الاثنين، 3 فبراير 2014

امرؤ القيس بن حُجْر: رحلته إلى الشرق أو إلى الغرب؟

                                                                  "القسم الآول"
يذهب بعض الجغرافيين إلى أن رحلة امرىء القيس بن جُحْر – التي رافقه فيها عمرو بن قَمِيئة - كانت
إلى الهند ولم تكن إلى القسطنطينية عاصمة بلاد الروم، ويستدلّون على زعمهم هذا من تحديدهم موقع بعض المواضع التي وردت في شعر ابن قميئة رفيقه في السفر.
وللوصول إلى الحقيقة لا بدَّ من معرفة الطريق الذي سلكه امرؤ القيس في هذه الرحلة، والذي انتهى به إلى الموضع الذي حَطَّ فيه قدميه، ومن ثَمَّ كانت له فيه أخبار وأشعار ونهاية حياة. هذه الحقيقة – التي تنازع جوهرَها وتجاذب أطرافَها ثلاثةُ محاور يأخذ بعضها برقاب بعض، يشدّه حيناً، ويؤازره حيناً آخر - تشكّل الأساس الذي يقوم عليه هذا البحث.
فأوّل هذه المحاور: يعتمد على ما ذكرته كتب الأدب العام بخاصة، وكتب الأخبار والتاريخ عن سبب رحلة امرىء القيس، والديار التي مرَّ بها في طريقه إلى قيصر ملك الروم.
وثانيها: يحتجّ بما يزوّدنا به ديوانا امرىء القيس وعمرو بن قميئة من أشعار تبيّن بعض المواضع التي سلكاها وجابا خلالها أو مرَّا بها، بحيث تقطع في محتواها ومضمونها بمسيرهما إلى ملك الروم، وكذلك بما تزوّدنا به كتب الأدب العام والتاريخ والطبقات والتراجم من أحوال وأخبار مرافقة لشعر هذين الشاعرين الذي قيل في هذه الرحلة، تنتهي بنا إلى الغاية التي قصدنا إثباتها، وأردنا الوصول إليها.
وثالثها: يقوم على ما ورد في كتب الجغرافيين من أقوال تشير إلى اختلافهم، أو اتفاقهم في تعيين موقع بعض المواضع التي سلكها امرؤ القيس وعمرو بن قميئة في رحلتهما إلى قيصر، والخروج منها برأي واضح قطع العلماء فيه القول، وفصلوا فيه الخلاف بينهم.
* * *
(1)
يذكر صاحب الأغاني في خبر يردّه إلى ابن الكلبي أن حُجْراً لم يكن راضياً عن ابنه امرىء القيس، فطرده من عنده "وآلى ألاَّ يقيم معه أَنَفَةً من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنَف من ذلك، فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاطٌ من شُذَّاذ العرب من طيِّىء وكلب وبَكر بن وائل؛ فإذا صادف غديراً أو روضةً أو موضع صيد، أقام فذبح لمن معه في كل يوم؛ وخرج إلى الصيد فتصيَّد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنَّته قِيانُه، ولا يزال كذلك حتى يَنْفَدَ ماءُ ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره". واستمرّ امرؤ القيس في هذه الحياة العابثة حتى "أتاه خبر أبيه ومقتله وهو بِدَمُّون من أرض اليمن، أتاه به رجلٌ من بني عِجل يقال له عامر الأعور أخو الوَصَّاف. فلما أتاه بذلك قال:
تَطَاوَلَ الليلُ عَلَى دَمُّونْ دَمُّونُ إنَّا معشرٌ يمانونْ
وإنَّنـا لأهْلِهـا مُحِبُّـونْ
ثم قال: ضَيَّعني صغيراً وحمَّلني دَمَه كبيراً، لا صَحْوَ اليوم، ولا سُكرَ غداً، اليومَ خمرٌ، وغداً أمر، فذهبتْ مثلاً. ثم قال:
خليليَّ لا في اليومِ مَصْحًى لِشارِبٍ ولا في غَدٍ إذْ ذَاكَ ما كان يُشْرَبُ

ثم شرب سبعاً، فلم صَحَا آلَى ألاَّ يأكلَ لحماً، ولا يشربَ خمراً، ولا يَدَّهِنَ بدُهن، ولا يصيبَ امرأةً، ولا يغسِلَ رأسه من جنابة، حتى يُدرك بثأره".
وفي رواية أخرى أن حُجْراً طرد ابنه امرأ القيس "لِمَا صَنَع في الشعر بفاطمة ما صنع، وكان لها عاشقاً، فطلبها زماناً فلم يصل إليها، وكان يطلب منها غِرَّة حتى كان منها يومَ الغدير بدَارةِ جُلْجُلٍ ما كان، فقال:
* قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ*"
فلما بلغ ذلك حُجْراً غضب، وأَوْصَى مولى له يقال له ربيعة بقتله، ثم طرده، وقيل: إنما طرده لأنه تغزَّل بامرأة من نساء أبيه.
فلما طرده والده، صار يتجول في الآفاق يجمع إليه طائفة من الصعاليك والذؤبان والشذاذ من أحياء طيِّىء وكلب وبكر، وأخذ يتنقّل بهم في منازل العرب، ويغير بهم على أحيائها، ويقاسمهم ما تناله أيديهم أو ما يقع لهم من الصيد، ثم يذهب بهم إلى المناهل والغدران والرياض، يذبح لهم، ويؤاكلهم، ويعاقرهم الخمر، وينشدهم الشعر، وتغنّيهم قيانه، حتى جاءه خبر مقتل والده، فنبذ هذه الحياة وصمّم على الأخذ بالثأر من قَتَلة أبيه.
ولم يزل امرؤ القيس مع صعاليك العرب حتى أتاه نبأ مقتل والده وهو بدمُّون من أرض اليمن على رواية ابن الكلبي، وفي رواية أخرى تنسب إلى الهيثم بن عدي "أن امرأ القيس لمَّا قُتِل أبوه كان غلاماً قد ترعرع، وكان في بني حَنظلة مقيماً لأن ظِئْرَه كانت امرأةً منهم. فلما بلغه ذلك قال:

يا لَهْفَ هندٍ إذْ خَطِئْنَ كاهلاَ 
تاللهِ لا يَذْهَبُ شيخي باطِلاَ
وخيرَهُمْ - قد عَلِمُوا- فواضِلا
وحيَّ صَعبٍ والوَشِيجَ الذَّابِلا 
القاتِلينَ المَلِكَ الحُلاحِلاَ
 يا خيرَ شيخ حَسَباً ونائِلا
 يَحمِلْننا والأَسَلَ النَّواهِلا
مُسْتَثْفِراتٍ بالحَصَى جَوَافِلا"
وقيل: إن امرأ القيس حين نعِي إليه أبوه وهو بدمُّون من حضرموت قال:

أتَاني وأصحابي على رأْسِ صَيْلَعٍ 
فقلتُ لِعِجْليٍّ بعيدٍ مآبُهُ:
فقال: أَبيتَ اللعْنَ، عَمْرٌو وكاهِلٌ 
حديثٌ أَطَارَ النَّوْمَ عَنِّي فأَنْعَمَا
أَبِنْ لي وبَيِّنْ لي الحديثَ المُجَمْجَما
أباحَا حِمَى حُجْرٍ فأَصْبَحَ مُسْلَمَا
ويفهم من هذه الأبيات أن امرأ القيس كان في "صيلع" عندما بلغه نبأ مقتل والده، أتاه به رجل اسمه عِجْل، ويُعْرف بعامر الأعور، ويذكر ياقوت الحموي أن في "صيلع" ورد الخبر على امرىء القيس بمقتل أبيه حُجْر.
وفي خبر آخر يفيد أنه نزل في "بني دارم"، وبقي عندهم حتى قتل عمه شرحبيل، وفي رواية مرجعها الهيثم بن عدي أيضاً أنه كان مع والده حُجْر - في جمع من قومه كندة- عندما هاجمته بنو أسد وقتلته، وأنه هرب على فرس له شقراء، وتمكّن من النجاة.
ويروي ابن السكيت أنه لمَّا طعن الأسديُّ حُجْراً ولم يجهز عليه، أوصى ودفع كتابَه إلى رجل، وطلب منه أن يستقري أولاده واحداً واحداً حتى يأتي امرأ القيس، ففعل، فلما أتى امرأ القيس وجده "مع نديم له يشرب الخمر ويُلاعبه بالنَّرد؛ فقال له: قُتِلَ حُجْر. فلم يلتفت إلى قوله؛ وأمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس: اضربْ فضرب. حتى إذا فرغَ قال: ما كنتُ لأفسد عليك دَسْتك. ثم سأل الرسولَ عن أمر أبيه كُلِّه فأَخبره. فقال: الخمرُ عليَّ والنساء حرامٌ حتى أقتُل من بني أسد مائة وأجُزَّ نواصيَ مائة. وفي ذلك يقول:
أرِقتُ ولم يأرَقْ لِمَا بيَ نافعُ وهاج لي الشوقَ الهمومُ الروادعُ"
وتناقض رواية ابن السكيت رواية أوثق منها تنسب إلى الهيثم بن عدي، وهي الرواية الوحيدة - من بين روايات أربع ذكرها أبو الفرج- التي تقرّر أن امرأ القيس شهد لقاء كندة مع بني أسد، وأنه هرب على فرس له شقراء، وأعجزهم اللحاق به. ونستطيع أن نوفّق بين هذه الروايات جميعها، إذا ذهبنا في التأويل إلى أنه فرَّ من المعركة بعد أن هُزم قومه، وقبل أن يقتل أبوه، وأن الخبر جاءه هارباً في دَمُّون.
ويذكر ابن الكلبي ويعقوب بن السكيت أن امرأ القيس ارتحل - بعد أن أتاه نبأ مقتل والده- حتى نزل بكراً وتغلب، فسألهم النصر على بني أسد، فبعث العيونَ على بني أسد فَنَذِروا بالعيون ولجأوا إلى بني كنانة، ثم علموا أن امرأ القيس يتعقّبهم، فارتحلوا عن بني كنانة ليلاً دون أن يشعروا، فلما وصل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب إلى بني كنانة ظانّاً بني أسد بينهم، نادى: يا لِثارات الملك! يا لِثارات الهُمام! فأخبروه أن بني أسد قد تركوهم وارتحلوا عنهم، فقال في ذلك:

أَلا يا لَهْفَ هِنْدٍ إثرَ قَوْمٍ 
وقاهُمْ جَدُّهُمْ بِبَنِي أَبِيهِمْ
وأَفْلَتَهُنَّ عِلباءٌ جَريضاً 
هُمُ كانوا الشِّفاءَ فلم يُصابوا
 وبالأَشْقَيْنَ ما كان العِقابُ
ولو أَدْرَكْنَه صَفِرَ الوِطابُ
وتتبّعهم امرؤ القيس حتى أدركهم فقاتلهم فكثرت الجرحى والقتلى فيهم، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد، فلما أصبحت بكر وتغلبُ أَبَوْا أن يتَّبعوهم، وقالوا له: "قد أصبتَ ثأرَك. قال: والله، ما فعلتُ ولا أصبتُ من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحداً. قالوا: بَلَى، ولكنك رجل مشؤوم، وكرهوا قتالهم بني كنانة، وانصرفوا عنه، ومضى هارباً لوجهه حتى لحق بحميرَ".
ويشير ابن قتيبة إلى أن امرأ القيس سار إلى بني أسد عندما لجأوا إلى بني كنانة، فأوقع ببني كنانة، ونجتْ بنو كاهل من بني أسد؛ فقال:
يا لَهْفَ نَفْسِي إذْ خَطِئْنَ كاهـِلا القاتِلِـينَ المَلِكَ الحُلاحـِلا
تاللهِ لا يَذْهَبُ شيخي باطِلا
وذكر امرؤ القيس في شعره أنه ظفر بهم، فتأبَّى عليه ذلك الشعراء؛ قال عَبيد:

يا ذَا المُخَوِّفُنا بِقَتْـ 
أَزَعَمْتَ أَنَّك قد قَتَلْـ
ـلِ أبِيهِ إذلالاً وَحَيْنَا
 ــتَ سَرَاتنا كَذِباً وَمَيْنا
وفي رواية يرجعها الإخباريون إلى ابن السكيت: "أن امرأ القيس لما أقبل من الحرب على فرسه الشَّقراء لجأ إلى ابن عمته عمرو بن المُنذر – وأُمّه هند بنت عمرو بن حُجْر بن آكل المُرار، وذلك بعد قتل أبيه وأعمامه وتَفرُّقِ مُلكِ أهل بيته، وكان عمرو يومئذٍ خليفةً لأبيه المنذر ببَقَّة وهي بين الأنبار وهِيتَ- فمدحه وذكر صِهرَه ورحمه وأنه قد تعلق بحباله ولجأ إليه، فأجاره، ومكث عنده زماناً. ثم بلغ المنذرَ مكانُه عنده فطلبه، وأنذره عمرو فهرب حتى أتى حمير".
ويقول ابن الكلبي والهيثم بن عَدي وعمر بن شبَّة وابن قتيبة: إنَّ امرأ القيس خرج من فوره –بعد امتناع بكر بن وائل وتغلب من اتباع بني أسد- إلى اليمن " فاستنصر أزدَ شَنُوءةَ؛ فأَبَوْا أن ينصروه وقالوا: إخواننا وجيرانُنا. فنزل بقَيْلٍ يُدْعى مَرْثَد الخير بنَ ذي جَدَن الحميريّ، وكانت بينهما قَرابة، فاستنصره واستمدّه على بني أسد؛ فأمدّه بخمسمائة رجل من حِميَر؛ ومات مَرثد قبل رحيل امرىء القيس بهم، وقام بالمملكة بعده رجلٌ من حمير يقال له قَرْمَل ابن الحُمَيْم وكانت أمّه سوداء، فردّد امرأ القيس وطوَّل عليه حتى همّ بالانصراف؛ وقال:

وإذْ نَحْن نَدْعُو مَرْثَدَ الخَيْرِ رَبَّنا 
وإذْ نَحْنُ لا نُدْعَى عَبيداً لِقَرْمَلِ
فأنفذَ له ذلك الجيشَ؛ وتبِعه شُذَّاذٌ من العرب، واستأجر من قبائل العرب رجالاً، فسار بهم إلى بني أسد. ومرَّ بتَبَالةَ وبها صنم للعرب تعظِّمه يقال له ذو الخَلَصة؛ فاستقسم عنده بقِداحه وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربّص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي؛ فجمعها وكسرها وضرب بها وجهَ الصنم وقال: مَصِصْتَ بَظْرَ أُمّك! لو أبوك قُتِل ما عُقتَني. ثم خرج فظفِر ببني أسد".
فلما أوقع بهم، وأدرك ثأر أبيه فيهم؛ قال:
قُولاَ لِدُودَانَ عبيدِ العَصَا
قد قَرَّتِ العَيْنانِ من مالِكٍٍ 
ومن بَني غَنْم بنِ دُودانَ إذْ
.......
حَلَّتْ ليَ الخَمْرُ وكنتُ امْرَأً
فاليومَ أُسْقَى غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ

ما غَرَّكُمْ بالأَسَدِ الباسِلِ!
ومن بَني عَمْرٍو ومِنْ كاهِلِ 

نَقْذِفُ أعلاهمْ على السَّافِلِ

عن شُرْبِها في شُغُلٍ شاغِلِ
إثماً مِنَ الله ولا واغِلِ

"وألحّ المنذر في طلب امرىء القيس ووجَّه الجيوش في طلبه من إياد وبَهراء وتَنوخ ولم تكن لهم طاقة، وأمدّه أنوشروان بجيش من الأساورة فسرَّحهم في طلبه. وتفرَّقت حِميَرُ ومن كان معه عنه. فنجا في عُصبة من بني آكل المُرار حتى نزل بالحارث بن شِهاب من بني يَربوع ابن حَنظلة، ومع امرىء القيس أدراع خمسة: الفضفاضة والضافية والمحصِّنة والخريق وأُم الذيول كُنَّ لبني آكل المرار يتوارثونها مَلِكاً عن ملك. فقلَّما لبِثوا عند الحارث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يُوعِده بالحرب إن لم يُسْلم إليه بني آكل المُرار فأسلمهم؛ ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحارث وبنته هند (بنت امرىء القيس) والأَدرُع والسلاح ومال كان بقي معه؛ فخرج على وجهه حتى وقع في أرض طيِّىء؛ وقيل: بل نزل قبلَهم على سعد بن الضِّباب الإيادي سيِّدِ قومه فأجاره"، ومدحه امرؤ القيس.ويفهم من هذه الأبيات أنه أوقع في بطون بني أسد، في: "بني دودان" و "بني مالك" و "بني عمرو" و "بني كاهل" و " بني غنم بن دودان"، وهي التي قتلت أباه جُحْراً، قالها بعد أن أنجده قرمل بن الحميم الحميري، وأنه "ألبسهم الدروع البيض محماة، وكحّلهم بالنار"، فبرّ بيمينه، وحلّ له شرب الخمر.
ثم إن امرأ القيس تحول عنه فنزل برجل من بَني جَديلة طيِّىء يقال له المعلَّى بن تَيْم، وكان أجاره والمنذر بن ماء السماء يطلبه فمنعه ووَفَى له، ولم يكن للملكين: ملك العراق وهو المنذر، وملك الشآم وهو الحارث بن أبي شمر الغساني اقتدار عليه، وفي ذلك يقول:

كأني إذا نزلتُ على المُعَلَّى 
فما مَلِكُ العراقِ على المعلَّى
أقَرَّ حَشَا امرىء القيس بن جُحْرٍ
نزلتُ على البَوَاذِخِ من شَمامِ
بمقتدرٍ ولا مَلِكُ الشآمِ
 بنو تَيْمٍ مصابيحُ الظلامِ
وقد لبث عنده زماناً، ثم اضطرّ إلى الارتحال عنه، فخرج ونزل ببني نبهان من طيِّىء على خالد بن أصمع النبهاني، فكان عندهم ما شاء الله، ثم خرج فنزل بعامر بن جُوَيْن وهو يومئذٍ أحد الخُلَعاء الفُتَّاك قد تبرَّأ قومُه من جرائره، فبقي عنده زماناً، ثم أحسَّ منه ما رابه، إذ أراد أن يغلب امرأ القيس على ماله وأهله، ففطِن امرؤ القيس لذلك بشعر كان عامر ينطق به، وهو قوله:

فكم بالصَّعيدِ من هِجانٍ مؤَبَّلَهْ 
أردتُ بها فَتكاً فلم أَرْتَمِضْله
تَسيرُ صِحاحاً ذاتَ قيدٍ ومُرْسَلَهْ
 ونهنهتُ نفسي بعدما كدتُ أَفْعَلَهْ
فلما خافه على أهله وماله تغفَّله وانتقل إلى رجل من بني ثُعَل يقال له حارِثة بن مُرّ فاستجار به، فوقعت الحرب بين عامر وبين الثُّعَلي.
وفي ديوان امرىء القيس من رواية الأصمعي أن امرأ القيس تحوّل عن خالد بن أصمع النبهاني فنزل على جاريةَ بن مُرّ بن حنبل أخي بني ثُعل، فأجاره وأكرمه.
فلما وقعت الحرب بين طيِّىء من أجل امرىء القيس، خرج من عندهم، ونزل برجل من بني فَزارة يقال له: عمرو بن جابر بن مازِن، وكان كثير التردّد على قيصر امبراطور بيزنطة والنعمان ملك الحيرة، فطلب منه الجوار حتى يرى ذات عَيبة، فأشار عليه الفَزاري بالذهاب إلى السموأل بن عادياء بتيماء، فوافق، وأرسله في صحبة رجلٍ من بني فَزارة يقال له: الرَّبيع بن ضُبَع الفَزاري كان ممن يأتي السموأل فيحمِلُه ويُعطيه، فوفد الفزاري بامرىء القيس إليه، فنزل عنده وأكرمه وعرف له حقَّه. ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شَمِر الغسَّاني بالشام ليوصله إلى قيصر، فاستنجد له رجلاً، واستودع عنده ابنته هنداً وأدراعه وأمواله، وأقام مع ابنته "يزيد بن معاوية بن الحارث" ابن عمه، وخرج حتى انتهى إلى قيصر.
ويرى جرجي زيدان أن امرأ القيس أتى السموأل لمَّا تنكَّرت له القبائل في اليمن ونجد والحجاز، فلم يجرهُ أحد "فاستجاره فأجاره... وهو لا يرى من يستنصره على أعدائه إلاَّ قيصر الروم، لأن ملوك الحيرة عمال الفرس نصروا أعداءه على جاري عادة العرب في ذلك العهد، إذا تظلَّموا من إحدى هاتين الدولتين استنصروا الأخرى". في حين يزعم بعض المؤرخين أن امرأ القيس قَرَّر أن يذهب إلى القسطنطينية ليستنجد بملك الروم لأن قبائل العرب رفضت نصرته خوفاً من بني أسد، وخوفاً من إغضاب المناذرة والفرس، وهو زعم يحتاج – في شقّه الأول - إلى إعادة النظر، ليس هذا محّله.
وثمة تأويل آخر نذهب إليه أن امرأ القيس ربّما فكَّر خلال إقامته في بني فزارة –عند عمرو بن جابر بن مازن - أن يطلب العون والمدد من امبراطور بيزنطة، ولعله سمع عنه كثيراً منه، وقد يكون الذهاب إلى قيصر اقتراحاً من مجيره الفزاري، وقوَّاه الحارث الغسَّاني. إذ يوحي الخبر السابق أن الحارث شجَّعه على الرحلة، وقَبِل أن يقدّمه إلى قيصر، لوجود هدف مشترك يجمع بينهما، فكان الغساسنة، ممثلو بيزنطة في الشام، أعداء ألداء للمناذرة في الحيرة، وقد كان لهؤلاء – بمعاونة الفرس- الدور الكبير في تحطيم ملك كندة وملاحقة امرىء القيس، الأمر الذي جعل كلمتهم هي النافذة بين القبائل الضاربة في شرق الجزيرة الشمالي ونجد، وكان للغساسنة وبيزنطة مصلحة عامة في دعم امرىء القيس لاستعادة سلطانه، كي يصبح شوكة في ظهر المناذرة خصومهم التقليديين.
ويذكر الإخباريون أن قيصر قَبِل امرأ القيس وأكرمه، وصارت له منزلة عنده ونادمه، وأنه دخل معه الحمام، وأن ابنته نظرت إليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه. ويذكرون كذلك أن قيصر أنجد امرأ القيس وبعث معه جيشاً كثيفاً فيهم جماعة من أبناء ملوك الروم، إذ طمع أن يكون له قوة في العرب يقاوم بها نفوذ الأكاسرة. ولكنَّ رجلاً من بني أسد يقال له الطَّمَّاح كان امرؤ القيس قد قتل أخاً له، لحق بامرىء القيس حتى أتى إلى بلاد الروم فأقام مستخفياً، فلما ارتحل امرؤ القيس قال لقيصر قوم من أصحابه: "إن العرب قومُ غدرٍ، ولا تأمن أن يظفر بما يريد ثم يغزوك بمن بعثتَ معه". وفي رواية لابن الكلبي أن الطمَّاح قال لقيصر: "إن امرأ القيس غَوِيٌّ عاهرٌ وإنه لمَّا انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتَك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعاراً يُشهِّرها بها في العرب فيفضَحُها ويفضحك". فبعث إليه حينئذٍ بحُلَّة وَشيٍ مسمومة منسوجة بالذهب وقال له: " إني أرسلت إليك بحُلَّتي التي كنت أَلبَسُها تَكرِمةً لك، فإذا وصلتْ إليك فالبسها باليُمن والبركة، واكتب إليَّ بخبرك من منزلٍ منزلٍ". فلما وصلت إليه لبِسها واشتدَّ سروره بها؛ فأسرع فيه السمّ وسقط جلده؛ فلذلك سمّي ذا القروح، فلما وصل إلى بلدة من بلاد الروم تُدعى أَنْقِرةَ احتُضر بها.
ويرى اليعقوبي في وشاية الطمَّاح الأسدي بامرىء القيس رؤية أخرى تغاير –كل المغايرة- رواية صاحب الأغاني، فهو يزعم أن امرأ القيس مدح قيصر فسار الطمَّاح الأسدي إلى قيصر؛ فقال له: "إن امرأ القيس شتمك في شعره وزعم أنك علج أغلف. فوجّه قيصر إلى امرىء القيس بحُلَّة قد نضج فيها السمّ، فلما أُلبسها تقطع جلده وأيقن بالموت". في حين يذكر ابن كثير أن امرأ القيس "امتدح قيصر ملك الروم يستنجده في بعض الحروب ويسترفده، فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك، فيقال إنه سقاه سمّاً فقتله".
أما أبو الفداء فيشكك في صحة الخبر المروي عن الحلة، فيقول: "وقد قيل إن ملك الروم سَمّه في حلة وهو عندي من الخرافات"، ويستنكر جرجي زيدان مدى فاعلية هذا السمّ في القتل، فيقول أيضاً: "ولا نعرف سمّاً يفعل هذا الفعل، وعلى كل حال فإن امرأ القيس قتل ولم ينل أرباً"، ويفنِّد أحد محرّري دائرة المعارف الإسلامية رأي القدماء في موت امرىء القيس بالحُلَّة المسمومة بقوله: "وتزعم الرواية العربية أن يوستينيانُس أراد أن يثأر لشرفه الذي لوثه امرؤ القيس بتغريره بابنته فخلع عليه حلَّة فظهرت في جسمه قروح، ومن ثم عرف بذي القروح، والحق أنه لم يكن ببلاط يوستينيانُس أو ببلاط خلفه يوستنيوس أميرة لها نفس الأوصاف التي ذكرها امرؤ القيس".
ويبدو أن هذه الرواية – القائلة بموت امرىء القيس مسموماً بالحُلَّة، وعلاقته بابنة القيصر التي كانت وراء حتفه- قد شغلت بعض المستشرقين في ترجماتهم لامرىء القيس؛ فيرى بروكلمان أن فجور هذا الشاعر بإحدى بنات ملك الروم، ثم أمره بقتله في أنقرة وهو في طريق عودته – مخترع عليه؛ لأنه كثيراً ما كان يفاخر بمغامراته مع النساء، وأن قصة موته محترقاً لأنه لبس حلة مسمومة منحولة عليه أيضاً، ويعلّل منشأ ذلك – عند مَنْ ذهبوا هذا المذهب- سوء فهم بعض الأبيات من قصيدته: وبُدِّلْتُ قرحاً دامياً بعد صحة.
ولعل من أفضل الآراء في هذا الباب رأي الأستاذ حسن السندوبي الذي عرض لمسألة الحُلَّة وموت امرىء القيس، فهو يقول: "من تضارب هذه الأقوال يرجّح أن مسألة الحُلَّة لا أصل لها: وإذا كان القيصر يريد إهداءه شيئاً لقدّم إليه الهدية وهو عنده ولم يرسلها مع رسول بعد انفصاله عنه، وأن وشاية الطمَّاح لم تترك لها أثراً في نفس القيصر وإلاَّ لما أقام له هذا التمثال. ومن المعروف أن قياصرة الروم كانوا يتودَّدون إلى العرب ويتألفونهم ليكونوا في جانبهم ضدَّ أكاسرة الفرس الذين كانوا معهم في نزاع دائم. والظاهر أن الطمَّاح هو الذي أُصيب بداء الجدري وسرت عدواه منه إلى امرىء القيس فتأثر به أشدّ تأثر حتى قضي عليه. ولذلك سمّاه في بيتيه الآتيين داءً ولم يسمّه سمّاً، وفي ذلك يقول امرؤ القيس:

لَقَدْ طَمَحَ الطَّمَّاحُ مِنْ بُعْدِ أَرْضِهِ
فَلَوْ أَنَّها نَفْسٌ تَموتُ سَوِيَّةً 
 لِيُلْبِسَني من دَائِهِ ما تَلَبَّسَا
ولكنَّها نَفْسٌ تَساقَطُ أَنْفُسَا "
ويعلّق على البيت الأول بقوله: "عبَّر عن العدوى بالإلباس ولذلك سمّاه داءً. وقال: ما تلبسا، يريد ما أُصيب به في هذا الداء. ولعل الرواة قد أخذوا بظاهر اللفظ فتوهموا أن هناك حلة تلبس".
إن ما انتهى إليه السندوبي من تفسير لبيت امرىء القيس، وما ترتَّب عليه من نتيجة قد قال به المؤرخون قبله وبعده، في القديم والحديث، فذكر بعضهم أن امرأ القيس كان مصاباً بداء قديم، ويغلب على الظن أنه – كما ذكر أبو الفداء- قرحة قد طالت به، وقد ذكر ذلك في شعره، وأن هذا الداء عاوده في بلاد الروم بعد منصرفه عن قيصر، فلما وصل إلى أنقرة ثَقُلَ واشتدّ عليه المرض، فمات هناك. أو أن السمَّ فتك به، فتوفّي في هذه المدينة. وفي رأي آخر يفيد أن امرأ القيس كان مصاباً بخلل جنسي في بنيته، وانعكس ذلك في التهاب جلدي لأن العلاقة بين أمراض الجنس وأمراض الجلد مقرّرة علمياً، وأن المرض هو الذي أودى به في الحقيقة. وفي رواية للأصمعي أن امرأ القيس لمَّا بلغ أنقرة – بعد وشاية الأسدي به إلى قيصر- طُعِن وقُتِل وارفضَّ عنه أصحابه.
والذي يبدو – من تجميع هذه الأخبار- أن امرأ القيس أُصيب بمرض هلك فيه، سواء أكان داءً قديماً أو عدوى سرت إليه من غيره؛ لأنه يتردّد صدى هذه الحادثة في شعره، وأن الأقوال الأخرى التي ذكرت موته بغير المرض هي من قبيل الاحتمال والتأويل والظن أو من نسج الرواة العرب. ويذكر أنه – بعد ذلك- رأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك فدُفنت في سفح جبل يقال له: عَسيب؛ فسأل عنها فأخبر بقصتها، ثم مات فدُفن إلى جنب المرأة فقبره هناك. وأشار البحتري إلى قبره بأرض الروم في إحدى قصائده؛ فقال:

