الأحد، 15 يونيو 2014

كتاب تنزيه الشريعه من اباحة الاغاني الخليعه للشيخ احمد النجمي

بسم الله ،  والحمد لله ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد طلبت مني إدارة الطبع والترجمة برئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد أن

آذن لهم بإعادة طبع كتابي: "تنـزيه الشريعة عن إباحة الأغاني الخليعة". نظرًا لأهمية الموضوع الذي يعالجه هذا الكتاب وهو تحريم الأغاني الَّتِي فشت في هذا الزمان فشوًا منكرًا, فلم تترك بيتًا إلا دخلته, ولا قلبًا إلا ولجته, إلاّ من رحم ربك وقليل ما هم.
ذلك أن هذه الرئاسة ممثلة في القائمين عليها وعلى رأسهم صاحب السماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز جزاه الله خيرًا( ) وكل القائمين على هذا المشروع الخيري العظيم, تقوم بنشر الشرع الإسلامي بطبع الكتب الإسلامية وتوزيعها لكي يعود الناس إلى شريعة الله فيحكموها في أنفسهم وعبادتِهم ومعاملتهم وجميع واقعهم, لعل الله أن يعيد لهم مجدهم وعزهم وينصرهم على عدوه وعدوهم.
ومساهمة مني في هذا المضمار فقد أذنت للرئاسة الآنفة الذكر في إعادة طبع هذا الكتاب والذي أطلبه من كل قارئ أن ينبهني على الأخطاء إن وجد, وأن يدعو لي بظهر الغيب إن سمح دعوة تنفعني ولا تضره.
لي مطلب من كل قارئ قرأ
من خطاءٍ في السبك والتعبير
وليس يخلو أحد من عَيْبِ
أن يستر العيب الذي فيها يرى
فكلنا مظنة التقصير
ثُمَّ الدعاء لي بظهر الغيب


هذا وبالله التوفيق،،

الـمـؤلـف


مقـــدمــة
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه، وشرفه بالعقل وكرمه، وسخر له جميع ما في الكون ليكون شاكرًا لله على ما أنعمه، مستعملاً لهذه النعم في طاعة واهبها ومسديها، حافظًا لنفسه عما يدنسها ويرديها، أحمده تعالى وهو المحمود، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك المعبود، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد آدم في اليوم المشهود، صاحب المقام المحمود واللواء المعقود، والحوض المورود، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: فإنه قد تبين لي من خلال بحثي مع بعض الفضلاء الذين يحملون مشعل الدعوة إلى العقيدة، أنَّهم لَم يقتنعوا بتحريم الأغاني، إما لقلة توفر المراجع لديهم، وإما لأن الكتب المؤلفة في هذا الشأن لَم تكن مقنعة إلى حد كبير في نظرهم.
لأن غالب ما يروي في هذا الباب ضعيف، وهم لا يمحصون، أو صحيح غير صريح في نظر هؤلاء وهم به لا يقتنعون.
وقد طلب مني ذلكم الفاضل أن أكتب رسالة في هذا الموضوع وافية بالغرض، مستوعبة للأدلة، مع عزو كل دليل إلى مصدره وكل قول إلى قائله. فاستعنت الله أن يعينني على الإيفاء بما طلب وهو المعين، وأن يجعله سببًا في هداية كثير من الضالين الجاهلين، وإقناع كثير من طلبة العلم القاصرين، إنه ولي التوفيق والقادر عليه، وقد قسمت ما جمعت في هذه العجالة إلى أربعة أبواب:
1. الباب الأول: في الأدلة على تحريمها من القرآن.
2. الباب الثاني: في الأدلة على تحريم الأغاني والمعازف من السنة، وقد التزمت في هذا الباب البحث عن رجال الأسانيد، وجمع أقوال العلماء في ذلك، وشرح ما يحتاج إلى شرح، وأعرضت عن كل ما بلغ ضعفه إلى حد النكارة.
3. الباب الثالث: في الأحاديث الَّتِي استدل بِها من أباح الأغاني والإجابة عن كل شبهة تشبثوا بِها، بما فيه مقنع لمن أراد الحق وتجرد عن الهوى.
4. الباب الرابع: في أقوال العلماء وخيار السلف في تحريم الأغاني والمعازف وذمهم لها، وإنكارهم على فاعليها من زمن الصحابة إلى زمننا هذا.
ثُمَّ ختمت الكتاب بذكر من ألفوا في تحريم الأغاني قديْمًا وحديثًا واطلعت على كتبهم، أو وجدت ذكرها والعزو إليها، وهذا أوان الشروع في المقصود، ومن الله أستمد العون والتوفيق.
الـمـؤلـف

الباب الأول
في الأدلة على تحريم الأغاني والمعازف من القرآن
الدليل الأول:
قول الله تعالى لإبليس حين امتنع عن السجود لآدم  حيث يقول في سورة الإسراء: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا  قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً  قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا  وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا﴾ [الإسراء:61،64].
ومحل الشاهد قوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾. فقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن صوت إبليس المذكور في هذه الآية هو الغناء واللهو واللعب، وإليك أقوال المفسرين في هذه الآية مفصلة نقلاً عن ابن جرير الطبري إمام المفسرين على الإطلاق حيث قال في الجزء الخامس عشر من الطبعة الثانية بمطبعة الحلبي صفحة (118):
"يعني تعالى ذكره بقوله: ﴿وَاسْتَفْزِزْ﴾ أي: استخف واستجهل، من قولهم استفز فلانًا كذا وكذا فهو يستفزه, ﴿مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾. اختلف أهل التأويل في الصوت الذي عناه جل ثناؤه بقوله: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ قال بعضهم: عنى به صوت الغناء واللعب.
ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد في قوله: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ قال: اللعب واللهو. وقال آخرون: عنى به ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ﴾ بدعائك إياه إلى طاعتك ومعصية الله.
ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: حدثنا عبد الله، قال حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ قال: صوته كل داع دعا إلى معصية الله، ثُمَّ ساق بسنده عن قتادة مثله ثُمَّ قال: وأولى الأقوال بالصحة أن يقال: أن الله -تبارك وتعالى- قال لإبليس: ﴿وَاسْتَفْزِزْ﴾ من ذرية آدم ﴿مَنِ اسْتَطَعْتَ﴾ أن تستفزه بصوتك، ولَم يخصص من ذلك صوتًا دون صوت، وكل صوت كان دعاء إليه وإلى عمله وطاعته، وخلافًا للدعاء إلى طاعة الله، فهو داخل في معنى صوته الذي قال الله -تبارك اسمه-: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾" ( ).
قلت: وعلى ما رجحه ابن جرير -رحمه الله- فلا تنافي بين القولين فإن ابن عباس فسر التفسير العام الذي يستوعب جميع أفراد العموم، ومجاهد فسر بأكثر أفراد العموم ظهورًا في معنى الآية، لأنه إذا كان صوت إبليس كل دعوة إلى باطل, فإنه مما لا شك فيه لدى كل عاقل أن الغناء واللهو من أعظم أسباب الباطل الذي أقله الغفلة عن ذكر الله، وقسوة القلب وأعظمه العشق والزنا والعياذ بالله، ولذلك فهو داخل في معنى الآية دخولاً أوليًّا، ولهذا ثبت عن ابن مسعود  أنه قال: $الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل#. وسيأتي مزيد من التوضيح لهذا -إن شاء الله-.
ومن هنا تعلم أن هذه الآية من أعظم الأدلة الدالة على تحريم الأغاني، ولو لَم يكن في الكتاب والسنة دليل على تحريم الأغاني إلا هي لكانت كافية لمن أراد الحق، فكيف وقد جاءت آيات قرآنية دالة على تحريمه، كدلالة هذه الآية بل أعظم.
الدليل الثاني:
قال الله -تبارك وتعالى- في سورة لقمان: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ  وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَم يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [لقمان:6،7]. وسأنقل لك آراء علماء التفسير وأئمة التأويل، في الأصل من المصدر المذكور سابقًا فأقول:
قال ابن جرير في تفسير الآية( ): اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ فقال بعضهم: من يشتري الشراء المعروف بالثمن، ورووا في ذلك خبرًا عن رسول الله ج.
وهو ما حدثناه أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن خلاد الصفار عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة  قال: قال رسول الله ج: $لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا التجارة فيهن، ولا أثمانُهن , وفيهن نزلت هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾#، ورواه عن ابن وكيع وفيه $وأكل ثمنهن حرام# ورواه من طريقين آخرين، ولكن مداره في جميع طرقه على علي بن يزيد بن أبي هلال الألهاني، وهو ضعيف، ومع ضعف سنده فإن معناه صحيح، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، كما ستراه فيما بعد -إن شاء الله تعالى-.
قال: وقال آخرون: بل معنى ذلك: من يختار لهو الحديث.
ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ والله لعله لا ينفق فيه مالاً، ولكن استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع وساق بسنده إلى مطر الوراق في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ قال: شراؤه استحبابه.
ثم قال: وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من قال: معناه الشراء الذي هو بالثمن، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه.
قلت: مما لا شك فيه أن لفظ الشراء قد أطلق في القرآن على المعنيين فمن المعنى الأول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ [آل عمران: من الآية77] , وقول الله تعالى: ﴿اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ [التوبة: من الآية9] , ومن الثاني قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ [النساء:44]. وذلك أن الشراء معناه الاستبدال، فتارة يكون المستبدل به عرضًا دنيويًّا، وتارة يكون دينًا وشرعةً، أو مسلكًا ومنهجًا، فمتى اختار الإنسان دينًا أو طريقة على دين أو طريقة فقد اشترى ما أخذ، وباع ما ترك. وإذا علم هذا فتخصيص اللفظ المشترك بين معنيين أو معان، وقصره على واحد منها بدون دليل مع احتماله للعموم لا يجوز، وعلى هذا فالقول بأنه عام في الشراء بالثمن، والشراء بالاختيار أولى، أو هو المتعين والله أعلم.
ثم قال: وأما الحديث فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الغناء والاستماع له.
ذكر من قال ذلك:- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن أبي الصهباء البكري، أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسئل عن هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ فقال عبد الله: $الغناء والله الذي لا إله إلا هو#، ويرددها ثلاث مرات، وأخرج الحديث من طريق أخرى وهو صحيح عن ابن مسعود .
ثم قال حدثنا أبو كريب، قال حدثنا علي بن عابس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ قال: الغناء، ثُمَّ رواه بسند آخر قال فيه: الغناء وأشباهه، وبسند ثالث وقال: الغناء ونحوه وأخرجه من طريق مقسم عن ابن عباس وقال: الغناء والاستماع له.
ثم قال: حدثنا الحسن بن عبد الرحيم، قال حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: حدثنا سفيان، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن جابر، في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ قال: هو الغناء والاستماع له.
ثم روى عن مجاهد من ثمان طرق أنه قال: الغناء, وفي بعض الطرق: الغناء وكل لهو، وفي بعضها قال: المغني والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه، وإلى مثله من الباطل. وفي بعضها قال: الغناء أو الغناء منه والاستماع إليه. ثُمَّ روى عن عكرمة من أربع طرق أنه قال: لهو الحديث الغناء.
وقال آخرون: عني باللهو الطبل. وأخرج عن مجاهد أنه قال: اللهو الطبل، ثُمَّ قال: وقال آخرون: عني بلهو الحديث الشرك.
ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ يعنِي: الشرك.
قلت: في هذا السند مجهول وقد وقف على الضحاك بن مزاحم الهلالي وهو ضعيف في الحديث، ثُمَّ روى من طريق عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك وهو ضعيف أيضًا عند المحدثين.
فأين تقع أراء هؤلاء الضعفاء في التفسير من تفسير عبد الله بن مسعود  الذي يقول: "ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، وفيما نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تناله الإبل لأتيته، ولقد قرأت سبعين سورة من في رسول الله ج( )"، ومن تفسير ابن عباس حبر الأمة الذي بصق رسول الله ج في فيه ودعا له أن يفقه الله في الدين، ويعلمه التأويل، ومن تفسير مجاهد الذي يقول فيه سفيان: $إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به#. ومن تفسير عكرمة الذي أثنى عليه الأئمة، وتلقوا تفسيره بالقبول، واعتمدوا على روايته في كثير من الأحكام.
