الاثنين، 23 سبتمبر 2013

الكراهية إذ تحرف البوصلة ..

محاولة فحص لهجوم محمد السيف على زياد الدريس ..
عندما تلوح في الأفق الثقافي مقدمات لمحاكم تفتيش ضد تيار فكري معين كالإسلاميين،
ينقسم عادة خصومه الفكريين إلى مواقف كثيرة في هذا الحدث الكاشف جدا عن معادن الرجال و شرف الخصومة: فمنهم الكبار أصحاب المبادئ و الرقي الأخلاقي الذين تمنعهم عقولهم ومروءتهم من استغلال الجو العام المشيطن لخصومهم في ظلمهم ثقافيا أو الإعانة على ذلك، و إن احتاجوا له في تلك الظروف فبعلم و عدل و أدب و تحفظ يمنع استغلاله لمآرب أخرى. يقابلهم آخرون يستغلون الموقف لتصفية حسابات ثقافية و انتقام و ثأر فكري موهوم  مستخدمين الغمز و اللمز تارة ومتبرعين بلوائح ادعاء جائرة خادعة تارة أخرى . وبين هذين الموقفين أشتات كثيرة من النَّاس، كل منهم يقف في مكان إحداثياته نتاج معادلة معقدة  مدخلاتها علمه وثقافته وعقله وأخلاقه وبيئته ونشأته و ضبطه لشهوات نفسه وغير ذلك .

ليس معيبا أبدا أن يخطئ المرء في معلومة معينة أو تقدير موقف، لكن المرفوض حقا أن  يتعامل مع غيره بالعقلية "الاستراحاتية الشللية" لمزا و تشويها و نبشا وملاحقة للزلات و إفراغا لحمولة الكراهية. و إلا فما الفائدة من قراءة وبحث وكتابة سير الكبار إن كان المرء لن يستفيد كثيرا من سموهم الفكري و تعاملهم الراقي مع المخالف الفكري و ألفاظهم المهذبة و تباعدهم عن نقد الشخص إلى نقد الفكرة . 

الأستاذ محمد السيف "صحفي مختص بكتابة السير" له رصد مميز لسيرة الطريقي -رحمه الله- و جهود مشكورة في تدوين سير و مواقف الرواد السعوديين الأوائل . وهذا مجال مهم جدا ليقرأ الجيل الجديد قصص النجاح الباهرة لأقوام عانوا شظف العيش و تغلبوا على عقبات الحياة مهدين لوطنهم الكثير من الإنجازات و العطاءات و الأخلاق العالية الرفيعة .

في حواره التويتري الأخير مع الأستاذ زياد الدريس، ابتدأ السيف بالغمز واللمز بلا داع ولا مناسبة ولم يكن منصفا مع أبي غسان، بل اقتطع من مقاله ما يوافق هواه في تشويه الصورة . و قد رد عليه الأديب اللماح حسين بافقيه بنصيحة راقية الأسلوب كعادة الكبار بأن هذا توقيت غريب و مريب راجياً ألا تكون "محاكم تفتيش" ! و هي فعلا بوادر محاكم تفتيش فكرية للإسلاميين يتداخل فيها بشكل ظاهر محاولة انتقام و ثأر من النتائج " المؤلمة الموجعة" لمعركة الإسلاميين و الحداثة كما وصفها السيف ذات مقال.

  الملاحظ أن ميزان السيف في رصده و أرشفته غالبا ما يكون مائلا ضد تيار فكري معين فيخفي حسناتهم و يبزر أخطائهم بشكل غريب ملفت للنظر ، وربما ذر الرماد في العيون بشئ قليل يوحي بالحياد و الموضوعية و يكون راية يرفعها كلما رُمي بقلة الإنصاف وضعف الموضوعية. وهو يمارس هذا التشويه و الانتقائية تحت جُبّة نشر الأرشيف الثقافي و عمامة رصد التاريخ الفكري ، و ما علم وفقه الله أن وعي المتابعين ارتقى كثيراً و اكتشف هذا التذاكي، فالتاريخ من السعة بحيث يختار الناظر فيه من الحوادث ما يوافق هواه ليطلق الحكم الذي بيّته بليل. وحوادث التاريخ كمئات الحبات الملونة من أحلك السواد إلى أنصع البياض، لكن البعض هداهم الله لا ينظمون منه إلا العقود السوداء في حق مخالفيهم.

