حينما تعيش أجواء «تويتر» فإنك ستكون على احتكاك مباشر مع الحال
الجماهيرية لأية نظرية سياسية أو غيرها، وسترى الثقافة العامة التي يشكلها
أي تنظيم في عقليات أنصاره، ومن ثم ستعرف كيف تتشكل الذهنية الثقافية
كاستجابة لسياسة وسلوك تنظيم ما، وفي مقالتين متتاليتين سأضع قراءتي لحال
جماهير الإسلام السياسي، بشطريه الشيعي والسني.وأبدأ من مقولة قلتها
قبل أعوام في محفل كبير في مدينة القطيف شرق السعودية، إذ كشفت عن عميق
شعوري تجاه «حزب الله»، وقلت: إن انتصار الحزب انتصار لضميري، وكنت أقولها
وأعنيها تحت معنى وعنوان نظرية المقاومة، ولم يكن كلامي ليخص شخصاً بعينه
ولا طائفة بعينها، ولكنه كلام عن المقاومة وهي ضميرنا كلنا، ولا شك.
ثم حدث ما حدث من تدخل «حزب الله» في سورية، وحينها تغير عندي وعند غيري السؤال، وصرنا نتساءل بحرقة عن مفهوم المقاومة، وهل لها صلة بأية صيغة من الصيغ مع دخول الحزب لسورية!
هنا أخذت الأمور في الاختلاط والتداخل غير الثقافي وصار الضمير في حال امتحان، فأنت أمام طاغية يقتل شعبه، وليس على ذلك من خلاف، ومن هنا فكيف ستكون صورة من يسانده ويقاتل معه، حاملاً راية الظلم ومقترفاً القتل لشعب ثار لأجل حريته!
كان لا بد لي وقد هتفت لـ «حزب الله» المقاوم، أن أتقدم بنقد تصرف الحزب حين تحول إلى صف الظالم.
وهنا تحضر المظلومية لتكون موضعاً للسؤال نفسه، وإذا ما تحولت المظلومية لتكون ظالمة فماذا يبقى لها من الرصيد الأخلاقي والمنطق الثقافي، وإذا تخلى المقاوم عن دوره وحرف وجهة البندقية، فما مصير من ينتقد هذا السلوك؟
لكي تملأ الأرض عدلاً من بعد أن ملئت جوراً، فهذا يقتضي أن تسلك سلوكاً عادلاً يبرر للكل بأن مظلوميتك علمتك درساً أخلاقياً في مقاومة أي ظلم وأي ظالم، كما سيفترض فيها أن تكون حلاً للمظالم ومنعاً لوقوعها، وليس إسهاماً في صناعتها من جديد وتكرارها!
هذا هو ما حاولته في تجربة حية على «تويتر»، فماذا لقيت من مناصري الحزب، وهو رد فعل يكشف عن النسق المتشكل بشعار الحل المفترض، ويبين أن الحل الموعود لم يكن حلاً بقدر ما هو مشكل بحد ذاته، إذ صار المقاوم ظالماً وصارت لغته مبررة للظلم ومنظرة له، واتبع المغردون المناصرون لـ «حزب الله» ثلاثة أساليب لمحاصرة نقد سلوك الحزب في سورية، هي:
1- محاولة صرف النقد الموجه للحزب بأن يدفعك للكلام عن الإرهاب والإرهابيين، لكي يحاصر نقدك ويشغله بنقطة أخرى غير الرئيسة، وبالتالي يدفعك إلى إغماض عينك عن قول كلمة ناقدة توجه نقدها للخطأ المحدد، وفي هذا محاولة لبناء سد حصين يتمترس فيه الخطأ محصناً عن أي نقد، ويتم له أن يمارس ظلمه من دون محاسبة، فقط لأن غيره ظالم مثله، وعليك بغيره ودعه في حصانته.
2- محاولة تشويه الناقد بوصفه ونعته بما في المعجم كله من صفات، وكل حسابات «تويتر» المبهمة والمتسمية بأسماء وهمية ستحضر إليك لتحاصرك، وفي النهاية جاء تقرير إخباري في محطة موالية بعنوان: «الغذامي يقدم تحولات من نوع جديد»، اعتمدت على تغريداتي الناقدة لتدخل «حزب الله» مع اتهامي بالتحول الظلامي، وورد هذا في نشرة الأخبار الرئيسة، وهو على «يوتيوب» وبهذا العنوان.
3- الدفع بتصوير أي نقد أو مساءلة لـ «حزب الله» على أنه مساس بالتشيع منهجاً وتاريخاً، ويجري استخدام عبارة «آل البيت» في الخطاب السياسي المنبري وفي لغة «تويتر»، لتلبيس القول بأن الناقد في مواجهة مع بيت النبوة، ولن يسلم الناقد الشيعي من التهمة ذاتها.
