الاثنين، 12 أغسطس 2013

إنهم يفترون كذباً على تشومسكي!

تجد في مواقع عربية من يقول لك أن تشومسكي يعلن ترحيبه الحار بـ “الربيع العربي” ويبشر
بنهاية الزمن الأمريكي.. والعكس تجد من يؤكد لك أنه يقول أن هذا الربيع هو مؤامرة أمريكية لصناعة الفوضى الخلاقة وإعادة ترتيب المنطقة وفق المصالح الأمريكية..

وأثناء زيارته لبيروت قبل أشهر نشرت صحف ومواقع مقابلات معه يؤكد دعمه للجيش الحر، بينما تلك المؤيدة لنظام بشار نشرت النقيض وهلم جرًا!! ثمة أطراف عربية تزيِّن حججها باقتباسات فكرية مزعومة لتشومسكي.. وهناك من يستشهد بأقواله في تفاصيل الربيع العربي، ويزعمون أنه قال عن أوضاعنا الراهنة كذا وحلل كذا.. بل “كشف أسرار” كذا.. رغم أن تشومسكي المسكين ذكر أنه لا يريد أن يُنظِّر أو يحلل حالة الربيع العربي بل أتى ليتعرف! وقال بوضوح: “أنني في موقع التعرف على الوضع عن كثب، أكثر من كوني في موقع إعطاء الاستنتاجات..”.

ويطرحون أفكار تشومسكي كيفما اتفق ويجتزئون منها ما يريدون وما لا يتفق مع فكره العام، خاصة من كُتاب حركات الإسلام السياسي وتبعهم كثير من القوميين العرب.. هذا يزعم أن تشومسكي يقول إن أمريكا تتآمر ضد الإخوان المسلمين، وذاك يدعي أن تشومسكي يقول إن أمريكا تحالفت مع الإخوان..

والملفت للانتباه - أو ربما المضحك - أن غالبية من يستندون على آرائه في الأحداث العربية هم يمينيون (إسلامياً أو قومياً) بينما أفكار تشومسكي هي يسارية بامتياز! فكل الذي يعرفونه عن تشومسكي أن له طرحاً من المعيار الثقيل في الميزان الغربي، وهو طرح معارض لكل ما هو أمريكي بحسب فهمهم.. لكن دون أن يربطوها بمعارضته للبنية الرأسمالية للإدارة الأمريكية ومؤسساتها أو الرأسمالية العولمية.. فهم يفهمون فكره بأنه يمثل المعارضة لأمريكا قاطبة وليست معارضة يسارية داخل أمريكا الديمقراطية، ولا يفرقون بينهما. وهم لا يدركون أن فكره اليساري الذي يفرحون بمقولات جزئية تطربهم هو نقيض فكرهم الأساسي أكثر مما هو نقيض للإدارة الأمريكية..

ورغم أن تشومسكي لا يسعه الاعتراض على كل ما يؤلف على لسانه في العالم العربي نتيجة لكثرة ما يقال على لسانه، ونتيجة لكبر سنه ولبعده عن تفاصيل واقع العالم العربي، فإنه اضطر أن يعترض غير مرة. فحين انتشر بشكل عارم في الإنترنت ما نشره موقع “اليوم السابع” بأن تشومسكي يرى أن مسألة عداء الإمارات للإخوان المسلمين هي بسبب خطة مرسي لتطوير قناة السويس مما يشكل تهديدًا اقتصادياً لميناء دبي.. وطرح معها قوله أن الإمارات تمثل الثورة المضادة ضد ثوار سوريا والتحول في مصر وتسعى لقطع الطريق على تحالف أنقرة القاهرة. اضطر المسكين تشومسكي أن يوجِّه رسالة إلكترونية إلى رئيس تحرير “اليوم السابع” لافتاً نظره إلى أن المقالة مزورة، وطلب منه نشر تصحيح أو توضيح لما نُشر على موقع الصحيفة التي تتحدث فيه على لسانه...

