الاثنين، 22 أبريل 2013

المذاهب اللغوية في نشأة اللغة الإنسانية

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ظهرت العديد والعديد من النظريات سواء للعرب أو للغرب للتوصل إلى نشأة اللغة الإنسانيه عمومًا
سواء عربيه أو إنجليزيه أو هنديه أو فرنسيه.....

والعلماء الذين تحدثوا في هذا الموضوع تنوعت آراؤهم واختلفت مذاهبهم.......


ومع ذلك


لم يصلوا في بحثهم إلى نتائج يقينية توضح كيف نشأة اللغة الإنسانيه منذ البداية!!!!

فكانت معظم آرائهم مبصطبغة بالصبغة الشخصية، ولم تتجاوز مرحلة الفرض، المبني على الظن والحدس.


يقول العالِم مريوبان:

"
فيما يختص بنشأة اللغة وطبيعتها لدينا مصادر تعتمد على الأساطير والحديث المنقول

والمناقشات الفلسفية، ولكن تنقصنا الحقائق العلمية في هذا الصدد
".

ومع ذلك يالطيبين نجد بعض العلماء يحاول أن يعرض نظرياته في هذا الموضوع ملبسًا إيّاها ثوبًا علميًا، ومحاولاً الدفاع عنها

في صلابة وإصرار. غير أن بعد المعتدلين من علماء اللغة سخروا حتى من مجرد التفكير في إدراج هذا

الموضوع ضمن بحوث علم اللغة.


وقد قررت الجمعية اللغوية في (باريس) عدم مناقشة هذا الموضوع نهائيًا، أو قبول أي بحث فيه لعرضه

في جلساتها،
كما أن كثيرًا من العلماء ذوي الشهرة الذائعة، والقدم الثابتة في علم اللغة أمثال [مفيلد]

و [فيرث] لم يتعرضوا لدراسة هذا الموضوع بشكل علمي أو بصورة تنبئ عن أهمية البحث فيه.

وقد تناوله [فيرث] باختصار جدًا على سبيل أن الكلام فيه نوع من الفلسفة اللغوية، التي قد يكون من المفيد

إلمام طالب علم اللغة بها.

وكذلك عدها من هذا القبيل
[دافيد كريستل] في كتابه (التعريف بعلم اللغة).



وإليكم هذه النظريات أو الآراء التي حاول بعض العلماء تفسير نشأة اللغة الإنسانية من خلالها
.


سأعرض لكم يالطيبين هذه المذاهب إجمالاً يليها التفصيل بإذن الرحمن:




المذهب الأول
: مذهب الوحي والإلهام أو مذهب "التوقيف".

المذهب الثاني
: مذهب المواضعة والاصطلاح.

المذهب الثالث
: مذهب المحاكاة.

المذهب الرابع
: نظرية التنفيس عن النفس.

المذهب الخامس
: نظرية الاستعداد الفطري.

المذهب السادس
: نظرية الملاحظة.

المذهب السابع
: نظرية التطور اللغوي.



المذهب الأول
: مذهب الوحي والإلهام أو مذهب "التوقيف":


فكرة هذا المذهب:

أن الله سبحانه وتعالى خلق الأشياء وألهمَ آدم - عليه السلام - أن يضع لها أسماء، فوضعها.



ويستند أصحاب هذا المذهب إلى أدلة نقلية مقتبسة من الكتب المقدسة:

فاليهود والنصارى يستتدلون بما ورد في التوراة من قولها: [وجبل الرب الإلهُ من الأرض كل حيوانات البرية

، وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم، ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية،

فهو اسمها، فسمى آدم جميع البهائم وطيور السماء، وجميع حيوانات البرية
] << سفر التكوين 2/ 19 - 20.


واختار هذا الرأي [ابن فارس] في كتابه [الصحابي في فقه اللغة].

