الجمعة، 26 أبريل 2013

ميلاد الغلاة الجدد . تسطيح الفهم وغياب الوعي

  إن  الخطاب  الديني   الشيعي   اليوم  , في  ( بعض  مفرداته )  الإعلامية   يتحرك  باتجاه   إغلاق  الذات  على  الذات  ,  ويتجاوز بوعي  أو بغير  وعي  المساحة  المشتركة  للقبول  والتعايش  ,  و  وضع  أهل  البيت  في  الأطر  الجامعة  الموحدة  للمسلمين  جميعا  ,  وعدم  مصادرتهم  عن  وجدان  المسلمين  واحتكارهم  في  طقوس  وممارسات  يصعب على كثير  من  المسلمين  تقبلها  , أو  فهمها  ,  أو  الرضا  بها   .  وبالرغم  أن  أهل  البيت  عليهم  السلام   يمثلون  زينة  السلوك  , والعقيدة  الوسط  ,  والعروة  الوثقى   ,  وعقيدة  الحب  ,  والفضيلة  والإيثار  ,  والكرم   ,  وإقامة  العدل  ,  وإحياء  المعروف  بين  الناس  ,  ومخافة  الله  ,  والتقوى  والورع   . إلا  أن  أتباعهم  المعاصرين  لم  يقدموهم  بهذه  الصورة  دائما  ,    إننا  نجد  صورة  تختلف كثيرا   في تقديمهم   .  بقصص  أفعال الخالق  ,  وروايات  التفويض  ,  وكرامات   العلم  بالغيب  ,  بما  يجعلنا  نصطدم  بشكل  مباشر  ,  وتلقائيا  مع   الحدود  الشرعية  المقررة   من  قبل  أهل  البيت  أنفسهم  عليهم السلام   في  عدم  تجاوز   الحد  في  حبهم  ,  كما  تجاوز  المبغضون  كل  الحدود  في  كراهيتهم   وإقصائهم  وإبعادهم   محبة  وعقيدة  وحضورا  في  الحياة    عليهم السلام  ,  وان  الغلاة  لا  يقلون  إثما  عن  المبغضين  ,  أو  المحرومين  عمليا  من  بركاتهم  العظمى  .

  إن  الغلاة  كانت  لهم  عقيدتهم  الخاصة  بهم  ,  فهم  منافقون  يريدون  تحقيق  اكبر  قدر  من المكاسب  الشخصية  من خلال  ,  مفاهيم  - القدرات  الخارقة للعادة -  , والتي  يطلق  عليها  العلماء  - أفعال الربوبية -  كالرزق  ,  وقضاء  الحوائج  , والعلم  بالغيب  وغيرها  الكثير  -  فبعد  ثبوت  هذا  الأصل  يتحول    ( هو أي  المغالي   )   بشكل  مباشر  وتلقائيا  إلى  -  الباب  -  و  ( الولي  المؤتمن على  الدين  والدنيا )  .  فهم  يحرثون  بالكذب  أرضهم  ,  ويجرون  النار  إلى  قرصهم  من  خلال  أهل  البيت عليهم  السلام  ,  ولذا  نجد  المنصورية  .  بدأت  بالدعوة  إلى  ( إلوهية جعفر بن محمد الصادق )  والعياذ  بالله ,  فلما كفرهم  وألب  الرأي  العام  عليهم  , وطلب  من  الخليفة  تتبعهم  وقتلهم  تحت  كل  حجر  ومدر  ,  تحول  المنصور  فورا  إلى  الدعوة  إلى  نفسه  بصفته  هو  الإمام   المفوض  من  قبل  الله  في  الخلق  ..  حتى  قتل  .  كما  سيأتي  إثباته  في  الروايات  التالية  .

   وإني  إذ  أقدم  هذه  الروايات  ,  الكثيرة  فذاك  بغية  جعلها  معيارا  في  ما يريده  أهل  البيت ( عليهم  السلام  )  من  أتباعهم  ومواليهم  ,  وفي  قبول  ورفض  ما  يجوز  قبوله , وما  يجب  رده  في  حقهم  , وفيما  ينسب  ويدعى  فيهم  .  بما  يغضب  الله  ,  ويغضب  رسوله  ,  ويغضبهم  في  قبورهم  . كما صرح  بذلك  الصادق عليه السلام  في  واحدة  من  رواياته  القادمة  بسندها  الصحيح  .