والمشكلة لا تقف هنا، بل يأتيك الإنترنت العربي بالعجائب.. فيظهر موقع ينفي صحة نفي تشومسكي، ويكذِّب التكذيب، فلا تدري أين رأسك من قدميك!! رغم أن إدارة الموقع حذفت المقال في 5 يناير من دون تفسير، عقب نشره لمدة 3 أيام، لكن بعدما تداوله القراء بشكل واسع، وتمت إعادة نشره في مواقع إلكترونية عديدة، باعتباره يضم تصريحات خطيرة منسوبة إلى قامة فكرية عالمية، فلا جدوى من النفي حتى لو كان من صاحبها المزعوم!

أهمية تشومسكي تكمن في أنه من القلة النادرة -إن لم يكن الوحيد- من كبار مفكري القرن العشرين الذين بقوا على قيد الحياة. والأهمية الأخرى أن فشل اليسار العالمي وجد رمزاً عالمياً ناجحاً له في هذا المفكر اليساري الذي نالت أفكاره استحساناً عالمياً في تلاطم الأفكار التي سقطت بين اليسار واليمين.. ولقد تراكمت مقولات هذا المفكر منذ أكثر من نصف قرن حتى أصبح في نظر كثيرين الزعيم المعنوي لليسار العالمي، رغم أنه ليس يسارياً كلاسيكياً. لذا من الطبيعي أن يكون مفخرة لليسار، إنما الغريب أن يتلقفه خصوم اليسار لدعم أفكار اليمين من الإسلاميين أو القوميين لمجرد عدائهم لأمريكا.. فما قصة أفكار نعوم تشومسكي؟

هو أستاذ لسانيات ومفكر. ويطلق عليه “أبو اللسانيات” حيث يرجع إليه تأسيس نظرية النحو التوليدي والتي كثيراً ما تعتبر أهم إسهام في مجال اللسانيات النظرية في القرن العشرين. كما يعد من أبرز مفكري الفلسفة التحليلية، وهو مؤلف لعشرات الكتب في مجالات شتى في التاريخ والسياسة والإعلام والفن وحقوق الإنسان. ومنذ الثمانينات يعد تشومسكي من أبرز المفكرين في العالم، وصارت الاستشهادات بأقواله رائجة عالمياً، فحسب قائمة الإحالات في الفن والعلوم الإنسانية عام 1992 فإنه قد تم الاستشهاد بتشومسكي كمرجع أكثر من أي عالم حي خلال الفترة من 1980 حتى 1992، كما صُوت له كـ “أبرز مثقفي العالم” في استطلاع للرأي عام 2005. (ويكيبيديا)
قلت إن أفكار تشومسكي ليست يسارية كلاسيكية بل هي خليط من الليبرالية واليسار الفوضوي الذي يضع استنتاجاته عبر منهج نقدي ونموذج تحليلي متماسك لكن دون حلول أو بدائل واقعية.. وقد اشتهرت كتبه النقدية تجاه السياسة الخارجية لأمريكا منذ حرب فيتنام، ونقده لرأسمالية الدولة، ونقده لوسائل الإعلام أو ما سماه “صناعة الإذعان”.. لذلك عندما انطلق حركة “احتلوا وول ستريت” صار هو الأب الروحي لها.

ونتيجة لأن هذه الحركة اليسارية لم تنجح سوى بالاحتجاج، كدأب اليسار الفوضوي، فقد انتقدها يساريون كُثر باعتبارها حركة رومانسية ثورية بلا فاعلية بينما اليمين ممثلاً بحزب الشاي والحريص على خفض الضرائب عن الأغنياء يحظى بأصوات الفقراء لأنه يرمي بثقله على المجتمع والمؤسّسات، كما جاء في كتاب “لماذا يقترع الفقراء لليمين؟”، ومثل عرض توماس فرانك “مأزق معارضة لا مطالب لها”: “احتلال وال ستريت”، “حركة وقعت في غرام نفسها”..

ورغم هذا التاريخ لكن يبدو أن بعض العرب اكتشفته مؤخراً.. وصار يقتبس منه من دون علم بسياق أفكاره أو يستشهد به عبر تلفيق ما لم يقله.. وساعد على ذلك طبيعة الثقافة الإنترنتية المستعجلة في خضم تلاطمات الربيع العربي وما تفرزه من راكبي الموجات السريعة الذين يزينون حججهم الضعيفة بالأسماء العالمية الرنانة!

د.عبد الرحمن الحبيب
المصدر
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..