أما [ابن جني] فقد أورد هذا الرأي تحت باب "القول على أصل اللغة أألهام هي أم اصطلاح" وقال فيه:

هذا موضع محوج إلى فضل تأمل،، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو:

تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف،
إلا أن [أبا علي] - رحمه الله - قال لي يومًا:

هي من عند الله، واحتجّ بقوله سبحانه: (وعلم آدم الأسماء كلها).؛ وهذا لا يتناول موضع الخلاف.

وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدَر آدم على أن واضع عليها.... وهذا المعنى من عند الله

سبحانه، لا محالة
.

على أنه قد فسر هذا بأن قيل: إن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات، بجميع اللغات:

العربية، والفارسية، والسريانية، والعبرانية، والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدم وولده

يتكلمون بها، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا، وعلّق كل منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه،

واضمحلّ عنه ما سواها لبعد عهدهم بها.




ورغم أن [ابن جني] قد شرح رأي التوقيف إلا أنه لم يقتنع به ورجح عليه المواضعة والاصطلاح.


المذهب الثاني
: مذهب المواضعة والاصطلاح


وهذا المذهب ذكره [ابن جني] فقال: "
إن أصل اللغة لابد فيه من المواضعة، وذلك كأن يجتمع حكيمان

أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء فيضعوا لكل منها سمة، ولفظًا يدل عليه

ويغني عن إحضاره أمام البصر، وطريقة ذلك أن يقبلوا مثلاً على شخص، ويومئوا إليه قائلين:

إنسان!!، فتصبح هذه الكلمة اسمًا له، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أو رأسه أو قدمه، أشاروا

إلى العضو وقالوا: يد، عين، رأس، قدم.... الخ

ويسيرون على هذه الوتيرة، في أسماء بقية الأشياء، وفي الأفعال والحروف، وفي المعاني الكلية،

والأمور المعنوية نفسها، وبذلك تنشأ اللغة العربية مثلاً، ثم يخطر بعد ذلك لجماعة منهم كلمة [مرد] بدل

[إنسان] وكلمة [سر] بدل [رأس] وهكذا فتنشأ اللغة الفارسية
".



والنقد الموجه لهذا المذهب:

- ليس لهذا المذهب أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي.

بل إن ما يقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الإجتماعية.

فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالاً، ولا تخلق خلقًا.

بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها.


- هذا إلى أن التواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون.

فكيف نشأت هذه اللغة الصوتية إذن؟؟


وهكذا نرى أن ما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ لـ اللغة يتوقف هو نفسه على:

وجودها من قبل!!!!


المذهب الثالث
: مذهب المحاكاة


فكرة هذا المذهب:

أن الإنسان سمى الأشياء بأسماء مقتبسة من أصواتها.


أو بعبارة أخرى:
أن تكون أصوات الكلمات

نتيجة تقليد مباشر لأصوات طبيعية صادرة عن الإنسان أو الحيوان أو الأشياء.

وتسمى مثل هذه الكلمات عند علماء الغرب: Onomatopeia.




قد عرض لهذا الرأي من علماء المسلمين [ابن جني] فقال: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها

إنما هو من الأصوات المسموعات، كدويّ الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، ونعيق الغراب،

وصهيل الفرس..........، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد
".

وقد ارتضى [ابن جني] هذا الرأي فقال معقبًا عليه: "وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل".


وأول من دافع عن هذا المذهب من علماء الغرب بالتفصيل:

العالم الألماني [هردر] في كتابه "بحوث في نشأة اللغة"... الذي نشره سنة 1772م.


*** ومما يؤيد هذه النظرية:

ما نجده في بعض الأحيان، من اشتراك في بعض الأصوات في الكلمات التي تحاكي الطبيعة في عدة لغات.

مثال:

الكلمة التي تدل على الهمس هي في العربية همس وفي الإنجليزية whisper، وفي الألمانيةflustern، وفي العبرية صفصف وفي الحبشية فاصي وفي التركية سوسمك susmak...