وأَزَرْتَ الخُيُولَ قَبْر "امْرِىء القَيْـ 
سِ" سِرَاعاً فعُدْنَ منه بِطَاءَ
وفي الخبر الذي ضمَّنه الأب لويس شيخو اليسوعي ترجمة امرىء القيس إضافة جديدة لنا عن رحلة هذا الشاعر إلى قيصر، ومن ثم تولّيه إمرة فلسطين، ودائه الذي كان سبباً في موته، وقد رأيت أن أذكر قوله كاملاً لأهميته في هذا المجال؛ فهو يشير إلى أن امرأ القيس قد جاء ذكره في "تواريخ الروم مثل نونوز وبركوب وغيرهما وهم يسمّونه قيساً، وقد ذكروا أنه قبل وروده على قيصر يوستينيانُس أرسل إليه [بواسطة الحارث الخامس الغساني] وفداً يطلب منه النجدة على بني أسد وعلى المنذر ملك العراق، [دفعه إلى ذلك ما كان يعرفه عن العهد المعقود بين جدّه الحارث وانسطاس قيصر، الامبراطور الأسبق] ، وكان مع الوفد ابنهُ معاوية سيَّره امرؤ القيس إلى قيصر ليبقى عنده كرهن. فكتب قيصر إلى النجاشي يأمره أن يجنِّد الجنود ويسير إلى اليمن ويعيد الملك لصاحبه، ولعلَّ هذا الوفد أرسله امرؤ القيس لمَّا كان عند بني طيِّىء وطال عندهم مكثه. ثم أخبر المؤرخون المومأ إليهم أن امرأ القيس لم يلبث أن سار بنفسه إلى قسطنطينية، فرغبهُ قيصر ووعده. وقد ذكر نونوز المؤرخ أن يوستينيانُس قلَّدهُ إمرة فلسطين، إلاَّ أنه لم يسعَ في إصلاح أَمْره وإعادة ملكه، فضجر امرؤ القيس وعاد إلى بلده وكانت وفاته نحو سنة 565م. أصابه مرضٌ كالجُدَري في طريقه كان سبب موته، وذُكِر في كتاب قديم مخطوط أن ملك قسطنطينية لمَّا بلغهُ وفاة امرىء القيس أمر بأن ينحـت له تمثال وينصب على ضريحه، ففعلوا وكان تمثال امرىء القيس هناك إلى أيام المأمون، وقد شاهده هذا الخليفة عند مروره هناك لمَّا دخل بلاد الروم ليغزو الصائفة".
إن إرسال امرىء القيس وفداً قبله إلى القيصر أمر لم نعرفه من قبل، وكذلك لم يذكر أحد من الرواة العرب ذلك العهد الذي أشرنا إليه، والغريب أن رواية هذا الخبر من أوله إلى منتهاه، وغيره من الأخبار التي وردت في تواريخ الروم، لا أصل لها في الروايات العربية، وهي في ظني لا أساس لها من الصحة؛ لأنها تخالف ما تناقله جمهرة الرواة والإخباريين العرب عن رحلة امرىء القيس من جهة، ولأنها قد تكون صيغت وقيلت لتحقّق مطالب عندهم توافق مذهبهم من جهة ثانية، فقد ذُكِر أن يوستينيانس أجاب طلب امرىء القيس لسببين، أولهما: كون الطالب نصرانياً، إذ كان يوستينيانس من الغُيّر على الدين، وثانيهما: وهو الأهم –كما يظهر من قول بركوب- أن عدوّ امرىء القيس كان المنذر، والمنذر من عمال الأكاسرة منافسي القياصرة في بسط السيطرة على أطراف الجزيرة العربية.
ويضيف أحد محرّري دائرة المعارف الإسلامية سبباً آخر جديداً تفرَّد به، لرحلة امرىء القيس إلى الملك الرومي نختم به حديثنا في وصف هذه الرحلة، فيروي أن الامبراطور يوستينيانُس أخذ بنصيحة الحارث بن أبي شَمِر الغساني والي بادية الشام، فدعا امرأ القيس إلى القسطنطينية حوالي عام 530م ليستعين به على الفرس، ومكث هذا الشاعر طويلاً في القسطنطينية، ثم استعمله على الشام وعلى القبائل التي تعيش على الحدود، ولُقب بلقب فيلارق Phylarck أي الوالي، ولكنه توفّي في أنقرة فيما بين عامي 530 و 540م أثناء رحيله لتولّي منصبه هذا.
وأرى أن ما رُوي عن دعوة الملك الرومي لامرىء القيس إلى القسطنطينية، وجعله أميراً على قبائل فلسطين ليستعين به على الفرس – منحول عليه للأسباب التي ذُكِرت آنفاً، وأضاف بروكلمان أنه حدث حقيقة لابن عمه: قيس بن سلمة. وهذا ما لم يقل به أحد من المؤرخين والرواة العرب أيضاً.
فإذا كان وصف رحلة امرىء القيس قد سار على هذا النحو، فذلك لأن المظانّ التي اعتمدنا عليها في هذا السرد وزوّدتنا بالأخبار السابقة، قد فصَّلت القول في تنقّل امرىء القيس بين القبائل في داخل الجزيرة العربية واليمن، وفي ذكر الأماكن التي أقام فيها إقامة قصيرة أو طويلة، وأجملته في خارجها إلى أن وصل إلى قيصر، وهو وصف يدل – في عمومه وإن تضاربت بعض الآراء- على أن هذا الشاعر ابتدأ رحلته من الجزيرة العربية، ثم اتجه في سيره إلى الغرب إلى أن انتهى به المطاف إلى عاصمة الروم، ويؤرخ بعض المستشرقين هذه الرحلة فيذكر أن ذهاب امرىء القيس إلى القيصر يوستينيانُس كان حوالي سنة 530 للميلاد.
ويبدو من الأخبار التي عرضنا لها أنه كان يعوزها – من أجل أن تكون دليلاً قائماً على صواب استنتاجنا- الشعر الجاهلي، ونعني به شعر امرىء القيس الذي سجَّل فيه بعض الأحداث التي حدثت معه، أو الأماكن التي مرَّ بها في طريقه إلى بلاد الروم، وفي إقامته عندهم، وفي طريق عودته إلى دياره بعد منصرفه عنهم، حيث انتهت به العودة إلىأنْقِرَة التي كانت نهايته فيها؛ وكذلك شعر عمرو بن قميئة رفيقه في السفر.
فإذا كان ذلك كذلك، فإن هذا يسهِّل علينا الانتقال في الحديث إلى المحور الثاني المتعلّق بالأشعار التي أومأنا إليها.
* * *
(2)
يذكر الرواة أن عمرو بن قميئة كان رافق امرأ القيس في سفره إلى قيصر ملك الروم، وقد أشار إلى ذلك امرؤ القيس في شعره؛ فقال:

بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَه
فَقُلْتُ له: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّما
 وأَيْقَنَ أنَّا لاحِقَانِ بقَيْصَرَا
 نُحاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
ويذكرون أنه كان من قُدماء الشعراء في الجاهلية، وهو أقدَم من امرىء القيس، قيل: كان مع حُجْر أبيه، ولَقِيه امرؤ القيس في آخر عُمره فأخرجه معه إلى قَيْصر في بلاد الروم لمَّا توجَّه إله يستمدّه على بني أسد، فمات معه في طريقه، وسَمَّتْه العربُ عُمْراً الضائع لموته في غُرْبة وفي غير أَرَب ولا مَطْلب.
ويروي ابن قتيبة في ترجمته لامرىء القيس، فيقول: "ثم سار ومعه عمرُو بن قَمِيئة أحد بني قيس بن ثعلبة، وكان من خدم أبيه، فبكى ابن قميئة وقال له: غَرَّرتَ بنا، فأنشأ امرؤ القيس يقول:" وروى أبياته. ويشكك بعض المستشرقين في مرافقة عمرو هذا لشاعرنا، فيذكر أن خروجه إلى الروم مع امرىء القيس ملك للأسطورة، دون أن يقدم دليلاً واحداً أو شاهداً مقنعاً على صحّة رأيه، الذي خالف فيه ما أتى به الرواة قديماً وحديثاً، والذي نقض فيه قصيدة صحيحة النسبة لامرىء القيس من رواية عالم ثقة هو الأصمعي، من أبياتها أبيات تذكر عمرو بن قميئة وصحبته له والأحداث التي حصلت معهما في هذه الرحلة.
وتبيّن هذه الرواية وسابقتها أن بين امرىء القيس وعمرو بن قميئة سابق معرفة، وأن هذه المعرفة نمت وتطورت بحيث تمكّن شاعرنا من أن يعرض الرحلة وسببها على عمرو بن قميئة، فيوافق هذا الآخر ويكون رفيقه في سفره ذاك. في حين نجد صاحب الأغاني يروي رواية أخرى عن سفر امرىء القيس إلى قيصر تنفي – في محتواها- وجود المعرفة بين هذين الشاعرين، يقول أبو الفرج: "نزل امرؤ القيس بن حُجْر ببكر بن وائل، وضرب قبَّتَه، وجلس إليه وجُوهُ بَكْر بن وائل، فقال لهم: هل فيكم أحد يقولُ الشِّعر؟ فقالوا: ما فينا شاعر إلا شيخ قد خلا من عمره وكبر، قال: فأْتوني به، فأتوْه بعَمْرو بن قَميئة وهو شيخ، فأنْشَدَه فأُعجِب به، فخرج به معه إلى قَيْصر، وإيَّاه عَنَى امرؤ القيس بقوله:
بكى صاحبي ... ..... (البيتان)
وقال مؤرِّج في هذا الخبر: إن امرأ القيس قال لعمرو بنِ قَميئة في سفره: ألا تركب إلى الصَّيْد؟ فقال عمرو:

شَكوتُ إليه أَنَّني ذُو جلالةٍ 
فقال لنا: أهلاً وسَهْلاً ومرحباً
وأنِّي كَبِيرٌ ذُو عِيالٍ مُجَنِّبُ
 إذا سَرَّكُمْ لحمٌ مِنَ الوَحْشِ فارْكَبُوا"
وسواء كان بين امرىء القيس وعمرو بن قميئة سابق معرفة أو لم تكن هذه المعرفة موجودة أصلاً، فإن امرأ القيس استصحبه معه في رحلته إلى قيصر في بلاد الروم، فأجابه إلى صحبته، وأنه لمَّا صار إلى ساتِيدَمَا وهو جبل هناك. تذكّر أهله ودياره فبكى شوقاً إليهم؛ وفي ذلك يقول:

قَدْ سَأَلَتْنِي بِنْتُ عَمْرٍو عَنِ الْـ
لَمَّا رَأَتْ ساتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ،
تذكَّرَتْ أَرْضاً بِهَا أَهْلُها
 أَرْضِ الَّتي تُنْكِرُ أَعْلامَهَا
 للهِ دَرُّ –اليَوْمَ- مَنْ لاَمَها!
 أَخْوَالَها فِيهَا وأَعْمامَهَا
وقد استدعى ظاهر البيت الأول الرواةَ إلى تعيين الشخص الذي بكى في هذه الرحلة، خاصة أن الإخباريين لم يشيروا إلى أن عمرو بن قميئة قد اصطحب ابنته معه؛ فقال أبو محمد الأسود الأعرابي في تفسيره عن أبي النَّدَى: "سبب بكائها... أنها لمَّا فارقتْ بلادَ قومِها، ووقعت إلى بلاد الروم بكت، وندمت على ذلك، وإنما أراد عمرو بهذه الأبيات نفسَه لا بِنْتَه، وإنما كنَّى عن نفسه بها. وساتيدما: جبل بين مَيَّافارِقِين وسَعَرْت... وقال عمرو هذا الشعر حين خرج مع امرىء القيس إلى الروم، وقصتهما معروفة".
ومما يؤيد القول إن عمرو بن قميئة لم يُرِدْ بهذه الأبيات بِنْتَه، وإنما أراد نفسه قول امرىء القيس: "بكى صاحبي..."، حيث أشار إلى بكاء عمرو عندما صحبه في رحلته، فهما لمَّا جاوزا بلاد العرب وصارا ببلاد الروم، وأيقن عمرو أنهما لاحقان بقيصر حنَّ إلى بلاده فبكى، وكذلك قول ابن قتيبة في ترجمته لامرىء القيس، وأبي الفرج الأصفهاني في ترجمته لعمرو بن قميئة السابقين.
فإذا كان شعر عمرو بن قميئة قد زوّدنا بأبيات يسيرة عن هذه الرحلة، دلَّت – في مضمونها- على الموضع الذي كانت إليه الرحلة وانتهت فيه؛ فإن هذا يدفعنا إلى التساؤل: أي الطرق سَلَك، وما هي الأماكن التي مرَّ بها، وإلى أي الجهات توجَّه؟ ولعل شعر امرىء القيس أوفر حظّاً في الإشارة إلى شيء من ذلك! ولكن – قبل أن نمضي في الحديث عن ذلك- لا مناص من أن أشير إلى بيت لعبيد بن الأبرص شاعر بني أسد، وكان معاصراً للأحداث، يذكر فيه رحلة امرىء القيس إلى قيصر، ويسخر من وعيده، ويدعو عليه بالهلاك وأن يلقى مصيره وهو بالشام؛ يقول:

أَزَعَمْتَ أَنَّكَ سَوْفَ تأتي قيصراً؟ 
فَلَتهْلِكَنَّ إذن وأنتَ شآمي
إن خبر امرىء القيس مع الغساسنة في طريقه إلى قيصر لا نعلم عنه شيئاً، وليس في شعره هو ما يشير إلى أنه ذهب إليهم رجاء التوسط في الوصول إليه، سوى ما ذكرناه عن صاحب الأغاني وغيره من أنه طلب إلى السموأل بن عادياء أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني بالشام – صاحب النفوذ عند قيصر الروم يومئذ – ليوصله إليه، ففعل، واستصحب معه رجلاً يدلّه على الطريق، ومضى حتى انتهى إلى قيصر.
وكذلك لم تشر الأخبار العربية إلى سفره إلى القسطنطينية، ولا إلى كيفية وصوله إلى قيصر، وليس "في كتب الروم أو السريان الواصلة إلينا إشارة إلى هذه الحوادث التي يرويها الإخباريون عن ذهاب امرىء القيس إلى القسطنطينية، وطلبه النجدة من القيصر وموته في أنقرة، ولا عن الشعر الذي قاله في حقّ القيصر، وفي حق القبر الذي شاهده، وما إلى ذلك مما يذكره الإخباريون. فأمور مثل هذه لا يعرفها هؤلاء". ويبدو من شعره أنه سلك طريق الشام، وأنه مرَّ على "حَوْرَان" و "بَعْلَبَكّ " و "حِمْص" و "حَماة" و "شَيْزَر"، وقال في مسيره قصيدته المشهورة التي مطلعها:

