآية . قال في (( مختار الصحاح )) : وكلف بكذا أي أُولِعَ به . هذا الأصل في المعنى اللغوي ، أُولع به ، والولع المراد به المحبة ، يعني يكثر منه ويتعلق به ، وبابه طَرِبَ ، وكلَّفه تكليفًا أمره بما يشق عليه وهذه دخيلةٌ على أهل اللغة من جهة أصول الفقه لأنهم عرَّفوا التكليف في كتب أصول الفقه بإلزام ما فيه مشقة ، وجعلوا المشقة والتكليف مترادفين ، وهذا فيه شيء من النظر ، ولذلك ما قدَّمَهُ الراغب الأصبهاني في (( المفردات )) وهو أن الأصل فيه الولوع بالشيء وقد يجامع المشقة ، تخصيصه بالمشقة صار في التعارف يعني حقيقة عرفية - تنبه لهذا - . قال : وكلَّفه تكليفًا أمره بما يشق عليه ، وتكلَّف الشيء تجشمه ، والكلفة ما يتكلفه الإنسان من نائبةٍ أو حقٍّ . قال : فالكلف الولوع بالشيء مع شغل قلبٍ ومشقةٍ . يعني الولوع هو انشغال قلب تعلقه به حينئذٍ يُسمى ماذا ؟ يُسمى تكليفًا ، والتكليف الأمر بما يشق عليك وقد كلَّفه تكليفًا فمعناه في اللغة عند أهل الأصول إلزام ما فيه مشقةٌ ، فإلزام الشيء والإلزام به تَصْييره لازمًا لغيره لا ينفك عنه مطلقًا أو وقتًا ما ، هذا إذا نظرنا فيه باعتبار ما سبق يُعتبر اصطلاحًا خاصًّا عند أهل الأصول - وتنبه - إلى أن بعض المعاجم اللغوية قد يدخل في بعض المعاني التي تُذكر في معاني المفردات ما هو اصطلاحٌ وما هو حقيقةٌ عرفية ، وهو الذي يظهر أن التكليف من هذا القبيل ، لأن أصله مأخوذ من كَلِفَ ، فالكلف المراد به الولوع بالشيء محبة تعلّقه به ، ثم قد يكون فيه مشقة وقد لا يكون ، فصار في الحقيقة عرفية مخصصًا بالمشقة ، يلزم من ذلك ماذا ؟ حينئذٍ التكليف هو إلزام ما فيه مشقة لَمّا صار حقيقةً عرفية ترتب على ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى أنه لا تسمى العبادات تكاليف . قال : لأن التكليف مرادف للمشقة بمعناه . ولذلك يعرف كثير من أهل الأصول الكُلْفَة والتكاليف المشقة . قل : لا ، في الأصل اللغوي ليس هو المشقة ، وإنما هو الولوع بالشيء والتعلق به حينئذٍ أضيف إليه معنى المشقة فصار بمعنيين ، يأتي بمعنيين يعني مركب من معنيين تخصيصه بأحد النوعين هذا يُعتبر اصطلاحًا خاصًّا .
قال الجوهري : والكلفة ما يتكلف من نائبة أو حقٍّ ، كلَّفه تكليفًا إذا أمره بما يشُق ، والمشقة لحوق ما يستصعب على النفس . قال الله تعالى : ﴿ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ ﴾ [ النحل : 7] قال في (( القاموس )) : والتكليف الأمر بما يشق ، وتكلَّفه تجشمه . يعني تكلفه على مشقةٍ . وقال أيضًا : ألزمه إياه فالتزمه . إذا لزم شيئًا لا يفارقه هذا تفسير للإلزام قال الطوفي : قلت : هذا التعريف لغويٌ بناء على ما اشتهر من حقيقة الكلْفُة وتعريفها اصطناعي قد فهم من قوله : كلَّفه أي أمره بما يشق ، هذا يؤكد ماذا ؟ أن تخصيص التكليف بالمشقة حقيقةٌ عرفية وليست حقيقةً لغوية .
قال رحمه الله تعالى : قلت هذا التعريف لغويٍ بناء على ما اشتُهر من حقيقة الكلفة قال : وتعريفها اصطناعي . يعني باعتبار صناع أهل الأصول عندهم قد فُهِمَ من قوله : كلَّفهم أي أمره بما يشق فهي إذًا كما قلناه : إلزام ما يشق . لكن هذا حقيقة عرفية لا لغوية ، والشِّقّ والمشقة واحدٌ وهو لحوق ما يستصعب بالنفس . وذكر الآية السابقة : ﴿ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ ﴾ ، وأنشد الشيخ أبو محمد المقدسي وهو ابن قدامة مستشهدًا على التكليف قول خنساء في أخيها صخر بن عمرو بن الشريد


يكلفه القوم ما نابهم     (

وإن كان أصغرهم مولدا               (


أي يلزمونه ذلك بحكم رئاسته عليهم . وهذا معنىً اصطلاحي وليس هو المعنى اللغوي ، يكلفه القوم يعني ما اصطلحوا عليه ليس مرده إلى ماذا ؟ إلى المعنى اللغوي ، فحينئذٍ استُعمل في أحد معنييه ، ومن هنا قلنا : أطلق العلماء التكاليف على العبادات ، وابن القيم رحمه الله تعالى يعترض على ذلك لا يرى أن العبادات تسمى تكاليف .
قال رحمه الله تعالى : بل تبقى الطاعات غذاءً لقلبه وسرورًا له وقُرة عينٍ في حقِّه ونعيمًا لروحه يتلذذ بها ويتنعم بملابسته أعظم مما يتنعم بملامسة الطعام والشراب واللذات الجسمانية . هذا في النفس نادر يعني تكليف العامة بمثل هذا قد لا يحصل ، لأن عامة الناس إنما يؤدون العبادات بظواهرهم وبما يتمكنون من بواطنهم ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا ﴾ [ التغابن : 16] ، ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : 286] ، « إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم » تحميل الناس مثل هذه الأمور قد يكون فيه شيء من المشقة ، هذه قد تكون من خصائص العلماء ، بل من خاصة الخاصة ، يعني هذا لا يكون مطردًا حتى في طلاب العلم ولا في العلماء إلا أن يشاء الله عز وجل أنه يؤدي العبادات بهذه الروحانية ، تبقى الطاعات غذاءً لقلبه وسرورًا له وقرة عينٍ في حقّه ونعيمًا للروح يتلذذ بها ويتنعم بملابستها أعظم مما يتنعم بملابسة الطعام والشراب واللذات الجسمانية . فإن اللذات الروحانية القلبية أقوى وأتم من اللذات الجسمانية  فلا يجد في أوراد العبادة كُلْفَة ، إذا كان كذلك لن يجد مشقة ، وهو كذلك روحه تطير إذا أراد أن يصلي لكن الذي يجاهد نفسه هذا يحتاج إلى ماذا ؟ يحتاج إلى مجاهدة ، وإذا كان كذلك فقد وُجِدَ فيه معنى التكليف بمعنى المشقة ، يكون مُحِبًّا للصلاة وولوعًا بها لكن فيه شيءٌ من المشقة ، وكذلك ما يتعلق بالصوم ، وكذلك ما يتعلق بالزكاة دفع المال يكون ولوعًا بدفع الزكاة لأنها قُربة لله عز وجل ، لكن فيه شيء من المشقة فاجتمع فيه الأمران ، هذا لا إشكال لأنه على الأصل على الجادة .