فالعامل المشترك بين هذه اللغات جميعها في تلك الكلمة هو صوت الصفير: السين أو الصاد،

وهو الصوت المميز لعملية الهمس في الطبيعة
.


والنقد لهذا التأييد:

إن اشتراك اللغات في الكلمات المحاكية للطبيعة على هذا النحو، أمر نادر
.

ولو كانت النظرية صحيحة للاحظنا اشتراكًا بين اللغات في الكلمات التي تحاكي الطبيعة..

مثل: الشقّ، والدقّ، والقطع، والصهيل، والعواء، والمواء، وما إلى ذلك
.


ولقد سمعتَ الديك العربي في بلاد العرب والديك الألماني في بلاد الألمان،، يصيحان بطريقة

واحدة دون أدنى فرق، غير أننا نحاكي صوت الديك فنقول: كوكوكو!! ويقول الألماني:

كيكيركي.....



*** ويرى بعض العلماء بناءً على هذه النظرية:


أن مناسبة اللفظ للمعنى مناسبة حتمية، بمعنى: أن اللفظ يدل على معناه دلالة وجوب لا انفكاك فيها.



ومن نادى بهذا الرأي [عباد ابن سليمان الصيمري] من المعتزلة، فقد ذهب إلى :

أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية، حاملة للواضع على أن يضع هذه اللفظة أو تلك بإزاء

هذا المعنى أو ذاك
.

ويروون عن بعض من تابعه على رأيه هذا: أنه يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها،

فسُئل عن معنى كلمة [اذغاغ] وهي بالفارسية <الحجر> - كما يقولون - فقال:

أجد فيه يبسًا شديدًا وأراه الحجر
.



ويوجد شك في صحة هذه الرواية وفي صدق نظرية الصيمري، فإنه لو صح ما قال:


لاهتدى كل إنسان إلى كل لغة على وجه الأرض.




ويمتاز مذهب المحاكاه بأنه:

يشرح لنا مبلغ تأثير الإنسان في النطق بالألفاظ بالبيئة التي تحيط به.



وأهم ما يؤخذ على هذا المذهب

1- أنه يحصر أساس نشأة اللغة في الملاحظة المبنية على الإحساس بما يحدث في البيئة، ويتجاهل

الحاجة الطبيعية الماسة إلى التخاطب والتفاهم، والتعبير عما في النفس، تلك الحاجة التي هي من أهم

الدوافع إلى نشأة اللغة الإنسانية، فإن الرغبة الذاتية في التعبير والحاجة الماسة إلى التفاهم، كلاهما

من أهم الدوافع التي يجب أن يعتدّ بها في نشأة اللغة واضطرار الإنسان الأول للنطق بالألفاظ.

2- إن هذا المذهب لا يبين لنا كيف نشأت الكلمات الكثيرة، التي نجدها في اللغات المختلفة،

ولا ترى فيها محاكاة لأصوات المسميات ويتضح ذلك بوجه خاص في أسماء المعاني، كالعدل،

والمرؤه، والكرم، والشجاعة، وغير ذلك....





هذا وقد دعا هذا النقص العلامة [هردر] المدافع الأول عن هذه النظرية إلى العدول عنها في أخريات حياته.

كما سخر منها [مكس موللر] [Max mollar] اللغوي الألماني المشهور.



ومع ذلك فإن لأصحاب هذه النظرية الفضل في أنها فتحت للباحثين باب البحث الفلسفي في نشأة

اللغة، كما أنها لا تبعد كثيرًا في إرجاعها نشأة اللغة في بعض الأحيان إلى ملاحظة خاصة.




المذهب الرابع
: نظرية التنفيس عن النفس


ملخصها:

أن مرحلة الألفاظ قد سبقتها مرحلة الأصوات الساذجة التلقائية الانبعاثية التي صدرت عن الإنسان،

للتعبير عن ألمه أو سروره أو رضاه، أو نفوره، وما إلى ذلك من الأحاسيس المختلفة،

فهذه الأصوات الساذجة، قد تطورت على مرّ الزمن حتى صارت ألفاظًا.