سَما لَكَ شوقٌ بعدما كان أقْصَرَا 
وحَلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا
أمَّا ما بعد ذلك من الأماكن التي مرَّ عليها حتى وصل إلى عاصمة الروم، فلا نعرف عنها شيئاً.
وقد حفظ لنا ديوان امرىء القيس ثلاث قصائد من الشعر الذي يتصل بالرحلة إلى قيصر، يلتقي في روايتها العالمان الجليلان الأصمعي والمفضَّل الضّبّي وآخرون، وقصيدة وردت في زيادات ملحق الطوسي من المنحول الثاني، لم تثبت في رواية المفضل والأصمعي وأبي عُبيدة، ونسبها غيرهم إلى امرىء القيس، ومقطوعة تفرّد الضبّي بروايتها، ومقطوعتان مما زاده السكّري على غيره من الرواة.
والقصيدة الأولى هي الرابعة في الديوان، وعدد أبياتها أربعة وخمسون بيتاً، وقد سبقت الإشارة إلى أنه قالها في الطريق إلى قيصر. جمعت هذه القصيدة صفات شعره في الطور الأول من حياته، فإنه شبَّب فيها بصويحباته، وذكر الأماكن والديار التي مرَّ بها، ووصف الطرق التي سلكها. وهي تصوّر شخصية امرىء القيس أصدق تصوير في النزوع إلى الماضي والتطلّع إلى المستقبل، وتعبّر عن مشاعره المتلوّنة أوضح تعبير وهو يتأرجح بين جزر اليأس ومدّ الأمل، فهي صدًى حقيقي لواقع قائم، وتجربة قاسية مرَّ بها، وحياة مأهولة بالمتاعب خاضها متحدياً لها. بدأها بمقدمة طللية هي أطول مقدمة في ديوانه، وتلائم موضوع الرحلة وتنسجم معه، فقد بَعُدت صاحبته وقومها، وحلّوا في موضعين متباعدين عن دياره، فاشتدّ لذلك شوقه وتضاعف حزنه، وصاحبته كنانية القبيلة يعمرية الحي، انقطعت عنه وجاورت غسان، ومع ذلك فإن ودّها باق في صدره لا يذهب ولا يتلاشى، فلما ارتحلوا – عن المرتبع الذي جمعهم- اتّبعهم بنظره حزناً لفراقهم حتى غابوا وراء الأنهار من جَنْب تَيْمر. وتراءى للشاعر – وهو في هذا الموقف المؤثر- مظهر الظعائن الجميل وهي تغادر الديار، فأرسل خياله في تصوير هذا المنظر تصويراً ينمّ عن الشعور بالجمال والإحساس بروعة الأشياء، فهوادجهن عالية مختلفة الألوان، تغذّ السير، فتبدو للرائي – من بعيد- حدائق دوم أو سفيناً مطلياً بالقار تدفعه الرياح، أو نخيلاً عاليات باسقات يغمر أسافلها الماء، من نخيل ابن يامِنٍ في هَجَر دون الصَّفا وبعد المُشَقَّر. ولكن هذه الظعائن الجميلة الموشاة بألوان من الصوف الأحمر والأصفر لا تشبه حدائق الدَّوْم أو السفين المطلي أو النخيل ذا الألوان المختلفة وحسب، وإنما تشبه تماثيل من تماثيل سَقْف، على قوائم مرمرية تكسو وادي الساجوم المزبد بنقش ملوّن، أو صور مزخرفة على جدر مطلية.
سَما لَك شوقٌ بعدما كان أَقصَرَا
كِنانِيّةٌ بانَتْ وفي الصَّدْرِ وُدُّها
بِعَيْنَيَّ ظُعْنُ الحيِّ لَمَّا تَحَمَّلُوا
فشَبَّهْتُهُمْ في الآلِ لَمَّا تَكمَّشوا
أو المُكْرَعاتِ مِنْ نَخِيلِ ابن يامِنٍ
كأَنَّ دُمَى سَقْفٍ على ظَهْرِ مَرْمَرٍ

وحَلَّت سُلَيمَى بطنَ قَوٍّ فَعرْعَرَا
مجاوِرةً غسَّانَ والحيَّ يَعْمُرا
لَدَى جانِبِ الأَفْلاجِ مِنْ جَنْبِ تيمرا
حدائقَ دَوْمٍ أو سَفيناً مُقَيَّرا
دُوَيْنَ الصَّفا اللاَّئِي يلِينَ المشقَّرا
كَسَا مُزْبِدَ السَّاجُومِ وَشْياً مُصَوَّرا
وأتبع الشاعر الحديث عن رحلة الظعائن بغزل حيي وقور على غير ما عرف عنه من الغزل الإباحي والخلاعة والمجون والتهتّك الخلقي الفاحش، ولعلّ انشغاله بما يقضّ عليه مضجعه، ويستحوذ على عقله صرفه عن التفكير بنوازع فؤاده وإرضاء شهواته، والتلذذ بها ولو على سبيل الذكرى. فالنسوة في الظعائن منعّمات مصونات يتحلين بالياقوت وبقطع من الذهب المصوغ على هيئة فِقار الجرادة، ويتطيبن بالطيب الذكي الرائحة الذي انتشرت رائحته العطرة في أرجاء المكان، كما لو كان حقّه حميرية رميت بمسك إذفر قد فُتقت نافجتُه فانتشرت رائحته وقويت. وبضروب أخرى من الطيب والعطور كالبان واللبنى وأعواد من البخور الهندي كالأَلُوَّة والرَّند والكباء. هؤلاء النسوة ذهبن بقلبه، واستولين عليه، وعلقن بحبّ حبيب لا يستطعن الانفكاك عنه، وكانت سُليمى صاحبته تدَّعيه ثم فارقته وذهبت هي الأخرى بقلبه، وقطعت ما بينه وبينها من حبل الوصال، وكان هذا الحبيب لها فيما خلا من الدهر خليلاً، يختلس النظر إلى خبائها ذي الأستار الصفاق مخافة الرقباء، إذا فجأها فنظر إليها فَزِعَ قلبُه وخَفَق، كَفَزَع الثَّمِل إذا نظر إلى الخمر فاستفظعها ورهب منها مع محبته فيها وحرصه على التلذذ بالسُّكْر منها. وكانت فاترة نشوى، إذا قامت لأمر تمايلت متثنية تداري فؤادها لتشتدّ، وتحمل نفسها على التماسك، وتتكلف الجَلَد لئلا تنهار. ولقد تغيّر ودّها، فإن قطعت ما بينه وبينها لبعده عنها، ووصلت غيره، ومالت بهواها إلى آخر، فله العذر حينئذ أن يستبدل بها غيرها، وأن يميل بهواه إلى امرأة أخرى، فالجزاء من جنس العمل، وإنما يقول هذا عند خروجه إلى قيصر، ومفارقته أهله ودياره. وربما آثر الشاعر – في هذه الأبيات- "مزج ثنائية (الحرمان – الجمال) في تجربة من تجاربه؛ ليبرز بهذا المزج التقابل بينه وبين المرأة، فهو يتمناها من ناحية، لكنه –على غير المألوف- يهيّىء لفراقها من ناحية أخرى، وهذا التقابل يبدو جليّاً في تجربة مزدوجة بين سلمى وأسماء، حيث يستخلصهما من بين نسائه لهذه المغامرة المميزة".

غَرائِرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمَةٍ
ورِيحَ سَناً في حُقَّةٍ حِمْيَرِيّةٍ
وباناً وأُلْوِيّاً من الهنْد ذَاكِياً
غَلِقْنَ برَهْنٍ مِنْ حَبِيبٍ به ادَّعَتْ
وكان لها في سالف الدهر خُلَّةً
إذا نَالَ منها نَظْرَةً رِيعَ قَلْبُهُ
نزِيفٌ إذَا قامتْ لوَجْهٍ تمايلَتْ
أَأَسْماءُ أَمْسَى وُدُّها قد تَغَيَّرا

 يُحَلَّيْنَ ياقوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا
تُخَصُّ بمَفْروكٍ من المسْكِ أَذْفَرا
 ورَنْداً ولُبْنَى والكِبَاءَ المقَتَّرا
 سُلَيْمى فأَمسَى حَبْلُها قد تَبَتَّرا
 يُسارِقُ بالطَّرْفِ الخِباءَ المُسَتَّرَا
كما ذَعَرَتْ كأْسُ الصَّبُوح المخمَّرَا
 تُراشِي الفؤادَ الرَّخْصَ أَلاَّ تَخَتَّرا
 سنُبدِل إن أَبْدَلْتِ بالوُدِّ آخَرا


وانتقل بعد ذلك إلى تذكر أهله الصالحين، وما هو عليه من سفر واغتراب، مسجّلاً في الأبيات التالية أحزانه وآلامه النفسية التي اعتورت فؤاده، ورافقته في مسيره إلى أرض الروم منذ أن فارق أهله ودياره، فهو عندما صار إلى بعض مواضع الشام إلى "خَمَلَى" و "أَوْجَر" وقد بَعُد عن أهله وعن ديار محبوبته، تذكّرهم واشتاق إليهم، ولما دنا من "حَوْران" فبدت له في الآل دون أسماء لم يرَ شيئاً يسرُّ به، إذ كان كل ما رآه جديداً عليه غريباً عنه، لا يصله به نسب ولا تشدُّه إليه عاطفة، فكأن كل ما رآه غير مرئي لحقارته وقبحه في عينه، فلما جاوز حماة وشَيْزر تقطعت به أسباب الحاجة إلى مَنْ أحب يأساً من اللقاء، وشغلاً بما لقيه من الشدة والعناء. ولطول المسافة وبعد الديار كانوا يسيرون متعجلين، فقد أخذت القافلة تغذّ السير، وتجهد نفسها بسرعة فوق طاقتها، حتى ضجّت الإبل المسنّة من سرعتهم، فكان مَنْ تخلّف منهم لشيء أصابه لم يتربَّص عليه حتى يدركهم. ورغم الأهوال التي ألمَّت به، وما لقي من عناء السفر، وبُعْد الشُّقَّة لم ينس نساءً في هوادج مرتفعة، جلّلت حمولتهن بالخَمْل، خضراء اللون كأثل وادي الأعراض، فارقته عند انقضاء المرتبع والرجوع إلى المياه، مررن "ببيشة" وخلفن "الغمير" قاصدات "غضور".

تَذَكَّرْتُ أهْلي الصالِحِينَ وقد أَتَتْ 
فلمّا بَدَتْ حَوْرانُ في الآلِ دُونَها
تَقَطَّعَ أَسْبَابُ اللُّبانَةِ والهَوَى
بِسَيْرٍ يَضِجُّ العَوْدُ منه يَمُنُّهُ
ولم يُنْسِنِي ما قَدْ لَقِيتُ ظَعائِناً
كأَثْلٍ من الأَعْرَاض مِنْ دون بِيْشَةٍ 
على خَمَلَى خُوصُ الرِّكابِ وأَوْجَرا
 نَظَرْتَ فلَمْ تَنْظُرْ بعيْنَيْكَ مَنْظرا
عَشِيَّةَ جاوَزْنَا حَماةَ وشَيْزَرا
 أَخُو الجَهْدِ لا يُلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا
وَخمْلاً لها كالقَرِّ يوماً مُخَدَّرَا
ودُونَ الغُمَيْرِ عامِداتٍ لِغَضْوَرَا
وخرج من هذا إلى وصف ناقته الجَسْرة الذَّمُول وإلى الفخر بنفسه، حتى إذا أرضى نفسه في وصفها بستة أبيات أشار إلى أنها تحمل على ظهرها فتًى لم تحمل الأرض مثله، وفاء بما عاهد، وصبراً على ما يجد. ويفخر بنفسه على بني أسد ويخوّفهم منه، فيذكر الأعمال التي قام بها للثأر لأبيه، فهو المُنْزِل الألوف من حصن ناعط بأرض همدان، فإذا أرادوا النجاة بأنفسهم فعليهم أن ينزلوا بما غَلُظ من الأرض وخشن، وأن يتحصّنوا بالجبال. ويزعم أنه لو شاء لغزاهم من أرض حمير بقومه وأصحابه، ولكنه استنجد بملك الروم، وطلب العَوْن منه، تشنيعاً عليهم، وإبلاغاً في نهكِهِم، وتبيين شرفه وفضله لمشاركة ملك الروم له.

فدَعْ ذَا وسَلِّ الهَمَّ عَنْكَ بجَسْرَةٍ
..........

عليها فَتًى لَم تَحمِل الأرْضُ مِثْلَهُ
هو المُنْزِلُ الأُلاَّفِ من جَوِّ نَاعطٍ
ولو شاءَ كان الغَزْوُ مِنْ أرْضِ حـِمْيَرٍ
 ذَمُولٍ إذا صامَ النَّهارُ وهَجَّرَا
أَبرَّ بمِيثاقٍ وأَوْفَى وأَصْبَرَا
 بنِي أَسَدٍ حَزْناً مِن الأَرضِ أَوْعَرَا
 ولكنَّه عَمْداً إلى الرُّومِ أَنْفَرَا
ويرافقه في هذه الرحلة –كما أَخبرنا- عمرو بن قميئة، وكان شيخاً كبيراً، وقد أحسَّ عمرو خلال هذه الرحلة الشاقة بقسوة الغربة، وعذاب الوحدة، ووحشة الدار، فعندما جاوز وصاحبه بلاد العرب إلى بلاد الروم، مخلِّفَيْن وراءهما أرضاً عزيزة وذكريات جميلة، وأيقن عمرو أنه صائر إلى قيصر لا محالة، حنَّ إلى بلاده فبكى، فيسلّيه امرؤ القيس عن البكاء، ويخفّف من آلامه وأحزانه بأن يصبر على ما يجد حتى يدركا ما يطلبان من المُلْك، بالوصول إلى قيصر والرجوع إلى قتال بني أسد، إلاَّ أن يحول الموت دون ذلك، فيكون لهما العذر إذ لم يقصِّرا في الطلب. ويطيب خاطره ويهدىء من روعه فيذكر له لئن استجاب له قيصر، ورجع من عنده بجيش عظيم يستعيد به ملكه، فإنه كفيل بأن يسير سيراً شديداً، يطوي الأرض طيّاً، فيبلغا ديارهما في زمن وجيز.

بَكَى صَاحِبي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَه 
فقُلْتُ له لا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّما
وإِنِّي زَعِيمٌ إِنْ رَجَعْتُ مُمَلَّكاً 
وأَيْقَنَ أَنَّا لاحِقَانِ بقَيْصَرَا
 نُحاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
بسَيْرٍ تَرى منه الفُرانِقَ أَزْوَرَا
ثم أعقب ذلك في وصف الطريق الذي سلكه، فهو طريق غير مسلوك ليس فيه عَلَم ولا منار فيهتدى به، إذا شمّته الإبل المسنّة رغت لبعده وما تلقى من مشقّته، على فرس قوي مقصوص الذنب استعمل من قبل في سير البريد، خميص البطن كذئب الغضا، ماض في الجري، يتحدر العرق من جوانبه لشدة السير ومشقّته، إذا حركه بالرَّكْض وبالزَّجْر من جانبيه كليهما تبختر في مشيه، ومال في أحد جانبيه، ثم حرّك فمه باللجام عبثاً ونشاطاً.
فإذا اطمأن الشاعر إلى أنه خفف عن رفيقه ألم الغربة، وهوّن عليه بُعْد الشُّقَّة، واصل مسيره حتى إذا جهدا وشقَّ عليهما السير دعا امرؤ القيس الفرانق إلى الغناء والتطريب ليروّح عنهما، ويسلّيهما عن بعض ما يجدا من المشقّة والعناء، فأرنّ وهو على فرس قوي شديد، ليِّن العروق والمفاصل، مقطوع الذنب.

على لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بمَنارِهِ 
عَلَى كلّ مَقْصُوصِ الذُّنَابَى مُعاوِدٍ
أَقبَّ كسِرْحانِ الْغَضَا مُتَمَطِّرٍ
إذا زُعْتَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ كِلَيْهِمَا
إذا قلتُ رَوِّحْنا أَرَنَّ فُرانِقٌ
إذا سافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا
بَرِيدَ السُّرَى باللَّيْل من خَيْلِ بَربرا
تَرَى الماءَ مِنْ أعْطافِه قد تَحَدَّرَا
مَشَى الهيْدَبَى في دَفِّه ثمّ فَرْفَرَا
 على جَلْعَدٍ واهِي الأَباجِلِ أبْتَرَا
ويواصل الشاعر سيره في الشام متنقّلا في قراها في مواضع كان فيها غريب اليد واللسان، إلى أن صار إلى بَعْلَبَكّ فأنكره أهلها، وكان أهل حمص أشـدَّ إنكاراً له، وذلك لعدم معرفتهم به، وحينئذٍ أرسل خياله يرود آفاق الوطن فتذكّر الأحبة فأخذ يراقب هطول المطر ليعلم أين وقعه ومصبّه، طمعاً منه أن يكون في ديار مَنْ يُحِبُّ، فيشتفي بذلك، ولكن لا شيء يشفيه من الشوق إلى ابنة عفزر والحنين إليها. هي من المتحبّبات إلى أزواجهن اللائي لا تطمح أعينُهن إلى غيرهم تعفّفاً وحسن صحبة، ناعمة رقيقة لو مرّت نملة صغيرة فوق ثوبها لأثّرت في جلدها.
وليست ابنة عفزر المرأة الوحيدة – من بين النساء اللائي عرفهن- التي تذكَّرها والتي كانت تشدّه إلى وطنه، وإنما كان لصاحبتيه أمّ هاشم والبسباسة ابنة يشكر ماضٍ معه وذكرى، فهو يلوم نفسه إن مَضَتْ به الرحلة وأمسى بعيداً عنهما، نائياً عن ديارهما، لما يلقى من الوجد بهما والاشتياق إليهما.