قال : فلا يجد في أوراد العبادة كُلْفةً ولا تصير تكليفًا في حقّه ، فإنما يفعله المحب الصادق ويأتي به في خدمة محبوبه هو أسر شيءٍ إليه وألذه عنده ، ولا يرى ذلك تكليفًا لِمَا في التكليف من إلزام المكلّف بما فيه كُلْفَةٌ ومشقة عليه . رجع إلى المعنى ليس اللغوي رجع إلى المعنى العرفي ، لَمّا فسر ولذلك قلت لك : انتبه للمعنى اللغوي من أجل أن تفهم أن تسمية العبادات يكون مركبًا من شيئين : الولوع بالشيء والمحبة له مع وجود شيءٍ من المشقة . وفسَّره هنا بقوله : إلزام المكلف بما فيه كُلْفَة ومشقةٌ عليه ، وهذا هو المعنى الأصولي الذي ذكره أهل الأصول على أنه معنى لغوي .  
قال : والله سبحانه إنما سمّى أوامره ونواهيه وصيةً وعهدًا وموعظةً ورحمةً ولم يُطلق عليها اسم التكليف إلا في جانب النفي كقوله : ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ووقوع الوسع بعد الاستثناء من التكليف لا يوجب وقوع الاسم عليه مطلقًا . يعني جاء في النفي ولا يستلزم ذلك أن يُطلق في الإثبات ، إذ فرق بين النفي والإثبات . لكن نقول :ما دل عليه بدليل المفهوم هو كدلالته عليه بدليل المنطوق ؛ لأن في الشرع لا فرق بين الدلالتين ، الأحكام الشرعية وكذلك ما يتعلق حتى من باب المعتقد ما يثبت بالمنطوق وما يثبت بالمفهوم سواء إلا إذا جاء المفهوم معارضًا بمنطوق خاص كل منهما خاص ، حينئذٍ يقدم المنطوق على المفهوم الخاص ، وأما إذا لم يكن كذلك فالأصل إثبات الأحكام الشرعية بالمنطوق وبالمفهوم ، ما دام أن الله عز وجل قد لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها معناه ماذا ؟ أنه كلف النفس ما في وسعها . إذًا جاء الإثبات بطريق المفهوم ولا إشكال في إطلاق التكاليف على العبادات . وذكر كذلك فيما يتعلق بهذا المعنى في (( إغاثة اللهفان )) وأطال النفس فيه .
قيل هنا في قوله : فإن قيل : فقد وقع تسمية ذلك تكليفًا في القرآن كقوله : ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ، وقوله : ﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ الأنعام : 152] قيل : نعم إنما جاء ذلك في جانب النفي ولم يُسمِّ سبحانه أوامره ووصياه وشرائعه تكليفًا قط . ولم ينفِ ذلك ، فدل على ماذا ؟ على أنه لم يثبت نطقًا ولم ينفِ ، لكن جاء إثباته من جهة المفهوم فلا بأس من إثباته بل سماها روحًا ونورًا وشفاءً وهدًا ورحمةً وحياةً وعهدًا ووصيةً ونحو ذلك . وارجع إلى (( إغاثة اللهفان )) .
هذا التكليف باعتبار المعنى اللغوي ، أما في معناه الاصطلاحي والحقيقة العرفية عند علماء الأصول قيل : التكليف إلزام مقتضى خطاب الشرع . هذا ذكره الحنابلة في كثير من كتبهم . إلزام عرفنا الإلزام تصيره لازمًا . لَمَّا عرفوا التكليف بأنه في اللغة عندهم بأنه إلزام ما فيه مشقة وجب أن يأخذ الإلزام جنسًا في حدّ المعنى الاصطلاحي - على القاعدة المطردة عندهم في الحدود - .
فقال : إلزام - أي تصيره لازمًا - إلزام مقتضى خطاب الشرع . عرفنا فيما سبق المراد بخطاب الشرع ومقتضى خطاب الشرع المراد به الأحكام الخمسة التي هي الإيجاب والندب والكراهة والتحريم والإباحة . إذًا إلزام مقتضى خطاب الشرع . خطاب الشرع ومقتضاه دخلت فيه الأحكام الخمسة ، يلزم من ذلك ماذا ؟ أن تكون الأحكام - على هذا الحد - أن تكون الأحكام الخمسة كلها تكليفٌ ، فالواجب مكلَّف به - وهذا محل وفاق - والمحرم مكلف به - وهو محل وفاق - يعني الواجب والمحرم من الأحكام التكليفية باتفاق لا خلاف فيها ، وإنما الخلاف في ماذا ؟ في المندوب والمكروه ، وعلى هذا الحد دخل المندوب والمكروه حينئذٍ يكونان ماذا ؟ مكلَّفَيْنِ بهما ، ودخل كذلك - وهذا محل الإراد على التعريف - دخل كذلك ماذا ؟ المباح فصار المباح مُكلفًا به ، وهذا محل النقد لهذا التعريف .
إذًا إلزام هذا هو المعنى اللغوي عند أهل الأصول إلزام ما فيه كُلفة أخذه جنسًا في الحدّ مقتضى خطاب الشرع المراد به الأمر والنهي والإباحة ،ويدخل تحت الأمر حكمان ، ويدخل تحت النهي حكمان ، فيتناول حينئذٍ الأحكام الخمسة .
الوجوب ، والندب الحاصلين عن الأمر ، والحظر ، والكراهة الحاصلين عن النهي ، والإباحة الحاصلة عن التخير . إذا قلنا : إنها من خطاب الشرع ، وهو محل نزاعٍ سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى ، هل الإباحة حكمٌ شرعيٌ أم لا ؟ الصواب أنها : حكم شرعيّ ، وإذا قلنا بأنها حكم شرعيٌ لا يستلزم ذلك إثبات أنها حكمٌ تكليفيّ . إذا قيل : حكم تكليفي يستلزم أنها حكم شرعيّ ، وإذا قيل : حكم شرعي لا يستلزم أنها حكمٌ تكليفي . أليس كذلك ؟ لأن الحكم الشرعي إما وضعي وإما تكليفي وإما لا هذا ولا ذاك ، هذا الأصل فيه ، فصارت الإباحة [ ليست حكم شرع ] ليست حكمًا تكليفيًّا ولا وضعيًّا ، وهو كذلك . لكن تُذكر في ضمن الأحكام التكلفية من باب التتميم للقسمة ، أو من وجهٍ آخر أن الذي يُوصف بالإباحة هو فعل المكلف ، فلما كان كذلك ومعلوم أن فعل المكلف هو متعلق ماذا ؟ خطاب الشرعي ، حكم الشرع ما حقيقته ما حده ؟ خطاب الله المتعلق بفعل المكلف . إذًا المكلف هو الذي قلنا بالاقتضاء أو بالوضع أو بالتخير ، التخير الذي هو الإباحة ، إذًا الإباحة تتعلق بفعل المكلف ، من هو المكلف ؟
البالغ العاقل غير الملجأ .. إلى آخره . إذًا الصبي لا يُوصف فعله بماذا ؟ بكونه مباحًا لأنه غير مكلف ، المجنون لا يوصف فعله بكونه ماذا ؟ مباحًا لأنه غير مكلف . إذًا لَمَّا كانت الإباحة وصفًا لفعل المكلف من جهة الشرع أُطلق عليه أنها ماذا ؟ أنها حكم تكليفي وإلا الأصل أنها ليست حكمًا تكليفيًّا .