والحق أن هذا تكتيك تجده عند جماهير الحزبية الإسلامية سنة وشيعة، من حيث صرف الخطاب وتمييعه، ومن حيث ضرب الناقد بالتهم، وهنا يأتي السؤال الصعب: هل نحن هنا بصدد تأكيد المعنى الشيعي التاريخي عن المظلومية وملء الأرض عدلاً من بعد الجور العام؟ وبالتالي نقدم حلاً لمشكلات البشرية ونكون مقاومين ومنقذين وواعدين، أم أننا نربي جماهير منحازة ويغطي على بصائرها العمى الثقافي وينطبق عليها قول الشاعر: «لا يسألون أخاهم حين يندبهم/ في النائبات على ما قال برهانا»؟
هذا هو ما تلحظه على ثقافة الجماهير المناصرة، وهي في حال انصياع تام مع لغة الحزب وتبريراته، وفي تصديق مطلق له حتى لا تطلب برهاناً ولا حجة، وكذلك لا تقبل نقداً ولا مساءلة، ومن هنا يجري تصنيع النسق الأعمى وغرسه في النفوس وفي اللغة وفي خطاب التعامل مع المخالف.
وإن كان «حزب الله» هو رأس المعنى للمقاومة ما أكسبه قيمة أخلاقية وتاريخية في ضمائرنا كلنا، حتى صار كل انتصار له انتصاراً لنا، فإنه مع الحال السورية صار ينقض كل هذه القيم، ويتحول إلى حال في تأزيم المعاني، وتأزيم العلاقة بين المجتمعات وفي داخلها، وتوريط التاريخ والمستقبل بصور مؤلمة ستلاحق الأجيال المقبلة، لتكتب تاريخاً متصلاً من المظلوميات، وهذا ضرر مستقبلي على الشيعة والسنة معاً.
تخويف الناقد
وأخطر شـــيء في هـــذا هو في إحساس الناس بالخوف من نقد أي تـــصرف للحزب، حتى صار الحزب مصدر رعب بدلاً من أن يكون مصدر فخر ونصــر، وصار الحزب قوة ضاربة لا من حيث قدراته المادية فحسب، ولكن أيضاً من حيث جبروته وجبروت لغته في الرد والحسم، والقطع بأنه محق وعلى حق دائم، وأن غيره شياطين.
هنا نكون على مشهد حي من صناعة ثقافة التحزب السلبي والرافض للآخر المختلف، إذ تحولت المظلومية إلى ظالمة وتحول الوعد إلى رعب ثقافي يتزايد يوماً بعد يوم، ومن ثم فإن ما يجري هو تشويه للمعاني وتكرار للخيبات التاريخية المعاصرة، بدءاً من خيبات اليسار العربي الثوري، إلى خـــيبة نشهدها عياناً، وفي الحالين راهنت ثقـــافتنا على المخلص المنقذ، فإذا به خيبة تـــحل من بعد خيبة، وتتبخر الوعود، ولكن بعد أن تخلف أمراضاً تزمن وتنغرس في الجماهير، وتبقى حتى وإن زال الفعل والفاعل.
هل هذه بكائية مني على زمن المقاومة، أم هي نقد يحاول التنبيه للأخطاء، ويأمل بآذان صاغية تتدارك ما تبقى من الجرة!
نيتي هي في الاحتمال الثاني، لأجل تصحيح المسار.
وأولى خطى تصحيح المسار هي في إدراك أن ما نشهده على «تويتر» ليس سوى علامة على نوع من التغذية والتشرب الثقافي الناتج من التوجه الحزبي الفئوي، وهو خطاب يتغلغل في نفوس جماهير لا تحصى، وعلى امتداد المعمورة، حتى ليصبح نسقاً مغروساً في الذهنيات، ومن ثم في السلوكيات، يحدث معه انفصام اجتماعي مع المحيط المحايث والداخلي، وهذا ما يتطلب منا مباشرة الحال بنقد عقلاني يسمي الأخطاء بأسمائها، كما سمينا المقاومة باسمها «حينما كانت مقاومة».
وفي المقالة المقبلة (تُنشر لاحقاً) وقفة مماثلة على حال الحزبية السنية.