وقد رجح ابن جرير أن الآية عامة في كل حديث يلهي عن سبيل الله, سواء أكان حاصلاً من كافر أو مسلم, فقال: والصواب من القول في ذلك أن يقال: عنى به كل ما كان من الحديث ملهيًا عن سبيل الله مما نَهى الله عن استماعه ورسوله، لأن الله عَمَّ بقوله: ﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ ولَم يخصص بعضًا دون بعض وذلك على عمومه حتى يأتي على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك. ا.’.
قلت: فقد علمت مما تقدم أن الغناء يدخل تحت عموم الآية بإجماع من يعتد به من المفسرين، كيف لا وقد حلف عبد الله بن مسعود  على ذلك ثلاثًا، وبِهذا يتبين أن الآية من أعظم الأدلة على تحريم الأغاني، لا ينكر هذا إلا مكابر معاند مستهتر.
قال القرطبي في تفسيره هذه الآية قال: "هذه إحدى الثلاث الآيات الَّتِي استدل بِها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه، والآية الثانية قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ [النجم:61].
قال ابن عباس: هو الغناء بالحميرية، واسمدي لنا غني لنا. والآية الثالثة قوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: من الآية64] قال مجاهد: الغناء والمزامير. وقد مضى في صياغ الكلام"( ). ا’.
ثم قال في الصفحة الثانية بعد أن روى خبر أبي الصهباء، عن عبد الله ابن مسعود : $وقال عبد الله بن عمر: أنه الغناء# وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران، ومكحول، وقال الحسن: لهو الحديث المعازف والغناء.
قلت: فقوله: ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ هي الدليل الثالث وقد عرفت قول ابن عباس فيها. وليست هذه الآيات الثلاث هي الَّتِي تدل على تحريم الأغاني وحدها، بل هناك آيات أخرى تدل على تحريمه أيضًا بطريقة التضمن والالتزام وها أنا أسوق هذه الآيات وأبين لك وجه الدلالة منها بحول الله وقوته فأقول:
الدليل الرابع:
قال الله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: من الآية70] تبسل: تؤخذ.
الدليل الخامس:
قال الله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ  الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف:50،51]. ولا نقول أن هذه الآيات نزلت في الكافرين، فلا تتعلق بالمسلمين، بل نقول إن اللعب واللهو اسمان عامان يقعان على كليات المسمى وجزئياته، فإذا استمع الإنسان إلى الأغاني المحرمة، وتلذذ قلبه بالإصغاء إليها، متلهيا بِها عن طاعة الله جل شأنه فقد وقع عليه جزء من مسمى الآية، وبقدر ما يكون مستكثرا فله نصيب بقدر استكثاره، فالكل للكل، والحصة للحصة.
وذلك أن الله تعالى خلق العباد لعبادته، ومقتضى العبادة أن يكون عبدًا مطيعًا لسيده، منقادًا لأمره، مجتنبًا لنهيه، مكثرًا لذكره، مثنيًا عليه بأسمائه وصفاته، ونعمه الموجبة لشكره، عاكفًا بقلبه عليه، خائفًا من الوقوف بين يديه، لا يقدم على عمل حتى يظن أنه مما يرضاه، ويبيح فعله ولا يأباه، ويعتقد أن الدنيا ممر لا مستقر، جعلها الله فرصة للتزود إلى الآخرة، ومطية يتبلغ عليها العبد إلى وطنه الأصلي الذي هو الجنة.
فهذا هو الدين الذي أمر الله به عباده على ألسنة رسله -صلوات الله وسلامه عليهم-، والدين في اللغة هو كل طريقة يخضع لها الإنسان ويتبعها في حياته، سواء كانت حقًّا أو باطلاً، أما إن آثر الهوى على الهدى والضلال على الرشد، وكان ممن قال الله فيهم: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: من الآية146]، تراه يدير مؤشر الجهاز فإن وقع على قراءة حوَّلَهُ عنها، وإذا كان عنده من يستحيي منه تركه على مضض، وكان مستثقلاً من القراءة، متبرما منها، يود انقطاعها أو ذهاب من يستحيي منه ليدير المؤشر على ما يشتهيه، ومتى ظفر برغبته انشرح صدره وابتهج قلبه، فهز رأسه، وحرك يده ورجله طربا فهذا لا شك أن له نصيبًا وافرًا من هذه الآية، ولا نأمن عليه أن تتزايد فيه هذه الصفات فتهلكه، لأنه قد اتخذ الدين لهوًا ولعبا، واللهو كل ما ألهى عن طاعة الله وإن كانت فيه فائدة أصلاً, واللعب ما لَم تكن فيه فائدة، لا في الدنيا ولا في الآخرة والفرق بينهما ظاهر.
فيدخل في اللهو الأمور المباحة إذا كانت ملهية عن طاعة الله، كما قال الله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون:9] وقال تعالى:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ  رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾ [النور:36، 37] ولهذا سمى الله الزوجة لهوًا، لأن الزوجة يُتَلَهى بِها، وبِهذا فسرت الآية الَّتِي في سورة الأنبياء: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء:17]، فقد نقل ابن جرير عن الحسن البصري، ومجاهد، وقتادة أن المراد بذلك الزوجة، فتبين بِهذا أنه يدخل في اللهو كل ما ألهى عن طاعة الله سواء كان مباح الأصل أم لا، والله أعلم.
الدليل السادس:
قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: من الآية35]، والمراد "بالمكاء": الصفير، "والتصدية": التصفيق، وقد ذم الله قريشًا بالتصدية والمكاء، ولا يذم الله أحدا إلا على عمل باطل، فتبين أنه لو كان حقًّا أو حلالاً ما ذمهم الله به، فلما ذمهم به دل ذلك على تحريمه وبطلانه، ومن القواعد الشرعية أن ما اقترن بوعيد أو لعن أو غضب، أو سيق مساق الذم لفاعله فهو حرام ويعد من الكبائر، نص على ذلك الأئمة الأعلام، فالمكاء والتصدية كل منهما سيق مساق الذم، واقترن بالعذاب، فأفاد ذلك التحريم، وما يعمله الناس من التصفيق للعظماء والكبراء إعظامًا لهم وإكبارًا لشأنِهم كما يزعمون. هو حرام أيضًا لأنه من قبيل هذا الفعل المذموم الذي ذم الله به الكفار، وهو من الأمور المستوردة، الَّتِي أخذها المستغربون من أوليائهم أهل الغرب الكفار، لأنَّهم قد قلدوهم في كل شيء ولو خالف الشرع والله أعلم.