قال : إذا قلنا : إنها من خطاب الشرع ويكون معناه في المباح ، إذا أردنا أنها حكمٌ تكليفي وجوب اعتقاد كونه مباحًا ، ويكون معناه يعني التكليف في المباح يفسر بأحد أمرين :
الأول : وجوب اعتقاد كونه مباحًا . والوجوب هذا حكمٌ تكليفيّ ، لكن هذا لا يستقيم لماذا ؟ لأن الواجب يجب أن نعتقد أنه واجب ، أليس كذلك ؟ والمندوب يجب أن نعتقد أنه مندوب .. وهكذا ، إذًا الاعتقاد ليس خاصًّا بالمباح فيكون عام في جميع الأحكام الشرعية ، وجوب اعتقاد كونه مباحًا أو الوجه الآخر اختصاص اتصاف فعل المكلف بها ، وهذا قريبٌ وهو حسن أن وصف الإباحة إنما يختص بها فعل المكلف من كان مكلفًا تعلق به الحكم الشرعي حينئذٍ التخير الذي يكون مستوِ الطرفين بين الفعل والترك يكون من أفعال المكلفين ، وأما فعل غير المكلف فلا يوصف كونه ماذا ؟ مباحًا دون فعل الصبي والمجنون ، فلا يوصف بالإباحة .
قال ابن بدران - لَمَّا ذكر التعريف السابق إلزام مقتضى خطاب الشرع قال : وعلى هذا تكون الإباحة تكليفًا . لأنها من مقتضيات الخطاب المذكور ، ومن قال : إن الإباحة ليست تكليفًا يقول : التكليف هو الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ . بمعنى أن التعريف الأول فاسد لأنه يدخل فيه ماذا ؟ الإباحة وإنما ذكرت لأنه الحنابلة يذكرون هذا التعريف ، إلزام مقتضى الخطاب الشرع في (( مختصر التحرير )) وكذلك (( التحرير )) في أصله وشرحه فمن أراد أن يُخرج الإباحة فحينئذٍ يُعَرِّفُ ماذا ؟ يعرف التكليف بأنه خطاب بأمرٍ أو نهيٍ . وإذا قيل : الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ . حينئذٍ الأمر اشتمل على الواجب والمندوب ، أو نهيٍ اشتمل على التحريم وعلى الكراهة ، الواجب والتحريم كل منهما متفق على كونهما من أحكام الشرع التكليفية فدخل في الحدّ المندوب والمكروه ، والصحيح أن كل منهما ماذا ؟  كل منهما تكليفٌ . حينئذٍ استقام الحدّ أم لا ؟ استقام الحدّ .
الخطاب بأمرٍ أو نهي هل دخلت الإباحة ؟
الجواب : لا  .
ولذلك قال ابن بدران : ومن قال إن الإباحة ليست تكليفًا يقول : التكليف هو الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ . ليس عندنا تخير هنا .
قال الطوفي : وقيل التكليف الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ . يعني هذا التعريف الثاني للتكليف خطاب بأمرٍ أو نهيٍ ، وهو صحيح . يعني هذا التعريف صحيح ، إلا أن نقول : الإباحة تكليفٌ على رأي مرجوح . حينئذٍ إذا قلنا : الإباحة تكليف هل يلزم إدخالها أو لا ؟ إذا قلنا : على رأي مرجوح هل يلزم إدخالها في الحدّ أم لا ؟ قل : لا . الحدّ إنما يكون باعتبار ما صحَّ لأن الحد يختلف من شخص إلى شخصٍ لذلك اختلفت الحدود ، فكل من حدَّ شيئًا حدّ ذلك الشيء المحدود بما صح عندهم ، ولا يعتبر قول المخالف ، فكأن الطوفي يقول : إذا أردت أن تعتبر القول المرجوح حينئذٍ لا يصح هذا الحدّ . قل : ما لنا وما قول المرجوح . نحن نعتقد أنه قول باطل ، إذًا المباح ليس حكمًا تكليفيًّا ، إذًا لِمَا أُدخله فيصير نقدًا على الحدّ ؟ فقوله : وهو صحيحٌ إلا أن نقول . بمعنى أن ثَمَّ استدراكًا على الحدّ ، وجه هذا الاستدراك أن ثَمَّ قولاً أن المباح حكمٌ تكليفيّ ، وعلى هذا حينئذٍ لا يصح الحد .
قل : لا ، الحد صحيح واعتبار المباح أنه حكم تكليفي قولٌ ضعيف فلا يعتبر .
قال : إلا أن نقول : الإباحة تكليف على رأي مرجوح فترد عليه طردًا وعكسًا . وسبق بيان الطرد والعكس .
قال : قلتُ : قد اختلف الأصوليين في الإباحة هل هي تكليفٌ أم لا ؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، فإن قلنا : ليست تكليفًا صح تعريف التكليف بما ذُكر ، وإذا صح حينئذٍ صار هو المعتمد ، فيكون كل تكليفٍ خطابًا بأمرٍ أو نهيٍ ، صحيح ؟ كل تكليفٍ خطابٌ بأمرٍ أو نهيٍ ، وكل خطاب بأمرٍ أو نهيٍ فهو تكليفٌ . إذًا تسويا ، التكليف هو الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ ، كل خطابٍ بأمرٍ أو نهيٍ فهو تكليف ، إذًا لم تدخل الإباحة من أصلها فيكون كل تكليف خطابًا بأمرٍ أو نهيٍ ، وكل خطابٍ بأمرٍ أو نهيٍ تكليفًا صار تكليفًا . وإن قلنا : الإباحة تكليف . حينئذٍ انتقض الحدُّ طردًا وعكسًا . إن قلنا : الإباحة تكليف انتقض التعريف المذكور بها من جهة الطرد وهو وجود الحد بدون المحدود لأنه ليس كلما وُجد الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ وُجد التكليف ، لأنه يوجد الخطاب بأمرٍ أو نهي وبقي فرد من أفراد التكليف وهو ما فيه تخير ، حينئذٍ صار نقضًا من حيث الطرد ، فوُجد الحد الذي هو الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ ولم يجد التكليف لماذا ؟ لأن الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ إذا جُعل حدًّا لا بد أن يكون مساويًا للمحدود ، الحد والمحدود لا بد أن يكون مساويًا له من كل وجهٍ فلا يكون الحد أعم من المحدود ولا يكون أخص من المحدود ، إن كان أعم أو أخص حينئذٍ جاء الطرد والعكس . فإذا قيل : الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ هو التكليف حينئذٍ بقي ماذا ؟ بقي الإباحة ، حينئذٍ ليست بأمرٍ ولا نهيٍ هذا الذي أراده لأن الإباحة مثل قوله : ﴿ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ﴾ ، ﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا ﴾ [ الأحزاب : 53] ، ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ﴾ [ المائدة : 2] ونحوه من المباحات خطاب بأمر وليس تكليفًا ، وكذلك من جهة العكس وهو انتفاء المحدود عند انتفاء الحد لأنه ليس كلما انتفى الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ انتفى التكليف . إذا انتفى الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ هل انتفى التكليف أم لا ؟  
إذا قلنا : الإباحة تكليف لم ينتفِ التكليف . إذًا من حيث الإثبات ومن حيث النفي طردًا وعكسًا يكون الحد مدخولاً لأن الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ قد ينتفي ويكون التكليف موجودًا في المباحات ، إذ حقيقة الإباحة التخيير بين الفعل وتركه نحو إن شئت ففعل وإن شئت فلا تفعل ، وحقيقة التخيير غير حقيقة الأمر والنهي ، فإذا قلنا : الإباحة تكليف فقد صح وجود التكليف مع انتفاء الأمر والنهي .