--------------------------
< كأنما يريدون (في تركيا) حكماً بلا معارضة، أو كأنما يريدون حكماً محصناً من المساءلة، وتكفيه التزكية ليعمل ولا حرج. هل هذا ما يريد الإسلاميون أن يرسموه عن أنفسهم وعن صورة النظرية السياسية الإسلامية بصفتها ديموقراطية مسلمة؟ وحتماً سيكون جوابهم على تساؤلي بالنفي، لكن المؤشر الثقافي لخطابهم يقول لي ولغيري إن هذه هي الخلاصة التي نخرج بها ومن تأملنا لحال الخطاب.
وقد بدأت الحكاية باتهامات في الفساد تمس رئيس الوزراء وبيته العائلي، ثم تطورت بحجب موقع «تويتر» و «يوتيوب»، ثم انتهت بلغة توعدية ضد الخصوم، وهذه كلها حدثت من رجل ديموقراطي وصل لموقعه عبر أصوات الشعب وكان رمزاً للنزاهة وحقق نجاحات اقتصادية كبرى، ولكن...!
يظل الرجل يعطي وجهين، أحدهما جميل وواعد يحمل صورة تمناها كل واحد منا في ضميره وفي تطلعاته بأن تكون لثقافتنا الإسلامية رمزية سياسية ديموقراطية، وكان رجب طيب أرودغان اسماً يحمل هذه الرمزية، لكننا صرنا نشهد وجهاً آخر للرمز، صدرت عنه تصرفات تنقض الصورة وتشوهها، حيت تخلط عملها الصالح بآخر سيئ. وهو رجل صار مثل عملة ذهبية لكن أحد وجهيها انطبع بصورة ديكتاتور من حيث كنا لا نرى، إلا صورة الديموقراطي الذهبي.
هنا تأتي اللحظة التي تكشف فيها صدقية الخطاب السياسي الإسلامي عبر جماهيره التي تشهدها على «تويتر»، أعني «تويتر» التي تعرضت للحجب على يد الزعيم الرمز، لكنها لا تزال مفتوحة للجمهور المناصر.
في مثل هذه الحال التي لم تعد افتراضية، لكنها واقع مؤلم بحق ستكون لك فرصة أن تقرأ الذهنية التأسيسية للمعنى الديموقراطي لجماهير النظرية السياسية الإسلامية، وأخص الجماهير لأنها هي ما يكشف لنا حال النظرية بصفتها قيمة تأسيسية أو فشلها في التأسيس، وهل ستمارس الجماهير المعنى الديموقراطي ومن قبله المعنى الإسلامي، والذي يقضي بوضع ميزان عادل بين الصواب والخطأ فيقوي الصواب وينقد الخطأ من أجل تصحيح المسار. وفوق هذا سيأتي السؤال الأخطر وهو: هل الولاء للأشخاص والأسماء أم للنظرية، أي النظرية الديموقراطية الإسلامية...؟!
تجربة النقاش المفتوح في «تويتر» ستكشف لنا عن حال لا تختلف عما ذكرناه في المقال السابق عن الإسلامية الشيعية، ولسوف ترى الإسلامية السنّية تجنح كزميلتها الشيعية بأن تنظر بعين الرضا والقبول للرمز، وسترى أن أي نقد له هو انحياز لأهل الباطل ضد البطل الرمز.
ولا بد لي من أن أؤكد مرة أخرى أن خطاب «تويتر» يكشف لنا حالة المعنى الديموقراطي عند الإسلاميين، خصوصاً أننا أمام أهم ركن في الديموقراطية وهو أقوى الأدلة على ديموقراطية أي خطاب، من حيث طريقة تعامله مع خصمه وطريقة تعامله مع الأزمات التي تمر على حكمه. وما لحظناه على أردوغان، من جهة، وعلى جماهير النظرية الإسلامية من جهة ثانية ينحصر في المآزق الثلاثة، وهي تهمة الفساد ثم حجب «تويتر»، ثم لغة التوعد للخصوم. فعلها أردوغان وانساق له الأنصار، ولو تركنا هذه تمر تحت مظنة أنها حال انفعال وردّ فعل، فإننا بهذا كمن يترك النار تحرق المكان من دون أن نكافحها وهي صغيرة، وإن الحرب أولها كلام - كما قال الشاعر القديم - وإذا قيلت كلمة الفساد فواجب اللغة في حينه أن تربط الحزام، إن كانت تؤثر الحق وتنحاز له.
