بالنسبة لسؤال الأخ عمر في هذه المسألة، وهي ما تتعلق بمسألة الغناء وكثر الكلام حولها في الزمان المتأخر.
أولاً: هذه المسألة من المسائل الواضحة البينة:
والحقيقة أن الإنسان يعجب ويحتار من كثير من الأطروحات التي تطرح في وسائل الإعلام.
ومن
نظر إلى النصوص لم يجد مناصا ولا مفرا من القول والقطع والجزم بتحريم
الغناء ويكفي في ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي مالك وأبي عامر
الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليكونن من أمتي أقوام
يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف".
فذكر
رسول الله صلى الله عليه وسلم المعازف، وهذا الخبر خبر صحيح لا إشكال في
صحته، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح كالشمس، ولم
يستطع أحد من المتأخرين أن يتكلم عليه بإعلال.
وقد
جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي عامر وأبي مالك الأشعري،
وجاء أيضاً من غير هذا الوجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنص بتحريم
شيء من آلات الطرب؛ كما جاء عند الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث علي
بن بديمة عن قيس عن عبدا لله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "إن الله حرم علي الخمر والميسر والكوبة"؛ قال علي بن
بديمة: "الكوبة الطبل".
وكذلك
أيضا ما ظهر في كلام الله سبحانه وتعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي
لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [لقمان : 6] قال غير
واحد من المفسرين من الصحابة كعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وكذلك
عبد الله بن مسعود عليهم رضوان الله تعالى القول بتحريم الغناء بناء على
هذه الآية وأن لهو الحديث هو الغناء.
وقد
جاء هذا بإسناد صحيح عن عبد الله بن عباس وجاء أيضا عن عبد الله بن مسعود
كما روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان
الله تعالى قال: "والله الذي لا إله إلا هو إن لهو الحديث لهو الغناء".
وعبد
الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى هو من أئمة القراءة، وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح خذوا القرآن عن أربعة، وذكر منهم عبد
الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى.
وهو
من هو في هذا المقال، بل قد جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله
تعالى أنه سأل أصحابه أي القراءة عندكم أقوى، قالوا: قراءة عبد الله، يعني
عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، وهذا عبد الله بن عباس شاهد عن
أصحابه.
وكذلك جاء عن جابر بن عبد الله كما رواه ابن جرير الطبري عن جابر بن عبد الله أنه قال: "لهو الحديث في هذه الآية هو الغناء".
وكذلك
أيضا جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى وعن غيره من السلف من
كبار المفسرين كعكرمة وكذلك قتادة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وعلي بن
بديمة وكذلك عطاء وغيرهم من أئمة السلف، ولا أعلم في هذا خلافاً عندهم في
أن المراد بهذه في هذا الموضع أن المراد به الغناء.
ويكفي
في هذا أن عبد الله بن مسعود -عليه رضوان الله تعالى- الذي أقسم أن المراد
بهذا اللهو هو الغناء هو الذي قد قال كما جاء في البخاري ومسلم: "والذي
نفسي بيده لا أعلم سورة في كتاب إلا وأنا أعلم فيم نزلت، ولا أعلم آية في
كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت، ولو كنت أعلم أحداً أعلم مني بكلام الله
تبلغه الإبل لأتيت إليه".
والمراد من هذا أن لديه من العلم والكمال في هذا الباب ما لم يتحقق عند كثير من الناس.
والعجب في ظهور هذه الأقوال الشاذة مع ظهور هذه الأدلة.
كذلك
أيضا إجماع كثير من الأئمة من السلف؛ فمن نظر إلى الغناء يبدو لي أن هذه
المسألة هي بالظهور والأمر الواضح البين حتى إن كثيرا من العلماء يحكون
الإجماع.
وأذكر أني وقفت على أكثر من خمسين عالماً لا ينص على التحريم بل يحكي الإجماع.
فمسألة
الإجماع، يعني أن العلماء قد تتبعوا المسائل وعرفوا الشاذ منها وغير الشاذ
المعتبر وغير المعتبر، وهذا في سائر المذاهب الفقهية الأربعة كالإمام أحمد
ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم.