                        روى الكشّي بسنده عن أبي عبد الله الصادق (ع) ... و ذكر الغلاة، فقال: « إنّ فيهم من يكذب حتّى إن الشيطان ليحتاج إلى كذبه »
- رجال الكشّي للشيخ الطوسي ص 297 .
  المغالي   فاسق  وكافر  ومشرك  .
                        و روى –الكشي  - بسنده عن مرازم، قال: قال أبو عبد الله (ع): «قل للغالية توبوا إلى الله فإنكم فسّاق كفّار مشركون » رجال  الكشي  297 ,    إن  الصادق  عليه السلام  ,  يجعل  المغالي  ,  جامع  لصفات  البعد  عن  الله  ,  بكفره  وشركه  وفسقه  ,  وبذا  يكون  ابعد  الخلق  عن  رضاه  وجنته  ونيله  الرحمة  .   
  وهذا ما نجده  حيث  يتناول  الإمام  الصادق  عليه السلام  -  المغيرة بن سعيد -  أحد  الغلاة  الكذابين  ,  فيقول  فيه  تصريحا  به  ,  لترك  كل  رواية  ينقلها  ,  أو  رائيا  يبثه  بين  محبين أل بيت محمد  وشيعتهم  .
                        يقول  الكشي  : بسنده عن سلمان الكناني قال: قال لي أبو جعفر - الإمام محمد الباقر (ع) - هل تدري ما مثل المغيرة ؟
                        قلت : لا .
                        قال : مثله مثل بلعم .
                        قلت ومن بلعم  ؟
                        قال: الذي قال الله عزّ وجلّ : (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فَأتّبعَهُ الشيطان فكان من الغاوين ) (الاعراف  /  175). 227 رجال  الكشي
      ويروي  الكشي  رحمه الله  بسنده  :  عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) انّه كان يقول: «لعن الله المغيرة بن سعيد، انّه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حرّ الحديد ، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا ، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا و إليه مآبنا و معادنا و بيده نواصينا » رجال الكشي ص 302
        وإن  هذا  الكم  الهائل  من  لعن  المغيرة بن  سعيد  ,  فذاك  لكونه  قام  بدور  خبيث  خطير  ,  لا  تزال  حتى  اليوم  كتب  الحديث  الشيعية  تعاني  منه  ,  وهو  دور  -  الدس  في كتب  الشيعة  -  معاني  الغلو  في  قوالب  روائية  ينسبها  إلى  أئمة  أهل  البيت  , وخاصة  الإمام  الباقر  عليه السلام   ,  وهذا  ما  ينقله  لنا  الكشي  رحمه الله  ,  في  الصفحة  225 من كتابه  الجليل  الرجال  عن  الإمام الصادق عليه السلام  : 
             بسنده عن هشام بن الحكم انّه سمع أبا عبد الله (ع) يقول: «كان المغيرة بن سعيد يتعمدّ الكذب على أبي، و يأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي، فيدفعونها إلى المغيرة فكان يدسّ فيها الكفر و الزندقة، و يسندها إلى أبي، ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثوها في الشيعة . فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو ، فذاك ما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم »
                        وفي رواية أخرى ، سُئل يونس وقيل له: ما أشدّك في الحديث لما يرويه أصحابنا ! فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث ؟ فقال: حدّثني هشام بن الحكم انه سمع أبا عبد الله (ع) يقول: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فانّ المغيرة بن سعيد - لعنه الله - دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي . فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى و سنّة نبينا صلى الله عليه وآله فانا إذا حدّثنا قلنا قال الله عزّ وجلّ و قال رسول الله (ص)   )  الكشي  224ص
   وحين  انتقل  الإمام  الصادق  عليه السلام إلى  الرفيق  الأعلى  .  ظهر  كذاب وضاع  مغالي  جديد   كما  تخبرنا  هذه  الرواية   ص 483  من  رجال الكشي  :
                        قال يونس : وافيت العراق ، فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (ع) و  وجدت أصحاب أبي عبد الله (ع) متوافرين، فسمعت منهم، و أخذت كتبهم فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (ع)، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله (ع) وقال لي : «إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله (ع) ،لعن الله أبا الخطاب    )   المقصود في  الرواية  هنا  هو  محمد بن مقلاص الاسدي الكوفي   .  وهو  رئيس  جماعة  الخطابية  التي  تأثر برواياتهم  الشيخية  حتى  يومنا  هذا  في  نظريات  التفويض  والتكوين  الفكري  والعقائدي  .  ثم  حذر  الإمام  الرضا عليه السلام  من  ذيول  - أبي  الخطاب  الكذاب  الوضاع   فأردف  قائلا  : 
  …… )                         و كذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله(ع)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فانّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن و موافقة السنّة، إنّا عن الله وعن رسوله(ص) نحدّث ولانقول: قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا، انّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا وكلام أولنا مصادق لكلام آخرنا، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه...»
