قلت في مستهل الحلقة الثالثة أنني صدمت مرتين،أولاهما أن الاستاذ يوسف المحيميد روائي متمرس وله أعمال عديدة،لذلك صدمت من وقوعه في أخطاء لا يقع فيها إلا روائي مبتدئ .. أما الصدمة الثانية فهي أنني كنت حين أرى بعض مقالة الأستاذ (المحيميد)،أرى بجوارها صورة لشاب صغير .. ولكنني فوجئت بالصورة المنشورة مع الحوار الذي دار بين الدكتور محمد السعيدي وبين الروائي .. فوجئت .. صحيح أنه ليس (كبيرا) ولكن الشيب وخطه!!!
فعاد بي وخط الشيب هذا .. إلى سؤال ألحّ عليّ وأنا أقرأ لروائي كبير – توفي غير بعيد – وقد تجاوز الستين،ولعله بلغ السبعين .. تصورته هو يجلس في مكتبته – في المقابر – ويكتب بعض رواياته .. ويوغل في وصف ما يحصل بين الرجل والمرأة في علاقتهما الخاصة،وبتفصيل كان يغني عنه التلميح!!!
وفي الرواية التي بين أيدنا ألح عليّ نفس السؤال .. مع سؤال آخر .. إذا كان وصف ما يقع بين الرجل والمرأة يعد ضرورة فنية .. فلماذا التكرار؟!! لقد كرر الروائي (وقائع ما حصل) بين "فهد"و"طرفة"بشكل أجزم أنه مبالغ فيه ... فلماذا؟!!
ونقطة أخرى تستحق التوقف عندها، وذلك عندما قال الأستاذ(المحيميد) .. (الروائي مبدع وليس مفكراً، وحينما يكتب المفكر وجهة نظر فكرية عن المجتمع فهي تمثله، لكن عندما أكتب الرواية لا تعنيني حتى لو رسمت أنا الكاتب شخصية جريئة أو متحررة أو رجلا ثائرا أو إرهابيا، ومن غير المقبول محاكمة الروائي على شخصياته، والتفكير){نقلا عن : رسائل مجموعة الدكتور عبد العزيز قاسم البريدية الرسالة رقم(2578)}.
ما الذي يجعله ينفي عن نفسه صفة (المفكر) .. ويتمسك بصفة(المبدع)؟!!
هل لأن الأول يقف أمام محكمة الأفكار ويرد على ما يطرح عليه من أسئلة .. أما (المبدع) .. فهو لا يقف أمام تلك المحكمة ،وكأنه – لا مؤاخذة على التشبيه – قد رفع عنه القلم .. غير نائم؟!!
وللتوضيح .. لا أعرف كيف سيرد (المفكر) لو طرحت عليه الأسئلة التالية ... ولكنني أعرف رد(المبدع) :
السعودية لم تطرد اليمنيين ... لا تسألني أنا(مبدع).
مجلس الشورى لم يناقش حدود الضرب في الرقية الشرعية ... لا تسألني أنا(مبدع).
أمنا عائشة رضي الله عنها ليست أول من استعمل لها النعش المقبب .. لا تسألني أنا(مبدع).
أثبت أن (الملتزمين) ينجحون بعضهم في كلية الطب .. لا تسألني أنا(مبدع).
هل يعقل أن يقول مراهق في الخامسة عشرة من عمره - ومعه آخر في العشرين – وقد طلب منهما موظف المستشفى الذهاب إلى ثلاجة الموتى للتأكد إن كان والد"فهد"هناك .. (لم يذهبا وقد أصاب قديميهما الشلل،كيف نرى أبانا الذي نعبد ضحكته وبسمته وسخريته ..){ص 85 ( الحمام لا يطير ..} ..لا تسألني أنا(مبدع).
تلبس بالإبداع
مر معنا في الحلقة الثالثة تأثر الروائي بقراءاته مثل كتاب (أيام مع جهيمان : كنت مع الجماعة السلفية المحتسبة) .. وكذلك رأينا ما احتفظ به (لاوعي) الكاتب من بعض قراءته في الرواية .. إلخ.
