الجمعة، 6 ديسمبر 2013

القاضي والمطوع

 المحامي أحمد بن خالد الأحمد السديري
    ها نحن نرى في حاضرنا المعاش صنوفاً من الأحكام العجائبية التي ما برحت تترى من بعض القضاة.. كلها تظافرنا فيما نطالب به وهو لزوم تطوير مناهج المعهد العالي للقضاء، ولزوم تدريس التشريعات فيه ونظريات الفقه الشرعي والقانون ولزوم إنشاء معهد للتدريب كي يتم تأهيل خرّيجيه على الوجه الصحيح فيضحون حقيقيين بتولي زمام القضاء من الناس، فهؤلاء القضاة الذين أصدروا هذه الأحكام وغيرها والتي سأسردها تباعاً في آتي السطور.. لو أنهم درسوا نظرية الالتزامات والضمان والعقود في الشريعة والقانون ونظرية الجريمة في الشريعة والقانون ونظرية العقوبة في الشريعة والقانون ودرسوا علم الإجرام الذي يشخص ويحلل نفسية المتهم الأمر الذي يساعد القاضي ويعينه لمعرفة العقاب الملائم الذي تقره العدالة.. أقول.. لو أن هؤلاء القضاة درسوها في معهد القضاء باعتبارها ضرورة لا زَيْغ عنها لكل امرئ يصبو إلى ولاية القضاء، ولو أنهم بعد دراستهم لهذه المواد دراسة ضاربة في شعابها أي ليست ضحلة كما هو صائر لبعض المواد في معهد القضاء، ثم دربوا التدريب الصحيح - قبل تعيينهم - لمدة عام ونصف أو عامين من قِبَل قضاة متقاعدين علا كعبهم في القضاء يؤتى بهم من مصر، لما فاه هؤلاء القضاة الذين أعنيهم بهذه الأحكام العجائبية في مجالس قَضَائهم..
هذه الأحكام التي تستهزئ بالعقول وتمتهن البصائر قبل أن تجبه العدالة التي هي جوهر شريعة الإسلام، فها نحن نسمع هذه الأيام عن الحكم الذي أصدره ذلك القاضي على فتى يافع في سفاهة من أمره، لم يذرف عمره على العشرين بعد، أخذت به ميعة الصبا وغواية الشباب، فسولت له نفسه الرقص في الشارع أو على سطح سيارته وهو شبه عارٍ، أقول بهظه بحكم قضى بسجنه سنيناً عشرا مصحوبة بألف جلدة.. هكذا، فهذا الفتى ليس محصنا.. ولو أنه قد زنا بامرأة أمام الملأ عيانا بيانا وشهد عليه أربعة شهود لما حكم عليه إلا بمئة جلدة، وهذا بالبداهة يقطع بأن هذا القاضي المسكين لا يدري بأنه لا يجوز له شرعاً إصدار حكم كهذا.. لأنه في حكمه هذا ازدرى مصدراً رئيسياً من مصادر الشريعة وهو السنة، فقد ورد فيما رواه أبو بردة عن الرسول قوله عليه السلام: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله"، فضلاً عن أنه صدّ عما هفا إليه أئمة المذهب الحنبلي، فالإمام أحمد بن حنبل والإمام الخرقي جنحا إلى القول: بأنه لا يبلغ التعزير في كل جريمة حداً مشروعاً في جنسها، وبعض أئمة هذا المذهب قالوا بأنه لا يجوز أن يزيد التعزير بالجلد عن عشر جلدات اتباعاً لحديث الرسول الذي سلف ذكره (انظر: المغني والشرح – صفحة 347-352 - جزء10، والحسبة في الإسلام لابن تيمية – صفحة 39، والسياسة الشرعية لابن تيمية – صفحة 54)، وقد زاد الإمامان ابن تيمية وابن القيم بأن التعزير يكون متوائماً مع المصلحة، وعلى قدر الجريمة فيجتهد ولي الأمر فيه، إلا أنهما نزعا إلى القول بأنه لا يجوز أن يبلغ التعزير فيما هو شبيه بجريمة عقابها حد مقدار ذلك الحد، فالتعزير على سرقة ما دون النصاب لا يبلغ به القطع، والتعزير على المضمضة بالخمر لا يبلغ حد الشرب، وقال ابن تيمية إن هذا هو أعدل الأقوال (انظر: الحسبة في الإسلام - صفحة 39 لابن تيمية، والطرق الحكمية لابن