سامي الماجد
|
الجمعة ٣ مايو ٢٠١٣
كثيراً
ما تتردد على سمعك القاعدة الشهيرة «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، بل
وأكثر ما يتردد ذلك في الخطاب الديني والوسط الشرعي، ولا إشكال؛ فهي من
ضرورات العقل والمنطق. وإنما الإشكال في تغييبها عن بعض نقدنا ورؤيتنا فيما
حولنا، أحياناً نمارس هذا التغييب والتجاوز تساهلاً بغير قصد، وفي أحايين
أخرى نمارسه عمداً متذرّعين بمقاصد حسنة! وهل النوايا الحسنة والمقاصد
النبيلة مسوِّغة للمغالطات وتزييف الحقائق؟يُقحِم نفسه مَن ليس له باع في العلم الشرعي في تقرير مسألة شرعية محضة، فننكر عليه هذا التقحم احتجاجاً عليه بهذه القاعدة، ولا اعتراض؛ لكن أن يتناساها بعضنا في ممارساته النقدية، وإطلاقه الأحكام في ما حوله من دون أن يكون لديه تصور كافٍ، فهذا منه يعدّ مخالفة إلى ما ينهى غيره عنه. ومهما يكن له من تضلّع في العلم الشرعي واستحضارٍ للنصوص وفهمٍ لها، فكل هذا لا يسوِّغ له أن يطلق الأحكام على وقائع وأحوال مبنية على تصور خاطئ متخم بالمبالغة والتهويل، أو منقوص بالاختزال والاجتزاء.
ولذا فإن الجهل الذي يمنع صاحبه من الفتيا وإطلاق الأحكام لا يختص بالجهل بالنصوص والقواعد والضوابط الشرعية وأدوات الاستنباط والاستدلال، بل يشمل أيضاً الجهل بالواقعة بملابساتها التي هي محل الحكم. كذلك نقدُ مجتمع ما أو ظاهرة وغير ذلك مما يخوض الناس فيه بالنقد ذماً أو مدحاً يخضع لهذه القاعدة الكلية، ولا يمكن أن يكون النقد موضوعياً ما لم يكن كذلك، وتجاوز هذه القاعدة تسرّع وارتجال غالباً ما يجنح للتطرف والمغالاة ذماً أو مدحاً، ولا يخلو عوام الناس من ذلك، وهو منهم متوقع مألوف؛ لكنه غير محتمل من مفكر أو داعية أو مثقف.
كثيرون نقدوا الغرب، أراد المبهورون أن يجعلوه مجتمعاً لا مشكلات فيه تتهدده، ولا مساوئ تشوه إنسانيته ومدنيّته، وأراد آخرون أن يصوروه مجتمعاً منحرفاً موغلاً في الانحراف والضياع، متحللاً متفككاً متسارعاً للانهيار، مادياً لا تُرى فيه صورة من معاني الإنسانية.
ظن هؤلاء أنهم بهذه المبالغات والمغالطات يحصّنون الشباب من خطر الاستلاب الفكري والانبهار بالحضارة الغربية، فهل تحقق ما كانوا يأملونه؟ ربما نجحت التعمية والإيهام والتدليس بعض الشيء قبل ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات، لكن بعدها صارت هذه الممارسة عواراً على الخطاب الديني وشاهداً يُستغل لإثبات سذاجته وتسطيحه للحقائق. كثيرون ممن يبالغون هذه المبالغة في تضخيم عيوب الحضارة الغربية والتهوين من منجزاتها ومحاسنها يقولون ما أردنا إلا الحسنى، نحن نخشى على شبابنا المبتعثين من صدمة حضارية تعميهم عن التبصر في مثالبها؛ غير أن ما حصل حقيقةً هو أن الصدمة التي كانوا يخشونها عليهم صارت مضاعَفة، وجد المبتعثون أن ذاك المجتمع الذي وُصف لهم بأنه العربيد السكّير المنحلّ الوالغ في مستنقعات الرذيلة والفواحش هو أكثر جديةً وإنتاجاً وأتقن عملاً، ووجدوا في مجتمعاتهم من القيم الإنسانية وسيادة القانون والنظام وحضور المؤسسات المدنية ما كان غائباً عن مجتمعاتهم الإسلامية الشرقية مما هو أقوم للعدل، وأمنع عن الظلم، وأبعد عن الفساد.
لا يستطيع أحد أن ينفي عن تلك المجتمعات إفرازاتها المادية والشهوانية المنتنة، ولا أن ينكر آثارها السلبية على المجتمع في علاقاته ومشاعره الروحية، غير أن اختزال المجتمع في هذه الصورة جناية على عقول شبابنا قبل أن يكون جناية على أولئك. مِن ذاك المجتمع الذي اجتزأت أنت أيها الداعية صورته في عربدة ومجون ولهو وعبث ولهث مادي يتعلم شبابنا إتقان العمل والمنافسة في العلم والإصرار من أجل النجاح والجد وقت الجد، وبعضاً من القيم الإنسانية والأفكار التطوعية واحترام النظام والقانون.
كان الواقع الذي عايشه مبتعثونا هناك صدمة أخرى غير حضارية.. صدمة من نوع آخر.. صدمة من واقع بعض الخطاب الديني الدعوي الذي ما زال يراوح فيه.. كانت صدمة مرتدة منعكسة سلباً على من بالغ في نقد مثالب الحضارة الغربية، فصار كاذباً مدلّساً، ولم ينفعه صدق النية.
تعجب أكثر ممن لم يزر يوماً بلداً غربياً، ولم يخالط مجتمعاتها، ولم يطّلع على حضارتها كما هي في بلادهم، فإذا هو أكثر الناس جرأة في نقدهم بأسلوب التهويل والتضخيم من المثالب، وكأنه لم يصله منهم إلا هي! أليس هذا بأولى أن يتورع عن إطلاق الأحكام جزافاً، والكلامَ على عواهنه، وهو الذي أكثرَ علينا من ترديد قاعدة «الحكم على الشيء فرع عن تصوّره».
الحياة السعودية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..