بل
إن بعض العلماء من الأئمة الكبار من المحققين من المذاهب الأربعة من وضوح
المسألة عنده قال بأن من قال باستحلال الغناء إذا اقترن بمعازف أنه ربما
يصل -إن كان مستحلا لذلك على يقين وقامت عليه الحجة - إلى التكفير.
وهذا
القول - وإن كان قد قال به من الأئمة الكبار الحفاظ- لا أميل إليه، وقد
ذهب إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله كما في كتابه بيان تلبيس
الجهمية، كذلك أيضا ابن قدامة عليه رحمة الله كما نقله القاضي ابن أبي
يعلي في كتابه الطبقات، وكذلك أيضاً قاله القاضي عياض، وكذلك أيضا جماعة من
الفقهاء من الحنفية كالبزاز وغيره، وهؤلاء من أساطين الفقه والدراية
والمعرفة حيث أنهم قطعوا بمثل هذا القطع.
إن
من يتكلم على مسألة الغناء ويثير جملة من المسائل يظهر لي -والله أعلم- أن
الشبهات التي تطرأ على كثير من الناس بسبب جهلهم بلغة العرب، ويظنون أن
الكلام الذي يرد في كلام بعض السلف من إطلاق هذه اللفظة -لفظة الغناء- أنهم
يريدون بها المعازف، فيخلطون بين المعازف من آلات الطرب واللهو من
الموسيقى والمزمار وغيرها مع كلمة الغناء التي ترد في بعض استعمالاتهم.
كلمة
الغناء عند العرب في الجاهلية وكذلك ربما إلى زمن قريب يريدون بذلك الغناء
هو تلحين ذلك الكلام الذي يتلفظ به الإنسان بين وقت وآخر إذا كان مسجوعاً
يقال فلان يغني، أو دخلت عليه وهو يغني، إذا كان يترنم. وهذا معلوم.
فيجدون
بعض النصوص المشتبهة في كلام بعض السلف فيقولون أنهم يقولون بجوازه، وهذا
لاشك أنه من أكثر ما يوقع أهل الجهل في مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، وقد
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله أن من أكثر ما يوقع كثير من غير
أهل الاختصاص في مخالفة أمر الله عز وجل عدم فهم المصطلحات في زمن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وتنزيلها على زمنهم بعد تغييرها. وهذا ينبغي أن
يحمل عليه.
ولهذا
يعلم أن في لغة العرب وما جاء عن النبي عليه الصلاة و السلام من سماعه
لبعض أغاني الجواري فالمراد بذلك هو الأناشيد في زماننا، وذلك إنما تغير
المصطلح، فالمصطلح يتغير، ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العظيم ﴿
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ ﴾ [يوسف : 19] فالمراد
بالسيارة هي ليست السيارة المعتادة في زماننا، وهذا قطعاً معلوم، فهل نقول
أن هذه هذه.
ثمة
مصطلح يضعه أهل عصر على حال يختلف عن الحال أخرى لاشتراك بينها بعلة من
العلل جاء أو ساغ أن يلحق هذا بهذا، أو لوجود أصل لغوي يجوز للإنسان أن
يلحق هذين المعنيين بأصل سائغ وجائز من أمور المصطلحات.
كذلك من الأمور التي أشار إليها الأخ عمر وهي مسألة الاستفتاء والفتوى إلى من؟
العقل
يقتضي والنظر أن الإنسان إذا أصيب بعي في جسده أنه يلتمس في ذلك أدق الناس
من أهل الطب، وكذلك ربما ارتحل وسأل وبحث عن أهل الخبر، فإذا أصيب بعي أو
جهالة في دينه يبحث عن ماذا؟ والعجب من كثير من الناس أنه يلتمس قال فلان،
ويظن بهذا، ولو كان جسده يضعه بين جراح لا يعلم أو سمع باسمه ونحو ذلك
لاستكبر هذا واستثقله وعده أهل الناس من أهل الاستعجال وكذلك الإلقاء بنفسه
للتهكلة، فكيف بإنسان يضع دينه عند من لا يفقه من كلام الله سبحانه تعالى
ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً.