ما نشهده من ثقافة ماثلة لا يبشر بوعي ديموقراطي، لكنه يكشف عن حزبية سالبة، ترى الحق معها حكراً واختصاراً، وتجنح إلى تبرير تصرفاتها وكأنها مخلّدة على الكرسي، حتى لتعتبر الفوز الانتخابي كأنما هو تسخير رباني، ولا تراه ظرفياً ومشروطاً ببرنامج يقوم على الوعد من جهة، وعلى المنجز الواقعي من جهة أخرى، ولو اختل أحدهما فسيأتي وعد آخر مختلف. ولن يتسنى للنظرية أن تمسك على توازنها ما لم تكن شفافة وتقوم على قبول المحاسبة، ولا تستهين بالتهم الخطرة كتهمة الفساد، وهي التي جرى تكذيبها وشتم القائل بها بمجرد سماعه وقبل أي تحقق، كما ليس لها أن تتصرف بحجب الحريات وتمنع الاتهام عنها بالقوة اللفظية وقوة القرارات، مع الاستعانة بالأنصار وحشدهم لقبول إجراءات منع الحريات، وهذا ما فعل أردوغان، في لحظة امتحان حساسة تكشف عن المعنى الديموقراطي وهل يصمد للنقد أم لا...؟!
إن كان أردوغان ظهر أمام العالم بوجهين، أحدهما ديموقراطي بامتياز والآخر ديكتاتوري بامتياز، فإن جمهور النظرية الإسلامية السياسية ظهر أيضاً بالوجهين نفسيهما، أي أنك على مشهد نموذجي لثقافة التطفيف.
ولنفترض أن «تويتر» و «يوتيوب» كانتا قد بثتا كلاماً عن فتح الله غولن باتهام له بالفساد المادي، فكيف سيكون الموقف...!؟ لنجرب أن نقول إن أردوغان لن يحجب «تويتر» ولا «يوتيوب»، وسيكون هذا تصرفاً صحيحاً، وفي حينه سنسأل مرة أخرى كيف يصح هذا مرة ولا يصح في أخرى...؟!
أولاً يكون هذا تطفيفاً...!
المحزن في أسئلتي هذه كلها أننا لسنا في حاجة إلى أجوبة، وهذا يعني أننا أصبحنا على بيّنة مطلقة من تصرف الزعيم والجماهير معاً. وهذا بالضبط ما يضرب النظرية في مقتل ويهدد مستقبلها ويقنطنا من الرهان عليها. هنا مكمن الخطر على النظرية السياسية الإسلامية، ما دام جمهورها الشيعي - كما في المقال السابق - والسنّي - كما هنا - لا يؤسس لمعاني العدالة مرتبطة بالمساواة والحرية والتعددية، ويهرع للانتصار للذات ولمنهجيته الخاصة، ولا يسعى إلى تأسيس المعنى التعددي، وهذا بكل تأكيد ليس علامة نجاح، ولا هو رهان مطمئن لمستقبل النظرية.
ثم كيف بالطرفين (السنّي والشّيعي معاً) أن يَضيقا بأي نقد يُطرح عليهما، ويرياه عدوانياً ويصفا صاحبه بأنه لا يرى سوى عيوب الصالحين ويغض الطرف عن المبطلين، وكأنهما يطلبان منك أن تكون مطففاً تقيس بميزان هنا وميزان هناك وتسكت هنا وتتشجع هناك.
هناك مشكل عميق مع ثقافة التطفيف، ومعاملة الذات بميزان خاص، وادعاء النزاهة لها، والحرص على تحصينها، ولن يكون لهذه النظرية من مستقبل مضمون ما لم تعالج نفسها وتعي عيوبها. وتعرف أن النقد هو الطريق الوحيد لكشف العلل، ومن ثم السعي إلى معالجتها، وستظل «تويتر» مضماراً يكشف حال الجمهور العريض وكيف يتمثل النظرية وكيف يترجم لغة الزعيم ويعيد تمثيلها وتمثّلها. والناتج للحالين هنا أنك سترى تشكلاً خطراً لذهنية حزبية وليس لذهنية ديموقراطية، وسترى أن الانتصار للحزب ولزعيم الحزب مقدم على كل شيء، حتى إنه يتقدم على القيم الأساسية للدين والمعاملة، بالتالي على الديموقراطية، ويسهل عليه أن يضحي بالحريات ويضحي بالتحقيق والتثبت، ويستسهل لغة التوعد للخصم، وكأن الذي على المنصة يملك من الحصانة ما يكفيه لأن يقول ويفعل ولا يسأله أحد عما يفعل ولا عما يقول، فهل هذا هو الحل الموعود والمأمول، هل نعود لتذكّر كلمة إبراهيم الخليل عليه السلام: أصلح عتبة بيتك، كررها وكررها إلى أن اعتدل البيت...!
وختاماً أنهي ملاحظاتي على الإسلام السياسي (الشيعي والسنّي معاً) بهذه الملاحظة النهائية، وهي:
كلما انتقدت «حزب الله» قال لك الشيعي: لم لا تنتقد الإرهاب...؟!