ويشرح [فندريس] تصور أصحاب هذه النظرية لكيفية نشأة اللغة فيقول:

"عند هذا السلف البعيد، الذي لم يكن مخه صالحًا للتفكير، بدأت اللغة بصفة انفعالية محضه،

ولعلها كانت في الأصل مجرد غناء، ينظم بوزنه حركة المشي، أو العمل اليدوي،

أو صيحة كصيحة الحيوان، تعبر عن الألم أو الفرح، وتكشف عن خوف أو رغبة في الغناء.

بعد ذلك لعل الصيحة اعتبرت بعد أن زودت بقيمة رمزية، كأنها إشارة قابلة لأن يكررها آخرون.

ولعل الإنسان وقد وجد في متناول يده هذا المسلك المريح، قد استعمله للاتصال ببني جنسه،

أو لإثارتهم إلى عمل ما، أو لمنعهم منه، هذا الغرض تبدو عليه مخايل الصدق، وإن لم يكن مما

يمكن البرهان عليه".



وتمتاز هذه النظرية عن النظريات السابقة بأنها:


تعزو نشأة اللغة الإنسانية إلى أمر ذاتي، أي أنها تعتدّ بالشعور الوجداني الإنساني، وبالحاجة إلى

التعبير عما يجيش بصدر الإنسان من انفعالات وأحاسيس، أما [نظرية المحاكاة] فترجع نشأة اللغة

الإنسانية إلى ملاحظة خارجية موضوعية، أي ملاحظة مظاهر الطبيعة ومحاكاتها في ابتكار

الأسماء الدالة عليها، ولذلك كانت هذه النظرية [التنفيس عن النفس] خطوة أخرى في اتجاه آخر،

نحو البحث عن حل للمشكلة، فإنها تشرح لنا منشأ بعض الكلمات، التي تعجز النظرية السابقة

[المحاكاة] عن شرح منشأها
.



ومع كل هذا فهذه النظرية ناقصة وغامضة.

أما نقصها: فلأنها لا تبين منشأ الكلمات الكثيرة التي لا يمكن ردّها إلى أصوات انفعالية.

وأما غموضها: فلأنها لا تشرح لنا السرّ في أن تلك الأصوات الساذجة الإنفعالية كيف تحولت إلى

ألفاظ أو أصوات مقطعية.


فلهذين الأمرين انصرف عنها اللغويون، وسخر منها [مكس موللر] كذلك.




المذهب الخامس
: نظرية الاستعداد الفطري

وهي النظرية التي أذاعها اللغوي الألماني: [مكس موللر] ودعاها نظرية (دنج دونج):

وتقول:
أن الإنسان مزود بفطرته بالقدرة على صوغ الألفاظ الكاملة،

كما أنه مطبوع على الرغبة في التعبير عن أغراضه بأية وسيلة من الوسائل، غير أن هذه القدرة على النطق

بالألفاظ لا تظهر آثارها إلا عند الحاجة أو في الوقت المناسب.



وحينما سمى [مكس موللر] نظريته هذه بـ نظرية (دنج دونج):

إنما كان يريد
أن يشبه هذه القوة الفطرية بلولب الساعة الملتفّ في بطنها، ويشبه حوادث الزمن

ببندول الساعة الذي يتحرك فيخرج بتحركه القوة الكامنة في الساعة، التي ينطوي عليها اللولب،

فالزمن ومقتضيات الأحوال هي التي تخرج هذه المقدرة من حيّز القوة إلى حيّز الفعل.

وكأن النفس البشرية مخزن ممتلئ بالألفاظ ينفتح شيئًا فشيئًا بمفتاح الزمن ومقتضيات الحياة

الواقعية.


ولعل الذي دعا [مكس موللر] إلى وضع هذه النظرية:

ملاحظة الأطفال في حياتهم اليومية الحرة،
التي تدل على أنهم توّاقون إلى وضع أسماء للأشياء

التي يرونها ولا يعرفون لها أسماء، وأنهم يبتكرون أسماء لم يسمعوها من قبل، إرضاءً لرغبتهم الفطرية

في التكلّم والتعبير عن أغراضهم....