القيم الجوزية - صفحة 106)، وعليه فإن فقهاء المذهب الحنبلي الذي يطبقه القضاء لدينا أجمعوا على القول بأن لا يزيد التعزير على عشر جلدات وهناك من يقول إنه لا يزيد على أقل الحدود، وهناك من يقول إنه لا يبلغ التعزير في جريمة قدر الحد فيها، فهذا هو الراجح لدى الفقهاء الحنابلة، والوحيد الذي هجر هذه القاعدة التي أجمع عليها فقهاء الحنابلة هو الامام البهوتي صاحب (الروض المربع) إذ قال بأنه لا يتقيد بشيء.. هكذا.. ولهذا انتحى قضاتنا إلى ما انتحاه البهوتي، لماذا؟ لأن القائمين على كليات الشريعة والمعهد العالي للقضاء فرضوا هذا الكتاب كمنهج يدرس للطلاب الذين يعيّنون بعد تخرجهم كقضاة.
- إن الحكم الذي أصدره هذا القاضي يقطع بأنه قد اطَّرَح سنة سنها الرسول عليه السلام، وازّاور عما قال به كبار أئمة الحنابلة، وعمد إلى الأخذ بما قال به البهوتي وكأن كلامه لا ينطق عن الهوى، أو ربما أن هذا القاضي لم يعرف غير الذي درسه للبهوتي في كلية الشريعة والمعهد العالي للقضاء، والثابت أن أحكاماً كهذه لم تصدر من شخص له منطق وعقل القاضي الثَبْت الذي يدري ما تجمّ به الأحكام التي يصدرها من آثار، فيتحرى حين إصداره إنزال العقاب الملائم الذي تقره العدالة.. ومآب قولي هو أن فقهاء الشريعة أجمعوا على لزوم ابتعاد التعزير عمّا فيه تعذيب للجاني أو إهدار الآدمية (انظر: رسالة عبدالعزيز عامر عن التعزير في الشريعة في كلية حقوق القاهرة - عام 1956 - صفحة 246)، وعليه فإنه ليس من التجنّي القول بأن القاضي الذي أصدر هذا الحكم أخذ بمنطق (المطوع)، وقد تحدّر هذا من الحقيقة القائلة بأنه بعض القضاة -وليس كلهم- من خريجي معهد القضاء العالي وكليات الشريعة لا يطورون مع الأسف أنفسهم ويعمقون معارفهم بالتعرف على ما لم يدرّسْ لهم في الكلية أو المعهد، فهم يعينون كقضاة ويمارسون القضاء دون تأهيل ودون تدريب صحيح، إذ إن الملازمة لا تروي الغليل ولا تعد تدريباً صحيحاً بحال، لذا فهم يصدرون أحكاماً لا تصدر من قاضٍ، بل من (شخص) ظلامي التفكير ضيق الأفق يشتبه في أي امرئ من الناس، يهوّل الأمور فيخال الهفوات الخفاف وكأنها من الكبائر، كل زاده من العلم هي آيات حفظها أو أحاديث يرددها، لم يتثقف بقواعد الفقه والأصول أو يتعرف على فقه وشروح القوانين ونعني هنا النظم الملزم بتطبيقها وما استقر فيها من قواعد في القضاء، أي أنه لم يثقف نفسه ويتعلم ما لم يعرفه في المعهد العالي للقضاء أو كلية الشريعة وهو ما فيه سعة لأفقه ومداركه، يظافرني فيما أقول حكمٌ آخر صدر على ذلك الذي بلغ به العتو حتى إنه عذّب ابنته حتى الموت، فما فعله هذا الجاني هو جريمة يقف شعر الرأس لهولها، فهي تُنْبِئ بأن الفاعل هذا هو جبار عصي والغ في الجريمة لا يزعه الضمير عن النكال ببنته وإزهاق روحها تعذيباً، وهذا لا شك من الآثام الجسام، إلا أن القاضي الذي تولى محاكمته قضى بحبسه أربعة أعوام وقد لا يحظى إلا بنصف هذا العقاب، فهذا القاضي أصدر حكمه بمنطق المطوع الذي يرى أن الأب الذي قيل بأنه داعية يستطيع أن يفعل بابنته ما طاب له وكأنها هرة رباها، فصفته هذه هي عاصم لدى هذا القاضي من إنزال العقاب العادل الزاجر له، أي أنه لم ينظر إلى حقيقته القائلة بأنه جانٍ ذو خطر جد كبير على المجتمع.. حقيق بعقاب زاجر فيكون بذلك عبرة لكل معتدٍ أثيم.