والصحيح كما ذكرنا من باب التجويز هذا الطريقة يسلكها بعض أهل العلم في التعريفات ، ولا بد أن يأتي بتعريف لا يُنتقد يعني أن يكون قابلاً للجميع يستوي فيه كل من أراد أن يُدخل شيئًا أدخله وهذا ليس بصوابٍ ، بل يأتي بحدٍ بما يعتقد أنه حدٌّ له ، وأما الاحترازات فهي بما عنده صح لا بما عند غيره ، فإذا كانت الإباحة ليست حكمًا تكليفيًا يجب على من عرَّف أن يخرجها ، وليس أن يدخلها باعتبار قولٍ مرجوحٍ .
والصحيح أن الإباحة ليست تكليفًا فدخل في الحد حينئذٍ أحكام الأربعة خطاب بأمرٍ الواجب والمندوب ، والمندوب الصواب أنه مكلفٌ به ، أو بنهيٍ ودخل فيه الحظر التحريم والكراهة ، والتحريم مكلفٌ به بإتفاق ، والكراهة على الصحيح ، وأما الإباحة فلم تدخل لا بد من إخراجها .
إذًا الحد يُعتبر صحيحًا ، الحد لا إشكال فيه .
قال في (( البحر المحيط )) : التكليف لغةً من الكُلْفَة بمعنى المشقة جرى على ما اطرد عند الأصوليين . وفي الاصطلاح قال ابن سراقة من أصحابنا الشافعية - نحن ذكرنا تعريفين عند الحنابلة بدأنا بهما - قال ابن سراقة من أصحابنا : حدَّه بعض أهل العلم - هذا التعريف الثالث - بأنه إرادة المكلِّف من المكلَّف فعل ما يَشُقّ عليه . إرادة أخذ الجنس ماذا ؟ الإرادة ، بطل الحد ، لأن التكليف شيء والإرادة شيءٌ آخر فهما متغايران . عرفنا التكليف في اللغة لا بد أن يأخذ ماذا ؟ يأخذ المعنى اللغوي جنسًا في الحدّ من أجل أن يستقيم ، فلما أخذ الإرادة . الإرادة شيءٌ آخر ، إرادة المكلِّف الذي هو الله عز وجل من المكلَّف الذي هو المكلَّف العبد ، ماذا ؟ أن يفعل ما يشق عليه . هذا ليس بحدٍّ ، هذا التعريف غلط ، بأنه إرادة المكلِّف من المكلَّف فعل ما يَشُقّ عليه ، وهذا التعريف غلط هذا من عندي ليس من الزركشي ، وهذا التعريف غلط لأنه رد التكليف إلى الإرادة وهما متغايران .
قال الزركشي : وقال المواردي : الأمر بطاعة والنهي عن معصيةٍ . يعني التكليف الأمر بطاعةٍ والنهي عن معصية ، صحيح أم لا ؟ صحيح ؟ ما الفرق بينه وبين الثاني خطاب بأمرٍ أو نهيٍ ؟
هو بعينه لأن الطاعة فعل المأمور به ، إذا اجتمعت الطاعة مع المعصية يعني جاء في سياقٍ واحد ، حينئذٍ الطاعة تختص بامتثال المأمور . امتثال المأمور إما إيجابًا وإما ندبًا ، والنهي عن معصيةٍ وحينئذٍ دخل فيه التحريم ودخل فيه الكراهة . وعرفا فيما سبق أن النهي مخالفة النهي هذا يُسمى معصية في لسان العرب ، ولذلك كان التكليف مقرونًا بالرغبة والرهبة وكان ما تَخَلَّلَ كتابه من القصص عظة واعتبارًا تقوى معها الرغبة ويزاد بها الرهبة .
وقال القاضي - هذا التعريف الخامس - : هو الأمر بما فيه كلفة أو النهي عما في الامتناع عنه كُلفة . قال القاضي : هو الأمر بما فيه كلفة . جاء بالأمر فدخل فيه الندب ، أو النهي عما في الامتناع عنه كُلفة ، فدخل فيه الكراهة . أما الواجب والتحريم هذا لا يحتاج أنه متفقٌ عليه ، وعد الندب والكراهة من التكليف .
وقال إمام الحرمين : هو إلزام ما فيه كُلفةٌ . إمام الحرمين أول من عبَّر بهذا التعبير وأخذه من أخذه بعده من الأصوليين . هذا التعريف السادس للتكليف ، إلزام ما فيه كُلفةٌ من فعل أو ترك . لَمّا قال : إلزام ما فيه كُلفةٌ . المندوب ليس فيه إلزام ، هذا باعتبار الأمر .
النهي المكروه ليس فيه إلزام باعتبار النهي .
حينئذٍ اختص الحدّ بماذا ؟ بالواجب والمحرم ، وخرج المندوب والمكروه .
على رأي إمام الحرمين والمختار عنده وعند غيره أن المندوب ليس مكلَّفًا به ، وأن المكروه ليس مكلفًا به ، بل الأحكام التكليفية خاصة باثنين لا ثالث لهما وهما الواجب والمحرم ، ولذلك عبَّر هنا بقول : إلزام ما فيه كُلفةٌ من فعل أو تركٍ . وعلى هذا فالندب والكراهة لا كُلفة فيهما لأنها تُنافي التخيير .
قال في (( المنخول )) : وهو المختار - يعني الغزالي صاحب (( المنخول )) - قال : وهو المختار .
قال الزركشي : وفيه نظرٌ ؛ لأن التخيير عبارةٌ عما خُيِّرَ بين فعله وتركه . التخيير عما خُيِّر بين فعله وتركه . قال : والمندوب لكون المندوب فيه تخيير حينئذٍ أخرجناه من الحدّ ، حينئذٍ يرد السؤال : هل التخيير في المباح هو بعينه التخيير في المندوب ؟
الجواب : لا ، لأن التخيير في المباح هو إن شئت فافعل وإن شئت لا تفعل على وجه السواء ، التساوي ، أما التخيير في المندوب فليس على وجه التساوي بل عندنا الراجح ما هو ؟ الفعل ، والترك هذا مرجوحٌ . إذًا ليس على وجه التساوي ، فكيف يُسوَّى المندوب مع المباح بحجة أن كلا منهما فيه تخيير ؟ نقول : لا ، ثَم فرقٌ بين التخييرَيْنِ ، تخييرٌ في المباح على جهة السواء يعني التساوي افعل لا تفعل مستويان في الشرع تأكل لا تأكل مستويان ، أما باعتبار المندوب ؟ لا ، لذلك الفعل الراجح يُثاب عليه لو فعله ، والترك الذي هو مرجوح هذا ليس مُرَغَّبًا فيه ، بل المرغب فيه ماذا ؟ الفعل ، ولذلك قال : فيه نظرٌ . لأن التخيير عبارةٌ عما خُيِّر بين فعله وتركه وهذا في المباح .
والندب مطلوب الفعل مثابٌ عليه فلم يحصل التساوي ، فكيف يقال بأن المندوب يجب إخراجه لأن فيه تخييرًا فهو كالمباح ، كأنه يقول : هو أقرب إلى المباح من كونه أقرب إلى الواجب ، ولذلك مرّ معنا أن المندوب بعض الواجب .
قال : وما نقلنا عن القاضي تبعنا فيه إمام الحرمين لكن الذي في          (( التقريب )) للقاضي أنه إلزام ما فيه كُلفة كما قال في (( الإمام )) : فلينظر . فَلَعَلَّ له قولين . وزعم الإمام أن الخلاف لفظيٌّ .