      تحدث  ألقمي  في  كتابه - الكنى  والألقاب - عن  جماعة  الخطابية   فكتب  يصفهم  ويصف  حالهم   التالي  : 
                        «استحلوا جميع المحارم وقالوا: من عرف الإمام، حلّ له كل شيء كان حرم عليه. فبلغ أمره جعفر بن محمد (ع) فلم يقدر عليه بأكثر من أن لعنه و تبرأ منه ومن جميع أصحابه فعرّفهم ذلك ، و كتب إلى البلدان بالبراءة منه وباللعنة عليه . وعظم أمره على أبي عبد الله (ع) و استفظعه و استهاله ». المجلد 1/ص64    
               وهذه  نظرية  جديدة  ,  وهي  جعل  الغلو  تبريرا  غريزيا  لاستباحة  كل  ما حرم الله  ,  فعوض  الردة  التي  تجعل  صاحبها  في مأزق الحد الشرعي  ,  يتم التواري  بالغلو  الذي  يشكل  غطاء  وستارا  لفعل  كل  قبيح منهي  عنه  .  وبهذا  لم  يتحرك  الغلاة  من  منطلقات  ( زيادة  المحبة  في  أهل  البيت ) كما  قد  ينصرف  إلى  الذهن  بقدر  ما تم  توظيف  أهل  البيت  لصالح  ,  البقاء  على  الكفر  بالله  وباليوم  الأخر  .  فهي  نظرية  تماثل  المسيحية  المعاصرة  التي  تجعل  الاعتراف  الكنسي  كافيا  في  شمول  الرحمة  ومغفرة  الذنوب  ولو تعاظمت 
                        و روى الكشي بسنده وقال: قال أبو عبد الله (ع) وذكر أصحاب أبي الخطاب والغلاة، فقال لي: « يا مفضّل لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم »ص.297
                        و روى - أيضاً - عن ابن أبي يعفور قال: دخلت على أبي عبد الله (ع) فقال: ما فعل بزيع ؟ فقلت له : قتل. فقال: الحمد لله. أما إنّه ليس لهؤلاء المغيرية خير من القتل، لأنهم لا يتوبون أبداً ) 305  .
  وجعل  الإمام الصادق  عليه السلام  القتل  هو  خير  لهم  من  التوبة ,  لكونهم  حقيقة  كفار بالله  ,  لا  يرجون  ثوابه  , ولا  يخافون عقابه , وإن  الموت  طهارة  للمجتمع  الموحد  من دسائسهم  وفتنتهم  البغيضة  .