و كم هي بليغة كلمة الأستاذ بافقيه حين بلغت الكراهية و التنبيش مداها عند السيف و قدم لائحة إدعاء مبكرة لمحكمة التفتيش المنتظرة ، حاول فيها إدانة الدريس حسب تصوره، قال بافقيه : إذن هنا تجاوزنا "الأرشفة"،  ولما حاول السيف رفع رايته البالية من كثرة الاستخدام رد بافقيه بلغة يختلط فيها اليأس بالأمل: أرجو ذلك . و تكرار الرجاء من بافقيه رسالة بليغة لم يلتقطها السيف ربما بسبب اندفاعه الشديد.

" أراك أبعد ما تكون عن الإنصاف و الموضوعية ، ذلك أنك تريد أن نساهم معك في تغييب وجه آخر لك!" هكذا يرى السيف الإنصاف و الموضوعية في هذه الجملة المتورمة بالاتهام و سوء الظن والفهم المعكوس، فبدلا من يسرد السيف ابتداءً كل تاريخ زياد بصوابه الكثير و خطأه القليل يغمزه و يلمزه، ولما طالبه زياد بالإنصاف فقط رد منفعلا بطريقة "ساداتية" مراوغة: أتريد أن نساهم معك في تغييب وجه آخر لك!

و في حين تورع زياد عن الخوض في مستنقع المهاترات ، يواصل السيف معركته داخله يبارز الهواء بنَفَس انتقامي متوتر جدا واتهام بتعدد الوجوه و تساؤل "شاطح" عن مؤهلات زياد التي أوصلته لليونسكو ! وهذه شخصنة بعيدة عن صلب الموضوع تبين النفسية التي يحملها السيف و ينطلق منها تجاه من يخالفهم في الرأي. و تبين كذلك طريقة تفكير السيف التي تخلط عباس على دباس في هذا الحوار الثقافي و كأن المهم كيف "تؤلم" خصومك؟ لا كيف تستفيد من الحوار مع مخالفيك؟  والثانية بلا شك راقية رفيعة.

يواصل السيف القصف العشوائي في كافة الاتجاهات و ينشر كراهيته بعبارات من نوع : محدود الأفق ، مندوب الإسلاميين " الذين يدعون الوطنية وولائهم للمقطم" في الصحافة السعودية ، يحرم فتاة سعودية من العمل في اليونسكو لأنها ليست صحوية ! من نقلك من مختبرات الصحة إلى التربية و التعليم؟! مثقل بحمولة أيدولوجية ( وهذه الأخيرة مضحكة إذ يبدو السيف كملاك طاهر يشع بالتسامح وينشر المحبة و السلام بلا أي "كونتينرات" ايديولوجية !) . و يترفع زياد مرة أخرى بثيابه النظيفة عن الخوض في الوحل إذ يفترض في محاوره رقي الخلاف و حكمة الحوار ، و يرد مدافعا عن نفسه واضعا يده على الجرح : هل هذه أرشفة ثقافية أم غضب تاريخي ؟ ولأن السيف حاد عن الإجابة الصادقة فأنا أجيب : بل هي انتقائية مقيتة وكراهية فكرية و حقد ثقافي !