والحاصل أنه يتناول الحظر والوجوب قطعًا . يعني التعريف هذا : إلزام ما فيه كُلفة . يتناول الحظر الذي هو المحرم والواجب قطعًا لا خلاف فيه ، ولا يتناول الإباحة قطعًا ، لأن الإباحة ليس فيها تسوية ليس فيها إلزام إلا عند الأستاذ أبي إسحاق كما سيأتي وفي تناوله الندب والكراهة خلافٌ .
قال الشنقيطي الشيخ الأمين رحمه الله تعالى في (( المذكرة )) : وحَدُّه - أي التكليف في الاصطلاح - قيل : إلزام ما فيه مشقة . يعني من فعل أو تركٍ . وقيل : طلب ما فيه مشقة . وهذا هو الحد السابع : طلب ما فيه مشقة . يعني على وجه الإلزام أولى .
فعلى الأول إلزام ما فيه كلفة لا يدخل في حده إلا الواجب والحرام إلا إلزامًا بغيرهما .
وعلى الثاني يدخل معهما المندوب والمكروه لأن الأربعة مطلوبة ، وأما الجائز فلا يدخل في تعريفٍ من تعريفات أو من تعاريف التكليف إلا طلب به أصلاً فعلاً ولا تركًا ، وإنما أدخلوه في أقسام التكليف مسامحةً وتكميلاً للقسمة ، وما ذكرناه من علةٍ سابقة هي أوجب ، أنه صفةٌ لفعل المكلف فلذلك قيل فيه : أنه من الأحكام الشرعية التكليفية .
إذًا طلب ما فيه مشقة يشمل الأحكام الأربعة .
إلزام ما فيه مشقة أخرج المندوب والمكروه .
والصواب أن المندوب والمكروه كلٌّ منهما مكلَّفٌ به ، حينئذٍ يترجح ماذا ؟ طلب ما فيه المشقة .
عكس ما ذهب إليه الناظم : ( فَرَجَحْ
في حَدِّهِ إِلْزَامُ ذِي الْكُلْفَةِ لاَ ** طَلَبُهُ ) ونحن نقول ماذا ؟ فرجح في حده طلب ما فيه كلفة لا إلزامه ، عكس ما ذكره الناظم رحمه الله تعالى .
قال :


وَلَيْسَ مَنْدُوبٌ وَكُرْهٌ في الأَصَحّْ     (

مُكَلَّفًا وَلاَ الْمُبَاحُ .........               (


قال في الأصل : لَمّا قال في المسالة السابقة وفي كون المندوب مأمورًا به خلاف . قال : والأصح ليس مكلَّفًا به خلافًا للقاضي . يعني الذي رجحه صاحب الأصل الذي هو تاج الدين السبكي أن المندوب ليس مُكلَّفًا به ، وهو الذي مشى عليه ماذا ؟ السيوطي هنا في النظم ولم يخالفه ، والأصح ليس المندوب مكلفًا به . لماذا ليس مكلفًا به ؟ لأننا حددنا . يعني الخلاف - تنبه - الخلاف في المندوب مُكلَّفٌ به أو لا ؟ بناءً على الحد ، إن اخترت أنه إلزام انتفى الإلزام عن المندوب فليس مُكلَّفًا به ، إن اخترت أنه طلب وهذا الأصح حينئذٍ المندوب مُكَلَّفًا به ، إن قلت : المكروه مُكَلَّف به أو لا ؟ واخترت إلزام ما فيه كلفة ، والمكروه ليس فيه إلزام ، إذًا ليس مُكلَّفًا به .
إن قلت بأن التكليف طلب ما فيه كلفة ومشقة ، والمكروه [ ها ] طلب ما فيه مشقة فيه معنى الطلب وفيه معنى المشقة صار ماذا ؟ صار مُكلَّفًا به .
إذًا الخلاف في المندوب وفي المكروه هل كلٌّ منهما مكلَّفٌ به أم لا ؟ هذا فرعٌ عن اختيار التعريف الصحيح لمعنى التكليف ، فمن عرفه بالإلزام نفى التكليف عن المندوب والكراهة ، ومن عرَّفه بالطلب - وهو الصحيح - أثبت التكليف للمندوب والمكروه . ولذلك ليس لهم تعليلٌ في نفي كون المندوب ليس مُكلَّفًا إلا كونه ماذا ؟ ليس ملزومًا به . هكذا عَبَّر المحلي وغيره . والأصح ليس مُكلَّفًا به أي المندوب لماذا ؟ لأنه ليس ملزومًا به ، وقد أخذنا الإلزام جنسًا في حد التكليف . إذًا متى ما تحقق وُجِد معنى التكليف وإلا فلا ، لأنه ليس مَلْزومًا به فالتعليل هنا بناءً على ما اختاره من حدّ التكليف وهو إلزام ما فيه كلفة ، فيجوز تركه ، مادام أنه جاز تركه صار ليس مُلزمًا به ، ومقابل الأصح أنه مكلَّفٌ به ، بمعنى أنه مطلوبٌ بما فيه كلفة . إذًا تحقق فيه الحدّ الثاني ، وحينئذٍ لا خلاف في المعنى بل الخلاف لفظيٌّ مبناه الْخُلْف في تفسير التكليف ، ما هو التكليف فينبني عليه ماذا ؟ إثبات الأوصاف للأحكام الشرعية ، والخلاف بينهما في خصوص المندوب ولم يقع في خصوص المكروه . يعني الأصوليون جملةً في الغالب يذكرون الخلاف في المندوب هل هو مُكَلَّفٌ به أو لا ، ولا يذكرون الخلاف في المكروه ، هل لكون المكروه متفقًا عليه أنه ليس مكلفًا به ؟ أو أنه مكلفٌ به ؟ أو أن القول في المكروه كالقول في المندوب .
الثالث ، الذي هو أن القول في المكروه كالقول في المندوب ، بمعنى أنه إذا ثبت الخلاف في المندوب هل هو مكلَّفٌ به أو لا ؟ بناءً على خلاف التكليف حينئذٍ الخلاف في المكروه مثله سيان ، وقد جرت عادة أهل الأصول أنه إذا اتحدت المسألتان يذكرون إحدى المسألتين ، والثانية يُلحق بها ، ولذلك لَمَّا يتكلمون عن الأمر تأتي المسائل الناهِيَّة فيقال فيه : هو على وِزَان الأمر . يعني اذهب إلى الأمر وأبدل الألفاظ المتعلقة بالأمر بالنهي ، وهي بعينها لا فرق بينها البتة . هنا الشأن كذلك ، لكن السيوطي لم يكتفِ . قال : لا بد من التنصيص . ولذلك قال : ( وَلَيْسَ مَنْدُوبٌ وَكُرْهٌ ) نص على ماذا ؟ على الكراهة .   
قال الناظم : والتصريح بمسألة المكروه من زيادة أخذًا من المختصر . يعني أراد أن يزيد على الأصل ، وصاحب الأصل ما تركها نسيانًا أو إعراضًا عنها وإنما ذكر أصلاً الذي أكثر أهل الأصول من ذكره وهو المندوب ، ثم الكلام في المكروه على وزانه لأن هذا فرعٌ عن الأمر ، وإذا كان فرعًا عن الأمر فالبحث في النهي بنوعيه كالبحث في الأمر بنوعيه سيان ، ولذلك قال الزركشي [ استغنى المصنف ] في (( التشنيف )) : استغنى المصنف بالخلاف في حدّ التكليف عن مسألة (( المختصر )) أن المكروه غير مكلفٍ به على الأصح لأن هذه أصلها فلا تظنه أهملها . والسيوطي ظنّه أهملها فاستدرك عليه ذلك .