الدليل السابع:
قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه﴾ [الجاثية: من الآية23]، ﴿إِلَهَهُ﴾: معبوده، ﴿هَوَاهُ﴾: ما تهواه نفسه وتميل إليه من غير المباحات، ﴿وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ﴾: أي مع علم عنده، ﴿وَخَتَمَ﴾: أي طبع، ﴿عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ﴾: أي على بصيرته. ﴿غِشَاوَةً﴾: أي غطاء وحجابًا عن رؤية الحق.
وأما من وجه الدلالة من هذه الآية فهي أن الله تعبد الإنسان بأوامر ونواهي، وابتلاه بأعداء من داخل نفسه يدعونه إلى مخالفة الأوامر والتوثب على النواهي، هؤلاء الأعداء هم الهوى، والنفس الأمارة بالسوء، والشيطان، فإن أراد القيام بأمر من الأوامر كسلوه وثبطوه، وإن أراد التوقف عن نَهي دفعوه إليه وحسنوه له، وكانت الحكمة من هذا الابتلاء أن تظهر العبودية في أكمل معانيها، حينما يخالف الإنسان هذه الدواعي والدوافع، ويستجيب لأمر ربه -جل وعلا-، ولا يكون ذلك إلا بعد مدافعة ومحاربة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان، والأمر في النهاية لمن غلب، فدخل قلعة الملك ومحل إصدار الأوامر والنواهي وهو القلب، فإن غلب الشيطان وحزبه على القلب كان الحكم له، والتصرف بحسب توجيهاته، فمتى عرضت له شهوة انقض عليها انقضاض العقاب، وأسرع إليها إسراع السهم، لا يخاف جزاء، ولا يخشى عاقبة، فذلك هو الذي اتخذ إلهه هواه.
وقد ورد ذم الهوى في آيات كثيرة من القرآن، وأحاديث كثيرة من السنة، قال الله تعالى: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّه﴾ [الروم: من الآية29]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: من الآية50] وقال تعالى لنبيه داود : ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: من الآية26] إلى غير ذلك من الآيات، ففي هذه الآيات كلها أخبر الله -جل وعلا- أن اتباع الهوى ضلال وهلكة. وفي الحديث: $ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات: خشية الله في السر والعلن، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب#. عزاه في الجامع الصغير إلى الطبراني في الأوسط، وأشار إلى ضعفه ولكنه صحيح المعنى( )، وفي الحديث الآخر: $إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة# حديث صحيح.
وفي حديث آخر رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، والحاكم بسند صحيح بلفظ: $الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني#. فقد اتفقت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن اتباع الهوى ضلال وهلكة، وموجب لسخط الرب تبارك وتعالى، ولهذا كان عاقبته الهوان، وقد أخذ هذا المعنى بعض الشعراء
فقال:
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه
وإذا هويت فقد تعبدك الهوى
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
فاخضع لحبك كائنًا من كان

ولعبد الله بن المبارك:
ومن البلايا للبلاء علامة
العبد عبد النفس في شهواتِها
أن لا يرى لك عن هواك نزوع
والحر يشبع تارة ويجوع

ولابن دريد:
إذا طالبتك النفس يومًا بشهوة
فدعها وخالف ما هويت فإنَّما

وكان إليها للخلاف طريق
هواك عدو والخلاف صديق

فإن قلت: قد علمت أن اتباع الهوى ضلال وهلكة، وموجب للهوان يوم القيامة، ولكن من أين تأخذ تحريم الأغاني من هذه الآية ؟ فأقول: مادمت قد اقتنعت بأن اتباع الهوى ضلال وهلكة، فقد خطوت خطوة إلى الحق، وبقيت عليك خطوة أخرى وهي: أن تعلم بأن سماع الأغاني مما ترغبه النفوس، وتميل إليه، وهذا شيء لا ينازع فيه عاقل، ولكن هذه الخطوة لا تتم إلا بمقدمة، وهي: هل الأغاني مما أمر الله به ورسوله، أو مما نَهى الله عنه ورسوله ؟ فإن قلت إنَّها مما أمر الله به ورسوله فهات الدليل على ذلك، فإن لَم تجد ولست بواجد فاعلم أن آية الإسراء، وآية لقمان صريحة في تحريمه والنهي عنه، فكان من الهوى الذي حكم الله على متبعيه بالضلال وذلك هو وجه الاستدلال والله أعلم.


FFFFF

الباب الثاني
ما جاء في تحريم الأغاني والمعازف من السنة
قال البخاري في كتاب الأشربة من صحيحه:
باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه:
وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني سمع النَّبِي ج يقول: $ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينْزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم, يأتيهم -يعنِي: الفقير- لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم عليهم، ويَمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة#.
الكلام على سند الحديث:
يكفينا أن هذا الحديث في صحيح البخاري، وقد أجمعت الأمة على تلقي ما فيه بالقبول، ولكن طعن ابن حزم في هذا الحديث بأنه منقطع، لأن البخاري علقه عن هشام بن عمار، وقد رد عليه العلماء فقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري مجلد (10) صفحة (52) في كلامه على الحديث نفسه، فحكى عن ابن الصلاح قوله: "ولا التفات إلى أبي محمد ابن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله ج: $ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف#. من جهة أن البخاري أورده قائلا: قال هشام بن عمار, وساقه بإسناده فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابًا على الاحتجاج به لتحريم المعازف وأخطأ في ذلك من وجوه ، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر الحديث في موضع آخر من كتابة مسندا ومتصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب الَّتِي لا يصحبها خلل ولا انقطاع". ا’.
وقد أطال ابن حجر في رد هذا الزعم الخاطئ وخطأ قائله من وجوه:
1- أولها أن هشام بن عمار من شيوخ البخاري والتعليق عنه لا يضر لأنه قد لقيه وسمع منه فهو محمول على الاتصال.