فاستنبط من ملاحظته هذه أن الإنسان مزوّد بتلك القوة التي تنشأ عنه الألفاظ
.


النقد لهذه النظرية:

هذه النظرية لا تحل المشكله، فإن لنا أن نسأل صاحبها: كيف؟ ومتى زوّد الإنسان بهذه الذخيرة

اللغوية؟ وكيف انطوت نفسه على تلك الألفاظ الكاملة؟ وإذا كان قد زوّد بفطرته بهذه الألفاظ، فلمَ

اختلف اللغات وتعددت اللهجات؟ فإننا نكاد نجزم بأن آثار القوى الفطرية لابد أن تكون متحدة

إلى حدّ ما... ثم كيف تسنّى للإنسان أن يُخرج تلك الألفاظ من مكامنها ويطلقها على المسميات

المختلفة؟؟


هذه النظرية تنقل الباحث من مشكلة إلى مشكلات أعمق منها، وأشدّ غموضًا ولبسًا.


وربما كان من أبرز عيوبها:


أنها تفترض ظهور الكلمة أو الكلمات الأولى لدى الإنسان، كاملة غير خاضعة لسنة التطور
.
المذهب السادس
: نظرية الملاحظة


وصاحب هذه النظرية هو العالم الألماني [جيجر] Geiger.

وقد برهن [جيجر] على أن:

أقدم ما أمكنه الوصول إليه من الأصوات اللغوية الأولى يعبر عن أعمال أو إشارات إنسانية.


ومن هذه الحقيقة استنبط أن:

تلك الأعمال والإشارات كانت لا محالة هي التي لفتت نظر الإنسان الأول وأثارت اهتمامه،

وأنها كانت أول ما عرف الإنسان عن أخيه الإنسان، ولذا تمكنت من نفسه وحلّت منها مكانًا حصينًا،

حيث أن مشاهدة الإنسان لغيره وهو متلبس بعمل من الأعمال الهامة أو متأثر بحال انفعالية قاسية

أثارت أقصى اهتمامه، وجعلته يتأثر به تأثيرًا آليًا، بطريق المحاكاة العكسية فتظهر على وجهه

علامات التأثر نفسها البادية على وجه زميله، وقد حمله هذا الانتباه إلى العمل وملاحظته أخاه

وهو يعمل على أن تصدر منه إشارة تلقائية أو صوت ساذج معبر عن هذه الملاحظة، وعلى مرّ

الأيام، وبتكرار التجارب المشابهة تطورت الأصوات إلى كلمات، واستغنى عن الإشارات كلها،

أو بعضها على الأقل.



وقد أقبل [جيجر] على كثير من الكلمات المستعملة في اللغات الأوروبية وأرجعها إلى أصول إغريقية - سنسكريتية - تدل على

عمل من أعمال الإنسان،
مثال ذلك: الأصل الإغريقي الذي معناه [الكشط] أو [السلخ]، اشتقت منه

كلمات معانيها الجلد والخشب، والشجر.

وهنا نرى العلاقة واضحة بين هذه الفروع وأصلها، فإن الجلد هو ما يسلخ، والخشب شجر كشط لحاؤه،

والشجر ما يكشط ليؤخذ منه الخشب.

وبهذه الطريقة انحدرت الكلمة الإنجليزية night بمعنى ليل من أصل سنسكريتي هو ang أو ungo بمعنى

الصبغ باللون الأسود.



مما قد يؤيد هذا المذهب:

أن جميع أسماء الآلات تقريبًا مشتقة من كلمات تدل على أعمال إنسانية.

وإنك لترى هذه الحقيقة ماثلة في لغتنا العربية، فلدينا مثلاً: المنشار، والمفتاح، والمقراض، والمقص،

كلها كلمات مشتقات من أصول يدل كل واحد منها على عمل من أعمال الإنسان الهامة.