                        روى الكشّي بسنده: إن يحيى بن عبد الله بن الحسن قال لأبي الحسن موسى بن جعفر (ع) : جعلت فداك ! إنهم يزعمون انّك تعلم الغيب ؟! فقال: سبحان الله ضع يدك على رأسي فو الله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلاّ قامت  ! قال: ثم قال: لا والله ! ما هي إلاّ وراثة عن رسول الله (ص)، وفي نسخة: رواية عن رسول الله (ص)   .  298
                        و روى - أيضاً - بسنده وقال: «قال أبو الحسن الرضا (ع): كان بيان يكذب على علي بن الحسين (ع) فأذاقه الله حرّ الحديد، وكان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر (ع) فأذاقه الله حرّ الحديد، وكان محمد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى (ع) فأذاقه الله حرّ الحديد، وكان أبو الخطّاب يكذب على أبي عبد الله (ع) فأذاقه حرّ الحديد ، والذي يكذب عليّ محمد بن فرا ت  .  ولعل  تصرف  المنصورية  جماعة  أبي  منصور  العجلي   تفضح  الحقيقية  النفسية  والفكرية  لهذه  المجموعات  الفكرية  ,  خاصة  وأن الظرف  التاريخي  لتكوينها  , كان الامتداد  الجغرافي  يمتدد للإسلام  بسرعة  هائلة  افقدها  التركيز  على  الاختمار  الرصين  للعقائد  والتربية  النفسية  والتزكية  للقلوب  والترقي  في  العقول .  ان أكثرهم  باطن  الكفر  ,  ظاهر  النفاق  ,  يعبد  الله  على حرف . ).   يقول  ابو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني (ت: 548 هـ) ط. القاهرة 1387 هـ 1 / 153 في كتاب  الملل  والنحل  عن  المنصورية  التالي  :
           «المنصورية»    :   أصحاب أبي منصور العجلي ، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر في الأول ، فلـمّا تبرّأ منه الباقر و طرده ، زعم انّه هو الإمام، و دعا الناس إلى نفسه». قال : وخرجت جماعة منهم بالكوفة في بني كندة، فأخذه يوسف بن عمر الثقفي والي هشام بن عبد الملك على العراق و صلبه . ))
   وأكد  على  ذات  السلوك  المشترك  لهم  وهو  الوصولية  والانتهازية  من خلال  نظريات  ( الغلو المسقطة  للتكاليف  ,  أو  الرافعة  للذنوب بالمطلق  يقول رحمه الله عن  الخطابية  أيضا  :
                       «الخطّابيّة» أصحاب أبي الخطّاب محمد بن أبي زينب الأجدع  الاسدي ولاءً، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق - رض - فلـمّا وقف الصادق على غلوّه الباطل في حقه، تبرّأ منه، ولعنه و أمر أصحابه بالبراءة منه، و  شدّد القول في ذلك وبالغ في التبرّي منه واللعن عليه. فلمّـا اعتزل عنه ادّعى الإمامة لنفسه. قتله عيسى بن موسى صاحب المنصور بسبخة الكوفة ، و افترقت الخطّابيّة بعده فرقا . و زعمت طائفة انّ الإمام بعد أبي الخطّاب بزيغ، و تسمّى هذه الطائفة البزيغية  )   الملل و النحل 1 / 179 - 180 .
   ولم  يذهب  الشيخ  المفيد  بعيدا  عن  هذه النظرة  للغلاة  ,  فأخرجهم  عن  الإسلام  حقيقة  , وجعلهم  منافقين  كذابين  وهذا  نص  ما كتبه   في  كتابه  (تصحيح اعتقادات الإمامة - الشيخ المفيد - ص 131   :
     (   والغلاة : من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته - عليهم السلام - إلى الإلوهية والنبوة ، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد ، وخرجوا عن القصد ، وهم ضلال كفار حكم فيهم أمير المؤمنين - عليه السلام - بالقتل والتحريق بالنار ، وقضت الأئمة - عليهم السلام - عليهم بالكفر والخروج عن الإسلام    ...   )  .
   عند  الوقوف  على  دلالة  مفردة  الغلو  في  اللغة كما  شرحها  ابن  منظور  في  كتابه  لسان  العرب   : الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء ....
و غلا في الدين والأمر يغلو غلوا جاوز حده وفي التنزيل  { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ }....