2- أن البخاري أورده بصيغة الجزم، ولا يورد بصيغة الجزم والتصريح إلا ما ثبت صحته، نص على ذلك الحافظ.
3- أن ما علقه البخاري ولَم يورده في موضع آخر من الصحيح مثل حديث الباب فهو لقصور في سياقه، وهو هنا تردد هشام في اسم الصحابي، قاله الحافظ.
4- أن الحديث قد وصله الإسماعيلي في مستخرجه على البخاري، كما ذكره الحافظ فقال: حدثنا الحسن بن سفيان قال حدثنا هشام بن عمار قال وأخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" فقال: حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار, قلت: وفي كل من هاتين( ) الطريقين متابعة تامة للبخاري،ثم قال الحافظ: وأخرجه الطبراني في الكبير عن موسى بن سهل الجويني وجعفر بن محمد كلاهما عن هشام وأخرجه أبو داود في سننه فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، قال: حدثنا بشر ابن بكر، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بسنده. ا.’.
قلت: وهذه متابعة قاصرة, وقال أيضًا: وأخرجه أبو نعيم أيضًا في مستخرجه على البخاري، من رواية عبد الله بن محمد المروزي، وأبي بكر الباغندي كلاهما عن هشام به، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الحسين ابن عبد الله القطان عن هشام. ا’.
ومن هذا يتبين أنه قد تابع البخاري على روايته عن هشام بن عمار سبعة هم: الحسن بن سفيان عند الإسماعيلي، ومحمد بن يزيد بن عبد الصمد، وموسى بن سهل وجعفر بن محمد عند الطبراني، وعبد الله بن محمد وأبو بكر الباغندي عند أبي نعيم، والحسين بن عبد الله القطان عند ابن حبان، متابعة تامة وتابعه أبو داود فيه متابعة قاصرة في شيخ شيخ هشام، وبِهذا ظهر خطأ ابن حزم في حكمه على الحديث بالضعف.
5- أن علماء الإسلام مجمعون على تلقي ما في صحيح البخاري بالقبول إلا من شذ وانتقد أحاديث منه وهو مخطئ في ذلك، والصحيح في الأحاديث الَّتِي أوردها قول البخاري، كما نص على ذلك غير واحد من أئمة هذا الشأن.
6- أن التردد في اسم الصحابي لا يضر، فالصحابة كلهم عدول بإجماع الأمة، وشهادة الله ورسوله لهم بذلك.
وإذا علمت هذا فقد تبين لك أن الحديث صحيح، بل مقطوع بصحته، لا يقدح فيه إلا مكابر مريض القلب، منقاد للهوى، ومثل هذا لا يقنعه شيء، لأنه قد فتح باب الجدل، وسد باب العلم.
أما دلالة الحديث على تحريم الأغاني فهي من ثلاثة مواضع:
أحدها: أن قول النَّبِي ج: $ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف#. معناه: الإخبار عن قوم يتخذون هذه الأشياء حلالاً، ويسترسلون فيها استرسال المستحل، فتبين من هذا أن هذه الأشياء حرام، ولو كانت حلالاً لما قال: $يستحلون# والمعازف واحدة منها، فلها حكمها، والمعازف هي جميع آلات اللهو والطرب من طبل ومزمار، وطنبور، وعود، وكوبة، وربابة وغيرها.
الثاني: أن هذه الأشياء أوجبت المسخ والعذاب على من استحلها ولا يعذب الله إلا على فعل محرم ولو كانت حلالاً لكان تعذيب الله للناس عليها ظلمًا, والله يتعالى ويتنَزه عن الظلم قال تعالى وهو أصدق قائل: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: من الآية49] , وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: من الآية40] , وقال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: من الآية46].
الثالث: ونحن نلزم من لَم يقل بِهذا الحديث بما يمكن أن يكون كفرا فنقول:
أ- هذا الحديث صحيح لا شك فيه، قد صح على قواعد الحديث الَّتِي أسسها سلف الأمة وخير قرونِها، فإن قال صح عندك ولَم يصح عندي، قيل له إذا رددت هذا الحديث فأنت ملزم بأن ترد جميع السنة، لأن القواعد الَّتِي درس عليها هذا الحديث هي القواعد الَّتِي درست عليها جميع السنة, والأئمة الذين رووا هذا الحديث هم الأئمة الذين رووا جميع السنة, والأئمة الذين محصوه وتتبعوا شواهده هم الأئمة الذين محصوا سائر السنة وتتبعوا شواهدها، فإما أن تقتنع بقواعدهم وروايتهم وتمحيصهم في جميع السنة، وإما أن ترده في جميع السنة، ومن رد جميع السنة أو أمرًا مجمعًا عليه منها فقد كفر.
ب- ومن جهة أخرى نقول: أن النَّبِي ج الذي أنزل الله عليه الكتاب والسنة، وأخبر عن جميع المغيبات الَّتِي وردت في الكتاب والسنة ماضيها ومستقبلها، أخبر في هذا الحديث أن أقوامًا من أمته يستحلون الزنا وشرب الخمر ولبس الحرير والمعازف، فيخسف الله ببعضهم، ويمسخ بعضهم قردة وخنازير، فإن قلت أصدقه فقد هديت ورشدت وذاك ما نطلبه منك كدعاة إلى الحق، فإن قلت لا أصدق بما ورد في هذا الحديث، وكذبته فقد كذبت جميع الأخبار الواردة في السنة، لأن الذي جاء بِها واحد، والله تعالى قد ذم أهل الكتاب بأنَّهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وحذرنا من صفتهم، وأوجب علينا أن نؤمن بكل ما جاء به الرسول ج، لأن الرد لبعضه رد لكله، نعوذ بالله من ذلك.
ج- ومن جهة ثالثة نقول قد أخبر النَّبِي ج أن الله قد عذب أقوامًا باستحلالهم لهذه الخصال الأربع، فهل تقول أن الله قد عذبَهم على محرم أم لا؟ فإن قلت: نعم فذاك ما نريد، وقد ألزمت بتحريم الأغاني والمعازف. وإن قلت خلاف ذلك فقد اعتقدت أن الله عذبَهم ظلما، ومن اعتقد ذلك كفر.