لَقَدْ أَنْكَرَتْني بَعْلَبَكُّ وأَهلُها 
نَشِيمُ بُروقَ المُزْنِ أَينَ مَصابُه
من القاصِرَاتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ
له الوَيْلُ إنْ أمْسى ولا أُمُّ هاشمٍ 
وَلابنُ جُرَيْجٍ في قُرَى حِمْصَ أَنكَرَا
ولا شَيءَ يَشْفِي مِنْكِ يابنَةَ عَفْزَرَا
من الذَّرِّ فوقَ الإتْبِ منها لأَثَّرَا
قريبٌ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يَشكُرا
ولم يزل امرؤ القيس كذلك ينتقل من بلد إلى آخر، حتى إذا أمضى خمس عشرة ليلة سيراً وراء الحِساء من أعمال قيصر، بدا له أن أمّ عمرو بن قميئة تبكي عليه لبعدها عنه وشوقها إليه، وما كان أصبرها قبل فراقها له!
ويبدو أن امرأ القيس لم يلقَ في الديار الجديدة ما يسرّه ويقرّ عينه، فأخذ يشكو حظه من الدنيا، ويتألم لتغيّر الدهر له، فهو كلما لقي إنساناً ورجا منه حسن الصحبة خانه وتغيَّر عنه، وأخلف ظنّه، فانتقل إلى آخر واستبدل به غيره، ولكن الناس سواسية في هذا الخُلُق.

أرَى أُمَّ عَمْرٍو دَمْعُها قد تَحدَّرا 
إذا نحن سِرْنا خَمسَ عَشْرةَ لَيْلَةً
إذا قلتُ هذا صاحِبٌ قد رَضِيتُهُ
كذَلِك جَدِّي، ما أُصاحِبُ صاحباً 
بكاءً على عَمْرٍو وما كان أصْبَرا
 وَراءَ الحِساءِ من مَدَافِعِ قَيْصَرا
 وقَرَّتْ به العَيْنانِ بُدِّلْتُ آخَرَا
من النَّاسِ إلاَّ خانَني وتَغَيَّرَا
ويختم الشاعر قصيدته مفتخراً بقومه في أصلهم البعيد، فقد كانوا قبل غزوة قرمل يتوارثون الغنى والمجد كابراً عن كابر، ولئن تراخى أصحابه عن اللقاء – في أحد الأيام- فليس ذلك لجبن أدركهم، أو ضعف استولى عليهم، ولكنهم ذكروا المواطن والأهل، وحنّت نفوسهم إليها، فرجعوا عن العدوّ حرصاً على اللحاق بالأهل، ولتشفى النفوس بلقائهم. وما أكثر الأيام التي شهدها في "تأذِف" و "طرطر" فكانت له فيها الظفر والغلبة، ولكن ليس يوم – في حياته - مثل يوم "قذاران" حيث كان ظفره في هذا اليوم أشدَّ ظفراً، وغلبته أقوى غلبة، وإن كان قد أصاب حاجته وأدرك طَلِبتَه، فقد كان وأصحابه فيه على حذر وقلّة طمأنينة كأنهم على قرن ظَبْي. ويزهو بعادة كانت موجودة عندهم أنهم كانوا يشربون حتى يُذْهبَ السكرُ عقولهم، ويحيّر أبصارهم فيحسبوا الخيل حولهم غنماً، والسُّود حمراً.

وكنَّا أُناساً قَبْلَ غَزْوَةِ قَرْمَل 
وما جَبُنَتْ خَيْلي ولكنْ تذكَّرَتْ
ألا رُبَّ يَوْمٍ صَالِحٍ قد شَهِدْتُهُ
ولا مِثْلَ يَوْم في قُذارَانَ ظِلْتُهُ
ونَشْرَبُ حتى نَحسِبَ الخيلَ حَوْلَنا
وَرِثْنَا الغِنَى والمجدَ أكْبَرَ أَكبرَا
مَرَابِطَها من بَرْبَعِيصَ ومَيْسَرَا
بِتَأْذِفَ ذاتِ التَّلِّ مِنْ فَوْقِ طَرْطَرا
كأَنِّي وأَصْحابي على قَرْنِ أَعْفَرا
 نِقاداً وحتى نحسِبَ الجَوْنَ أَشْقَرا
إن انتقال الشاعر انتقالاً مفاجئاً من الحديث عن رحلته إلى قيصر، وعن المتاعب والأهوال التي واجهته في سفره هذا إلى الفخر بقومه، يجعلنا نشعر بوجود فجوة كبيرة بين الموضوعين تحول دون ترابطهما في المعنى والمضمون، وفي تسلسل الأحداث، إمَّا لأن الشاعر لم يحسن الانتقال من موضوع إلى آخر، ولم يأتِ بأداة يربط بها بينهما ولو كانت محاولة متكلفة، وإما – وهو احتمال نذهب إليه - أن تكون أبيات بينهما قد ضاعت، ويقلّل من قيمة هذا الاحتمال أن أحداً من الرواة الثقات لم ينصّ على ذلك.
ويبدو أن أخبار امرىء القيس مع قيصر كانت قليلة، أو أنه لم يسجّل في شعره ما دار بينه وبين الملك الرومي من أحاديث شتَّى عن منادمته له، وبيان منزلته عنده، أو عشقه لابنته، وقد نجد له العذر في عدم الاهتمام بتضمين هذه الأحداث في شعره وقتئذٍ، لأنه كان مشغولاً بإقناع قيصر بتقديم العون والمدد له على بني أسد قَتَلة أبيه، وربّما استغرق اقناعه وقتاً، لأن "النجدة التي طلبها امرؤ القيس كبيرة جداً، والجيس الرومي لم يكن مستعداً للقتال في الصحراء، ثم إن الغاية التي جاء من أجلها امرؤ القيس – وهي الأخذ بثأر رجل واحد- كانت بعيدة عن سياسة الروم ومألوفهم، فضلاً عن أن الامبراطورية الرومانية كانت مهدَّدة بهجمات البرابرة، ومن ثم فالامبراطورية كانت في حاجة إلى الدفاع عن امبراطوريتها بنفسها". حتى هذه الحادثة –التي هي هدف الرحلة- لم يذكرها امرؤ القيس في شعره إلاّ ذكراً يسيراً، كما هو الحال في هذه القصيدة.
والذي يبدو لي أن امرأ القيس لم يكن مَعْنياً –عندما رحل إلى القسطنطينية- في الأخذ بثأر أبيه، وأن الدافع إلى الرحلة كما تناقله الرواة والإخباريون قد يكون وهماً وقع فيه القدماء، وتبعهم المحدثون على ذلك، لأنه –في الحقيقة- ثأر لأبيه، وقتل أناساً كثيرين وهو في داخل الجزيرة العربية، واحتمال أن يرحل إلى الامبراطور البيزنطي من أجل هدف كهذا يبدو أمراً مستهجناً حقّاً. والواقع أن امرأ القيس كان يسعى لاستعادة سلطانه وإحياء عرش أبيه وأجداده، بحيث يصبح ملكاً موفور الجانب، مسموع الكلمة، في منطقة تضمّ العديد من القبائل العربية، ويذلّ خصمه المنذر بن ماء السماء، وقد صرح بهدفه هذا في قوله لرفيقه:

فقلتُ له: لا تَبْكِ عينُك إنما 
نحاولُ مُلْكاً، أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
والقصيدة الثانية التي تتصل برحلة امرىء القيس إلى قيصر هي القصيدة الثالثة عشرة في الديوان، وهي أقصر من الأولى ومن التي تليها، عدد أبياتها أربعة عشر بيتاً، ويبدو منها أنه قالها لما شارف على أنقرة في طريق عودته إلى دياره. ويذكر الرواة في مناسبتها أن قيصر أرسل معه جيشاً كثيفاً، فلما قفل به راجعاً إلى دياره، وَشَى به الطمَّاح عنده، فأرسل قيصر في طلبه رسولاً، فأدركه دون أنقرة بيوم، ومعه حلَّة مسمومة منسوجة بالذهب، فلبسها في يوم صائف فرحاً بها، فتناثر لحمه، وتفطَّر جسده، فسمِّي لذلك ذا القروح، فقال هذه القصيدة يصف ما به، على أن مضمونها يوحي بغير ذلك، ويناقض هذا الخبر مناقضة واضحة.
بدأ القصيدة بمقدمة طللية قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أبيات، يدعو فيها صاحبيه إلى النزول على الطلل مساعدة له حتى يسأله عن أهله، وقد ناداه وتحدّث إليه فلم يجبه، وكأنه ينادي أو يكلم أخرساً، خلت الديار من أهلها فلا أنيس بها يستقرّ عندهم، ويقيم فيهم، ولو أن أهل الدار فيها كما عهدهم زمن المرتبع لنزل فيهم ظهراً واستراح عندهم ليلاً. أنكره أهلها لمَّا أتاها فلم يجد فيها ما يوافقه ويسرّ عينه، وهو الذي عرفوه وصحبوه أياماً ارتبعوا فيها غَوْلاً وألعس.

ألِمَّا على الرَّبْعِ القَدِيمِ بِعَسْعَسَا 
فلو أنَّ أَهْلَ الدارِ فيها كعَهدِنَا
فلا تُنكِروني إِنَّني أَنَا ذاكُمُ 
كأَنِّي أُنادِي أَو أُكَلِّمُ أَخْرَسا
 وجدتُ مَقيلاً عندهمْ ومُعَرَّسَا
لَيالِيَ حَلَّ الحَيُّ غَوْلاً فَأَلْعَسَا
والمقدّمة ذات صلة بموضوع القصيدة، أراد الشاعر فيها أن يبيّن أنه أصبح بعيداً عن دياره، غريباً عن أهله وقومه، في مواضع لا يعرفه أحد، ولا يعرفهم، ولا يجد فيهم من يواسيه، ويخفف من آلامه وأوجاعه، ولذلك كان انتقاله إلى ذكر مرضه انتقالاً طبيعياً مهّدت له هذه المقدمة، فهو يتحدث عن داء فيه منها يمنعه النوم، ويدفعه إلى السهر، فلا ينام منه شيئاً إلاَّ أن يُكِبّ فينعس. ومع ظلمة الليل يتذكّر داءه القديم ويخشى أن يصاب بنكسة يعاوده فيها هذا المرض، ويبدو أن امرأ القيس أصيب في هذه الديار بداء ذكر شيئاً من أعراضه – فيما يلي من أبيات- يختلف عن دائه القديم، الذي عاوده كذكرى مع الليل، وهو الوقت الذي ينفرد فيه الإنسان بنفسه، ويتذكر همومه وآلامه. ويظهر أن في هذين البيتين فصلاً بين نوعين من الداء الذي أصيب به شاعرنا، داء جديد أصيب به في ديار الروم، وداء قديم أصيب به في دياره، وأن الداء الجديد كان وراء موته، ولكن لا مانع من التأويل أنه بعد أن تردّت صحته وصار إلى حالة من البؤس والعجز عاوده مرضه القديم فاجتمع الاثنان، فكانت نهايته بهما.

فإِمّا تَرَيْنِي لا أُغمِّضُ ساعةً 
تأوَّبَنِي دائي القديمُ فَغَلَّسَا
من اللَّيلِ إلا أَن أُكِبَّ فأَنعَسَا
 أُحاذرُ أن يرتدَّ دائي فأُنكسَا
ومع إحساس الشاعر بالعجز والضعف يفرّج عن نفسه ويخفّف من مصابه باستعادة ذكرياته أيام الشباب والقوة، فيتبادر إلى ذهنه الأعمال التي قام بها وهو سليم معافى، فما أكثر ما أنجد مكروباً، عطف من ورائه وطاعن عنه أصحاب الخيل – وهو هارب منهزم- حتى أفلت منهم، وما أكثر الأيام التي كان يُعْنى فيها بنفسه مرجِّلاً شعره، فيبدو شاباً ناعماً حبيباً إلى الصبايا، يشدّهن صوته، فيرجعن إليه حبّاً وكلفاً به، كما ترجع النوق الفتية إلى الفحل. ولكنه اليوم غيره بالأمس فقد قلّ ماله وشاب شعره وتقوَّس ظهره، وهذه أمارات الكِبَر وعلامات الهرم تنفّر النساء منه، ومن أي إنسان، على أن امرأ القيس إذا لجأ إلى التعميم كان كلامه حِكَماً وأمثالاً.

فَيَا رُبَّ مَكروبٍ كررتُ وراءَهُ
ويا ربَّ يَوْمٍ قد أَرُوحُ مرجَّلاً
يَرِعْنَ إلى صَوْتي إذا ما سَمِعْنَه
أرَاهُنَّ لا يُحْبِبْنَ مَنْ قَلَّ مالُهُ
 وطاعنتُ عنه الخيلَ حتى تنفّسَا
 حَبِيباً إلى البِيضِ الكَواعِبِ أَمْلَسَا
 كما تَرْعَوِي عِيطٌ إلى صَوْتِ أَعْيَسا
 ولا مَنْ رَأَيْنَ الشَّيْبَ فيه وقَوَّسَا
ويعود الشاعر بعد ذلك إلى مرضه، ويبدو أنه كان يأمل البرء منه ولكنه طال واشتدّ عليه في تلك الآونة، فهو لا يخشى أن تقسو عليه الحياة، حتى ولو ضعف وشَقَّ عليه المرض بحيث يعجز معه عن ارتداء ثيابه بنفسه، وأسوأ ما يمرّ عليه في مرضه أن نفسه لا تخرج مرَّة واحدة، ولكنها تموت شيئاً بعد شيء، وكأنها مؤلّفة من عدة أنفس تموت الواحدة منها تلو الأخرى، وفي ذلك أبرع تصوير لطول عذاب النفس في مرض الموت. لقد بدّل بصحته مرضاً، وتناثرت القروح على جسده، ولعل ما به من شدة الحال والبلاء عوض من الموت أو بدلٌ منه. انتقلت عدوى هذا المرض إليه من رجل يدعى الطمَّاح، كان أصيب بداء تأثر به امرؤ القيس أشدَّ تأثر حتى قُضي عليه.
ورغم ما لحق به من عناء السفر، وقسوة المرض، وتغيّر الحال، فإنه يتعلق بالأمل في أن يعقب الشدّة رخاء، والفقر غنًى، والشيب عُمْرٌ ومستمتع.