 وفي الحديث إياكم و الغلو في الدين أي التشدد فيه ومجاوزة الحد كالحديث الآخر إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق
وغَلاَ في الأَمْرِ غُلُوًّا كسُمُوَ من بابِ قَعَدَ جاوَزَ حَدَّهُ
وفي الصِّحاح جاوَزَ فيه الحَدَّ ، وفي المِصْباح غَلاَ في الدِّيْن غُلُوًّا تَشَدَّدَ وتَصَلَّبَ حتى جَاوَزَ الحَدَّ ، ومنه قولُه تعالى { لا تَغْلُوا في دِينِكُم غَيْر الحَقِّ }
وقال الراغبُ أَصْلُ الغُلُوِّ تَجاوُزُ الحَدِّ    ) 
      إن  الغلو أول ما يضرب التوحيد  في  روحه  ومعناه وحقيقته   في الصميم فيصغر عظمة الخالق سبحانه وتعالى   من  جهة   ,  بحيث  يجعل  الرجاء  في  غيره  أتم  وأرجى  منه  ,  وادعى  للقبول  ,  ويباعد  بين  العبد  والرب   ثم  يسحب الصفات   الحسنى  الخاصة بالله  سبحانه  وتعالى ويعطيها  إلى عبيده  . 
        الظاهر  إن الغلاة   طوروا  من  مهاراتهم  في  المراوغة  والدس  ,  بعد قتل  السابقين  منهم  من جهة  , وزيادة  في  الوقاية  والحذر  من جهة  ثانية  ,  كما أن بني  أمية  ,  رأت أن  منافسة  الله  في  صفاته  وأفعاله . ادعى  لسقوط  مذهب أهل  البيت  عليهم السلام  ,  وسيحد  من انتشاره  بشكل  فعلي وحقيقي  .  ولهذا  تم  توظيفه  كسبب  ثالث  ساعد  على  انتشار  نظريات  الغلو  , ولكن  هذه المرة  بحماية  بني  أمية  وبني  العباس  .  تنفيرا  للقلوب  وإبعادا  للنفوس  عن آل بيت محمد  صلى الله عليه واله وسلم .  وهذا  ما يذكره  الإمام  الرضا عليه السلام  فيما أخرجه  الصدوق  في  عيون أخبار  الرضا  عليه السلام  : 
روى الشيخ الصدوق بسنده عَنْ إبراهيم بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ  قَالَ : قُلْتُ لِلرِّضَا عليه السلام : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام  وَ فَضْلِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ هِيَ مِنْ رِوَايَةِ مُخَالِفِيكُمْ وَ لَا نَعْرِفُ مِثْلَهَا عِنْدَكُمْ  أَفَنَدِينُ بِهَا ؟ .... - إلى أن قال - ثُمَّ قَالَ الرِّضَا [ عليه السلام ]:
( يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَ جَعَلُوهَا عَلَى  ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ[6] :
 أَحَدُهَا : الْغُلُوُّ .
 وَثَانِيهَا : التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا .
 وَثَالِثُهَا : التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا.
 فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا : كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إلى الْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا ) .

   روايات  الغلاة  والغلو  مصيدة   تنفير  عن  آل بيت  محمد  ( ص )  إلا  أن  البعض  بغياب  الوعي  والجهل  بالكليات  العامة  لمذهب  أهل  البيت   عليهم  السلام ,  ومع   غياب  الأصول  العامة  , والضوابط  الكلية  ,  ينثرها  فضائل  أو كرامات  عنهم  أو على  لسانهم  مما  يستوجب   تكفيرهم   ,  أو  تكفير  أتباعهم  وأنصارهم  والموالين   لهم  ,  واحسب  أن هذا  قد  نجح  في مرحلة  مبكرة  جدا  من التاريخ  ,  ولا  يزال  دولاب  الغلاة  يطحن  الكثير  من  الجماجم  تحته  .  ويحصد  من  عصير  الكراهية  لكل  من  يتبع  مذهب  أهل  البيت  ويتشيع  لهم   .