وقال في (( البحر )) : وفي أن المكروه هل هو من التكليف أم لا ؟ والخلاف كالخلاف في المندوب - إذًا لا فرق بين المسألتين - خلافًا للقاضي أبي بكر الباقلاني في قوله بالثاني - الذي هو ماذا ؟ أن المندوب مكلفٌ به والمكروه مكلفٌ به - فعنده المندوب والمكروه بالمعنى الشامل لخلاف الأولى مكلَّفٌ به كالواجب والحرام .
زاد الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني على ذلك المباح فقال : المباح كذلك مكلَّفٌ به . لكن فسّر التكليف في الإباحة بما سبق وهو ماذا ؟ باعتبار الاعتقاد ، يجب اعتقاد أنه مباح . فقال : إنه مكلَّفٌ به من حيث اعتقاد إباحته تتميمًا للأقسام ، وإلا فغيره مثله في وجوب الاعتقاد . يعني الواجب كذلك يجب اعتقاد أنه واجب ، والمندوب يجب اعتقاد أنه مندوب ، والمحرم كذلك فهو واجب الاعتقاد . إذًا لماذا خصصنا المباح ؟ قال : نخصه ونرده إلى الأحكام التكليفية الذي هو الواجب من أجل إدخاله من باب تتميم القسمة فحسب . ولذا قال الناظم : ( وَلاَ الْمُبَاحُ ) يعني وليس المباح مكلَّفًا به خلافًا للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أي الأصح ليس مكلفًا به عند الجمهور خلافًا لأبي إسحاق ، وبعضهم لا يُعبّر بالأصح لأنه ليس فيه خلاف أصلاً ، ولذلك اعترضوا على صاحب الأصل بقوله : وكذا المباح ، لَمَّا قال : الأصح ليس مكلَّفًا به . قال : وكذا . يعني الأصح في المباح أنه ليس مكلفاً يعني أثبت الخلاف ، وبعضهم ينفي الخلاف ، أي الأصح ليس مُكلفًا به عند الجمهور خلافًا لأبي إسحاق ، والخلاف لفظي ، كذلك الخلاف لفظي ، كثيرٌ من المسائل عند الأصوليين الخلاف فيها يرجع إلى تحرير اللفظ فحسب ، لأنه لا يُدخله في التكليف باعتبار أصل الفعل ، إذ ليس في المباح طلبٌ ولا كُلفة لكونه مخيرًا بين الفعل والترك على السواء ، بل بالنسبة إلى وجوب اعتقاده كونه مباحًا . بمعنى أن المباح كالواجب والمندوب قد يُنظر إليه بجهاتٍ متعددة باعتبارات مختلفة ، صحيح ؟ فالمباح لك أن تنظر إليه باعتبار ذاته وهو ما استوى طرفاه فعلاً وتركًا ، ولك أن تنظر باعتبار الاعتقاد ، ولك أن تنظر باعتبار ما يكون وسيلةٍ إليه ، ولذلك المباح باعتبار ما هو وسيلة إليه قد يكون واجبًا ، إذًا المباح صار ماذا ؟ صار واجبًا باعتبار ذاته ؟ لا ، وإنما باعتبار ماذا ؟ [ الوسائل لها أحكام المقاصد ] ، [ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ] فصار المباح واجبًا ، وقد يكون محرمًا ، وقد يكون مندوبًا ، حينئذٍ باعتبارات مختلفة نظر أبو إسحاق الإسفرائيي إلى المباح باعتبار الاعتقاد . إذًا محل النزاع ليس محلاً واحدًا .
الجمهور نظروا إلى المباح باعتبار ذاته فقالوا : ليس مكلفًا .
وعند أبي إسحاق نظر ماذا ؟ إلى الاعتقاد ، قال : يجب أن يعتقد أن هذا مباح .
حينئذٍ الجهة تكون ماذا ؟ تكون منفكة .
قال : والخلاف لفظيٌّ لأنه لا يُدخله يعني أبو إسحاق في التكليف باعتبار أصل الفعل باعتبار ذاته ، إذ ليس في المباح طلبٌ ولا كُلفةٌ لكونه مُخَيَّرًا بين الفعل والترك على السواء ، بل بالنسبة إلى وجوب اعتقاد كونه مباحًا .
ولَمَّا رده إلى الوجوب حينئذٍ جعله حكمًا تكليفيًّا وأراد به تتميم القسمة .
قال في (( التحبير )) : وهو - أي - الندب تكليفٌ . يعني أن المندوب تكليف قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني والقاضي أبو بكر بن الباقلاني وابن عقيل والموفق ابن قدامة والطوفي وابن قاضي الجبل وغيرهم ، إذ معناه - يعني معنى التكليف عندهم - طلب ما فيه كُلفة . وهذا هو الصواب . وقد يكون أشق من الواجب ، المشقة هنا غير معتبرة ، يعني النظر باعتبار المشقة وعدمها ليس هو الأصل في صدق التكليف على الحكم ، لماذا ؟ لأن المشقة أولاً تختلف [ ليست .. ، كالسفر ] المشقة كالسفر لا تنضبط ولذلك تعلق الرخص بماذا ؟ بالسفر بذاته هو الذي يكون علةً وليست المشقة لأن الواجب قد يكون أشق من المندوب ، وقد تنتفي المشقة عن الواجب ، صحيح ؟ قد يفعل الواجب وليس فيه مشقة . إذًا انتفت كيف يقول : إلزام ما فيه كلفة . لم يكن حكمًا شرعيًّا تكليفيًّا قد يكون المندوب ليس فيه مشقة ، قد توجد فيه مشقة أدنى من الواجب ، قد تكون مساوية ، قد تكون الأشق ، صحيح ؟ إذًا باعتبار المشقة نقول : المندوب لا يصلح أن يكون ماذا مُكلَّفًا به أو لا ؟ وإنما باعتبار كونه مطلوبًا أو لا كونه مطلوبًا هذا مُطرد ، كونه فيه مشقة هذا مطرد يعني لا يتحقق فيه الوصف مطلقًا ، ولذلك عَبَّر الزركشي في         (( التشنيف )) بعبارة جيدة وهي أن جنس المشقة هي المعتبرة في المندوب ، وليس في كل فردٍ فرد لأنه قد يوجد بعض المندوب ولا يكون فيه ماذا ؟ لا يكون فيه مشقة . وقد يوجد بعض أفراده وفيه مشقة أعلى من مشقة الواجب . إذًا المشقة واعتبارها في وصف الحكم الشرعي بكونه تكليفًا أو لا ؟ هذه ليست مطردة لكونها مضطربة ، حينئذٍ نرجع إلى ماذا ؟ إلى كونه مطلوبًا أو لا ؟ والطلب لا شك أنه مستوٍ في الجميع سواء كان في الواجب أو كان في المندوب ، سواء كان طلب إيجادٍ أو كان طلب تركٍ ، فاستوى فيه . ولذلك إلزام ما فيه كُلفة ليس مطردٍ . طلب ما فيه مشقة أو كُلفة حينئذٍ قال : هذا مطرد . كيف يكون في المندوب مشقة ؟ نقول : باعتقار الجنس لا باعتبار ماذا ؟ لا باعتبار كل فردٍ فرد .