موجة التغريدات الثانية و الثالثة  للسيف قربت القارئ أكثر من (عقدة السيف الثقافية) التي تحركه و كشفت كذلك عن مستواه الأخلاقي و انفعاله الغريب و نَفَسه المتشنج عبر: اتهامات طائشة بأن زياد انتهازي ذو أوجه متعددة و لف و دوران! لماذا لا ترتوت لي و لا تقبل الخلاف حول فكرك؟  الترابي أستاذك فاشفع لنا عنده ! أنت أصولي عقدي مغالي مناهض للوطن مؤمن بالمفاصلة الشعورية "القطبية"! سأكشف ما تحاول إخفاءه من فكرك "البطّال"!  مخادع مراوغ تحاول احتوائي حتى لا أكشفك و أعريك فأنا قوي جدا كتبت سيرة الطريقي! تتخلق بالكراهية وتتربص بالناس و تتأبط الشر لهم ! تقول عني راصد ثقافي و عند الحديث عنك نفيت أن يكون أرشفة ! وهذه الأخيرة فهم غريب ربما سببه التوتر والاحتقان لأن زياد يطلب منه الإنصاف فقط ، لكن السيف في هجومه كان  كمن يصرخ قد اشتعلت في ثيابه النيران هائجا محمرا وجهه: زياد إسلامي بل إخواني بل قطبي ترابي أقيموا عليه حد مناهضة الوطن يا قضاة التفتيش الفكري! وهو في هذا يهرول في اتجاه واحد والأنوار خافتة لا تتيح لي الرؤية بشكل جيد ما لم يتمهل و يركد . 

 في الموجة التغريدية الثالثة أيضا تضح (العقدة الثقافية) المحركة للسيف بشكل أكبر و تضح معها الديكتاتورية الفكرية  مبتغيا من زياد أن ينسلخ من أفكاره كلها لأنها فقط لا توافق المقاييس و المعايير "السيفية" ! و لا يريد أن يبقى لها أدنى أثر في قمة تقمص الدور الستاليني ! و تعود أيضا توهمات السيف التي يبني عليها اتهاماته حول كتب و مقالات زياد ، ثم يقفز في مشهد مخز من نقد الفكرة إلى الشخصنة و غمز و لمز لإدريس أخ زياد و "الحقود النمام" صديق زياد و الملفى المعتاد مؤهلات اليونسكو . و يختمها كالعادة بالفهم المعكوس: لماذا تفخر بإرشيفك و فيه هفوات و زلات كبرى؟ و لست أدري كيف أشرح الأخيرة إن كانت حقا أعمته عنها الكراهية . و كأن الزلات الكبرى تمنع أن يقوم المرء بحسنات كبرى أيضا و كأننا لم نتعلم يوما ما في الابتدائية أن الرجوع عن الخطأ "خيرٌ" من التمادي فيه وأن الاعتراف بذلك من شيم الكبار.

 قد يفقد المخالف الفكري العاقل الرصين الإنصاف أحيانا إذا تحدث عن مخالفيه وهو معذور في هذا لطبيعة النفس البشرية. فما بالك إذا المخالف أقل عقلا و حكمة و رزانة ؟ هل ترجوا منه إنصافا كبير وأمانة علمية و دقة في التوصيف و الرصد؟  أم هل ترجوا منه حكمة و إرشادا حميدا للأجيال الجديدة و إضافة راشدة لعقولهم الغضة و قلوبهم النقية؟

 الكراهية الثقافية ، الإقصاء للمخالف في الرأي ، الشخصنة البالغة التي تترك نقاش الفكرة إلى الغمز و اللمز، الفهم المعكوس ، الاتهامات الطائشة المتدنية المستوى لحد الشتم، الانتقائية و تحريف أقوال خصومه و تشويهها، افتقاد الحكمة و الرصانة و الإنصاف ، هذه ثيمات ظاهرة في محمد السيف حين ابتدأ الحوار و أثار الغبار في هذا الاشتباك، وظاهرة كذلك في طريقة إدارته له . من الثيمات الواضحة كذلك أن السيف يُسقط لا شعوريا أخلاقه في هذا الحوار على خصمه: تتخلق بالكراهية وتتربص بالناس و تتأبط الشر لهم ، أصولي عقدي مغالي مؤمن بالمفاصلة الشعورية مع المختلف عنهم فكريا ، وهي صفات كما ترى تنطبق عليه حذو القذة بالقذة .