   فكيف  نمارس  نحن  ما يؤكد  لعامة  المسلمين  مظاهر  الغلو  ,  أو  شبهة  العبادة  وسقوط  الوحدانية  ؟؟    هي أكبر  آلة  بشرية   لتدمير   مكانة  أهل  البيت  عليهم السلام   في  قلوب  العالم  .  وإسقاط  محبتهم  من القلوب  , وجعل  مذهبهم  متهما  بكل  قبائح  البدعة  والشرك  ومجانبة  السنة  المحمدية  , وثوابت الأمة  .

يقول الإمام  الرضا  عليه السلام في  بيان   موقفه الحازم من الغلاة  وتنبيه شيعته على الابتعاد عنهم وعدم مخالطتهم بأي نحو من الأنحاء لما يشكلونه من خطر على الدين وتشويه سمعة أهل البيت فيقول :  
( فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَنَا وَ مَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَحَبَّنَا وَ مَنْ وَالَاهُمْ فَقَدْ عَادَانَا وَ مَنْ عَادَاهُمْ فَقَدْ وَالَانَا وَ مَنْ قَطَعَهُمْ فَقَدْ وَصَلَنَا وَ مَنْ وَصَلَهُمْ فَقَدْ قَطَعَنَا وَ مَنْ جَفَاهُمْ فَقَدْ بَرَّنَا وَ مَنْ بَرَّهُمْ فَقَدْ جَفَانَا وَ مَنْ أَكْرَمَهُمْ فَقَدْ أَهَانَنَا وَ مَنْ أَهَانَهُمْ فَقَدْ أَكْرَمَنَا وَ مَنْ رَدَّهُمْ فَقَدْ قَبِلَنَا وَ مَنْ قَبِلَهُمْ فَقَدْ رَدَّنَا وَ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ أَسَاءَ إِلَيْنَا وَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَ مَنْ صَدَّقَهُمْ فَقَدْ كَذَّبَنَا وَ مَنْ كَذَّبَهُمْ فَقَدْ صَدَّقَنَا وَ مَنْ أَعْطَاهُمْ فَقَدْ حَرَمَنَا وَ مَنْ حَرَمَهُمْ فَقَدْ أَعْطَانَا يَا ابْنَ خَالِدٍ مَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا فَلَا يَتَّخِذَنَّ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً ) وسائل‏ الشيعة ج : 16 ص : 182 .
  في خراسان   ,  تنامت  نظرية  ( الولاية  الكونية  للائمة  )  والتي  لا  يزال  بعض  الخطباء  مع الأسف  الشديد  يٌلقيها  على  أسماع  العامة  , بما  يعتبره   مثبت  في  رواياتهم  ,  ويعني  بها  - روايات الغلاة  -  والمراسيل  -  المعارضة  بالصحاح  , وأصول  وثوابت عقيدة  آل بيت  محمد ( ص )  .  لذا  أكثر  الرضا عليه  السلام  من  التطرق إلى  هذه  الزاوية  المنحرفة  في  الفكر  والعقيدة  . كهذه  الرواية  التي  يخرجها  الوسائل  :
عَنْ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ الشَّامِيِّ عَنِ الرِّضَا عليه السلام فِي حَدِيثٍ قَالَ :
( مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ أَفْعَالَنَا ثُمَّ يُعَذِّبُنَا عَلَيْهَا فَقَدْ قَالَ بِالْجَبْرِ . وَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فَوَّضَ أَمْرَ الْخَلْقِ وَ الرِّزْقِ إلى حُجَجِهِ فَقَدْ قَالَ بِالتَّفْوِيضِ وَ الْقَائِلُ بِالْجَبْرِ كَافِرٌ وَ الْقَائِلُ بِالتَّفْوِيضِ مُشْرِكٌ ) وسائل ‏الشيعة ج : 28 ص : 340 .
  ويقول الشيخ الصدوق رحمه الله في  الغلاة  والتفويض  :
((  .....   اعتقادنا في الغلاة والمفوضة أنهم كفار بالله تعالى ، وأنهم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس والقدرية والحرورية ، ومن جميع أهل البدع والأهواء والمضلّة    ))  .  