قال هنا : إذ معناه طلب ما فيه كُلفة وقد يكون أشقَّ من الواجب ، وليست المشقة منحصرة في الممنوع عن نقيضه حتى يلزم أن يكون منه . يعني نقيض المندوب الذي هو الواجب .
وذكر الزركشي في (( التشنيف )) أن الكلفة يعني في المندوب باعتبار الجنس لا كل فردٍ فرد ، ومنعه ابن حمدان من أصحابنا وأكثر العلماء قاله ابن مفلح في (( أصوله )) وغيره ، فليس بتكليفٍ - يعني المندوب - ولا يكلف به ، فإن التكليف يُشعر بتطويق المخاطب الكلفة من غير خِيرةٍ - يعني من المكلف - والندب فيه تخيير .
هذا التعليل سقيم لا يصح ، بمعنى قوله رحمه الله تعالى هنا : فإن التكليف هذا كلام صاحب (( البرهان )) الجويني : فإن التكليف يُشعر - يعني اللفظ - يشعر بماذا من حيث اللفظ ؟ بتطويق -يعني جعله طوقًا عليه - تطويق المخاطب الكلفة من غير خِيرةٍ والندب فيه التخيير ، إثبات التخيير في الندب ليس على وجه السواء ، فلا يلتحق حينئذٍ بالمباح ، بل هو بالواجب آكد . والخلاف في هذه المسألة لفظيٌّ وذلك مبنيٌّ على تفسير لفظ التكليف ، فإن أريد بالتكليف ما يترجح فعله على تركه ، فالمندوب تكليفٌ ، وإن أُرِيد به أنه مطلوبٌ طلبًا يمنع النقيض الذي هو الترك فهو ليس بتكليفٍ . وقال أيضًا في المباح : وليست - أي الإباحة - بتكليفٍ عند الأربعة وغيرهم ، بل حُكِي إتفاق ، المباح باعتبار ذاته لم يقل أحدٌ بكونه مكلّفًا به - وهو الصحيح - حتى أبو إسحاق الإسفراييني لا يقول بماذا ؟ بكونه باعتبار ذاته مكلّفًا ، وإذا كان كذلك حينئذٍ يُحْكَى الاتفاق ، ولذلك انتقد صاحب الأصل بقوله : وكذا المباح . يعني الأصح فيه أنه ليس مكلَّفًا به .  
قال : وليست الإباحة بتكليفٍ عند الأربعة وغيرهم ، وخالف الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني . قال الطوفي : والخلاف لفظيّ إذ من قال : ليس تكليفًا . نظر إلى أنه ليس  فيها مشقةٌ جازمة كمشقة الواجب والمحظور ، ولا غير جازمةٍ كما بينا في مشقة المندوب والمكروه وهي مشقة فوات الفضيلة ، إذ لا فضيلة في المباح لذاته يشُقّ على المكلف فواتها بتركه . يعني مشقة المندوب ليست في فعله هذا التعبير فيه شيء من القصور ، وإنما في فوات الفضل المترتب عليه . نقول : هذا كذلك يشق على ماذا ؟ على النفس ، لكن الفعل ذاته قد يكون فيه مشقة ، ولذلك قلنا مرارًا : الاعتكاف فيه مشقة أو لا ؟ فيه مشقة ليس كصلاة ركعتين ، هذا مندوبٌ وهذا مندوب صلاة ركعتين ما أخفها على النفس ، لكن عشرة أيام تلزم المسجد تذكر الله عز وجل هذا فيه مشقة . إذًا فوات الفضيلة هذا نوع مشقةٍ والفعل ذاته كذلك يكون فيه مشقة ، ومن قال : هي تكليفٌ أراد أنه يجب اعتقاد كونه مباحًا . وهذا رُدّ بأن العلم بحكم المباح خارجٌ عن نفس المباح .
واعْتُذِر له بأن الإباحة حكمها وجوب اعتقاد أن الفعل مباح ، والوجوب من التكليف فقد لازمت ما فيه كلفة ، وأطلق عليه التكليف لأجل الملازمة . هذا حكمٌ عام ليس خاصًّا بالمباح . يعني كُلَّمَا وُجِدَتِ الإباحة [ ها ] وجب اعتقاد أنه مباح . إذًا صار ملازمًا له ، باعتبار أن اعتقاد الوجوب ملازمًا للمباح لك مباح ، بقرينة الملازمة أطلق التكليف على المباح ، وهذا رَدَّه إلى الأول . وهذا لا يمنعه الأول ، والأستاذ لا يمنع أن المشقة في المباح فتبين أن النزاع لفظيٌّ لعدم وروده على محلٍ واحدٍ إذ الأول يقول : الإباحة لا مشقة فيها . والأستاذ يقول : يجب اعتقاد أن المباح ليس واجبًا ولا محظورًا ولا مندوبًا ولا مكروهًا . وهذا الكل يقول به .
وذكر الموفق في (( الروضة )) كالأول . يعني أنها ليست بتكليفٍ وعدَّها أيضًا من أحكام التكليف  يعني نفى عند التحقيق المسألة ليس بتكليفٍ ، ولَمَّا جاء يَعُد أحكام التكليف قال : الواجب .. إلى آخره والمباح ، لكن هذا يعتبر ماذا ؟ يعتبر على جهة التوسعة ، والنظر هنا باعتبار ماذا ؟ ما قرره في محله ، يعني في الموضع الذي ذكر أن المباح ليس بتكليفٍ هو المعتمد . قال : وقالوا : من قال التكليف ما كلف اعتقاد كونه من الشرع فهي التكليف ، وضعفه بلزوم جميع الأحكام . يعني كذلك . وقال المجد في (( المسودة )) : والتحقيق في ذلك عندي أن المباح من أحكام التكليف . بمعنى أنه يختص بالمكلفين ، أي أن الإباحة والتخيير لا يصح إلا لمن يصح إلزامه الفعل أو الترك ، فأما الناسي والنائم والمجنون فلا إباحة في حقهم كما لا حظر ولا إيجاب ، هذا معنى جعلها من أحكام التكليف لا بمعنى أن المباح مكلّفٌ به ، وهل هذا صحيحٌ أم لا ؟ هذا صحيح .
إذًا بهذا الاعتبار هي من أحكام التكليف ، وهذا تزيده إلى كون إدخال المباح في أحكام التكليف بكونه صفةً لفعل المكلفين . ( فَرَجَحْ
في حَدِّهِ إِلْزَامُ ذِي الْكُلْفَةِ لاَ  **  طَلَبُهُ ) . قوله : ( فَرَجَحْ ) الفاء هذه للتفريع صريحٌ في أن تعريف التكليف بما ذُكر مترتبٌ على انتفاء التكليف بالمندوب مع أن الأمر بالعكس ، لو  نظرت إلى النظم  ( وَلَيْسَ مَنْدُوبٌ ) ، ( مُكَلَّفًا ) ، ( فَرَجَحْ ) في حده . إذًا أيهما أصل للآخر ؟
نفي التكليف عن المندوب أصلٌ للتعريف .
ونحن قلنا : ماذا ؟ العكس هو الصواب .
إذًا الأصل لذلك قدمت تعريف التكليف على النظر في المسألة هذا الصواب ، أن يعرف أولاً التكليف ثم بعد ذلك يقال : دخل فيه من الأحكام التكليفية كذا وكذا ، وظاهر عبارة الناظم هنا ماذا ؟ أن الاختلاف في التكليف في حدّه هذا فرعٌ عن إثبات أو نفي التكليف عن المندوب .
