الحمد
لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد
فقد
اطلعت على ما غرد به فضيلة شيخنا الدكتور عبد الوهاب الطريري حفظه الله حول ما
أسماه
رعاية الآثار النبوية وجهة نظر أخرى وقد تداخلت معه فيها لكن لكثرة ما ورد
عليه من مؤيد ومعارض شق عليه أن يناقش كل أحد فأحببت أن أسجل بعض ما أدين الله
تعالى به، مدافعا نيتي سائلا الله تعالى أن يدخلني في عباده المخلصين.
أولا: فالدافع الذي أظنه قد دفع بالشيخ إلى كتابة ما
كتب هو ما عرف به حفظه الله ولا نزكيه عليه من شدة التعلق برسول الله e - وحق له ذلك- ولطالما أبحر بنا على أمواج سنته واستوى
بنا على تلالها وشعافها وحرك قلوبنا بأسرارها وأخلاقياتها في خطبه وبرامجه فجزاه
الله عن رسوله ودينه خير ما جزى ناصرا لها.
ثانيا: في تحرير محل النزاع يقال : آثار النبي e تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول: آثار شرعية منزلة وحيا قد تكفل الله
بحفظها وقيض لها أئمة في كل عصر يذبون عنها ويبلغونها وهي محفوظة في الصحاح والسنن
والمسانيد والمصنفات على طريقة لم تعهدها البشرية من قبل ، لا مع أنبيائها ولا
ملوكها ولا عظمائها، حتى لقد حفظ أصحاب رسول الله e ورضي عنهم أنفاسه كما في الصحيح من حديث ابن عباس (فنام حتى
نفخ) وحفظوا ما أحب وما كره ، بل حفظوا جلسته ولو في قضاء حاجته، وطعامه
وشرابه ولباسه ولحظه ويقظته ومنامه، والشيخ عبد الوهاب ممن سبر هذا وأتقنه، ولوددت
أنه بقي على هذا الأصل الذي أجاده ونفع وعرف به، فهذا القسم أجمعت الأمة على حفظه
والعناية ووجوب العمل به في الجملة والتبرك بكل ذلك.
القسم الثاني: آثار أرضية وهي على
قسمين:
الأول : آثار خاصة به e كبصاقه ولعابه وعرقه وشعره وعنزته وثيابه وغير ذلك مما باشر جسده،
فهذه مما يتقرب القلب بحبها، وتتمنى العين رؤيتها، واليد ملامستها، كما قال عبيدة
السلماني فيما رواه البخاري في صحيحه حينما أخبره ابن سيرين عن بعض شعر له e أصابه ابن سيرين من قبل أنس فقال عبيدة: "لو وددت أن عندي
شيء منها أحب إلي من الدنيا وما فيها" ... لكن أين هذه الآثار منا اليوم؟
فإن ما يدعى في بعض المتاحف ليس عليه دليل، وقد رأيت شيئا منها في متحف طوبق سراي
باسطانبول فلم أر عليها أنوار النبوة وإنما شيء تستحلب به أموال الناس .
· على
أنه ينبغي أن ينبه إلى أن هذه الآثار حتى لو ثبتت فلن تغني صاحبها شيئا إن لم يكن
معه توحيد خالص ، ولقد كفن e عبد الله بن أبي بن أبي سلول في قميصه ومع ذلك هو في الدرك الأسفل
من النار.
الثاني : آثار عامة له ولغيره e حل فيها وارتحل كالجبال والأودية والمساجد وهي
على قسمين أيضا:
- قسم فيها مشاعر
ولها شعائر مقصودة لذاتها كعرفة ومنى والجمرات ومزدلفة والمسجد الحرام والمسجد
النبوي ومسجد قباء والمواقيت ، فهذه ظاهرة وهي بحمد الله محفوظة بحفظ الله ، وسنته
e فيها محفوظة ومعلومة في قوله وفعله وتقريره، وحفظها والعناية بها
واجب، والتبرك هناك يكون باتباع هديه e فيها كما قال هو بأبي هو وأمي: (خذوا عني مناسككم).