وقال الشيخ المظفر رحمه  الله   :
          (       لا نعتقد في أئمتنا عليهم السلام ما يعتقده الغلاة والحلوليين ( كَبُرت كَلِمةً تَخرُجُ مِن أفوَاهِهِم )    بل عقيدتنا الخاصة أنّهم بشر مثلنا ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، وإنّما هم عباد مكرمون ، اختصّهم الله تعالى بكرامته ، وحباهم بولايته ، إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم والتقوى والشجاعة والكرم والعفّة وجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة ، لا يدانيهم أحدٌ من البشر فيما اختصوا به
قال إمامنا الصادق عليه السلام : « ما حاءكم عنّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردوه إلينا ، وما حاءكم عنا مما لا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه ولا تردوه إلينا ))   .
           وقال الشيخ كاشف الغطاء في معرض حديثه عن الغلاة ومقالاتهم :
    )  أما الشيعة الأمامية وأئمتهم عليهم السلام   -  فيبرأون من تلك الفرق براءة التحريم... ويبرأون من تلك المقالات ، ويعدونها من أشنع الكفر والضلالات ، وليس دينهم إلاّ التوحيد المحض، وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق    )) 

        وهذه الأقوال  لا تخرج  عن  ثوابت الأحاديث  الصحيحة والمتواترة  في  معانيها  كرواية الصادق عليه السلام  (  عن  رجال الكشي أيضاً )  :  "فو الله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضرّ ولا نفع، وإن رحمنا فبرحمته، وإنّ عذّبنا فبذنوبنا ،والله ما لنا على الله حجّة، ولا معنا من الله براءة،  وإنّا لميّتون ومقبورون  ومنشورون  ومبعوثون وموقوفون  ومسؤولون،  ويلهم ! ما لهم ! لعنهم الله ، فقد آذوا الله وآذوا رسوله صلى الله عليه وسلم في قبره، وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي صلوات الله عليهم... أشهدكم أنّي امرؤ ولدني رسول الله صلى الله عليه وسلم  وما معي براءة من الله، إن أطعته رحمني وإن عصيته عذّبني عذابًا شديدًا".وهذا النص موجود في رجال الكشّي .(225-226).

  وبالفعل  نجح الغلو  سابقا في  إسقاط  الكثير  من روايات  أهل البيت عليهم السلام  ومنع وصولها إلى المسلمين  , كما  يقوم الغلاة الجدد  اليوم  بالتنفير  والتبغيض  والخوف  من  مذهب  أهل  البيت   عليهم  السلام.  وهذا ما  أشار إليه الصادق عليه السلام في  قوله 
 (    ......  إنا أهل بيت صدّيقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا، ويسقط صدقَنا بكذبه علينا عند الناس      )  (بحار الأنوار25/287).
            والكذب  عليهم  بالسلوك  أيضا  ,   الإعلام  العملي  ,  والتطبيقي  , حين يرى  العالم  السلوك  والممارسة  والشعيرة  ,  وينسب  هذا  أو  ذاك  إلى  (آل بيت محمد ) إلى مذهبهم  ,  والانتماء  إليهم  .   إن  رواية ( حلال  المشاكل )  وما  لف  لفها  ,  ونظريات  التفضيل للزيارة  الحسينية  على  الوفادة على الله  بالحج  ,  وجعل  جري الأنهار  ,  وثمار الأشجار  ,  والمزن في  السماء  ,  بل  وأعظم  من  هذا كله   ( إياب  الخلق  إليهم  .. )  و (  حسابهم  عليهم  )   لكل  هذا  مرجعية  فكرية  واحدة  ,  ومنطلقات  مشتركة  وهي   الغلو  ,  وغياب  مساحة  الوعي   بالحدود  المعتبرة  شرعا  ,  والمتوافقة  مع  الأصول  العامة  للكتاب  الحق  ,  الذي  لا يأتيه  الباطل من  بين  يديه ولا  من خلفه  ,  ومع  أصول  السنة  المعتبرة  والصحيحة   والتي  يحتاجها  المتلقين  اليوم  , أكثر  من  أي  وقت مضى  .  فحين   نقرأ  للشيخ  كاشف  الغطاء  أو  الطوسي  أو  الصدوق  أو  المفيد  ,  نراهم  يعتبرون  الكثير  مما  يقال  اليوم  في  بعض  الفضائيات  الشيعية  ,  من مصاديق  الغلو  المفضي  إلى  الشرك  والفسق   .  