يبدو لي أن "العقدة الثقافية " الكبرى عند محمد السيف و الهاجس المحرك المؤثر على بوصلته الفكرية جاعلا كتاباته كالطالب الذي يرد كل القضايا في العالم إلى "الجمل لأن الجمل سفينة الصحراء ... الخ" ، هذه العقدة هي معركة الحداثة ، وحمولة الكراهية و "الكربلائية " التي يحملها السيف سببها نتائج هذه المعركة و تداعياتها و ما حصل فيها من تجاوز فكري و ثقافي و اجتماعي غير مرضي من كلا الطرفين كعادة المعارك الكبرى، و مع أن الكبار الذين كانوا في قلب المعركة تجاوزوا كثيرا من آثارها السلبية بعد أن برد العقل و هدأ الفكر،  لكن البعض أصبحوا بعدها أكثر كراهية  خصوصا إن كانوا يظنون النهاية " موجعة مؤلمة" كما وصفها السيف في أحد مقالاته،  واللفظان الذي استخدمهما السيف كاشفان جدا فوجع المريض وألمه ينقله إلى دركات من النظرة السوداوية للحياة و المجتمع الذي نعته السيف ذات تغريدة : بالمتخلف الذي يحكمه الإسلاميون و يسيطرون عليه، ومع أنهم يمثلون بأطيافهم شريحة كبيرة من المواطنين بحسب السيف نفسه، مع ذلك فإنه ينتكس و يفقد اتزانه إذا جاء ذكرهم ليبلغ قاع الكراهية و الإقصاء والصلافة الفكرية .

سيظل هذا المجتمع -قبل معركة الحداثة و بعدها- متعدد الطيف الفكري و إذا ما تعاملت هذه الأطياف مع بعضها بالعلم و العدل و الأدب فسيرتقون جميعا . أدرك هذا الكبار و العقلاء من تجربة معركة الحداثة فثبتوا على صحيح أفكارهم و اعتذروا عن أخطائهم و نشروا ثقافة التسامح و المحبة و الإنصاف و الإعذار بين الأجيال الجديدة متسامين على ما لحقهم من أذى ، فيما بقي آخرون يهرولون في جمع بقايا فحم المعركة ورمادها ليسودوا قلوبهم وعقولهم ثم ينفثوه فيرتد على وجوههم و ينقلب البصر خاسئا وهو حسير.




نادر بن عبدالعزيز ال عبدالكريم

الرياض 12/11/1434
------------------------------------------------------------------------


_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

فلا يستخفّونك يا زياد الدريس

سبحان الله ! كنتُ في مطمع من أن تكون لي منجاةٌ من الناس وشرورهم، خاصة بعد أن تركتُ لهم دنياهم، قانعاً منها بما قسم الله لي من الستر وسط كتبي لا أُشاري ولا أماري، ولا أزاحم ، فكان ذلك دأبي ، إلى أن وقفتُ بالمصادفة على أسهم من الحقد مسمومة،لم تجد ظهراً تنغرس فيه إلا ظهر ذلك التقي النقي الذي لم تكن له صبوةٌ نعلمها، ولا يعرفه من يعرفه، إلا بدينه القويم، وتقواه لربه حيثما كان، وإتباعه السيئةَ الحسنةَ، ومخالقته الناس الأخلاق المرضية، وهو من لو لم أذكر اسمه، لعرفه الناس من سيما سيرته النقية، وقالوا : لن يكون ذاك إلاّ ( زيادا ً)..

فيا (كاتب سِيَرِ النبلاء) أما وسعك أن ترد الحوضَ فتشرب من صفاء نميره من غير تتريبه وتعكيره، أو تجني جنى النخلة من غير حذفها بالحجارة، أو تقيل تحت دوحةٍ غنّاء من غير أن تترك من تحتها ما يُزكم أنوفَ من يأتون بعدك .....؟!

أمّا أنتَ يا صديقي  زياد بن عبد الله بن إدريس، فلا تحزن ولا تبتئس لتلك الطعنات التي جاءتك من حيث لا تتوقع ، فدلالتها أنك في المقدمة، وأعذر الطّاعن فإنه يروم تطويل قامته بمسموم السهام، وليس بمثل ذلك تطول القامات لو كان يعلم... والسلام،،
  أخوك
عبد الرحمن الأنصاري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..