- وقسم ليس
مقصودا لذاته وليس فيه شعائر خاصة وليست من المشاعر وإنما قد حل عندها e أو مر بها: وهذا القسم ليس مختصا به e كمسجد بني زريق وبني قريظة وكذا مواضع غزواته
فضلا عن آبار الصحابة وجبال مكة وغاريها والمدينة ومزارعها والحديبية وسرف وذي طوى
والطائف وتبوك وكذا الشام وما بين كل ذلك فهذه محل البحث مع فضيلة الشيخ والتي قد
ساءه التعرض لها ، ولم يستبن لي هل يرى تحريم ذلك أم أنه خلاف الأولى عنده، وفضيلة
الشيخ فيما يغلب على الظن لا يرى جواز التبرك بهذا القسم وإنما يرمي إلى الإبقاء
عليها لأن ذلك أدعى إلى القرب من حياة النبي e وأصحابه ، وتنجذب القلوب إليها وتفهم السنة والسيرة المروية عن
طريقها، وإذا كان الأمر كذلك فهناك مسائل:
الأولى: تسمية هذا القسم بالآثار النبوية محل نظر كما
لا يخفى.
ثانيا: جعل ذلك وجهة نظر محل نظر لأن المسائل الشرعية
الواجب فيها اتباع ما دلت عليه نصوص الوحيين وأصول الشريعة ومقاصدها لا وجهات
النظر المجردة عن ذلك كما قال تعالى : (لتحكم بين الناس بما أراك الله)، وهذه من
المسائل بل من أولى المسائل التي يجب ردها إلى الله ورسوله عند التنازع لتعلقها
بوسائل قد تفضي إلى الحدث والبدعة وقد صح :(كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد)،
والشيخ لا يستطيع أن يأتي بأمر منه e على وجوب العناية بتلك الآثار على الطريقة التي جاءت بوجوب حفظ
سنته وهديه في سائر شؤون حياته.
ثالثا: ثم يقال هذه الآثار لا يخلو إما أن يكون حفظها
من الدين فلا بد أنها قد حفظت؛ لأن الله قد تكفل بحفظه بل وإظهاره على الدين كله، لكن
حينما تحققنا أنها لم تحفظ بل قد عملت فيها الأيدي منذ عصر الصحابة إلى اليوم فقد
علمنا قطعا أن حفظها ليس من الدين، فقد تصرف الصحابة رضي الله عنهم في آثار
المدينة هدما وبناء وتصرفوا في حيطانها ونخيلها وتناقلتها الأيدي بالميراث والوقوف
، بل قد قام عمر t بهدم ما حول المسجد النبوي وأدخله فيه سنة 17 هـ ، فقد زاد من
ناحية الغرب عشرين ذراعاً، ومن الجهة الجنوبية ( القبلة ) عشرة أذرع، ومن الجهة
الشمالية ثلاثين ذراعاً، وجدد الأعمدة والجريد التي وضعها رسول الله e واستبدلها بغيرها ، وكذا فعل عثمان t من بعده ،وحينما ضاق المسجد الحرام بالمصلين رغب عمر رضي الله عنه
في التوسعة، فاشترى الدور الملاصقة للمسجد الحرام وضمها له وكذا فعل عثمان وعبد
الله بن الزبير رضي الله عنهم جميعا، على مرأى ومسمع من الصحابة والتابعين.
رابعا: إذا كان الأمر كذلك فدعوى إجماع المسلمين على
المحافظة على آثار المدينة إلى هذا العصر وأنها بقيت
يتعاقب فيها العلماء وأئمة الإسلام كالزهري ومالك وابن أبي ذئب ومن تبعهم بإحسان
من علماء الإسلام ، محل نظر كما هو ظاهر ، بل الكعبة نفسها هدمت وجددت.