وكلما انتقدت أردوغان قال لك السنّي: لم لا تنتقد العلمانيين...؟!
حسناً... ألم تقولا معاً إنكما الوعد والحل...؟!
إذاً... أصلح عتبة بيتك...!
عبد الله الغذامي
* كاتب سعودي
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ثم حدث ما حدث من تدخل «حزب الله» في سورية، وحينها تغير عندي وعند غيري السؤال، وصرنا نتساءل بحرقة عن مفهوم المقاومة، وهل لها صلة بأية صيغة من الصيغ مع دخول الحزب لسورية!
هنا أخذت الأمور في الاختلاط والتداخل غير الثقافي وصار الضمير في حال امتحان، فأنت أمام طاغية يقتل شعبه، وليس على ذلك من خلاف، ومن هنا فكيف ستكون صورة من يسانده ويقاتل معه، حاملاً راية الظلم ومقترفاً القتل لشعب ثار لأجل حريته!
كان لا بد لي وقد هتفت لـ «حزب الله» المقاوم، أن أتقدم بنقد تصرف الحزب حين تحول إلى صف الظالم.
وهنا تحضر المظلومية لتكون موضعاً للسؤال نفسه، وإذا ما تحولت المظلومية لتكون ظالمة فماذا يبقى لها من الرصيد الأخلاقي والمنطق الثقافي، وإذا تخلى المقاوم عن دوره وحرف وجهة البندقية، فما مصير من ينتقد هذا السلوك؟
لكي تملأ الأرض عدلاً من بعد أن ملئت جوراً، فهذا يقتضي أن تسلك سلوكاً عادلاً يبرر للكل بأن مظلوميتك علمتك درساً أخلاقياً في مقاومة أي ظلم وأي ظالم، كما سيفترض فيها أن تكون حلاً للمظالم ومنعاً لوقوعها، وليس إسهاماً في صناعتها من جديد وتكرارها!
هذا هو ما حاولته في تجربة حية على «تويتر»، فماذا لقيت من مناصري الحزب، وهو رد فعل يكشف عن النسق المتشكل بشعار الحل المفترض، ويبين أن الحل الموعود لم يكن حلاً بقدر ما هو مشكل بحد ذاته، إذ صار المقاوم ظالماً وصارت لغته مبررة للظلم ومنظرة له، واتبع المغردون المناصرون لـ «حزب الله» ثلاثة أساليب لمحاصرة نقد سلوك الحزب في سورية، هي:
1- محاولة صرف النقد الموجه للحزب بأن يدفعك للكلام عن الإرهاب والإرهابيين، لكي يحاصر نقدك ويشغله بنقطة أخرى غير الرئيسة، وبالتالي يدفعك إلى إغماض عينك عن قول كلمة ناقدة توجه نقدها للخطأ المحدد، وفي هذا محاولة لبناء سد حصين يتمترس فيه الخطأ محصناً عن أي نقد، ويتم له أن يمارس ظلمه من دون محاسبة، فقط لأن غيره ظالم مثله، وعليك بغيره ودعه في حصانته.
2- محاولة تشويه الناقد بوصفه ونعته بما في المعجم كله من صفات، وكل حسابات «تويتر» المبهمة والمتسمية بأسماء وهمية ستحضر إليك لتحاصرك، وفي النهاية جاء تقرير إخباري في محطة موالية بعنوان: «الغذامي يقدم تحولات من نوع جديد»، اعتمدت على تغريداتي الناقدة لتدخل «حزب الله» مع اتهامي بالتحول الظلامي، وورد هذا في نشرة الأخبار الرئيسة، وهو على «يوتيوب» وبهذا العنوان.
3- الدفع بتصوير أي نقد أو مساءلة لـ «حزب الله» على أنه مساس بالتشيع منهجاً وتاريخاً، ويجري استخدام عبارة «آل البيت» في الخطاب السياسي المنبري وفي لغة «تويتر»، لتلبيس القول بأن الناقد في مواجهة مع بيت النبوة، ولن يسلم الناقد الشيعي من التهمة ذاتها.