قوله : ( فَرَجَحْ ) صريحٌ في أن تعريف التكليف بما ذُكر مترتبٌ على انتفاء التكليف بالمندوب مع أن الأمر بالعكس ، وهو ما سلكه المصنف تاج الدين السبكي والعضد في (( شرح المختصر )) وهو الصواب .
وقد يقال : إن بينهما تلازمًا مصحِحًا لترتب كل منهما على الآخر ، وإن كان الأظهر العكس .
الصحيح أن التكليف يُعرَّف أولاً ، ثم بعد ذلك تفرع عليه المسائل هل المندوب مكلَّفٌ به أو لا ؟ هل المكروه مكلفٌ به أو لا ؟ هل المباح مكلفٌ به أو لا ؟
قال الناظم : والخلاف في المسألتين مفرعٌ عن الخلاف في حقيقة التكليف . يعني في شرحه جعل الخلاف في المسألتين فرعًا على الخلاف في حقيقة التكليف ، لكنه في النظم وافق صاحب الأصل .
فالجمهور على أنه إلزام ما فيه كلفة ، فلا يكون المندوب والمكروه مكلّفًا بهما .
وقال القاضي أبو بكر : هو طلب ما فيه كُلفةٌ . فيكونان مكلَّفًا بهما . قال الجويني : فأما التكليف فقد قال القاضي أبو بكر : إنه الأمر بما فيه كلفة والنهي عما في الامتناع عنه كُلفة ، وإن جمعتهما قلت : الدعاء إلى ما فيه كلفة . هو هذا التعبير هو الذي اختاره من عَبَّر بالطلب ، بمعنى أن قوله : الدعاء إلى ما فيه كلفة . قالوا : إذًا نأتي إلى الاقتضاء الذي جعلناه أصلاً داخلاً في حدّ الحكم الشرعي ، كما قلنا : بالاقتضاء الذي هو الطلب . إذًا نقول : طلب ما فيه كُلفة وهو أولى من الدعاء . قال : وإن جمعتهما قلت : الدعاء إلى ما فيه كُلفة ، وعدَّ الأمر على الندب والنهي على الكراهية من التكليف . يعني أدخل جعل الأمر صادقًا على الندب ، وجعل النهي صادقًا على الكراهية ، ولكل منهما حكم عليهما بالتكليف .
قال الجويني : والأوجه عندنا في معناه أنه إلزام ما فيه كلفة ، فإن التكليف يُشعر بتطبيق المخاطب الكلفة من غير خيرةٍ من المكلَّف ، والندب والكراهية يفترقان بتخيير المخاطب وليسا سيان - كما بينا - والقول في ذلك قريب ، فإن الخلاف فيه آيلٌ إلى المناقشة في عبارة الشرع . نعم الشرع يجمع الواجب والحظر والندب والكراهية ، فأما الإباحة فلا ينطوي عليها معنى التكليف ، وقال الأستاذ : إنها من التكليف . وهي هفوةٌ ظاهرةٌ . الأستاذ من هو الأستاذ  ؟ أبو إسحاق الإسفراييني . لكن اعتذر له أو بما صرح به هو أن المراد بالتكليف اعتقاد أنه مباح  اعتقاد يعني وجوب اعتقاد أنه مباح .
قال البناني : والحاصل أن المباح لم يقل أحدٌ أنه مكلَّفٌ به من حيث ذاته . هذا لا قائل به البتة ، فهو محل إجماعٍ . كما قيل بذلك في المندوب والمكروه . يعني الخلاف في المندوب والمكروه ، وعبارة المصنف وإن كان ظاهرها وجود الخلاف فيه . يعني قوله : وكذا المباح . يمكن توجيهها على وجهٍ لا يفيد ذلك بأن يجعل التشبيه في قوله : وكذا المباح وليس مكلفًا به بقطع النظر عن وصفه بالأصح . لأنه قال : الأصح في المندوب ليس مكلفًا به وكذا المباح . إذًا نريد فصلها ، بدلاً أن نقول : وكذا المباح وكذا الأصح في المباح أنه ليس مكلفًا به ، نقول : وكذا المباح ليس مكلفًا به . نجعل له ماذا ؟ فاصلاً بين النوعين ، فوجه الشبه بين المندوب والمباح كون كلٍّ ليس مكلَّفًا به وإن كان في الأول الذي هو المندوب على الأصح ، وفي الثاني اتفاقًا . نعم كان الأقعد أن لا لو قال : ليس مكلفًا به وكذا المندوب على الأصح ليكون الأصح راجعًا للمندوب فقط وليس للمباح ، ويكون قد شبه المختلف فيه بالمتفق عليه .
صحيح ؟ قال : والأصح ليس مكلفًا به ، وكذا المباح . إذًا التشبيه هنا في ماذا ؟ في الأصحية أو في ماذا ؟ في عدم التكليف ؟
في الأصحية يرد السؤال هنا هل المباح فيه الخلاف ؟
ليس فيه خلاف باعتبار ذاته .
إذًا ما وجه الشبه ؟
نقول : وجه الشبه في أن كلاً منهما ليس مكلَّفًا به . شبَّه الأضعف بالأقوى ، شبَّه المختلف فيه بالمتفق عليه ، ولا إشكال فيه . قد شبَّه المختلف فيه بالمتفق عليه كما هو الشأن من تشبيه الأضعف بالأقوى فلذا فصله الناظم عن الأصحية في المندوب والمكروه بقوله : ( وَلاَ الْمُبَاحُ ) .
الناظم قال ماذا ؟ : ( وَلَيْسَ مَنْدُوبٌ وَكُرْهٌ في الأَصَحّْ ) يعني في القول الأصح ( مُكَلَّفًا ) به أو بهما المندوب والكره ثم قال : ( وَلاَ الْمُبَاحُ ) لم يأتِ بلفظ الأصل وكذا المباح لأن فيه ماذا ؟ فيه اعتراضًا ، وهو أن التشبيه يقتضي المساواة . المساواة في ماذا ؟ في الأصحية ، وليس ثَمَّ خلاف في المباح حتى يقال فيه أنه أصح ، حينئذٍ لا بد من فصل الجملة الثانية عن الأولى ، ونجعل التشبيه هنا في كون الأول ها مختلفًا فيه ، وفي كون الثاني متفقٌ عليه . حينئذٍ يكون مطلق الشبه في ماذا ؟ في أن كلاًّ منهما ليس مكلفًا به . ومن أجل أن المندوب ليس مكلفًا به كان التكليف إلزام ما فيه كُلفة من فعلٍ أو ترك ، لا طلب ما فيه الكلفة فلذا قال الناظم : ( في حَدِّهِ إِلْزَامُ ذِي الْكُلْفَةِ لاَ ** طَلَبُهُ ) ، ( فَرَجَحْ ) يعني ترجح ( في حَدِّهِ ) أي حد التكليف ( إِلْزَامُ ) تصيير الشيء لازمًا ( ذِي الْكُلْفَةِ لاَ ** طَلَبُهُ ) ودل ذلك على ماذا ؟ على أن المقدم عند الناظم كصاحب الأصل والصواب هو العكس .
ثم قال : ( وَالْمُرْتَضَى عِنْدَ الْمَلاَ
أَنَّ الْمُبَاحَ لَيْسَ جِنْسَ مَا وَجَبْ ) .
يأتينا ، والله أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .


















شرح
الكوكب الساطع

نظم جمع الجوامع

شرحه  وعلق  عليه 
فضيلة  الشيخ
أحمد بن عمر الحازمي

الشريط التاسع والخمسون


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..