خامسا: ما روي عن بعض التابعين تأثرهم بإزالة حجرات
النبي e حينما وسع المسجد في عهد بني أمية يقال فيه إن هذا الخبر في
إسناده الواقدي وهو : كذاب، ثم أكثر من ذكر ليسوا من الصحابة وإنما جماعة من
التابعين كخارجة وأبي سلمة بن عبدالرحمن وسعيد ، ولو ثبت عنهم فكلنا كذلك ولوددنا
والله أننا رأيناها، لكن لا نزعم أن رؤيتها وحفظها والتبرك بها من الدين إذ لو كانت
كذلك لحفظت بحفظه يوم حفظه الله.
سادسا: ما نقله
مما صح من ذكره e لإهلال بعض الأنبياء والإشارة إلى الأودية التي انحدروا فيها كقوله
e: «كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطا من الثنية" وذكره ثنية
هرشى وقوله: «كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء " ، كل
هذا ليس فيها ما قد يفهم من اعتبار المكان وتعظيمه، ولو كان الأمر كذلك لفعل e كفعلهم ولأمر أصحابة باقتفاء أثرهم كما اقتفى آثار إبراهيم في
منسكه، وإنما أراد مجرد تصوير الحال كما هو، وقد قال تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه).
سابعا: وأما طلب الصحابة رضي الله عنهم لمكان شجرة
الرضوان فهو مما تميل إليه كل نفس وكان رجوعهم إليها إنما هو من العام المقبل مرة
واحدة كما في حديث ابن عمر ، وقد حج t سنين عددا بعدها هو وغيره من الصحابة وما أتوا
إليها ، ولو كان بقاؤها مقصودا لبقيت ولواظبوا على زيارتها واستحضارها كما واظبوا
على مشاعر الحج والعمرة، وقد قال رضي الله عنه بعد ذلك مما لم ينقله فضيلة الشيخ: "
كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ" أَيْ كَانَ خَفَاؤُهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ
رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وقد أكد الحافظ هذا المعنى بقوله:"
وبيان الحكمة في ذلك وهو أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير فلو بقيت
لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو
ضر كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها" .
ولم
يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ولا عنهم أنهم زاروا غار حراء حين كانوا بمكة، أو غار
ثور، ولم يفعلوا ذلك أيضاً حين عمرة القضاء ولا عام الفتح ولا في حجة الوداع، ولم
يعرجوا على موضع خيمتي أم معبد ولا محل شجرة البيعة
عند حجهم أو عمرتهم، ولو كان تعليم السنة والسيرة متوقف على وقوفهم على تلك الآثار
كما يدعى اليوم لفعلوا ، ولو فعلوا لنقل.
بل
إن قبره الشريف أعظم من هذه الآثار كلها ومع ذلك نهى أن يتخذ مسجدا أو عيدا ولعن
اليهود والنصارى عند موته لفعلهم ذلك كما في الصحيح.
ثامنا : الجواب عن بعض التغريدات :
·
قوله الشيخ حفظه الله
: أما حديث عمر في قطع شجرة الرضوان فلا تثبت بمثله الأحكام، فهو من رواية نافع عن
عمر رضي الله عنه وهو لم يدرك عمر"
فيقال:
صدقت وليت فضيلتكم اعتمد هذا المنهج في التثبت مما نقل عن عمر بن عبد العزيز وما
نقل عن طائفة من التابعين من طريق الواقدي ونحو ذلك من الآثار.
وإن
سلم أن عمر لم يقطعها، لكنهم لم يتخذوها مزارا ولم يحافظوا عليها ولذا جهل مكانها
إلى اليوم رحمة بالأمة كما قال ابن عمر، ولو كانت من الدين لكانت الرحمة في حفظها.
·
أما دعوى أن عمر يعنى
بالآثار وذكر اتخاذ مقام إبراهيم مصلى :
فهذا خارج
موضع النزاع ، فمقام إبراهيم لم يتخذ مصلى بمجرد قول عمر أو فعله، وإنما بالنص الثابت
، ولم يتخذ لكونه أثرا ماديا بل لمتعلقه الشرعي ، ولذا بقيت الصلاة عنده مشروعه مع
أنه قد نقل من مكانه، ثم هو من القسم الأول المندرج في المشاعر المنصوص على تعظيمها
والتعبد عندها على الوجه الثابت لا غير.