ومع أن وضع هذه النظرية يُعدّ خطوة أخرى في سبيل حلّ المشكلة، إلا أنها لم تستطيع أن توضح

لنا بأسلوب مفهوم معقول كيف وضعت تلك الأصول العامة الأولى التي يقول صاحب النظرية [جيجر]

أنها تتعلق بأعمال الإنسان أو إشاراته، والتي يعدّها الكلمات الأولى التي اشتقت منها غيرها من الكلمات.

على أنه من المتعذر إرجاع جميع الكلمات التي تتكون منها اللغات كلها إلى تلك الأصول العامة.




المذهب السابع
: نظرية التطور اللغوي

قد تأثر واضعوا هذه النظرية بنظرية التطور العام التي أذاعها [دارون] Darwin


وحاول [دارون] أن يبرهن على أثره هذه النظرية في جميع النواحي، وفي حياة الفرد، والنوع الإنساني خاصة.


وقد أدّت دراسة النمو اللغوي عند الطفل إلى ادّعاء أصحاب هذه النظرية بأن:

هذا النمو يشبه تطور لغة النوع الإنساني.


وهم يزعمون أن لغة الإنسان الأول سلكت مراحل فطرية متعددة، متمشية مع مراحل نموه العقلي،


وهذه المراحل هي:

1- مرحلة الأصوات الساذجة الإنبعاثية:


وهي تلك الأصوات التي صدرت عن الإنسان في العصور الأولى، حين كانت أعضاء النطق لديه

غير ناضجة، وميوله ورغباته غير محدده.

ونلاحظ نظير هذه المرحلة في الطفل، حين تصدر عنه في أول عهده بالنطق بعض أصوات مبهمة،

لا يُفهم منها في كثير من الأحيان رغبة ولا غرض معين
.



2- مرحلة الأصوات المكيفة المنبئة عن الأغراض والرغبات


المصحوبة بالإشارات المتنوعة، التي تساعد الأصوات مساعدة فطرية في الإبانة عن الأغراض.


وقد ساعد على هذا التطور في الأصوات وتكيفها نمو أعضاء النطق من جهة ونمو الإحساس والشعور الذاتي

لدى الإنسان من جهة أخرى.

والأصوات المكيفة هي المتنوعة لاختلافها في الشدة والرخاوة والجهر والهمس وغير ذلك.


وتناظر هذه المرحلة في نمو الطفل اللغوي، تلك المرحلة التي يصل إليها في أواخر السنة الأولى من

حياته، وذلك حين تصدر عنه أصوات مكيفة، مصحوبة بإشارات منبئة عن أغراضه.

وفي هذه المرحلة من مراحل النمو اللغوي عند الإنسان لم يكن هناك فرق بين أصوات الإنسان وأصوات

الحيوان الدالة على شعوره بالخوف أو الحنين، أو النفور، أو الرضا، أو القلق والاضطراب، وعلى شعوره

بالحاجة إلى المعونة فهو بهذه الأصوات يعبر عن شعوره، ويستغيث بغيره من بني جنسه
.



3- مرحلة المقاطع:


وفيها انتقلت لغة الإنسان من أصوات غير محددة المعالم إلى أصوات محددة في صورة مقاطع قصيرة،

مستنبطة من أصوات الأشياء أو الظواهر الطبيعية، أو على الأقل متأثرة بها إلى حدّ بعيد.


ويبدأ الطفل مرحلة تناظر هذه المرحلة في الشهور الأولى من السنة الثانية، وذلك حين ينطق بمقاطع

متكررة، يطلب بها ما يريد، أو يدل بها على أشياء معينة، متأثرًا في ذلك بما يسمعه مما حوله أو

ممن يرى في محيطه من الناس، ولا يزال يكرر هذه المقاطع حتى تنطبع في نفسه، وتتكون منها لغته

البدائية.