والحق أن هذا تكتيك تجده عند جماهير الحزبية الإسلامية سنة وشيعة، من حيث صرف الخطاب وتمييعه، ومن حيث ضرب الناقد بالتهم، وهنا يأتي السؤال الصعب: هل نحن هنا بصدد تأكيد المعنى الشيعي التاريخي عن المظلومية وملء الأرض عدلاً من بعد الجور العام؟ وبالتالي نقدم حلاً لمشكلات البشرية ونكون مقاومين ومنقذين وواعدين، أم أننا نربي جماهير منحازة ويغطي على بصائرها العمى الثقافي وينطبق عليها قول الشاعر: «لا يسألون أخاهم حين يندبهم/ في النائبات على ما قال برهانا»؟
هذا هو ما تلحظه على ثقافة الجماهير المناصرة، وهي في حال انصياع تام مع لغة الحزب وتبريراته، وفي تصديق مطلق له حتى لا تطلب برهاناً ولا حجة، وكذلك لا تقبل نقداً ولا مساءلة، ومن هنا يجري تصنيع النسق الأعمى وغرسه في النفوس وفي اللغة وفي خطاب التعامل مع المخالف.
وإن كان «حزب الله» هو رأس المعنى للمقاومة ما أكسبه قيمة أخلاقية وتاريخية في ضمائرنا كلنا، حتى صار كل انتصار له انتصاراً لنا، فإنه مع الحال السورية صار ينقض كل هذه القيم، ويتحول إلى حال في تأزيم المعاني، وتأزيم العلاقة بين المجتمعات وفي داخلها، وتوريط التاريخ والمستقبل بصور مؤلمة ستلاحق الأجيال المقبلة، لتكتب تاريخاً متصلاً من المظلوميات، وهذا ضرر مستقبلي على الشيعة والسنة معاً.
تخويف الناقد
وأخطر شـــيء في هـــذا هو في إحساس الناس بالخوف من نقد أي تـــصرف للحزب، حتى صار الحزب مصدر رعب بدلاً من أن يكون مصدر فخر ونصــر، وصار الحزب قوة ضاربة لا من حيث قدراته المادية فحسب، ولكن أيضاً من حيث جبروته وجبروت لغته في الرد والحسم، والقطع بأنه محق وعلى حق دائم، وأن غيره شياطين.
هنا نكون على مشهد حي من صناعة ثقافة التحزب السلبي والرافض للآخر المختلف، إذ تحولت المظلومية إلى ظالمة وتحول الوعد إلى رعب ثقافي يتزايد يوماً بعد يوم، ومن ثم فإن ما يجري هو تشويه للمعاني وتكرار للخيبات التاريخية المعاصرة، بدءاً من خيبات اليسار العربي الثوري، إلى خـــيبة نشهدها عياناً، وفي الحالين راهنت ثقـــافتنا على المخلص المنقذ، فإذا به خيبة تـــحل من بعد خيبة، وتتبخر الوعود، ولكن بعد أن تخلف أمراضاً تزمن وتنغرس في الجماهير، وتبقى حتى وإن زال الفعل والفاعل.
هل هذه بكائية مني على زمن المقاومة، أم هي نقد يحاول التنبيه للأخطاء، ويأمل بآذان صاغية تتدارك ما تبقى من الجرة!
نيتي هي في الاحتمال الثاني، لأجل تصحيح المسار.
وأولى خطى تصحيح المسار هي في إدراك أن ما نشهده على «تويتر» ليس سوى علامة على نوع من التغذية والتشرب الثقافي الناتج من التوجه الحزبي الفئوي، وهو خطاب يتغلغل في نفوس جماهير لا تحصى، وعلى امتداد المعمورة، حتى ليصبح نسقاً مغروساً في الذهنيات، ومن ثم في السلوكيات، يحدث معه انفصام اجتماعي مع المحيط المحايث والداخلي، وهذا ما يتطلب منا مباشرة الحال بنقد عقلاني يسمي الأخطاء بأسمائها، كما سمينا المقاومة باسمها «حينما كانت مقاومة».
وفي المقالة المقبلة (تُنشر لاحقاً) وقفة مماثلة على حال الحزبية السنية.
--------------------------
ملاحظات على الإسلام السياسي «السنـّي» (2-2)
نشرت «الحياة» الإثنين الماضي 14/4/2014 مقالاً للكاتب في عنوان «ملاحظات على الإسلام السياسي - الشيعي» وهنا مقال ثانٍ أخير في الموضوع:< كأنما يريدون (في تركيا) حكماً بلا معارضة، أو كأنما يريدون حكماً محصناً من المساءلة، وتكفيه التزكية ليعمل ولا حرج. هل هذا ما يريد الإسلاميون أن يرسموه عن أنفسهم وعن صورة النظرية السياسية الإسلامية بصفتها ديموقراطية مسلمة؟ وحتماً سيكون جوابهم على تساؤلي بالنفي، لكن المؤشر الثقافي لخطابهم يقول لي ولغيري إن هذه هي الخلاصة التي نخرج بها ومن تأملنا لحال الخطاب.