·
وأما طلب العنزة والقضيب
فخارج محل النزاع أيضا ، ولا مانع لمن وقعت في يده أن يتبرك بها لكن أين هي اليوم عنا ؟ وها هي لم تحفظ لأن حفظها ليس من
الدين وإلا لحفظها الله بحفظه لدينه، بل قد أذن e بالانتفاع بها وتناقلها وجعل سبيلها إلى الفقراء فقال:"
ما تركناه صدقة" ولم يجعلها وقفا عاما للمسلمين ينصبونه لهم عصرا بعد عصر
ليتذكروه بها، فإذا كان الأمر كذلك في أخص آثاره فعموم الجبال والأودية أولى.
·
وأما قصة ميزاب العباس
فإنما أقسم أن يعاد على ظهره لا لذات الميزاب وإنما توقيرا لقضاء قضاه رسول الله e من قبل فالأمر عائد إلى تقديس الأثر الشرعي لا الأثر المادي خاصة
أن الميزاب ليس له e وإنما للعباس رضي الله عنه.
·
وأما دعوى أن عمر عاش في
المدينة خليفةً عشر سنين وهي زاخرة بآثار النبوة فما طمس شيئاً منها ولا أزاله
فغير مسلم وقد تقدم أنه وسع في مسجد رسول الله e وهدم ما حوله وغير سقفه وأعمدته، وذرية من بعده قد باعوا داره في
قضاء دينه وأزيلت فيما أزيل والمعروفة بدار القضاء.
·
وأما دفنه في حجرة
المصطفى وعند قبره فهذا من التبرك بقربه e وهو خارج عن موضع النزاع، وهو بذاك متبع لا مبتدع فقد سبق إلى
الدفن هناك رسول الله e ثم خليفته من بعده.
·
ومثل ذلك ما وقع في
فتوى الإمام أحمد وما روي من تتبع ابن عمر رضي الله عنه فكما قال الإمام أحمد: أما
على هذا فلا بأس ... يعني على أمر خاص يتُخذ مع آثر ثابت للنبي e فيتبرك به كما قصدت أم سليم إلى عرقه أو أبو
طلحة إلى شعره وكما كانوا يتسابقون إلى بصاقه لكنهم لم يتخذوا شيئا من ذلك مزارا
لهم يتعاقبون عليه ، ويتباكون عنده ، وفرق بين شأن خاص ينفرد به صاحبه وبين شأن
عام يتخذ مزارا وتتابع فيه البكائيات.
وختاما
فأنا على يقين بحرص فضيلة الشيخ عبد الوهاب على السنة والتوحيد، ولا أنسى زيارة
الشيخ عبد العزيز بن باز لمسجده وكنت حاضرا ، وأنه حينها خطب خطبة مؤصلة ومؤثرة عن
التوحيد في قالب بلاغي خطابي فريد كعادته وهذه هي دعوة الأنبياء ومشاريعهم في
الحياة، ولذا فإني أدعو فضيلته إلى استثمار ما وهبه الله تعالى في تعليق الناس
بآثار النبي e الشرعية من الكتاب والسنة والتي نص عليهما حبيبنا بقوله:(تركت
فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعده أبدا : كتاب الله وسنتي) ولم يذكر معهما
جبلا ولا بئرا ولا مسجد بل قد صح عنه:" لا تشد الرحال إلى ثلاثة
مساجد".
يبقى
لماذا يعارض أهل السنة تعليق الناس بالآثار فأحيل القارئ الكريم إلى هذا الرابط لجواب
عن إثارة كهذه الإثارة تمت قبل 33 سنة وتصدى له أئمة الزمان http://www.binbaz.org.sa/mat/8584.
ولفضيلته
كامل الود، وقلبي مفتوح لعتبه ورده، والحمد لله رب العالمين.
صالح
بن علي الشمراني
29/5/1434هـ
أم
القرى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..