- هؤلاء القضاة مع الأسف لا يدرون أن التعزير هو عقوبة مقدرة شرعاً تجب حقاً لله في كل ذنب ليس فيه حد ولا كفارة (انظر: المبسوط للسرخسي - جزء 6 - صفحة 36، وكشاف القناع - جزء 4 - صفحة 75)، فأحكامه تختلف باختلاف حال فاعله (انظر: الأحكام السلطانية للماوردي - صفحة 236)، لأن التعزير وإن كان قد شرع لزجر الجاني، إلا أنه يتغيا أيضاً الاصلاح والتهذيب، فهذا من الغايات الأُوَلْ التي رامها الشارع من التعزير، وفي ذلك يقول الإمام الزيلعي: "التعزير فعله مقيد بشرط السلامة فهو ليس للتعذيب وإهدار الآدمية" (انظر: تبيين الحقائق للزيلعي صفحة 211 جزء 3).
- من تيك الأحكام العجائبية.. ذلك الحكم الذي انتبذه قاضٍ ضلَّ فيه ضلالاً بعيداً عن محكم كتابه وهو أول مصدر من مصادر الشريعة المطبقة في هذه الديار، بل إنه لم يرعوِ أيضاً عن هتك السنة أو أن يتزاور عما أجمعت عليه مذاهب الشريعة، فهذا القاضي ضاز في حكمه لبنانياً حين حكم عليه بالجلد بسبب إفك مفترى فاه به المدعي أمامه، وكي يحكم عليه توسّد هذا القاضي حجة ضاوية قوامها شهادة شاهد محرم عليه شرعاً سماع شهادته وذلك بعد أن ونى المدعي عن الاتيان بشاهد تجوز شهادته، فالشاهد الذي أتى به المدعي هو كفيله الذي يعمل لديه، أي مستأجره ورغم أن مزاعم المدعي قد كذبها أبوه وعمه في شهادتيهما اللتين أدليا بهما أمام القاضي، إلا أن هذا الأخير حرن في موقفه حيال المدعى عليه، وركن إلى إفك الكفيل عامداً إلى إدانته وتعزيره جوراً بالجلد، فالقاضي هنا زاغ عن الآية الكريمة: "ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا"، وهتك الحديث القائل: "لا تقبل شهادة ظنِّين في ولاء أو قرابة"، وكذلك الحديث القائل: "لا تجوز شهادة أجير لمستأجره ولا مستأجر لأجيره"، وقد رفع هذا الحكم إلى التمييز(الاستئناف) إلى أن قضاته الذين يعينون ليكونوا رصداً لكل خطأ شاب حكم الابتداء، تضاجعوا مع الأسف، عن تدبر هذا الحكم حذر العناء وهو ما يحدث في كثير من القضايا، ولهذا فقد صدقوا على هذا الحكم دون أن يروزوه ويسبروا ما اعتراه من مثالب، أي إنهم ظاهروا هذا القاضي على هضمه حق المتهم باهلين ذاهلين عن حقيقة تقول بإنهم قد صدقوا على حكم غوى عن القرآن والسنة والإجماع أي عن الشريعة والعدالة، فالجلد الذي حكم به هذا القاضي هو لا مرية الضرار والجور الذي أنزله ببريء وهو ما تتأذى به العدالة، ومن الأمثال التي أضربها هو ذلك القاضي الذي أصدر حكماً ضام به فتى ضارع عمره للتو عشرين عاماً.. شاء له عاثر الجد أن تزيغ به غواية الضلال فيتبع هواه ولم يستعفف عن حيازة كمية قدرها خمسة جرامات من الحشيش المخدر، وعندما مثل أمام القضاء فإذا بحاكم القضية ينزل به حكماً باطشاً تعاوره الجور من كل جنب، فقد حكم عليه بالسجن مدة اصَّاعدت إلى سنين خمس وجلده 900 جلدة ومنعه من السفر سنين خمس، إذ حام في ذهن هذا القاضي بأنه والغ في الإتجار بالمخدرات رغم تفاهة الكمية التي وجدت معه، فتفاهتها هي قرينة على أنه حازها للاستعمال، إلا أن ما ينبهم على المرء هو أنه حَكَم على المتهم الآخر الذي مَثُلَ أمامه مع هذا الفتى