الأربعاء، 22 مايو 2013

حينما يكون المدح ذمًا !!

أراد أحد خطباء مصر أن يمدح واحداً من رؤساء مصر لما أكرم الأديب طه حسين ( الأعمى ) ، فقال الخطيب : " جاءه الأعمى ، فما عبس في وجهه وما تولى " ! فما كان من الشيخ محمد شاكر - والد العلامة أحمد شاكر- إلا أن قام بعد الصلاة يعلن للناس أن صلاتهم باطلة وعليهم إعادتها ، لأن الخطيب كفر بما شتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . يقول العلامة أحمد شاكر : " ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى ، فأقسم بالله لقد رأيته بعينيّ رأسي بعد بضع سنين وبعد أن كان عالياً منتفخاً مستعزاً بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء ، رأيته مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار حتى لقد خجلتُ أن يراني وأنا أعرفه وهو يعرفني ، لا شفقة عليه ، فما كان موضعاً للشفقة ولا شماتة فيه فالرجل النبيل يسمو على الشماتة ولكن لما رأيت من عبرة وعظة  " .

 ( كلمة الحق صــ 176 , 177) .

فالقصة أعلاه أحببت أن تكون مدخلاً لموضوعي " حينما يكون المدح ذماً " ، ذماً للمادح وللممدوح على حد ٍ سواء !! فهل يا ترى يمكن أن يكون المدح ذمًا ؟!
لا شك أن المدح والثناء من الأمور التي تُسَر بها النفوس غالبًا ، وتحفزها على زيادة العطاء والمحافظة عليه ؛ فيحتاجه الأب مع أسرته ، والمربي في مدرسته ، والشيخ مع طلابه ، والرئيس مع مرؤوسيه... 
إن المدح والحمد لغةً يشتركان في نفس الحروف ولكن بترتيب مختلف وتبايُن في المعنى ، وهذا يسمى في اللغة ( اشتقاق أوسط ) والمدح أعم من الحمد لأن المدح يكون بذكر الجميل الاختياري وغير الاختياري كأن تقول :  مدحت اللؤلؤ لصفاته ، فهنا الممدوح ليس مختاراً لصفاته ، والحمد أخص لأنه يكون بذكر الجميل الاختياري فقط  ، ومنه قوله تعالى (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا )  . 
قال ابن القيم – رحمه الله - : " إن الحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه ، فلا بد من اقتران الإرادة بالخير، بخلاف المدح فإنه إخبار مجرد ".
وكتاب ربنا فيه مدح لأوليائه من المرسلين وأتباعهم ، وبيان ما أعده الله لهم من النعيم المقيم والدرجات العُلَى ، وفيه ذم للأعداء من الكفار والمنافقين ، والوعيد لهم من العذاب الأليم .
وفي صحيح سنة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم – نجد المدحَ تارَّة وذم المدح تارة أخرى وكله حق ، فالمدح المحمود هو الذي في محله بلا غلو أو تجاوزات شرعية ، والمدح المذموم هو الذي في غير محله أو يؤدي إلى مفسدة ، فمن المحمود شكر الناس باللسان على إحسانهم ، فعن الأشعث بن قيس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس) . رواه الإمام أحمد .
وقد مدح النبي بعض أصحابه وذكر فضائلهم ، وقد زكَّى النبي بعض أصحابه ، فزكى أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - من الكبر، فمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه من المدح المحمود لما يعلم النبي من كمال إيمان الممدوح ، وأن هذا المدح والثناء لا يزيده إلا خيرًا ، فقد أمن الفتنة عليه وأنه لن يتطرق الكبر إليه .
ومن المدح المحمود ما يلقاه بعض أهل الفضل من لهم مكانة دينية أو اجتماعية ممن لهم فضل على الناس وإحسان لهم في دينهم ودنياهم ، فما يجدونه من محبة الناس وثنائهم عليهم من غير تطلعهم لذلك الثناء ، فهذا من علامات توفيق الله لهم وجعل القبول لهم في الأرض ، فعن أبي ذر – رضي الله عنه - قال : قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال : ( تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم .
أما المدح المذموم بل والمنهي عنه أن يمدح الشخص نفسه ويُثنِي عليها ، قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. فهذا هو الأصل ، ولكن يُباح مدح النفس للحاجة ، مثل أن يكون خاطبًا إلى قوم فيرغبهم في نكاحه ، ويذكر فضائله إذا كانوا لا يعرفونه ، أو يمدح نفسه ليتولى ولايةً إذا كان هو أفضل الموجود، وأنه سيحسن فيها ، كما قال الصديق يوسف - عليه السلام - : {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. فلم يكن مدح يوسف نفسه من باب البغي والكبر، وإنما أراد بذلك إقامة العدل وإبطال الجور وإيصال الحق لأهله، وعلى هذا يحمل ما نقل ثناء بعض الصحابة على أنفسهم وبيان قدرهم في العلم ليحرص الناس على الأخذ منهم والانتفاع بعلمهم قبل وفاتهم، ليس فخرًا منهم وتباهيًا بالعلم ، فعن مسروق قال: قال عبدالله - رضي الله عنه - : "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ؟ ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت؟ ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه" . متفق عليه . 
ومن المدح المذموم مدح من يُخْشى عليه الفتنة ، فيعتقد فضله فربما تطرق لقلبه الكبر والرياء، وربما رأى أن له حقًّا على الناس وقدرًا، وربما ظن أنه فاق غيره من السابقين واللاحقين في الفضل، فاتكل على ذلك وترك العمل أو قصر فيه، ويحمل عليه حديث أبي موسى أنه قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة فقال: ( أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل). متفق عليه .
ومن المدح المذموم المدح والثناء على الشخص بأشياء لا يطلع عليها إلا الله ، من صدق الإيمان والتقوى والخشية ومعرفة المستقبل ونحو ذلك مما يتعلق بالقلوب مما لا يطلع عليها إلا علام الغيوب ، وإن كان مادحًا ولا بد لا يجزم المادح بذلك بل يقول أحسبه أو أظنه ونحو ذلك من الألفاظ التي ليس فيها جزم وعليه يحمل حديث أبي بكرة: أن رجلاً ذُكِر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأثنى عليه رجل خيرًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ويحك ! قطعت عُنُقَ صاحبِك )، يقوله مرارًا (إن كان أحدكم مادحًا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسبه الله، ولا يزكي على الله) . متفق عليه.
ومن المدح المذموم مدح من لا يستحق المدح من الفساق ، فعن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يكُ سيدَكم فقد أسخطتم ربكم عزَّ وجل) - رواه الإمام أحمد بإسناد حسن ، فنُهوا عن تعظيم المنافق ، ولو كان هذا التعظيم لقدره الدنيوي ، فبمدحهم له يعظمون من أهانه الله (ومن يهن الله فما له من مكرِم ) ، وإن كان ليس كما قالوا فقد أضافوا إلى ذلك الكذب المحرم.
وقد استحب العلماء لمن مُدح أن يتواضع لله ، وأن يستشعر ضعفه وتقصيره حتى لا يغلب عليه الكبر والعجب ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا أُثني عليهم يقولون: ( اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون ) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ح 761، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ح 589 .
وقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع من بعض المسلمين ثناء عليه متكلفاً، فقد قيل له يا سيدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس عليكم بتقواكم ، ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد بنُ عبدِ الله ، عبدُ الله ورسولُه ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» . أخرجه الإمام أحمد .
وفي موقف آخر سمع النبي صلى الله عليه وسلم جارية تغني بشعر في ندب من مات في بدر، فلما قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد ، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين» - رواه البخاري .أي قولي من الشعر الذي لا إطراء فيه ، قال ابن حجر في فتح الباري في هذا الحديث "جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه .. وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حين أطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى" .
ولقد عتب الله على نبيه موسى - عليه السلام - ظنه بأنه أعلم الناس مع أنه كليم الله و آتاه الله التوراة ، و جعله من أولي العزم من الرسل ، و مع ذلك عتب عليه أنه لم يرد العلم إلى الله و أخبره بأن عبده الخضر - عليه السلام - بمجمع البحرين هو أعلم منه، مما جعل موسى - عليه السلام - يترك قومه و يشد الرحل إليه ليتعلم منه بكل أدب وتواضع ، وقد انفردت سورة الكهف بذلك اللقاء ، فكيف يدعي أحد في شخص ما ممن هو دون الأنبياء بما لا يعلم قدره إلا الله ؟!!