د- أما ابن حزم فهو بشر يخطئ، ولَم يظهر له ما ظهر لك، ولو كان حيًّا وظهر له صحة الحديث لقال به بلا شك.
ولو لَم يكن في تحريم الملاهي من السنة إلا هذا الحديث لكفى فكيف وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة، ولكن لا يخلو كثير منها عن مقال وضعف مقارب، وهي بمجموعها تكون دليلاً قطعيًّا وحجة ثابتة لا يجرؤ على مخالفتها إلا من أعمى الله بصيرته، وطمس قلبه، فانقاد للهوى، وأعرض عن الهدى، وها أنا أسوق لك الأحاديث الواردة في ذلك، مع الكلام على أسانيدها فأقول:
الدليل الثاني من السنة:
روى أبو داود الطيالسي في كتابه الذي رتبه الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي -وهو والد حسن البنا مؤسس الدعوة الإخوانية بمصر- تحت باب: "الترهيب من المعاصي"، فقال: حدثنا أبو داود، قال حدثنا جعفر بن سليمان، قال حدثنا فرقد، عن عاصم بن عمر البجلي، عن أبي أمامة ، عن النَّبِي ج قال: $يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب، ولهو ولعب، فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير، وليصيبنهم خسف وقذف، حتى يصبح الناس فيقولوا خسف الليلة ببني فلان، وبني فلان، وخسف الليلة بدار فلان خواص، وليرسلن عليهم حاصبا حجارة من السماء، كما أرسلت على قوم لوط، على قبائل منها وعلى دور، وليرسلن عليهم الريح العقيم الَّتِي أهلكت عادًا، على قبائل منها وعلى دور، بشربِهم الخمر، ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات وأكلهم الربا، وقطيعتهم الرحم# وخصلة نسيها جعفر.
الكلام على سند الحديث:
قلت: جعفر بن سليمان الضبعي الحرشي البصري أبو سليمان قال ابن أبي حاتم في ترجمته: حدثنا عبد الرحمن أنبانا ابن أبي خيثمة فيما كتب إلي قال: سألت يحيى بن معين عن جعفر بن سليمان الضبعي فقال ثقة، وروى بسنده إلى أحمد بن حنبل قال: جعفر بن سليمان الضبعي لا بأس به، فقيل له أن سليمان بن حرب يقول: لا يكتب حديثه، فقال: حماد بن زيد: لَم يكن ينهى عنه، إنما كان يتشيع وكان يحدث بأحاديث يعني في مقتل علي وأهل البصرة يغلون في علي ، وعامة أحاديثه رقائق، روى عنه عبد الرحمن بن مهدي, فتبين أن جعفر بن سليمان لا يرد حديثه إلا إذا كان فيما يؤيد بدعته، وكذلك حكم الأئمة في المبتدع المأمون، لا يردون حديثه إلا إذا كان مؤيدًا لبدعته ويقبلونه فيما سوى ذلك والله أعلم. أما فرقد السبخي فقد مضى الكلام فيه، وروى ابن أبي حاتم عن أحمد: "أن فرقد السبخي رجل صالح ليس بقوي في الحديث". قلت: ومثل هؤلاء لا يطرح حديثهم، بل يكون مقاربًا يرتفع بالشواهد إلى درجة الحسن والله أعلم. وهذا الحديث بالذات يشهد له الحديث الماضي المروي في صحيح البخاري لأن معناهما متقارب، فكلاهما أفاد أن قومًا يخسف بِهم في آخر الزمان، وأقوامًا يمسخون قردة وخنازير، وزاد حديث الطيالسي أن قومًا يرمون بالحجارة، وهذا يشبه دك العلم أي الجبل، على القوم الذين يبيتون إلى جنبه، فيصبحون وقد وضع الله العلم عليهم، ولعلهم غيرهم، فالخسف سيكون متعددًا، وزاد أيضًا: بتسليط الريح على قوم، أما الأسباب فقد اتفق الحديثان على ثلاثة منها هي: $لبس الحرير، وشرب الخمر، واتخاذ القينات – أي المغنيات#. وانفرد حديث البخاري بخصلة الزنا، وانفرد حديث أبي داود الطيالسي باثنتين هي: $أكل الربا، وقطيعة الرحم#. ولعل الخصلة الَّتِي نسيها جعفر هي خصلة الزنا المذكورة في حديث البخاري، وفي تسمية المغنيات بالقينات والقينة في اللغة: هي الجارية المملوكة -نكتة عجيبة- وهي: أن هؤلاء المغنيات مملوكات ومستعبدات للشيطان، والهوى، لذلك سُمَّيْنَ قينات. وقد جاء ذكر وقوع الخسف في آخر الزمان في أحاديث كثيرة وصحيحة، ومنها حديث رواه الترمذي في سننه فقال: باب ما جاء في الخسف.
قلت: وهو الدليل الثالث من السنة: فقال: حدثنا بندار: قال أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، قال أخبرنا سفيان، عن فرات القزاز، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد  قال: أشرف علينا رسول الله ج من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال رسول الله ج: $لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربِها، ويأجوج ومأجوج، والدابة، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن، تحشر الناس، فتبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا#. ثُمَّ ساق للحديث عدة طرق وقال في آخرها: وفي الباب عن علي، وأبي هريرة، وأم سلمة، وصفية، وهذا حديث حسن صحيح، قلت: وهو كما قال الترمذي فرجاله كلهم رجال الصحيحين وهم: محمد بن بشار بندار، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان هو الثوري وهؤلاء كلهم أئمة عظام في هذا الشأن، وفرات القزاز أيضًا من رجال الصحيحين، أما أبو الطفيل، وحذيفة بن أسيد فهما صحابيان، وبِهذا تتضح صحة الحديث جيدًا.
الدليل الرابع من السنة:
وروى الترمذي أيضًا حديثًا عن عائشة رضي الله عنها بسند فيه عبد الله ابن عمر العمري وهو متكلم فيه من قبل حفظه قالت: قال ج: $يكون في آخر هذه الأمة خسف، ومسخ، وقذف. قالت: قلت: يا رسول الله أنَهلك وفينا الصالحون ؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث#. ومعنى $القذف#: الرمي بالحجارة من السماء، و $المسخ#: التحويل أن يحول الله قومًا من العصاة إلى قردة وخنازير، وأما قوله: $إذا ظهر الخبث# فقد قال الشيخ المباركفوري في شرحه على الترمذي: بفتح الخاء والباء، وفسره الجمهور بالفسوق، والفجور، وقيل: المراد الزنا خاصة، وقيل أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقًا.