فتساءلت وماذا عن قراءاته في المدرسة وتأثير المقررات (الوهابية) التي درسها أو لقنت له؟
بيقين (المبدع) أستطيع أن أجزم بأنني عثرت على شيء من ذلك في طيات الرواية ... وهنا أتذكر ما كتبه أحد النقاد أو ما استنتجه من كون يوسف إدريس كان يدعو للحجاب!! وذلك عير مجموعته القصصية (وجهة نظر).
والمقصود هو إحدى قصص المجموعة والتي تصور (حمارا) ضعف بصره،حتى أصبح يصطدم بالأشياء،وعندما صُنعت له نظارة .. زادت (طاقته)!! بل أصبح صاحبه (يبيعها) على ملاك الأتن!!
أول ذلك العبارة التي تفوه بها"فهد" :
(أبانا الذي نعبد) .. فهذا تنبيه من الرواية إلى خطورة الفضائيات وما تبثه من أفكار قد تعلق بذهن المشاهد دون أن يفطن إلى ذلك.
هناك أيضا رسالة مبطنة وجهتها الرواية للفتيات .. فعندما كتبت "نهى"لـفهد" :
( "حبيبي،لعيونك الرائعة (..) أهدي عطري وأنوثتي"فتح الورقة في الشقة بينما سعيد يضحك بشدة،وهو يصيح بصخب : "العن أبو الرومانسية". أخرج عطر جيفنشي ورش منه تجاه سعيد وهو يضحك){ص 136 (الحمام لا يطير ...}.
هذه هي المحصلة هي تهدي (أنوثتها) – وعطر جيفنشي الله أعلم كم كلفها – بينما يسخر الصديقان من ذلك!!
كما سخر"سعيد"من "ثريا"التي مثل أم "فهد"وسخرت الرواية من عطرها الرخيص .. وهي التي حين سألت"فهدا" ..("تحبني؟"هز رأسه : "طبعا،و؟؟؟؟ بعد!" صدحت يجنون أربعينية صبيانية..){ص 152 (الحمام لا يطير ..} .. ثم هجرها - كما هجر"نهى"من قبل – وأصبحت تترجاه مرة .. وتهدده أخرى .. ولكن دون جدوى .. أما"طرفة"والتي أحبها "فهد"فهي في مثل سنه تقريبا،ولها نفس الاهتمامات الفنية .. كما أنها مرحة وتدخل إلى القلب ... إلخ.
وقد مرت بـ(.. ثلاث علاقات آخرها مع فهد،وفي كل علاقة كانت تقول،هذا هو حبيبي،هذا أجمل،هذا أصدق (..) حتى تجد نفسها مهملة،لتبدأ من جديد){ص 176 ( الحمام لا يطير ..}..وهي (تتحدث عن صديقها القديم الذي هجرها بعد خمس سنوات.){ص 213 (الحمام لا يطير ..} .. "طرفة"أيضا (بدأت تفقد الأمل في رؤية فهدا{هكذا} ما لم تتوسل إليه.انتقلت المرحلة من التلميح إلى التصريح،ثم إلى التوسل ..){ص 276 (الحمام لا يطير .. }.
في النهاية يرى "فهد"أن النساء الثلاثة مجر(صديقات) .. وحتى الغالية "طرفة"وبعد أن قبضت عليهما الهيئة .. يزفر تجاه البلد ... (يا الله كم هو جارح هذا البلد! كم مكلف فنجان قهوة عابر مع امرأة عابرة!){ص 347 (الحمام لا يطير ..}.
نعم إنهن مجرد نساء عابرات .. مثل فنجان قهوة عابر!! ولكن من يتعظ ؟!!
أطلنا في هذه النقطة .. ولكن بقيت فيها لمحة أخيرة .. وذلك حين وصفت الرواية أحد لقاءات"فهد"و"طرفة"(كانا في لحظة حاسمة ملتصقين مثل كبشين مخنوقين في حظيرة){ص 197 (الحمام لا يطير ..}.