من
الأمور التي ينبغي أن تعلم أن كثير من العامة يخلط بين القارئ ويخلط بين
الصالح المتدين وبين إمام المسجد وبين من كان مظهره كمظهر أهل الصلاح ونحو
ذلك، وهذا لم يكن في السابق، في السابق كان جملة الناس على هيئة واحدة،
ولكن لما فرط كثير من الناس في المظاهر؛ لانسياقات متنوعة أو لأهواء أو نحو
ذلك أو قناعات متنوعة - انفصلت كثير من المظاهر فوقع اللبس عند كثير من
الناس، فأصبح إمام المسجد يسمى عالماً، وأصبح القارئ يسمى عالماً ونحو ذلك.
ولهذا لو نظرنا إلى القراءة في كلام الله عز وجل وإجادتها فإنها في ذاتها لا تعني شيئاً.
يقول
عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى كما رواه ابن جرير الطبري وغيره
من حديث الضحاك عن عبد الله ابن عباس قال في قول الله تعالى: ﴿ يُؤْتِي
الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة : 269] قال: الحكمة هي معرفة تفسير
كلام الله، وليست قراءته، فإن قراءته يجيدها أو يحسنها البر والفاجر.
والمراد
من هذا أن يُعلم أن مجرد التلفظ بشيء من كلام الله عز وجل أو حسن الصوت
ونحو ذلك، وكذلك انسياق كثير من العامة لأمثال هذه التنغمات أو هذه
التحسينات في الصوت أنه هذه أمور قدرية، هذه توجد مع الإنسان كمسألة جمال
الخلقة ونحو ذلك ينبغي أن لا يكون هذا الأمر هو مما يدور عليه مسألة الفقه
في دين الله عز وجل.
من
الأمور والقضايا المهمة أن كثيراً من الناس من يتكلم على هذه المسألة
يتشبث بأقوال بعض الأئمة الذين هم من أهل الإمامة والفقه في دين الله عز
وجل، ولكن لديهم من الأقوال والشذوذ ما ينبغي أن يقف عنده طالب العلم وكذلك
عنده أيضا المتعلم.
كثير
من الناس من يتكلم على مسألة الغناء يورد مثلا كلاماً لابن حزم الأندلسي،
ابن حزم الأندلسي مع جلالته وإمامته وحفظه إلا أن لديه أصولاً لا تستقر عند
أهل العلم، كذلك أيضاً لديه جملة من المسائل ما يتعلق بمسائل وقضايا
العقائد فهو مما يوافق الجهمية في بعض المسائل وليس في كلها فيما يتعلق في
صفات الله سبحانه وتعالى وفي أسمائه.
كذلك
أيضاً هؤلاء الذين يوردون كلام ابن حزم عليه رحمة الله في مسألة الغناء
ونحو ذلك ما يقولون مثلا في كلامه إذا تكلم في مسائل الحكام، وكذلك كفرهم
فيما يتعلق بمسائل إطلاق الكفر على من والى كافراً، كذلك أيضا ما يتعلق
بمسألة التكفير على من أعان مشركا ولو بجزء يسير من الإعانة، وتكفيره وعدم
قبول إسلامه إلا بتوبة ناصحة. وهذه من الأصول التي يجري عليها ابن حزم،
كثيرٌ ممن يتعلق بها هل يقال أن من قلده في مثل هذا أنه مقلد مجتهد معذور،
أم أنه من الخوارج المارقين؟
يقال
أنه ينبغي الإنصاف والعدل أن تؤخذ المسألة بالرجوع إلى الكتاب والسنة،
والرجوع إلى كلام السلف الصالح من الصحابة والتابعين لا نلتفت لقول فلان
ولا لقول فلان حتى يسلم لنا الدين؛ لأن الله جل وعلا ائتمننا على الأجساد
والأبدان، ائتمننا كذلك على الدين أن نقوم بالحفاظ على هذا الدين وألا نضع
أجسادنا وأبداننا وكذلك أدياننا بين يدي أي جراح نراه، بحيث أن الإنسان
يحلل ويحرم، كذلك أيضا يضع مبضعه في جسد الإنسان وكذلك في دينه كيفما شاء،
ونظن أننا معذورون بهذا الفعل، نقول ما تريد أن تتحرى به لبدنك فتحر به
لدينك والله جل وعلا خصيمك ويتولاك.
الشيخ / عبدالعزيز بن مرزوق الطريفي
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..