وما خِفْتُ تَبْرِيحَ الحياةِ كما أَرَى
فلو أَنَّها نفسٌ تمُوتُ جَمِيعةً
وبُدِّلْتُ قَرْحاً دامِياً بعد صِحَّةٍ
لقد طَمَحَ الطَّمّاحُ من بُعْدِ أَرضِهِ
أَلا إنَّ بَعْدَ العُدْمِ للمَرْءِ قِنْوةً 
 تَضِيقُ ذِراعي أنْ أَقومَ فأَلبَسَا
ولكنَّها نَفسٌ تَساقَطُ أَنفُسَا
 لعلَّ مَنايانَا تحوَّلْنَ أَبؤُسَا
 لِيُلْبِسَني من دائِهِ ما تَلَبَّسا
وبعد المَشيِبِ طُولُ عُمْرٍ ومَلبَسَا
والقصيدة الثالثة التي تتصل برحلة امرىء القيس هي القصيدة التاسعة في الديوان، وهي أقصر من الأولى وأطول من الثانية، عدد أبياتها سبعة عشر بيتاً، ويبدو منها أنه قالها في أثناء عودته إلى بلاده لمَّا ثقل واشتدّ عليه المرض. بدأها بمقدمة طللية قصيرة يدعو فيها رفيقيه إلى الوقوف في ديار محبوبته، والبكاء عليها، والتعرّف إليها، فقد تغيّرت معالمها ودرست آثارها. تعاورتها السنون، وبَعُد أهلها بالأنيس حتى تغيَّرت رسومها وعفت آياتها، فأصبحت كالكتاب خفاءً ودقّة. تذكّره – هذه الرسوم- بالحي مجتمعين زمن المرتبع، وتهيّج بقايا ألم في الفؤاد لم يستطع إخفاءه، فتسيل دموعه سيلاناً يبلّ رداءه، كما يسيل الماء من مزادة ذات خروق ورُقَع.

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ وعِرْفانِ 
أتَتْ حِجَجٌ بَعدِي عليها فأصبحتْ
ذَكَرْتُ بها الحَيَّ الجميعَ فهيَّجتْ
فسحَّتْ دُمُوعِي في الرِّدَاء كأنَّها
وَرَسْمٍ عَفَتْ آياتُه منذُ أَزْمَانِ
كخطِّ زَبُورٍ في مصاحفِ رُهْبَانِ
عَقابِيلَ سُقْمٍ من ضَمِيرٍ وأشْجانِ
 كُلًى مِنْ شَعِيبٍ ذات سَحٍّ وَتَهْتانِ
وانتقل من هذه المقدّمة إلى وصف حاله مريضاً يحمل على سرير، يحمله جابر بن حُنَيّ التغلبي في رِحالتِه، قد ذوى جسمه، واتسعت عليه ثيابه، فهي تضطرب لاستقبالها الريح وتحريكها لها. وفي مثل هذه الحالة من الضعف والعجز يفسح لخياله مجالاً للعودة به إلى الماضي، يسترجع به ذكرياته، وأيام شبابه وفتوّته، فكم محصور رجع إليه وقد أحاط به العدو، وقاتل عنه واستنقذه، وأسير فداه بماله فحُلّ وثاقه وسرّح، ولو كان أسيره منَّ عليه وأطلقه، وأصدقاء له أيقظهم مبكرين، فقاموا وهم بين عاثٍ ونشوان، وأرض واسعة تتخرَّق فيها الرياح قطعها على ناقة قوية الخلق، لينة المشي، مِذْعان، وسهول أصابتها سحب قوية، شديدة الصوت، فأعطت نبتاً مختلف الألوان كألوان الفنا، هبطها على فرس ضخم كهيكل النصارى، يعطيك ما عنده من الجري قبل أن تُكلِّفَه ذلك وتسأله إياه.

فإمّا تَرَيْني في رِحالَةِ جَابِرٍ 
فيا رُبَّ مَكْروبٍ كَرَرْتُ وراءَه
وفِتْيانِ صِدْقٍ بَعَثْتُ بسُحْرةٍ
وخَرْقٍ بَعيدٍ قد قَطَعْتُ نِياطَهُ
وغَيْثٍ كألْوانِ الفَنَا قد هَبَطْتُه
على هَيْكَلٍ يُعطيكَ قبلَ سُؤَالِهِ 
على حَرَجٍ كالقَرِّ تَخفِقُ أكْفَاني
وعانٍ فكَكْتُ الغُلَّ عنه فَفدّاني
فقاموا جميعاً بين عاثٍ ونَشْوَانِ
على ذاتِ لَوْثٍ سَهْوَةِ المَشْيِ مِذْعَانِ
تعاوَرَ فيه كلُّ أوْطَفَ حَنَّانِ
أفانينَ جَرْيٍ غَيرَ كَزٍّ ولا وانِ
ثم يأخذ في وصف الحصان – إلى نهاية القصيدة- بأبيات لا تعكس من واقع الرحلة شيئاً، ولا تمت إليها بصلة.


-------------------------------------------------

"القسم الثاني"
 

وأما المقطوعة الأولى فهي السادسة والأربعون في الديوان، وعدد أبياتها ثمانية، وقد تفرَّد بها المفضَّل الضَّبّي فلم يشاركه الأصمعي في روايتها، "ويغلب على الظن أنها بقايا قصيدة، لأنها بلا مقدمة طللية، وغير مصرعة"، ويبدو أنه نظمها بعد القصائد الثلاث السابقة، عند وفاته بأنقرة، لأنها تعكس نفس امرىء القيس وتصوّر حاله وهو يصارع الموت، فلا يملك له دفعاً، ولا يستطيع له ردّاً، فهو يتمنى أن يعلم قومه بحاله ومرضه، فقد ذوى جسده، وأنهكت روحه، وتلاشت آماله، وذهبت أمانيه، وتلك حال البشر، فما زعم لنفسه يوماً أنه خلق من حجر أو حديد. هلك بأرض الروم بعيداً عن أرضه وقومه، ولو أنه مات في أهله وعلى فراشه لتعزَّى بذلك وقال: الموت حقّ ولستُ بمخلّد، ولكن أصابه هذا في بلاد الغربة، فكأنه في نفسه مات قبل ميتته. ولو جاد بنفسه بينهم للقي المنية مطمئناً في "أُسَيْس" أو "زرود" مؤمناً بأن الموت حق.
لقد شقي بآماله العِظام يطلب كل يوم ملكاً كملك قيصر، ومَنْ كانت له مثل هذه الآمال، وعلى حاله من المرض فحريٌّ بالموت أن يتعقبه في كل خطوة يخطوها في تلك الديار، حيث لا يوجد فيها قريب يواسيه، ولا مَنْ يداويه، أو يعوده في مرضه.

ألا أَبْلِغْ بَنِي حُجْرِ بن عمرٍو 
بأنِّي قَدْ بَقِيتُ بقاءَ نَفْسٍ
فَلَوْ أنّي هَلَكْتُ بدارِ قَوْمي
وَلَكِنِّي هَلَكْتُ بأرْضِ قَوْمٍ
أُعَالِجُ مُلْكَ قَيْصَرَ كُلَّ يَوْمٍ
بِأَرْضِ الرُّومِ لا نَسَبٌ قرِيبٌ
وَلَوْ وَافَقْتُهنَّ عَلَى أُسَيْسٍ
عَلَى قُلُصٍ تَظَلُّ مُقَلَّدَاتٍ
وأبْلِغْ ذلك الحيَّ الْحَرِيدَا
ولم أُخْلَقْ سِلاماً أو حَدِيدَا
لَقُلْتُ الموتُ حَقٌّ لا خُلُودَا
بَعِيدٍ مِنْ دِيَارِكمُ بَعِيدا
 وأجدِرْ بالمنيّةِ أن تَعُودا
وَلا شافٍ فَيُسْنِدَ أوْ يَعُودا
 ضُحَيّاً أو وَرَدْنَ بنا زَرُودا
 أزِمَّتُهنَّ ما يَعْدِفْنَ عودا
والمقطوعة الثانية بأربعة أبيات، انفرد السكّري بروايتها، وترتيبها الثمانون في الديوان، قالها الشاعر بأنْقِرة يذكر عِلّته، وهي صريحة الدلالة على موت امرىء القيس بالداء الذي أصابه من جهة، وتنقض جميع الأقوال التي نسجت عن موته بالحلّة المسمومة من جهة أخرى؛ فهو يشير في بيت واحد فيها إلى الطلل ينتقل منه مباشرة إلى الحديث عن القروح التي أصابته وأنهكت جسده، كما لو كان مصاباً في مفاصله، وتكاثرت حتى أوهنت قواه، وشلّت حركته، وأعجزته عن متابعة المسير عائداً إلى دياره، فصار والحالة هذه يرى كل ثوب يلبسه، ولو كان جديداً يرتديه للمرة الأولى، قديماً خلقاً قد لُبس دهراً، وانتشرت القروح على جلده، وملأت جسده كأختام نقشت متراصة على صحيفة.
ويبدو الشاعر في المقطوعة أنه وصل إلى درجة كبيرة من الوهن والعجز، لم يستطع معهما أن يصف داءه بأكثر مما وصف، وتظل هذه المقطوعة – والقصيدة الثانية- خير شاهد على اللحظات الأخيرة في حياة شاعرنا، وعلى معاناته من المرض. ولكن يبقى السؤال: ما هو الداء الذي أصابه، وظهرت أعراضه عليه على النحو الذي ذكره، هل هو داء جديد أصابه في تلك الديار، أو أنه عدوى انتقلت إليه من الطمّاح الأسدي، أو أن الداء القديم عاوده، أو أن السم تفشّى في جسده، وتخلل مسامات جلده فأحدث تلك القروح؟

لِمَنْ طلَلٌ دَاثِرٌ آيُهُ 
فإمّا تَرَيْنِيَ بِي عُرَّةٌ
وَصَيَّرَني الْقُرْحُ في جُبَّةٍ
تَرَى أَثَرَ القُرْحِ في جِلْدِهِ 
تَقَادَمَ في سَالِفِ الأَحْرُسِ
كأَنِّي نَكيبٌ من النِّقْرِسِ
تُخَالُ لَبيساً وَلَمْ تُلْبَسِ
كَنَقْشِ الخَواتِمِ في الجِرْجِسِ
وانفرد السكّري برواية الأبيات التالية، وهي الرابعة والتسعون في الديوان، قالها وهو يحتضر حين حضرته الوفاة بأنقرة.

رُبْ طَعْنَةٍ مُثْعَنْجِرَهْ
وجَفْنَةٍ مُتَحَيِّرَهْ
وقَصِيدةٍ مُحَبَّرَهْ
تَبقَى غَداً بأَنْقِرهْ
وقال ابن الكلبي: "هذا آخر شيء تكلّم به، ثم مات".
وزاد أبو سهل في مخطوطته البيتين التاليين، وترتيبهما السابع والتسعون في الديوان؛ قالهما عند موته:

أَجارتَنا إنَّ المَزارَ قريبُ 
أَجارتَنا إنَّا غَرِيبانِ هَاهُنا 
وإِنِّي مُقِيمٌ ما أَقامَ عَسِيبُ
وَكُلُّ غَرِيبٍ للغَرِيبِ نَسِيبُ
ويذكر الرواة في مناسبتهما أنه رأى قبراً لامرأة من بنات ملوك الروم هلكت بأنقرة، فدفنت في سفح جبل يقال له عَسيب، فسأل عنها، فخبِّر بخبرها؛ فقال البيتين ثم مات. وهو احتمال قائم إلاَّ أن مضمونهما لا يدل على ذلك، "ويمكن لأي غريب في أية رحلة أن يستشعر الغربة فيـجري على لسانه مثل هـذا الشعر إبداعاً وتمثلاً"، وربما كانا من قصيدة وليسا بمنفردين.
ويروي له أبو سهل عند موته أيضاً بيتين ترتيبهما الثامن والتسعون في الديوان، يذكر فيهما أن الداء تمكّن منه وليس يبرحه حتى دعا على نفسه بالموت.

لَقَدْ دَمَعَتْ عَيْنايَ في القَرِّ والقَيْظِ 
فلمّا رأيْتُ الشَّرَّ لَيْسَ ببارِحٍ
وهَلْ تَدْمَعُ العَيْنانِ إلاَّ مِنَ الغَيْظِ!
 دَعَوْتُ لنَفْسِي عِنْدَ ذلك بالفَيْظِ
تلك هي رحلة امرىء القيس التي ظفرنا بها من شعره، والتي صوّرتها القصائد والمقطوعات السابقة تصويراً أدقّ من تصوير الرواية والأخبار لها، فقد عرفنا منها نفسية صاحبها المتأرجحة بين اليأس والأمل، والدّيار التي مرَّ بها في الجزيرة العربية والشام، والطرق التي سلكها فيهما، والمتاعب التي واجهته، وحفاوة الملك الرومي به، ثم مرضه وموته في تلك البلاد في طريق عودته إلى دياره، وغير ذلك من الأخبار التي حصلنا عليها من هذا الطريق، وهي على وفرتها من ناحية، وإيجازها من ناحية أخرى، أضافت إلى رصيدنا عن رحلة هذا الشاعر ما كان ينقصنا من الأخبار التي زوّدتنا بها الرواية العربية، والتي كان يلفّ بعضها الأسطورة والخرافة. ومع ذلك فقد كانت أمنياتنا من تحليل هذا الشعر أن نقف على الطرق التي سلكها امرؤ القيس، والمواضع التي مرَّ بها أو نزل فيها خارج الشام حتى وصل إلى عاصمة الروم، وهذا ما لم يتحقّق لنا أبداً.
فإذا كان شعر امرىء القيس – وكذلك شعر عمرو بن قميئة- على قلّته في هذه الناحية، قد دلّ في مضمونه على الدافع من هذه الرحلة، وعلى تنقل الشاعر في بعض الأماكن حتى وصل إلى بلاد الروم، وإذا كان المحوّر الأول قد أفضى إلى المحور الثاني واتسق معه في الوصول إلى نتيجة واحدة، وهي بيان الجهة التي اتجهها امرؤ القيس في سفره إلى قيصر ملك الروم. فإذا كان الأمر كذلك فإن في الكتب الجغرافية ما يناقض هذه النتيجة ويشكّك فيها من جهة، وفيها ما يؤكّدها ويثبت صحّتها من جهة أخرى، وهذا ما يتضمّنه حديثنا في المحور الثالث.