قلت: الأظهر أنه الزنا ودواعيه، ونتائجه، فمن دواعيه: انتشار الغناء والعزف، والسينما، والتلفاز، والتبرج، والتعري، واختلاط النساء بالرجال في المستشفيات والمدارس، والمعامل، والمصانع، حتى لقد أصبح الزنا ميسر الأسباب، بل وتحت حماية الحكومة في كثير من الدول والعياذ بالله. أما أولاد الزنا فقد كثروا في مثل هذه الدول، وقد فتحت دور الحضانة، ووضعت المربيات لأمثال هؤلاء، ولقد أصبح هذا شيئًا معروفًا لا ينكر إلا على من أنكره، وهو تأويل هذا الحديث، ولا يزال في الزيادة والله أعلم.
الدليل الخامس من السنة:
قال الترمذي: حدثنا علي بن حجر، قال أخبرنا محمد بن يزيد عن المستلم بن سعيد، عن رميح الجذامي عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله ج: $إذا اتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرمًا،وتعلم العلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه, وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء، وزلزلة وخسفًا، ومسخًا، وقذفًا، وآيات تتابع كنظامٍ بالٍ قطع سلكه فتتابع# قال الترمذي: حديث غريب.
الكلام على سند هذا الحديث:
علي بن حجر السعدي المروزي من رجال مسلم، محمد بن يزيد هو الواسطي أبو سعيد الكلاعي مولى خولان، ترجم له ابن أبي حاتم في المجلد الرابع القسم الأول رقم (568 صفحة 126) ونقل عن ابن معين أنه قال: ثقة، وعن أبيه أنه قال: صالح، والمستلم بن سعيد الواسطي ترجم له ابن حجر في التقريب فقال: صدوق يهم، ورميح الجذامي وقيل الحزامي قال فيه ابن حجر: مجهول. ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: مجهول. فالحديث ضعيف بِهذا الرجل، ولكنه صحيح بشواهده، وله شاهد من حديث علي ، ولكنه منقطع السند بين محمد بن علي الباقر وعلي ابن أبي طالب، ولكن متن الحديث أكثره محفوظ من أحاديث أخرى، ومن استقرأ الواقع، وعرف انطباقه عليه، يكاد يجزم بصحته، فهذه الأمور كلها واقعة منتشرة الآن وهي تزيد في كل يوم فشوًا وانتشارًا.
شرح الحديث:
قوله: $إذا اتخذ الفيء دولا# أي: أن الغنيمة والفيء منعت من المحاربين وصارت تبعًا للدولة، $والأمانة مغنمًا# أي: لَم تحفظ ولَم تصن، بل اتخذها من استولى عليها مغنمًا لضعف الإيمان، $والزكاة مغرمًا# أي: غرامة بحيث يرى من أداها أنَّها غرامة، ولَم يعتقد أنَّها فريضة وواجب إسلامي، وهذا قد شاع في زماننا هذا شيوعًا لا يقبل الرد، فالأمانة أضيعت حتى لا تكاد تجد أمينًا، والزكاة تحايل الناس في إسقاطها وسلكوا لذلك طرقًا ملتوية فهذا يرشي في إسقاطها، وهذا يوزع غلته من الحبوب بين أولاده، فيجعل هذا باسم فلان، وهذه باسم فلان، وهذه باسمه ويسترجع صدقته بطريقة شيطانية، فيخفي نفسه بين الفقراء بممالأة من رئيس القبيلة، فيكتبه فقيرًا وله عائلة، ويكتب ابنه فقيرًا وله عائلة وزوجته أرملة ولها عائلة، ويأخذ كل الذي أعطاه أو بعضه، وأما قوله: $وتعلم العلم لغير الدين#. فهذا أكثر شيوعًا، فلا تجد في زمننا هذا متعلمًا يريد بعلمه وجه الله والدار الآخرة إلا نادرًا، بل كل متعلم لا يريد بعلمه إلا الشهادة الَّتِي يتوظف بِها، حتى صاحب العلم الشرعي، إن لَم يكن موظفًا في التدريس لَم يجد من يأخذ عنه علمه، ولذا فقد قلت بركة العلم لفساد النية في طلبه.
أما قوله: $وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه#. فهذا واقع منتشر، فكم قد سمعنا أن فلانًا أخرج أمه من بيته لأنَّها تخاصمت مع زوجته، أو ضرب أمه لهذا السبب، وفلانًا لا يكلم أباه أو يجفوه، ويصمه بالجنون، وقلة العقل، وسخافة الرأي، أو يضربه ويهينه، وإذا نظرت إليه وتتبعت أحواله وجدته يتعامل مع الناس وبالأخص أصدقائه منهم معاملة حسنة، ويبذل لهم معروفه، وهذا مصداق لحديث النَّبِي ج، وأما قوله: $وظهرت الأصوات في المساجد#. فهذا يدل على امتهان المساجد وعدم احترامها، وقد حصل في بعض البلدان كما سمعنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأما قوله: $وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم#. فهذا معناه أن السيادة والشرف في القبائل، والزعامة العظمى في المجتمعات اعتبرت بغير الدين، فأعطي للفاسق المتلون، والخب والجواظ المتكبر المقارف للجرائم والرذائل, ومعنى ذلك أن السيادة والزعامة لَم تكن معتبرة بالعلم والدين والمعرفة والعفة، كما كان في الزمن الأول حيث يقول أحد الصحابة، كان الرجل إذا حفظ سورة البقرة جد فينا.