باعتباره الباذل للمخدر نظير مال، أقول.. حكم عليه بثلاث سنين.. هكذا رغم أنه قد قبض عليه متلبساً بحيازة خمسة وخمسين جراماً من المخدر.. إن هذا الحكم يشي بأن القاضي قد تعامه عن الحقائق.. ومن ثم تشابه عليه الأمر ووقر في ذهنه بأن الحائز للقدر التافه من المخدر تاجراً، بينما عدَّ الحائز للقدر الكبير مستعملاً أي إنه قلب الأمر عاليه على سافله، ولا أحد يخال أن هذا الحكم كان تأديباً وتهذيباً لذاك الفتى، فالبدائه تقول بأن هذا الفتى إذا ما ارتكس في غيابات السجن سنين طوال، سيختلف وهو ثاو فيه إلى من كان جباراً شقياً من المجرمين العتاة، فهو حين يؤاكلهم ويجالسهم سيزينون له الباطل ويلقون عليه دروساً يتعلم منها ضروباً من الجرائم هو على جهالة بها، وشاباً غراً كهذا تسهل غوايته، كما أن مكثه في السجن هذه السنين سيجعل جوانحه تجيش بضرام غل وضغينة على المجتمع بعد أن وقر في ذهنه بأنه قد ضيز بهذا الحكم الجائر، وعليه فإنه سيزيغ بعد خروجه في سهوب الغي والجريمة كرة أخرى إذا ما تغاوله العوز، لقد هام هذا القاضي(المطوع) في حكمه هذا عن حقيقة تقول بلزوم إنزال العقاب البديل فهو سيحسن صنعاً لو أنه حكم على الفتى بأداء خدمات للمجتمع لعام أو عامين، فالمتهم أضار بالمجتمع بسيئ فعال، وعليه فإنه ملزم بأن يعوضه بحسن فعال، ناهيك بأن خدمة كهذه يؤديها للمجتمع ستكون صادة له عن دروب الغواية والشين، وسيدرك وهو يمارس الخدمات البديلة أن العمل أجدى فهو تهذيب وتأديب، فهذا ما رأيته من أحكام أصدرها قضاة نصارى في محاكم فرنسا، فهم يحكمون على فتية كهؤلاء بأحكام بديلة، بها تقويم وتهذيب وإصلاح، وكأني بهم وقد أخذوا بأحكام شريعتنا التي هي شريعة عدل ورحمة نبراساً لهم، قال جل وعلا: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، إن هذا الحكم لدليل بتار على أن هذا القاضي حكم بمنطق المطوع لا منطق القاضي العادل، وهذا قاضٍ آخر في المحكمة الجزائية في الطائف يمنع المحامين من المرافعة.. إذ وقر في ذهنه بأنها رجس، باهلاً أو ربما غير آبه بوجود نظام للإجراءات الجزائية ونظام للمحاماة يلزمانه بالسماح لمحام أن يترافع عنهم، وها نحن نرى قاضياً آخر يحكم على امرأتين بأنهما خَبَّبَتَا امرأة على زوجها، أي إنهما حرضتاها كي تنأى عنه رغم أن ما فعلتاه هو مساعدتها بطعام وقليل مال بعد أن نأى عنها زوجها دون أن يهبها ما يقيها ضنك العيش، فأمست هي وأولادها فرائس لغوائل الجوع والمرض، هذا القاضي منع المتهمتين من مواجهة المجني عليها عندما طلبتا إحضارها أثناء المرافعة، فالمتهمتان طالبتاه بأن يواجههما بالمرأة التي قيل بأنهما قد خبَّبَتاها ليثبتا بشهادتها إفك زوجها الذي اتهمهما بذلك، إلا أن القاضي أبى الاتيان بالمرأة لسماع أقوالها كي يعرف الحقيقة، ثم راح يحكم الاثنتين بالحبس عشرة أشهر وهذا يقطع بأنه قد هتك بذلك المادة (164) من نظام الاجراءات الجزائية التي تقول: "لكل من الخصوم سماع من يرى من الشهود للنظر فيما يقدمه من أدلة، وأن يطلب القيام بإجراء معين من إجراءات التحقيق"، ومن يروز هذا الحكم سيستبين له أن من أصدره لم يهدر