وكثير من الأطفال يطلقون في هذه السن كلمة "نو نو" على القط "تك تك" على الساعة وغير ذلك....
.



4- مرحلة الكلمات المكونة من المقاطع


وفي هذه المرحلة تتكون من المقاطع التي سبق الحديث عنها، الكلمات أو الأصول العامة، التي

استعملها الإنسان الأول لقضاء حاجاته، والتعبير عن أغراضه ورغباته، ومن هذه الأصول الأولى اشتق

الإنسان كثيرًا من الفروع، وبالتأليف بين هذه الفروع وتلك الأصول اكتمل تكوين اللغة الفطرية.

وقد وصل الإنسان إلى هذه المرحلة حين اكتمل عقله، ونضجت أعضاؤه الصوتية، واتسع نطاق

حياته الإجتماعية، وكثرت رغباته واشتدت حاجاته إلى التفاهم مع غيره.


ويوازي هذه المرحلة عند الطفل، تلك المرحلة التي يستطيع فيها التكلم كما يتكلم غيره ممن يحيطون به،

ويتألف معجمه اللغوي من الكلمات الشائعة في بيئته، واللازمة للتعبير عن أغراضه
.



5- مرحلة الوضع والاصطلاح:


وهذه آخر مرحلة من مراحل النمو اللغوي، وهي وإن لم تكن مرحلة فطرية فإنها تقوم على أساس فطري

ذلك هو حاجة الإنسان الملحة إلى الاحتكاك ببيئته، والقبض على ناصيتها، ومسايرة اللغة التي

يستخدمها لتفكيره وعقله، ومشاهداته التي يتسع نطاقها على مر الأيام وكثرة التجارب،

وتشعب دروب الحياة.


وفي هذه المرحلة وضعت المصطلحات العلمية وابتكرت الأسماء الدالة على المسميات المستحدثة

ولا تزال اللغة تنمو باطراد، ولايزال عدد مفرداتها يزداد، كلما أوغل الإنسان في التحضر، وازداد نموه

الفكري ازديادًا لا يظهر أنه سيقف عند حد.

ويوازي هذه المرحلة مرحلة النمو اللغوي عند الطفل عندما يذهب إلى المدرسة، ويدرس العلوم والفنون،

ويتعلم بعض المصطلحات العلمية والفنية المختلفة
.





ويمتاز مذهب التطور اللغوي في نشأة الحياة بعدة أمور:


الأول
:
أنه يخضع نشأة اللغة وتطورها إلى سنة التطور العام، شأنها في ذلك شأن كل كائن حي

ينشأ صغيرًا ساذجًا ثم ينمو شيئًا فشيئًا، بحكم طبيعته، والبيئة التي ينشأ فيها، وما اللغة إلا

ظاهرة إجتماعية تخضع لما تخضع له الظواهر الإجتماعية من عوامل التطور.



الثاني:
أنه يشرح لنا السرّ في نمو اللغة من حيث متنها وأساليبها، ويعزو ذلك إلى سلوك الإنسان

مسلك التقدم والرق، في جميع مقومات حياته الخاصة، وظروفه الإجتماعية، وإلى حاجته الماسة إلى

تنمية لغته لتساير حياته ولتسعفه حين يريد التعبير عن أفكاره أو رغباته المتزايده على الدوام.




الثالث
:
أنه لا يمنع أن يكون هناك أكثر من

عامل واحد في نشأة اللغة وتطورها، فمن الجائز بل يكاد يكون من المحقق

- في نظر أصحاب هذا المذهب - أن يكون الإنسان قد تأثر في إصدار الأصوات الساذجة

أو المكيفة بما سمع من أصوات الحيوان أو الظواهر الطبيعية، وأن بعض تلك الأصوات كان

تعبيرًا تلقائيًا عن آلامه ورغباته وانفعالاته وعواطفه، هذا إلى أن هذا المذهب لا ينكر

أثر الاشتقاق والوضع في تنمية متن اللغة وتوسيع نطاقها







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..