كبشين؟!!! هل يريد الروائي – وهو حريص على الرومانسية كما رأينا – أن يقول أن بطليه مثل(حيوانيين ) طالما أن العلاقة ليست تحت (كلمة الله)؟
في إطار قراءتنا للرواية من زاوية تأثر لاوعي الروائي بـ(الوهابية) ... نجده – كما ذكرنا من قبل – وكأنه ينفي إمكانية الجمع بين القرآن الكريم – ممثلا في الشيخ الحذيفي يقرأ سورة الكهف – والغناء ممثلا في فيروز !!
هذه الأفكار تبدو عميقة جدا .. أو (إبداعية ) جدا!!
بعيدا عن الإبداع .. وعلى نقيض الطرح السابق أي تحذير الفتيات من كون الحب خارج إطار الشرعية،بالنسبة للشاب ليس أكثر من (فنجال عابر) .. نجد الرواية تحيي مذهب إثارة الشك في سلوك النساء .. فهن ينزلن عند السوق .. عند المستشفى .. عن المشغل .. ثم يركبن مع العشيق!!
ويمكن للفكرة أن تتسلل إلى لاوعي القارئ وهو يتسلى .. ويرى "طرفة"تنزل من سيارة أخيها الطيب الحبيب ..لتركب مع عشيقها !!
بقيت لي بعض الملاحظات أختم بها هذا الحوار الذي طال ..
الملاحظة الأولى : الرواية ثرية ثراء فاحشا في وصف الشوارع والأنفاق – ذكرتني بخرائط الفارسي – ويكفي أن أشير إلى أنه من الصفحة 153 حتى الصفحة 232أوردت الرواية أسماء 24 محلا .. من "شمعة الأماكن" إلى "مقهى تي آند كوفي بوت .. أمام كارفور في مركز غرناطة){ص 232} .. هذا الثراء الفاحش يقابله فقر مدقع في وصف المنازل من الداخل!!!
الملاحظة الثانية : تتعلق بالممنوع الثالث (السياسة)!! وقد أوردت الرواية رأيين .. في مذكرات الأب التي استلمها "فهد"بعد موت أبيه .. (وتتذكر أن الأحزاب السياسية والجماعات الدينية،التي تقلق الحكومة،مصيرها إلى الزوال والفشل والمعاناة النفسية ..){ص 30 ( الحمام لا يطير ..}
قلنا هذا مع الحكومة .. ولكننا وجدنا الأب نفسه,الذي كان يحذر ابنه .. وجدناه يقول .. لصبي في المرحلة الابتدائية!!
"فهد"الطفل يسأل والده : (بابا،السعودية من زمان مين احتلها؟ (..) يعني سؤال صعب. ثم شرح له : شوف كان فيه أول قبائل.
قاطعه فهد :
شلون يعني قبائل؟
أجاب الأب بتردد : قبائل يعني ناس عايشين مع بعض،في الرياض والقصيم وحائل،ثم جاء الملك عبد العزيز ... صمت الأب بغتة دون أن يضيف "واحتلها!"){ص 109 (الحمام لا يطير ... }
الملاحظة الأخيرة .. وهي أخيرة فعلا .. فلا يوجد كلام يمكن أن يقال بعدها .. ولا حتى النصيحة بعرض النفس على طبيب نفسي .. أو الجلوس مع النفس ... أو حتى عرض النفس على أحد الرقاة الشرعيين !!
ونتذكر أن الرواية التي كتبت في يوليو 2008م .. طبعت أربع مرات آخرها في 2011م!!!
تتحدث الرواية عن"نهى"التي تلمس جسدها ... ثم :
( تشم يدها حين تخرجها،فتطير إلى دماغها الصغير رائحة نفاذة،ليست رائحة عطر،وليست رائحة جلدها،بل رائحة مختلفة،تشبه رائحة تفاحة خضراء آخذة في التعفن){ص 137 ( الحمام لا يطير ..}.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواضيع مشابهة - أو - ذات صلة :
ضلالات الرواية "حمام بريدة"أنموذجا(1)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..