(3)
فقد مرَّ في شعر عمرو بن قميئة أنه لمَّا خرج مع امرىء القيس إلى بلاد الروم، ورأى "ساتِيدَمَا" حنَّ إلى بلاده فبكى. وقد اختلف الجغرافيون والمؤلّفون العــرب في وصف "ساتِيدَمَا" وتعيين طبيعته، كما اختلفوا في موقعه؛ فمنهم مَنْ ذهب إلى أنه قصرٌ من قصور السواد، ومنهم من ذهب إلى أنه واد ينصبّ إلى نهر بين آمِد ومَيَّافارِقِينَ ثم يصبّ في دجلة، وفريق ثالث ذهب إلى أنه نهر، وفريق رابع ذهب إلى أنه جبل.
أما مَنْ ذهب إلى أن "ساتيدما" قصر من قصور السواد، فقد استدلّ على ذلك بقول أبي النَّجْم يذكر سَكْرَ خالدٍ القَسْريِّ لدجلة:
فَلَمْ يَجِئْها المَدُّ حتى أَحْكَمَا 
سِكْراً  لها أَعْظَمَ من سَاتِيدَما
ويردّ البغدادي على هذا القول؛ فيقول: "ولا يخفى أنه ليس في قول أبي النجم ما يعيِّن كونه قصراً، ولا مانع من أن يحمل على معنى الجبل".
وأما الآراء الأخرى التي قيلت في وصف "ساتيدما" وتعيين طبيعته فإن حديثنا عنها سيكون حديثاً واحداً يشملها جميعها في آن؛ فقد قال البكري فيه(3): "ساتِيدَما: هو جبل متّصل من بَحْر الروم إلى بَحْر الهند".
وقال ياقوت: "قال العِمراني: هو جبل بالهند لا يعدم ثلجه أبداً، وأنشد:

وأبردُ مِنْ ثَلْجِ ساتِيدَما، 
وأكثرُ ماءً مِنَ العِكْرِشِ
وقال غيره: سمّي بذلك لأنه ليس من يوم إلاَّ ويُسفك فيه دم".
وقال أبو عبيدة: "ساتيدما جبل يذكر أهل العلم أنه دون الجبال من بحر الروم إلى بحر الهند".
وقيل في المراصد: إن "ساتيدما"، "جبل بالهند"، فقط.
وقال البكري عن محمد بن سهل في رسم الكوفة: "سُمِّيت الكُوفة، لأن جبل سَاتِيدَمَا محيطٌ بها كالكِفَافَةِ عليها".
وقال في موضع آخر عن ابن الكلبي: "وتهامة: ما ساير البحر، منها مكةُ والعِبْرُ والطُّورُ والجزيرة. فالعِبْرُ: ما أخذ على الفرات إلى بَرِّيْة العرب. والطُّورُ: ما بين دِجْلَةَ وساتِيدَمَا".
ويعود ياقوت فيقول: "وساتيدما: جبل بين مَيَّافارِقِين وسَعَرْت "، وذلك عند استشهاده بأبيات عمرو بن قميئة السابقة، ثم يورد بيتاً للأعشى يقول فيه:

" وهِرَقْلاً يَوْمَ ذِي سَاتِيدَمَا 
مِنْ بَنِي بُرْجانَ ذِي البَاسِ رَجَحْ
وقد حذف يزيد بن مفرّغ ميمه فقال:
فديرُ سُوًى فساتِيدَا فبُصْرَى"
ويخطِّىءُ العِمْرانيَ؛ فيقول: "قلت: وهذا يدلّ على أن هذا الجبل ليس بالهند وأن العِمراني وهِمَ، وقد ذكر غيره أن ساتيدما هو الجبل المحيط بالأرض، منه جبل بارِمَّا وهو الجبل المعروف بجبل حُمْرين وما يتصل به قرب الموصل والجزيرة وتلك النواحي، وهو أقرب إلى الصحة، والله أعلم، وقال أبو بكر الصولي في شرح قول أبي نواس:
ويَوْمَ سَاتِيدَما ضَرَبْنَا بَنِي الأَصْـ ـفَرِ والمَوْتُ في كَتَائِبِها
قال: ساتيدما نهر بقرب أرزَن وكان كسرى أبرويز وجّه إياس بن قبيصة الطائي لقتال الروم بساتيدما فهزمهم فافتخر بذلك، وهذا هو الصحيح، وذِكْره في بلاد الهند خطأ فاحش، وقد ذكر الكسرويُّ – فيما أوردناه- في خبر دجلة عن المَرْزُباني عنه فذكر نهراً بين آمد وميَّافارقين ثم قال: ينصبّ إليه وادي ساتيدما وهو خارج من درب الكِلاب بعد أن ينصبّ إلى وادي ساتيدما وادي الزُّور الآخذ من الكَلْك، وهو موضع ابن بقراط البطريق من ظاهر إرمينية، قال: وينصبّ أيضاً من وادي ساتيدما نهر مَيَّافارقين، وهذا كلّه مخرجه من بلاد الروم، فأين هو والهند؟ يا لله للعجب! وقول عمرو بن قمئةَ: لمَّا رأت ساتيدما، يدل على ذلك لأنه قاله في طريقه إلى ملك الروم حيث سار مع امرىء القيس...".
وإلى مثل هذا ذهب ابن عبد الحق؛ فقال: "وقول الأول إنه جبل بالهند غلط"، وكذلك الزبيدي؛ قال: "وقولهم: إنه جبل بالهند غلط". ويعلّق البغدادي على قول العِمرانيّ؛ فيقول: " وممَّا يردّ به على العِمرانيّ في قوله: إنه جبل بالهند لا يعدم ثلجه، أن الهند بلاد حارّة لا يوجد فيها الثلج".
ونضيف إلى ذلك كلّه أنه ورد في شعر امرىء القيس موضعان أشار إليهما القدماء وهم يتحدثون عن أخباره فيهما، هما: أنْقِرَة، وعَسيب. أمَّا أنقرة فقد ذكرنا أن امرأ القيس لمَّا صار إليها في طريق عودته إلى بلاده – من عند قيصر- احتضر؛ فقال: * رُبْ خُطْبةٍ مُسْحَنْفِرَة * وأنقرة هي كما ذكر البكري في خبر ينسبه إلى عمر بن شَبَّة "موضع بظهر الكوفة، أسفل من الخَوَرْنَق، كانت إياد تنزله في الدهر الأول، إذا غلبوا على ما بين الكوفة والبصرة، وفيه اليومَ طيّىءٌ وسَلِيح، وفي بارق إلى هِيتَ وما يليها، كلُّها منازل طيِّىءٍ وسَلِيح... وقال غيره: أنقرة: موضع بالحيرة، قال الأسود بن يَعْفُر:

ماذا أُؤَمِّلُ بَعْدَ آلِ مُحَرِّقٍ
أَهْلِ الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ وبارِقٍ
حَلُّوا بأَنْقِرَةٍ يَسِيلُ عَلَيْهِمُ 
 تَرَكُوا مَنازِلَهُمْ وبَعْدَ إيَادِ
والقَصْرِ ذِي الشُّرُفاتِ مِنْ سِنْدَادِ
ماءُ الفُراتِ يَجِيءُ مِنْ أَطْوَادِ
... وقال عمر بن شبَّة: قال هشام بن الكلبيّ: قال لي داود بن عليّ بن عبد الله بن عباس: قد رأيتُ أنقرة التي بالروم، وبينها وبين الفُراتِ مَسِيرة عشرة أيام، فكيف يسيل عليها ماؤُه؟ وأنقرةُ التي ذكر داود موضع آخر ببلاد الروم، وهي التي مات فيها امرؤ القيس مُنْصَرَفه عن قيصر..." . ويقف ياقوت عند أنقرة التي وردت في شعر الأسود؛ فيقول: "وقد ذكر بعض العلماء أن أنقرة التي في شعر الأسود هي أنقرة التي ببلاد الروم، نزلَتْها إيادٌ لما نَفَاهم كسرى عن بلاده، وهذا حسن بالغ ولا أرى الصواب إلا هذا القول". ويؤيد قول داود بن علي وكذلك قول ياقوت إن امرأ القيس عَنَى بأنقرة التي وردت في شعره: أنقرة التي ببلاد الروم، ولهذا الشعر خبر مرتبط به –كما أسلفنا-.
وأما عسيب الذي ورد ذكره في شعر آخر لامرىء القيس، كان قاله لما رأى قبر امرأة من بنات ملوك الروم دفنت في سفح هذا الجبل؛ فيقول فيه ياقوت: "وله ذكر في أخبار امرىء القيس حيث قال:

أجارَتَنا إنَّ الخُطُوبَ تَنُوبُ 
أجارَتَنا إنَّا غَرِيبانِ ههنا 
وإنِّي مُقِيمٌ ما أقامَ عَسِيبُ
وكُلُّ غَرِيبٍ للغَرِيبِ نَسِيبُ
وامرؤ القيس بالإجماع مات مسموماً بأنقرة في طريق بلد الروم". وقال ابن قتيبة بعد أن استشهد بهذين البيتين: "وعسيب: جبل هناك" أي في أنقرة التي في بلاد الروم.
فإذا كانت أقوال العلماء في تعيين موقع "ساتيدما" و "أنقرة" و "عسيب" قد دلّت دلالة قاطعة على أن رحلة امرىء القيس كانت إلى قيصر في بلاد الروم – حيث اتّجه إلى الغرب وليس إلى الشرق إلى الهند- فإن الذين ذهبوا منهم إلى غير ذلك قد أخطأوا أو وهِمُوا وجانبوا الصواب، وربّما كان قول محمد بن سهل إن جبل "ساتيدما" يحيط بالكوفة، وقول ابن الكلبي إن "الطُّور" بين دجلة وساتيدما نابِعَيْن من قول الذين قالوا: إن ساتيدما "واد ينصبّ إلى نهر بين آمِدَ وميَّافارقين، ثم يصب في دجلة" – ونقول: "ربما" لأنه ينقصنا الدليل المادي القاطع لإثبات ذلك – وذلك بالنظر إلى بداية مصبّ هذا النهر، الذي أشير إليه بأنه بين آمِدَ وميَّافارقين، وإلى نهاية مصبّه، إذ يوجد بُعْد مكاني كبير بين بداية مصبّه في بلاد الروم، وبين نهاية مصبّه في دجلة، وقد ألمح البكري إلى هذا البعد المكاني في رسم أنقرة، كما بيّنّا سابقاً.
وما يجري على هذين القولين من حكم يجري على ما ورد في شعر يزيد ابن مفرغ الحميري من مواضع توزَّعت على نحو متقارب من بعضها بعضاً بين الحيرة والشام وبغداد، بحيث يفهم منه أن "ساتيدما" الذي ورد فيه لا يبعد أن يكون قريباً من إحدى هذه المواضع؛ يقول:

فَدَيْرُ سَوَى فَساتِيدَا فَبُصْرَى
 فَحُلْوانُ المَخافَةِ فالجِبالُ
وكذلك ربما كان قول عمر بن شبَّة في أن "أنقرة" بظهر الكوفة، راجع إلى أنه قد خلط بين "أنقرة" التي في هذا الموضع، وبين "أنقرة" التي في بلاد الروم لتشابه الاسمين. وأما قول غيره من العلماء إنها "بالحيرة" فقد أوضحنا صواب هذا الرأي عن ياقوت.
* * *
إن ما سبق كان وصفاً لرحلة امرىء القيس بن حُجْر إلى قيصر ملك الروم، وللوجهة التي سلكها شاعرنا في سفره هذا، وهو وصف اقتضى الحديث فيه أن نفصِّل القول في ثلاثة محاور تفصيلاً يتّسق فيها جميعها من حيث الفكرة والهدف، وبحيث يفضي المحور الأول إلى المحور الثاني، والمحور الثاني إلى المحور الثالث، ويتمّ الثاني بالأول ويستكمل به، ويتّضح الثالث بالثاني ويحتاج إليه. حتى إذا انتهينا من وصف الرحلة على هذا النحو وجدنا أن امرأ القيس أخذ يستجير بالقبائل العربية – في داخل الجزيرة العربية واليمن- يطلب منها العَوْن والمَدَد على بني أسد قَتَلة أبيه، فلمَّا خذلته ولم تُجِرْه قرّر الذهاب إلى القيصر؛ فسار إلى الشمال مارّاً بالديار الشامية حتى بلغ شَيْزَر، ومنها تابع سيره متنقِّلاً في هذه البلاد، ثم اتّجه إلى الغرب إلى أن وصل إلى القسطنطينية- وإن لم تذكر الروايات العربية، وكذلك شعر امرىء القيس، الأماكن التي مرَّ بها هذا الشاعر بعد أن جاوز شيزر في الشام إلى أن وصل إلى بلاد الروم- ومسار الرحلة من مبدئها في جزيرة العرب إلى منتهاها إلى القسطنطينية يؤكده الرواة والإخباريون العرب كما سبق أن ذكرنا.
ولكن نجد بعض المؤرخين المحدثين يشكّون في أمر هذه الرحلة، ويَرَوْن أن قصة ذهاب امرىء القيس إلى عاصمة الروم هي من وضع الرواة وابتكار القصَّاصين؛ من هؤلاء جرجي زيدان يقول عن هذه القصة معرباً عن رأيه: "... ومن الثابت أن امرأ القيس بعد أن يئس من نصر العرب اتّجه ببصره إلى امبراطور الروم، وسار نحو الشمال حتى بلغ شيزر، ولا نعرف كيف وصل إلى القسطنطينية، بل لا نستطيع القطع بأنه وصل إليها أصلاً. أمَّا ما يؤكده الرواة في هذا الموضوع فمعظمه موضوع، وقد يكون الأمر قد اختلط عليهم، فاسم امرىء القيس كان شائعاً بين العرب إذ ذاك، حتى إن فلهاوزن عدّ خمسة عشر شاعراً كل منهم يسمّى امرأ القيس، ثم إن شيوخ القبائل العربية كانوا يتردّدون على بلاد القسطنطينية مستنصرين بالروم، فلا يبعد أن الرواة والقصَّاصين ابتكروا قصة ذهاب امرىء القيس إلى عاصمة الروم".
وقد أقام جرجي زيدان رأيه هذا على الأخبار التي رواها جواد علي عن المستشرقين البيزنطيين، فقد روى خبراً وجده عند المؤرخ البيزنطي "بروكوبيوس"؛ يقول فيه: إن رجلاً من أبناء الأشراف ورؤساء القبائل واسمه قيس Kaisus قتل أحد أقارب السميفع Esimiphaeus ملك حمير، وفرَّ إلى البادية، فتوسط له القيصر وطلب إلى السميفع – بواسطة رسول أرسله إليه يدعى يوليانوس Julianus- تنصيبه رئيساً على معدّ Maddeni وعلى الأعراب، وقد كانت سفارة يوليانوس إلى الحميرين قبل موت قُبَاذ أي قبل سنة 531م. وذكر أنه "ليس في هذا الخبر ما يفيد قيام ثورة على والده ومقتله. وفي الخبر إشارة إلى شجاعة قيس وكفاءته وحزمه، لهذه الأسباب رغب القيصر على ما يظهر في تعيينه رئيساً على معد".
وروى أيضاً خبراً عن المؤرخ نونوسوس Nonnosus- نقله من مقالة للأب لويس شيخو اليسوعي – أنَّ القيصر يوستينيانُس كلف نونوسوس الذهاب في سفارة إلى قيس Kaisus حفيد الحارث Aretas ورئيس قبيلتين عظيمتين من قبائل العرب (السرسينوى Saracynoi) هما كندة Kindynoi ومعدّ Maadynoi لمواجهته ودعوته إلى المجيء معه إلى الامبراطور إن أمكنه ذلك، فذهب نونوسوس إليه، ونفّذ أوامر القيصر، وعاد سالماً إلى بلده. وذكر أنه سبق أن كلّف أباه – أبا نونوسوس- وهو إبراهيم أن يذهب إلى قيس لعقد معاهدة معه، وقد تمكّن من ذلك وأخذ معه ابنه معاوية إلى بيزنطة ليكون رهينة عند يوستينيانس. وكلّف إبراهيم مرَّة ثانية أن يذهب إلى قيس بمهمّة سياسية أخرى، فذهب إليه، وأقنعه بالقدوم إلى بوزنطية فقسم قيس ولايته على القبائل بين أخويه يزيد Jezidos وعمرو Aumros، ونال من الامبراطور ولاية فلسطين، وجاء معه بعدد لا يحصى من مرؤوسيه.
ويروي جواد علي أخباراً أخرى من هذا القبيل تدل في جملتها على سفارة رسل القياصرة إلى رؤساء القبائل العربية وزعمائها، لعقد المعاهدات معهم أو لمفاوضتهم في بعض الأمور السياسية، وعلى تردّد هؤلاء الزعماء العرب على بلاد الروم، بحيث دعت هذه الروايات جميعها جرجي زيدان إلى أن يخلص في شكّه إلى القول: "فلعلَّ ذلك كلّه هو الأصل الذي نشأت عنه قصة ذهاب امرىء القيس إلى بيزنطة ووشاية الناس به وسمّه على يد الامبراطور".
وليس في ما ذكره هذان المستشرقان من أخبار تتعلق برجل اسمه قيس يجعلنا نشكّ – بعد كل الذي عرضنا له وتوصلنا إليه- في رحلة امرىء القيس إلى بيزنطة ومقابلته القيصر، وأن نذهب في شكّنا إلى ما ذهب إليه بعض المؤرخين العرب وننعتها بالوضع والابتكار، خاصة أنه لا يوجد بين أيدينا دليل يثبت أن "قيساً" عندهما هو امرؤ القيس الشاعر، وأن تردّد زعماء القبائل على بلاد الروم يدخل في دائرة الحقيقة في حين لا تُعَدُّ رحلة امرىء القيس كذلك، ونحن نجد أحداثها تتردّد في شعره، وترتبط بها أكثر من قصيدة ومقطوعة موثقة الرواية على ما عرضنا له قبل قليل. بل إنه يصعب علينا التصديق أن تواريخ العرب والروايات العربية أضربت أو تجاهلت أو لم تهتمّ برواية مثل هذه الأخبار التي وردت في تواريخ الروم – إن صحّت- لشاعر معروف ذائع الصيت وقتئذٍ! ولعلّ في ردّ جواد علي على هذين المستشرِقَيْن مقنعاً لكل من شك في قصة ذهاب امرىء القيس إلى القيصر نختم به حديثنا في هذا الموضوع؛ يقول: "وليس في الذي أورده بروكوبيوس أو نونوسوس، ما يثبت أن قيساً هو امرؤ القيس. ومجرد تشابه الاسمين لا يمكن أن يكون حجة على أنهما لمسمّى واحد. ثم إن ما ذكره نونوسوس من أن قيساً كان رئيساً على قبيلتي كندة ومعدّ لا يكون دليلاً على أنه كان حتماً من كندة، أو أنه كان حتماً امرأ القيس الشاعر الذي يعرفه الإخباريون. وقد رأيت أن نونوسوس أوصل صاحبنا قيساً إلى بلاط القيصر، وأعاده إلى بلاده مكرَّماً محترماً بحاشية كثيرة العدد وافرة العدّة، وجعل له مدّة حكم طويلة، وعيَّنه والياً على فلسطين. أما أصحابنا الإخباريون، فجعلوا صاحبهم امرأ القيس رجلاً طريداً شريداً، يتنقّل بين القبائل ملتجئاً إليها، طمعاً في الأخذ بالثأر من قتلة أبيه وفي الأمن والسلامة من الذين يتعقبون أثره يبغون قتله. ثم إنهم لم يكتفوا بكل ذلك، فأوصلوه إلى بلاط قيصر الروم، وقالوا إنه استقبل هناك بما كان ينبغي من الاحترام والإكرام، ولكنهم عادوا فذكروا أن القيصر ندم على ما صنع، وهمّ به أمراً، ثم أماتوه، وقبضوا روحه ودفنوه غريباً بأنقرة في جانب قبر غريبة...
ومن يستطيع إثبات أن امرأ القيس كان هو الرجل الوحيد الذي عرف بهذا الاسم، حتى نقول إن قيساً هو امرؤ القيس حتماً..."؟