النظام فقط بل زاغ أيضاً نصوص القرآن والسنة التي أباحت للمتهم أن يدرأ التهمة عن نفسه، فالأصل في الإنسان هو البراءة من ثم فإنه له الحق بالذَّب عن نفسه ما استطاع لدرء التهمة، فإباء القاضي على المتهمتين الاتيان بتلك التي قيل بأنهما قد خببتاها فيه هتك لكتاب الله جل شأنه.. فهناك آيات كريمة يقطع معناها بأن البارئ جل وعلا شرع للمتهم حقه في الدفاع عن نفسه، ففي سورة يوسف ورد قوله تعالى: "قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72) قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73)"، وكذلك ما رواه البخاري عن حديث علي ابن أبي طالب الذي أبان فيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مكن لحاطب ابن أبي بلتعة تحاشي تهمة الخيانة عن نفسه، وذلك حين بعث لأهل مكة يخبرهم بغزو الرسول، إذ صدَّقه الرسول عليه السلام حين سمع ما ذبَّ به حاطب عن نفسه (انظر: بحث عن حقوق المتهم في الشريعة للدكتور صالح العقيل وكيل وزارة العدل - عدد 9 من مجلة العدل عام 1422ه - صفحة 12)، فالسماح للمتهم بأن يدرأ عن نفسه التهمة هو من البدائه التي تحتمها العدالة التي هي جوهر الشريعة، فقد أجمع الفقهاء على أن لكل طرف في الدعوى الاتيان بكل حجة لديه في مجلس القضاء فإن ادعى خصم أمامه أن له بينة غائبة فالقاضي ملزم بتلبية طلبه (انظر: المبسوط للسرخسي ج61 ص63، وتبصرة المقام لابن فرحون ج1 ص47، والشرح الكبير لابن قدامة ج4 ص46) وهو أمر بهله هذا القاضي، كما أن القاضي نفسه أبى أن يُطْلِعَ المتهمتين على الشكوى التي أثارها زوج المرأة والتي نهضت عليها الدعوى، أي إنه ظعن عمَّا ألزمت به المادة (161) من نظام الاجراءات الجزائية التي تقول: "توجه التهمة إلى المتهم في الجلسة وتتلى عليه لائحة الادعاء، وتوضح له ويعطى صورة منها"، ولا جدل أن الادعاء قد لاذ بالشكوى المقدمة من المدعي الخاص حين أثار هذه الدعوى، وعليه فإنه كان لزاماً على القاضي أن يبيح للمتهمتين الاطلاع على كنه الاتهام، زد على هذا بأنه حين حكم على الاثنتين بالحبس عشرة أشهر جعل خمسة أشهر كحق عام وخمسة أشهر أخرى كحق خاص، رغم أن المدعي الخاص أي زوج الكندية لم يطالب به، وهذا يعني أن القاضي هذا تبرع بالعقاب كتعويض من عنده أي أنه نصّب نفسه خصماً، فمن يتدبّر حكمه يلفيه قد تبدّى وكأن جوانحه قد احتشت على المتهمتين بغلّ، فما يقطع بهذا هو أن غلّه نأى به عن العدالة إذ راح يحكم على الاثنتين بخمسة أشهر كتعويض عن الحق الخاص رغم بطلان هذا في القانون والشرع فالقاضي هنا راغ عن حكم المادة (148) من نظام الاجراءات الجزائية والتي تقول: "لمن لحقه ضرر من الجريمة ولوارثه من بعده أن يطالب بحقه الخاص مهما بلغ مقداره أمام المحكمة المنظورة أمامها الدعوى"، فالسابر لدلالة هذا النص يراها قاطعة بأن التعويض عن الحق الخاص لا يكون إلا بمال وليس بعقاب جسدي كالحبس أو الجلد، ولا مرية أن إهدار القاضي لكل هذه المواد لدليل على أنه لا يدري شيئاً عن نظام الاجراءات الجزائية الأمر الذي لا يبيح شرعاً أن ينبري لنظر هذه القضايا لكن منطق المطوع كان عليه غالب.