        وهذا  ما  كنت  أعنيه  تماما  ..  غيبة  الوعي  الديني  ,  والتسطيح  للممارسات  بما  يتداخل  المرفوض  والمقبول  ,  والمنهي  عنه  ,  والمندوب  فيه  ,  ورفع  شعار يحول  صاحبه إلى  ضحية  له  ,  والتمحور  حول  مفاهيم  ليست    لها  أي أثر  تطبيقي   ,  ولا  نتيجة  علمية  غير  إثارة  النفوس  والشحن  النفسي ضد  الانتماء  إلى أهل  البيت  عليهم  السلام  ومحبتهم  .  كتلك  المباحث  التي  تناقض  أفضلية  الأئمة   على  كل  الأنبياء  والمرسلين  بما  فيهم  إبراهيم  الخليل  وكليم الله موسى ابن عمران  ويحيى ابن زكريا  ..!  ولا  أحد  يستطيع  أن  يعرف  ما  هي  الثمرة  العلمية و العملية    إن  قلنا  بصحة  هذا   القول  ,  أو  لم  نقل  به  ,  أو  توقفنا  عنده  ؟!  .  وهل  يزيد  هذا  في  مكانة  أهل  البيت مقدار  حبة حمص  ؟! .  ولو  لم  نقل  إنهم  أفضل  من الأنبياء   فهل  ينقص  هذا  من  مكانتهم  وقدرهم   عند  الله  أو  عند  أحد  من خلقه  ..! .  إنها  ضرب  من اضرب  نظريات  العبث  والرسم  على  الهواء  والكتابة   على   الماء    !!  .   وميراث  لا  ينتهي  من  الفكر  الجدلي  والعبثي  ,  الذي  يمشي  عاريا  تماما  ودائما  ,  لأنه  لم  يعد  يحتشم  من  أحد  ,  كما أنه   لا  يبالي  بما  يقال  فيه  .

              لقد  تم  اختطاف  تراث أل  بيت محمد  ( ص )  عند  الغلاة  والمغالين  ,  وبات  فيه  تراكمات  ليست  قليلة  ,   حجبته  عن   الإنسانية   وانفتاح  المسلمين  عليه  وقبوله  بقبول  حسن  .  وهذه  مسؤولية  المحبين  لهم  بصدق  ,  المخلصين  لله  في  هذا  الحب   ,  أن  يرفعوه  ,  وأن يخلصوه  ,  وأن  يطهروه   ,  كما  طهرهم  الله  تطهيرا  وأذهب  عنهم  الرجس  .   أجر  الرسالة    في  مودتهم  وصدق  المحبة  لهم   بمجامع  القلب  ,  وبتمام  الفكر  .

           إن  الوعي  والفقه   والفهم  .. أول  الطريق إلى الله  .. وآخر  الطريق  إليه  ,   وهي  آخر  مقامات السلوك  ونهاية  مراتب  القرب  إليه  ,  حيث  تجعلنا  أقرب  إلى  الصراط  المستقيم  ,  أقرب  إلى بصائر الوحي  ,  أقرب  إلى  الحقائق  الكونية  العظمى  ,  أقرب  إلى  محبة  المخلوقين  حيث  يتجلى  في  ذواتهم  روح  الخالق  ,  وعظمة  الخالق  ,  ومحبة  الخالق  لهم  ,  ومحبتهم  إليهم  مهديين  إليه  ,  يولون  قلوبهم  ومشاعرهم  وعقولهم   شطره  .  قبلة  الوجود  التي  يرضاها  الوجود  كله  .  والوجود  بتمامه    سبوح  قدوس  .

كتاب  إعادة  تكوين  الوعي  الديني  الجزء  الأول  :

د .  محمد بن سعود المسعود  .
ص  55  - 60 ط 1430  .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..