وقد بدأت الحكاية باتهامات في الفساد تمس رئيس الوزراء وبيته العائلي، ثم تطورت بحجب موقع «تويتر» و «يوتيوب»، ثم انتهت بلغة توعدية ضد الخصوم، وهذه كلها حدثت من رجل ديموقراطي وصل لموقعه عبر أصوات الشعب وكان رمزاً للنزاهة وحقق نجاحات اقتصادية كبرى، ولكن...!
يظل الرجل يعطي وجهين، أحدهما جميل وواعد يحمل صورة تمناها كل واحد منا في ضميره وفي تطلعاته بأن تكون لثقافتنا الإسلامية رمزية سياسية ديموقراطية، وكان رجب طيب أرودغان اسماً يحمل هذه الرمزية، لكننا صرنا نشهد وجهاً آخر للرمز، صدرت عنه تصرفات تنقض الصورة وتشوهها، حيت تخلط عملها الصالح بآخر سيئ. وهو رجل صار مثل عملة ذهبية لكن أحد وجهيها انطبع بصورة ديكتاتور من حيث كنا لا نرى، إلا صورة الديموقراطي الذهبي.
هنا تأتي اللحظة التي تكشف فيها صدقية الخطاب السياسي الإسلامي عبر جماهيره التي تشهدها على «تويتر»، أعني «تويتر» التي تعرضت للحجب على يد الزعيم الرمز، لكنها لا تزال مفتوحة للجمهور المناصر.
في مثل هذه الحال التي لم تعد افتراضية، لكنها واقع مؤلم بحق ستكون لك فرصة أن تقرأ الذهنية التأسيسية للمعنى الديموقراطي لجماهير النظرية السياسية الإسلامية، وأخص الجماهير لأنها هي ما يكشف لنا حال النظرية بصفتها قيمة تأسيسية أو فشلها في التأسيس، وهل ستمارس الجماهير المعنى الديموقراطي ومن قبله المعنى الإسلامي، والذي يقضي بوضع ميزان عادل بين الصواب والخطأ فيقوي الصواب وينقد الخطأ من أجل تصحيح المسار. وفوق هذا سيأتي السؤال الأخطر وهو: هل الولاء للأشخاص والأسماء أم للنظرية، أي النظرية الديموقراطية الإسلامية...؟!
تجربة النقاش المفتوح في «تويتر» ستكشف لنا عن حال لا تختلف عما ذكرناه في المقال السابق عن الإسلامية الشيعية، ولسوف ترى الإسلامية السنّية تجنح كزميلتها الشيعية بأن تنظر بعين الرضا والقبول للرمز، وسترى أن أي نقد له هو انحياز لأهل الباطل ضد البطل الرمز.
ولا بد لي من أن أؤكد مرة أخرى أن خطاب «تويتر» يكشف لنا حالة المعنى الديموقراطي عند الإسلاميين، خصوصاً أننا أمام أهم ركن في الديموقراطية وهو أقوى الأدلة على ديموقراطية أي خطاب، من حيث طريقة تعامله مع خصمه وطريقة تعامله مع الأزمات التي تمر على حكمه. وما لحظناه على أردوغان، من جهة، وعلى جماهير النظرية الإسلامية من جهة ثانية ينحصر في المآزق الثلاثة، وهي تهمة الفساد ثم حجب «تويتر»، ثم لغة التوعد للخصوم. فعلها أردوغان وانساق له الأنصار، ولو تركنا هذه تمر تحت مظنة أنها حال انفعال وردّ فعل، فإننا بهذا كمن يترك النار تحرق المكان من دون أن نكافحها وهي صغيرة، وإن الحرب أولها كلام - كما قال الشاعر القديم - وإذا قيلت كلمة الفساد فواجب اللغة في حينه أن تربط الحزام، إن كانت تؤثر الحق وتنحاز له.
ما نشهده من ثقافة ماثلة لا يبشر بوعي ديموقراطي، لكنه يكشف عن حزبية سالبة، ترى الحق معها حكراً واختصاراً، وتجنح إلى تبرير تصرفاتها وكأنها مخلّدة على الكرسي، حتى لتعتبر الفوز الانتخابي كأنما هو تسخير رباني، ولا تراه ظرفياً ومشروطاً ببرنامج يقوم على الوعد من جهة، وعلى المنجز الواقعي من جهة أخرى، ولو اختل أحدهما فسيأتي وعد آخر مختلف. ولن يتسنى للنظرية أن تمسك على توازنها ما لم تكن شفافة وتقوم على قبول المحاسبة، ولا تستهين بالتهم الخطرة كتهمة الفساد، وهي التي جرى تكذيبها وشتم القائل بها بمجرد سماعه وقبل أي تحقق، كما ليس لها أن تتصرف بحجب الحريات وتمنع الاتهام عنها بالقوة اللفظية وقوة القرارات، مع الاستعانة بالأنصار وحشدهم لقبول إجراءات منع الحريات، وهذا ما فعل أردوغان، في لحظة امتحان حساسة تكشف عن المعنى الديموقراطي وهل يصمد للنقد أم لا...؟!