المصادر والمراجع

  • الأزمنة والأمكنة، المرزوقي، أبو علي، أحمـد بن محمـد بـن الحسن (ت 421هـ)، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1332هـ = -195م.
  • الأصنام، ابن الكلبي، هشام بن محمد بن السائب (ت204هـ)، تحقيق محمد عبد القادر أحمد وأحمد محمد عبيد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
  • الأغاني، الأصفهاني، أبو الفرج، علي بن الحسين (ت356هـ)، تحقيق علي محمد البجاوي وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  • امرؤ القيس، سليم الجندي، مكتب النشر العربي، دمشق، 1936م.
  • امرؤ القيس حياته وشعره، الطاهر أحمد مكي، ط6، دار المعارف، القاهرة، 1993م.
  • امرؤ القيس شاعر المرأة والطبيعة، إيليا حاوي، ط2، دار الثقافة، بيروت، 1981م.
  • امرؤ القيس الملك الضّلّيل، محمد رضا مروَّة، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ = 1990م.
  • امرؤ القيس منتخبات شعرية، فؤاد أفرام البستاني، ط5، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1958م.
  • امرؤ القيس يقف على المسرح، محمد عبد اللطيف أبو صوفة، ط1، دار الحافظ للنشر والتوزيع، عَمَّان، 1404هـ = 1984م.
  • أمير الشعر في العصر القديم امرؤ القيس، محمد صالح سمك، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1974م.
  • الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين، ابن الأنباري، كمال الدين، أبو البركات، عبدالرحمن بن محمد بن أبي سعيـد (ت 577هـ)، ط4، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1380هـ=1961م.
  • البداية والنهاية، ابن كثير، عماد الدين، أبو الفداء، إسماعيـل بـن عمر (ت 774هـ)، تحقيق أحمد أبو ملحم وآخرين، ط5، دار الكتب العلمية، بيروت، 1409هـ = 1989م.
  • بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، محمود شكري الآلوسي، شرح وتصحيح وضبط محمد بهجة الأثري، ط3، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1342هـ = 1923م.
  • تاج العروس من جواهر القاموس، مرتضى الزبيدي، محبّ الدين، أبو الفيض، محمد بن محمد بن محمد (ت1205هـ)، دار ليبيا للنشر والتوزيع، بنغازي، 1386هـ = 1966م.
  • وطبعة أخرى بتحقيق عبدالستار أحمد فرَّاج وآخرين، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت، 1385هـ - 1395هـ = 1965م – 1975م.
  • تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان، تعليق شوقي ضيف، دار الهلال، القاهرة، 1957م.
  • تاريخ الأدب العربي، ريجيس بلاشير، ترجمة إبراهيم الكيلاني، ط2، دار الفكر، دمشق، 1404هـ = 1984م.
  • تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان، ترجمة عبدالحليم النجّار وآخرين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م.
  • تاريخ ابن خلدون، ابن خلدون، أبو زيد، عبدالرحمن بن محمـد (ت 808هـ)، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1956م.
  • تاريخ الطبري، الطبري، أبو جعفر، محمد بن جرير (ت 310هـ)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار سويدان، بيروت، 1387هـ = 1967م.
  • تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1372هـ = 1953م.
  • تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر (ت 292هـ)، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1379هـ = 1960م.
  • تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب، الأعلم الشنتمري، أبو الحجاج، يوسف بن سليمان بن عيسى (ت 476هـ)، في حاشية الكتاب لسيبويه، ط1، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، القاهرة، 1316هـ - 1317هـ.
  • تقويم البلدان، أبو الفداء، عماد الدين، إسماعيل بن علي (ت 732هـ)، تصحيح رينود وماك كوكين ديسلان، دار الطباعة السلطانية، باريس، 1850م.
  • التكملة، الصَّغاني، رضي الدين، الحسن بن محمد بن الحسن (ت 650هـ)، تحقيق عبدالعليم الطحاوي وآخرين، دار الكتب، القاهرة، 1970م-1979م.
  • خزانة الأدب، عبدالقادر بن عمر (ت 1093هـ)، تحقيق وشرح عبدالسلام هارون، ط 1-2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومكتبة الخانجي، القاهرة، ودار الرفاعي، الرياض، 1979م-1986م.
  • دائرة المعارف الإسلامية، النسخة العربية إعداد وتحرير إبراهيم زكي خورشيد وآخرين، ط2، دار الشعب، القاهرة، 1969م.
  • ديوان أبي نواس، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1382هـ = 1962م.
  • ديوان الأسود بن يعفر، تحقيق نوري حمودي القيسي، مديرية الثقافة العامة، بغداد، 1390هـ = 1970م.
  • ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، شرح وتعليق م. محمد حسين، مكتبة الآداب بالجماميز، الإسكندرية.
  • ديوان امرىء القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط5، دار المعارف، القاهرة، 1990م.
  • ديوان البحتري، تحقيق وشرح حسن كامل الصيرفي، دار المعارف، القاهرة، 1963م – 1964م.
  • ديوان الخنساء، تحقيق أنور أبو سويلم، ط1، دار عمَّار، عمَّان، 1409هـ = 1988م.
  • ديوان عبيد بن الأبرص، تحقيق وشرح حسين نصار، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط1، القاهرة، 1377هـ = 1957م.
  • ديوان عمرو بن قميئة، تحقيق حسن كامل الصيرفي، مجلة معهد المخطوطات العربية، المجلد الحادي عشر، القاهرة، 1385هـ = 1965م.
  • الزينة في الشعر الجاهلي: التزيّن بالحلي، يحيى الجبوري، حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، جامعة قطر، العدد الرابع، 1401هـ = 1981م.
  • الزينة في الشعر الجاهلي: زينة الطيب والعطور، يحيى الجبوري، حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، جامعة قطر، العدد السادس، 1403هـ = 1983م.
  • شرح أبيات سيبويه، السيرافي، أبو محمد، يوسف بن أبي سعيد (ت 385هـ)، تحقيق محمد علي سلطاني، مجمع اللغة العربية، دمشق، 1396هـ = 1976م.
  • شرح ديوان امرىء القيس، حسن السندوبي، ط4، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1378هـ = 1959م.
  • شعر السموأل، تحقيق وشرح عيسى سابا، مكتبة صادر، بيروت، 1951م.
  • شعر ابن مفرِّغ الحميري، جمع وتقديم داود سلوم، مكتبة الأندلس، بغداد، 1968م.
  • الشعر والشعراء، ابن قتيبة، أبو محمد، عبد الله بن مسلم (ت 276هـ)، دار الثقافة، بيروت، 1964م.
  • شعراء النصرانية، لويس شيخو اليسوعي، ط2، دار المشرق، بيروت، 1967م.
  • الشوامخ: امرؤ القيس درس وتحليل، محمد صبري، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1944م.
  • الصحاح، الجوهري، أبو نصر، إسماعيل بن حماد (ت 393هـ)، تحقيق أحمد عبدالغفور عطَّار، ط3، دار العلم للملايين، بيروت، 1404هـ = 1984م.
  • طبقات فحول الشعراء، ابن سلاّم الجمحي، أبو عبد الله، محمد بن سلام (ت 231هـ)، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1974م.
  • العرب قبل الإسلام، جرجي زيدان، مراجعة وتعليق حسين مؤنس، دار الهلال، القاهرة، -19م.
  • العرب قبل الإسلام، حسين الشيخ، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1993م.
  • العقد الثمين، المطبعة اللبنانية، بيروت، 1886م.
  • علاء الدين ومسرحيته الشعرية: امرؤ القيس بن حُجْر، تحقيق وتعليق محمد أبو صوفة، ط1، د.ن، عمَّان، 1417هـ = 1997م.
  • فحولة الشعراء، الأصمعي، أبو سعيد، عبدالملك بن قُرَيْب (ت 216هـ)، تحقيق ش. تورّي، ط1، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1389هـ = 1971م.
  • فُرحة الأديب، الأسود الغُنْدِجاني، أبو محمد، الحسن بن أحمد الأعرابي (ت بعد 430هـ)، تحقيق محمد علي سلطاني، دار قتيبة ودار النبراس، دمشق، 1401هـ = 1981م.
  • فِصَل المقال في شرح كتاب الأمثال، البكري، أبو عبيد، عبد الله بن عبدالعزيز (ت 487هـ)، تحقيق إحسان عباس وعبدالمجيد عابدين، ط3، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403هـ = 1983م.
  • القاموس المحيط، الفيروزآبادي، مجدالدين، محمد بن يعقـوب (ت 817هـ)، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1407هـ = 1987م.
  • قراءة ثانية في شعر امرىء القيس، محمد عبدالمطلب، ط1، مكتبة لبنان، بيروت والشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان، القاهرة، 1996م.
  • الكامل في التاريخ، ابن الأثير، عزّالدين، أبو الحسن، علي بـن محمـد (ت 630هـ)، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1385هـ = 1965م.
  • لسان العـرب، ابن منظور، أبو الفضل، محمد بن مُكَرَّم (ت 711هـ)، ط1، دار صادر، بيروت.
  • مجلس المرأة وزينتها في العصر الجاهلي، ليلى العمري، رسالة دكتوراه، الجامعة الأردنية، عمَّان، 1995م.
  • مجمع الأمثال، الميداني، أبو الفضل، أحمد بن محمد بن أحمـد (ت 518هـ)، تعليق نعيم حسين زرزور، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ = 1988م.
  • المحبّر، ابن حبيب، محمد بن حبيب (ت 245هـ)، تصحيح إيلزه ليختن شتيتر، مطبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1361هـ = 1942م.
  • المختصر في أخبار البشر، أبو الفداء، عمادالدين، إسماعيـل بـن علي (ت 732هـ)، ط1، المطبعة الحسينية، القاهرة.
  • مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، ابن عبدالحق، صفي الدين، عبدالمؤمن بن عبدالحق (ت739هـ)، تحقيق وتعليق علي محمد البجاوي، ط1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1954م – 1955م.
  • المزهر في علوم اللغة وأنواعها، السيوطي، جلال الدين، عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد (ت 911هـ)، تحقيق محمد أحمد جاد المولى وآخرين، دار الفكر، القاهرة.
  • المستشرقون والشعر الجاهلي بين الشك والتوثيق، يحيى الجبوري، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997م.
  • المستقصى في أمثال العرب، الزمخشري، جارالله، أبو القاسم، محمود بن عمر (ت 538هـ)، تصحيح محمد عبدالرحمن خان، ط1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن، الهند، 1381هـ = 1962م.
  • المشرق، السنة الثامنة، العدد 21، 1 تشرين الثاني، بيروت، سنة 1905م.
  • معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، العباسي، عبدالرحيم بن أحمـد (ت 963هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1367هـ = 1948م.
  • معجم البلدان، ياقوت الحموي، شهاب الدين، أبو عبد الله، ياقوت بن عبد الله (ت 626هـ)، تحقيق فريد عبدالعزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990م.
  • معجم الشعراء، المرزباني، أبو عبيدالله، محمد بن عمران بـن موسى (ت 384هـ)، تحقيق عبدالستار أحمد فرَّاج، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1379هـ = 1960م.
  • معجم ما استعجم، البكري، أبو عبيد، عبد الله بن عبدالعزيز (ت 487هـ)، تحقيق مصطفى السقّا، عالم الكتب، بيروت.
  • الملك الضّلّيل امرؤ القيس، محمد فريد أبو حديد، ط4، دار المعارف، القاهرة، 1966م.
  • المؤتلف والمختلف، الآمدي، أبو القاسم، الحسن بن بشر (ت 370هـ)، تحقيق عبدالستار أحمد فرَّاج، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1381هـ = 1961م.
  • الموشّح، المرزباني، أبو عبيدالله، محمـد بن عمران بن موسى (ت 384هـ)، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1385هـ.
  • نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، ابن سعيد الأندلسي، أبو الحسن، علي بن موسى بن محمد (ت 685هـ)، تحقيق نصرت عبدالرحمن، ط1، مكتبة الأقصى، عَمَّان، 1982م.
  • نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقَّري التلمساني، شهاب الدين، أبو العباس، أحمد بن محمد بن أحمد (ت 1041هـ)، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1408هـ - 1410هـ = 1988م-1990م.

 د. ليلى توفيق العمري
الأستاذ المساعد في قسم اللغة العربية
الجامعة الهاشمية

_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..