- ومن الأمثال التي أضربها كعاصم لي فيما أقول، هو ذلك القاضي الذي أتاه شاب حديث الزواج كي ينهي عنده طلاقه من زوجته، وقد سأله القاضي كيف طلقها فأجابه بأنه قد طلقها إبان سورة غضب أخذت بمجامعه فزمّت به عن الروية والتبصر فطلقها ثلاثاً في مجلس واحد، وقد اعتبرها القاضي في بادئ الأمر طلقة واحدة وسجلها في الصك طلقة واحدة إلا أنه آب عمَّا ذهب إليه، وراح يجعلها ثلاثاً عقاباً به، فبانت عنه بينونة كبرى، ولا جدل أن القاضي بحكمه هذا عزب عن قوله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بالمعروف أو تسريح بإحسان"، بل وازدرى ما سنّه الرسول تنفيذاً لهذه الآية، وصدّ عمَّا أفتى به الغلبة الغالبة من فقهاء الشريعة.. وذلك كي ينزل عقاباً بهذا المسكين وكأن ما أتاه ذنباً لا يغتفر، إلا أنه لا يدري أن عاقبة حكمه هذا هو تشريد هذه الأسرة وإنزال الوبال بها فالبينونة الكبرى التي حكم بها هذا القاضي حالت دون أوبة الزوجة إلى بعلها رغم ندم هذا الأخير ورغبته في زوجته التي هي نفسها تبتغي الإياب وهذا محال بعد أن نأت عنه نأي الثريا.. وكل هذا بسبب هذا الحكم الجائر الذي عنَّ للقاضي فجأة.
- وقبل أن أنتهي من مقالي هذا أهتبل الفرصة كي أذكر عن الدعوى التي أقامها طليق امرأة عليها أمام قاضٍ بمحكمة الرياض، فقد اتهم المرأة زوراً وبهتاناً بأنها على وشيجة مريبة برجل آخر يسكن في جدة هكذا.. والغريب أن هذا القاضي انبرى لنظر قضية المرأة هذه رغم صدور حكم نهائي من محكمة جدة مصدق عليه من الاستئناف قضى ببراءتها وبراءة ذلك الذي اتهمه طليقها بأنه كان خليلها، فهذا ما دفع به محاميها إلا أن القاضي لم يأبه بهذا الحكم النهائي، وبدلاً من تطبيق قرار مجلس الوزراء رقم (94) الصادر في 25/4/1406ه الذي أمر بتعزير من يتقدم بدعوى في قضية انتهت بحكم نهائي (كالمدعي هنا).. راح القاضي يتصدى بترحاب لهذه القضية ويحكم على هذه المسكينة بالحبس ستة أشهر ومنعٍ من السفر لعامين، فالقاضي لم يرعو عن التصدي لقضية صدر فيها حكم نهائي، أي إنه ازدرى حكماً أصدره القضاء من محكمة مختصة دليل على أنه تنكب ما أجمع عليه الفقهاء في الشريعة حين قالوا: "إن الدعوى إذا فصل فيها وحكم فيها بمقتضى الشرع لا تخالف القرآن ولا السنة ولا الإجماع لا تنقض ولا تعاد" (انظر: العقود الدرية - جزء 1 صفحة 298، وكذلك أدب القضاء لابن أبي الدم - القاعدة 14 - مخطوط بدار الكتب، وانظر أيضاً نظرية الدعوى في الشريعة - رسالة لنعيم ياسين - جزء 2 - صفحة 227/228)، بل هو أيضاً هنا هتك نظام المرافعات الذي هو نفسه ملزمة باتباعه، فالحكم الذي صدر من قبل في هذه القضية حكم قطعي ونهائي، لأنه قد صدق عليه من محكمة الاستئناف (التمييز) فهذا ما نصت عليه المادة (192/1) الفقرة د، وحكم كهذا يحوز الحجية الكاملة وهو ما يطلق عليه (حجية الشيء المقضي فيه - autorité de la chose jugée) وحكم كهذا لا يجوز العدول عنه أو عرضه أو عرض ما تم الفصل فيه على محكمة أخرى، فهذا ما ورد في شروح فقهاء قانون المرافعات (انظر: رمزي سيف - شرح قانون المرافعات المصري - صفحة 722 - عام 1962م).
- لا أحد ينكر جهود صاحب السماحة رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل كي يرفع مستوى أداء سلطة القضاء، والواقع أن نيته خالصة وجهده لا يبارى، وفي اعتقادي أنه أحسن من تولى رئاسة سلطة القضاء فقد فعل الكثير في سبيل الرفعة به، رغم أن التركة التي استخلفها كانت ثقيلة، ونصبت نفسها مجنَّا يدرأ عنه كل تطوير فجمّ هذا كله بما تعاوره من مثالب يتشكى ويتأذى منها كل من له خصومة في القضاء، ومهما يكن من أمر فإنني أكرر هنا أن تطوير مناهج معهد القضاء وكلية الشريعة هو مقطع الذراع في الوصول إلى ما نرتجيه، فهي ما ونت مع الأسف على حالها، لذا فإن كل الجهود والتشريعات التي تصدر لتحسين أداء القضاء ستكون ضلعاء، ورجائي فيما أقول هو أن التشريعات الجديدة كنظام المرافعات ونظام الاجراءات الجزائية وغير ذلك من الأنظمة لن يحظوا بالتطبيق الصحيح الكامل إلا إذا أوجدنا قضاة لهم من التأهيل والعلم يجعلهم قادرين على تطبيقها، فبالله كيف توجد محاكم تجارية إذا كان الذين تخرجوا كليات الشريعة ومعهد القضاء لا يدرون شيئاً عن القانون التجاري، فهم لا يدرسون نظرية العمل التجاري في هذه المعاهد ولا أحكام الشركات ولا أحكام الأوراق التجارية ولا قواعد عمليات البنوك ولا عمليات الإفلاس، ثم كيف توجد محاكم للعمال بينما هؤلاء الخريجين لا يدرون شيئاً عن قانون العمل ولا أحكام التأمينات الاجتماعية، ثم إني لا أدري كيف يعيّن قضاة في المحاكم الجزائية وهم لا يدرون شيئاً عن نظام الاجراءات الجزائية ولا عن التشريعات الجزائية التي صدرت لبعض الجرائم كجرائم الرشوة والمخدرات والتزوير والتزييف والغش التجاري وغير ذلك، ومهما يكن من أمر فإنه يستطاع قبل تطوير مناهج المعهد العالي للقضاء "لأنها وإن عُدّلت فإنها لن تأتي بأكُلها قبل خمس سنين" أقول يستطاع الإتيان بمساعدين قضائيين متخصصين "ويا حبذا أن يكونوا من القضاة المتقاعدين في مصر" يُساعدون القضاة ويدرسون لهم القضايا وفي هذا لا شك تحسين لأداء القضاء وإسراع في البت في القضايا المعروضة أمامهم، فهذا أمر وعدنا به صاحب السماحة رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل.. ووعد الحر دين عليه.

رابط الخبر :

_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..