وقد ابتلينا في هذا العصر بكثرة المادحين ظنًا منهم ( أنهم يحسنون صنعا ) حينما يبالغون في مدح غيرهم وتجاوزهم الحد المشروع في كيل المديح لغيرهم دون استثناء ، بينما هم في الحقيقة يذمون ويسخرون ويقللون من شأن الممدوح بقصد أو من دون قصد !! 
فكاتب يكتب عن صاحب المكانة الرفيعة بأنه يقف عند إشارة المرور ولا يقطعها ويقول بأن هذا من تواضعه !!
فهل هذا من المدح أو الذم ؟!!
أليس هذا الكلام يوحي بأن ذلك الشخص الرفيع اعتاد على قطع إشارة المرور من قبل وأنه لا يحترم الأنظمة ، وبالتالي سينطبق ذلك في جميع شؤون حياته ؟ 
وكان الأجدر منه أن يحترم جميع الأنظمة ويكون قدوة للجميع في تطبيقها والعمل بها !!
أو أن يكتب آخر أن المسؤول مثل الساعة كناية عن دقته بالمواعيد !!
فالأمر يحتمل أن الكاتب لم يعتد هذه الدقة من قبل في ذلك المسؤول أو أن الذين كانوا في المنصب قبله كانوا لا يبالون في دقة المواعيد !!
ونسي الكاتب أن يرشدنا عند توقف بطارية الساعة ماذا سيكون الوضع ؟!! 
لا شك أن الأصل في المسلم احترام الوقت والالتزام بالمواعيد .. ولكن !!
ويزداد الأمر سوءاً إذا كان المدح لأشخاص بصفات لاتليق إلا بالخالق عز وجل أو كان المدح بالباطل وطمعاً فيما عند الممدوح من متاع الدنيا ،  وهذا من الكذب الذي حرمه الله ، وقد وصل بعض المديح إلى ألفاظ شركية ، لم نعتد أن تظهر من خلال وسائل الإعلام المتنوعة لأنها لا  تقال إلا في حق الله تبارك وتعالى !!
فبالله عليكم عندما يكتب أحدهم من العبارات التي لا تقال إلا في حق ربنا عز وجل  ؛ فهل هذا من المدح أو الذم ؟
أجزم بأنها من الذم لأنها لا تليق ولا تقال إلا لله سبحانه وتعالى ،  فضلاً عن أن الممدوح لا يمكن له أن يقوم بذلك الفعل ، فهنا فإن المادح قد ذم الممدوح !! 
وقد كتب معاوية – رضي الله عنه -  إلى أمِ المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - : أن اكتبي إلي كتاباً توصيني فيه ، ولا تكثري علي ، فكتبت له رضي الله عنها : سلام عليك ، أما بعد : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» - رواه الترمذي ، وهذا لفظ المرفوع ، ولفظ الموقوف : ( من أرضى الله بسخط الناس رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاّمّاً ) ، وقوله : ( عاد حامده من الناس له ذاماً ) ، فهذا يحدث كثيراً لأن ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل ، وقد أحسن من قال :
إذا صح منك الود يا غاية المنى 
فكل الذي فوق التراب تراب
قال ابن رجب - رحمه الله - : " فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب تراب فكيف يمدحه ويقدِّم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب أم كيف يرضي التراب بسخط من هو رب الأرباب ، إن هذا لشيءٌ عجاب". (فتح المجيد).

إن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان ...واستغفر الله


م .سامي عبد المحسن الطريقي
الأربعاء ١٢ رجب ١٤٣٤

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..