إن كان أردوغان ظهر أمام العالم بوجهين، أحدهما ديموقراطي بامتياز والآخر ديكتاتوري بامتياز، فإن جمهور النظرية الإسلامية السياسية ظهر أيضاً بالوجهين نفسيهما، أي أنك على مشهد نموذجي لثقافة التطفيف.
ولنفترض أن «تويتر» و «يوتيوب» كانتا قد بثتا كلاماً عن فتح الله غولن باتهام له بالفساد المادي، فكيف سيكون الموقف...!؟ لنجرب أن نقول إن أردوغان لن يحجب «تويتر» ولا «يوتيوب»، وسيكون هذا تصرفاً صحيحاً، وفي حينه سنسأل مرة أخرى كيف يصح هذا مرة ولا يصح في أخرى...؟!
أولاً يكون هذا تطفيفاً...!
المحزن في أسئلتي هذه كلها أننا لسنا في حاجة إلى أجوبة، وهذا يعني أننا أصبحنا على بيّنة مطلقة من تصرف الزعيم والجماهير معاً. وهذا بالضبط ما يضرب النظرية في مقتل ويهدد مستقبلها ويقنطنا من الرهان عليها. هنا مكمن الخطر على النظرية السياسية الإسلامية، ما دام جمهورها الشيعي - كما في المقال السابق - والسنّي - كما هنا - لا يؤسس لمعاني العدالة مرتبطة بالمساواة والحرية والتعددية، ويهرع للانتصار للذات ولمنهجيته الخاصة، ولا يسعى إلى تأسيس المعنى التعددي، وهذا بكل تأكيد ليس علامة نجاح، ولا هو رهان مطمئن لمستقبل النظرية.
ثم كيف بالطرفين (السنّي والشّيعي معاً) أن يَضيقا بأي نقد يُطرح عليهما، ويرياه عدوانياً ويصفا صاحبه بأنه لا يرى سوى عيوب الصالحين ويغض الطرف عن المبطلين، وكأنهما يطلبان منك أن تكون مطففاً تقيس بميزان هنا وميزان هناك وتسكت هنا وتتشجع هناك.
هناك مشكل عميق مع ثقافة التطفيف، ومعاملة الذات بميزان خاص، وادعاء النزاهة لها، والحرص على تحصينها، ولن يكون لهذه النظرية من مستقبل مضمون ما لم تعالج نفسها وتعي عيوبها. وتعرف أن النقد هو الطريق الوحيد لكشف العلل، ومن ثم السعي إلى معالجتها، وستظل «تويتر» مضماراً يكشف حال الجمهور العريض وكيف يتمثل النظرية وكيف يترجم لغة الزعيم ويعيد تمثيلها وتمثّلها. والناتج للحالين هنا أنك سترى تشكلاً خطراً لذهنية حزبية وليس لذهنية ديموقراطية، وسترى أن الانتصار للحزب ولزعيم الحزب مقدم على كل شيء، حتى إنه يتقدم على القيم الأساسية للدين والمعاملة، بالتالي على الديموقراطية، ويسهل عليه أن يضحي بالحريات ويضحي بالتحقيق والتثبت، ويستسهل لغة التوعد للخصم، وكأن الذي على المنصة يملك من الحصانة ما يكفيه لأن يقول ويفعل ولا يسأله أحد عما يفعل ولا عما يقول، فهل هذا هو الحل الموعود والمأمول، هل نعود لتذكّر كلمة إبراهيم الخليل عليه السلام: أصلح عتبة بيتك، كررها وكررها إلى أن اعتدل البيت...!
وختاماً أنهي ملاحظاتي على الإسلام السياسي (الشيعي والسنّي معاً) بهذه الملاحظة النهائية، وهي:
كلما انتقدت «حزب الله» قال لك الشيعي: لم لا تنتقد الإرهاب...؟!
وكلما انتقدت أردوغان قال لك السنّي: لم لا تنتقد العلمانيين...؟!
حسناً... ألم تقولا معاً إنكما الوعد والحل...؟!
إذاً... أصلح عتبة بيتك...!
عبد الله الغذامي
* كاتب سعودي
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..