وكما ورد أن النَّبِي ج كان إذا أرسل بعثًا سألهم عما يحفظون من القرآن، فمن وجده منهم يحفظ سورة البقرة أمّرَهُ عليهم، ويشهد لهذا قوله ج في الحديث الصحيح: $إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة#، وأما قوله: $وأكرم الرجل مخافة شره#. أي: لَم يكرم لدينه، ولا لعلمه، ولا لسنه، ولا لشرفه، لأنه ليس واحد من هؤلاء، ولكن أكرم خوفًا من شره، واتقاء لسطوة لسانه أو قلمه، أو يده، ويشهد لهذه الخصلة قوله ج: $إن من شر الناس من يتقيه الناس مخافة شره#. وهذا وإن كان قد وجد في الزمن الأول إلا أنه قليل ونادر، أما الآن فقد كثر وانتشر.
وأما قوله: $وظهرت القينات والمعازف#. فالقينات: المغنيات، والمعازف: آلات العزف وهي آلات اللهو، والطرب، وظهورها: شيوعها والظهور له معنيان: حسي ومعنوي.
فظهورها حسًّا انتشارها، حتى لا تجد بيتًا إلا وفيه مذياعًا، أو بيكما أو تلفازًا أو مسجلاً قد جمع فيه جميع المغنين والمغنيات، وجميع آلات العزف الَّتِي في مشارق الأرض ومغاربِها، لَم ينج من ذلك كبير ولا صغير، ولا غني ولا فقير، ولا عالم ولا جاهل، ولا ذكر ولا أنثى، ولا رئيس ولا مرءوس، الكل قد عمتهم هذه الفتنة إلا من عصم الله T، فحمى نفسه ومن تحت يده، فكان كالقابض على الجمر.
وأما ظهورها معنًى، فهو استيلاؤها على القلوب، وتحكمها في الضمائر وتحديدها في الاتجاهات والمصائر، فهم بذكرها يلهجون، ولنغماتِها يطربون، وفي سبيلها ينفقون، ولأهلها يحبون ويعظمون، ومن أجلها يوالون ويعادون.
وإن من أبرز الأدلة على اتصافهم بِهذه الصفات، وتعظيمهم للمغنين والمغنيات، موجة الحزن الَّتِي عمت الكثير من الناس عند موت مغنية مشهورة، قضت عمرها الطويل داعية إلى الشيطان، وصادة للناس عن سبيل الرحمن، جاهدة في نشر المجون والفجور، حتى نزل بِها الموت الذي أزارها القبور، وأخرجها من بين الأموال والقصور والتي جمعتها بالهجر والفسوق وقول الزور، وأقدمها على عملها المثبور، فلقد بكى يوم موتِها أكثر الشباب، ونسجت من أجلها قصائد التأبين والمرثيات، حتى من بعض حملة الشريعة وقراء الكتاب، فانبرى بعضهم لمحاربة الحق جاهدين, وحسر بعضهم عن الذراع دفاعًا عن الباطل ضد الدين، فتحقق فيهم قول الله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146]. ولقد تصدى لدحر هذه الحملة المهزولة، وتفريق هذه الفرقة المخذولة، رجال على الدين يغارون، ولشعائر الله يعظمون، وفي سبيل الله يجاهدون، ولإعلاء الحق يدأبون، وعن محارم الله بكل استطاعة يدفعون, فنسأل الله أن يجزيهم خيري الدنيا والآخرة، وأن يرفع درجاتِهم في الجنة: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد:14]: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69].
ومن العجيب والعجائب كثيرة أنا سمعنا أن بعض الفتيات انتحرن حين مات المغني المشهور عبد الحليم حافظ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على فتنة الناس بالأغاني وأهلها، وهذا هو معنى ظهور القينات والمعازف حسًّا، حيث استولى حبها على قلوبِهم، وامتزج بدمائهم فصار الهوى معبودهم مع الله T، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولقد سمعنا أن الذين حضروا جنازة المغنية المذكورة سابقًا يقدرون بنصف مليون، وحدثت يوم موتِها ضجة سيطرت على الأوساط العربية والعالمية. وهذا بعكس ما كان عليه المسلمون في الأزمنة الأولى من تعظيم الدين، وحملة الدين، ومن تصدى للدعوة إليه، وبذل جهده في إظهاره، فلقد ذكر المؤرخون أنه لما قدم الأوزاعي العراق في زمن الخليفة هارون الرشيد انجفل أهل بغداد للقائه، فنظرت زبيدة زوجة هارون، فرأت تلك الحشود الهائلة، فقالت: ما شأن الناس؟ فقيل لها: هذا الأوزاعي عالم الشام قدم بغداد، فخرج الناس للقائه. فقالت لزوجها: هذا هو الملك لا ملككم، ويروى أن الذين حضروا جنازة أحمد بن حنبل رحمه الله يقدرون بألف ألف وثلثمائة ألف، والذين حضروا جنازة ابن تيمية عدد هائل لَم ير مثله في ذلك الزمان، رغم أنه مات في سجن الدولة، والحشد في جنازته يعد معارضة لها في سياستها، ولقد أصبح الأمر الآن على خلاف ذلك، تموت مغنية فتضج لها الإذاعات العربية والعالمية، ويموت أو يقتل أحد العلماء الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الدين والجهاد في سبيل الله، فلا يأسف عليه إلا القليل ولا تسمح حتى الدولة الَّتِي يموت فيها -وهي تزعم أنَّها مسلمة- بنشر نبذة عن حياته في إذاعتها، أو كتابة عمود عنه في إحدى جرائدها، وعندئذ يتساءل الإنسان هل هؤلاء مسلمون حقًّا ؟‍!!!،... وما هذا إلا مصداقًا لقول النَّبِي ج: $وظهرت القينات والمعازف# لأن الحديث وإن كان ضعيفًا في سنده، فإن متنه صحيح بشواهده، ومشاهدة ما تضمنه من أخبار هي تعتبر في زمن النَّبِي ج وما بعده بقليل غيبًا مكتومًا، ولكنه في زمننا واقعًا معلوما، فصلى الله على من لَم تزل معجزاته تتجدد بتجدد الزمان إلى يوم القيامة.
وفي معنى هذا ما ورد في الحديث: $إن لهذا الدين إقبالاً وإدبارًا, وإن من إقبال هذا الدين أن تتفقه القبيلة بأسرها، حتى لا يبقى فيها إلا الفاسق أو الفاسقان ، فهما مقموعان مقهوران مضطهدان، إن تكلما أو نطقا قمعا واضطهدا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يبقى فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقموعان مقهوران مضطهدان، إن تكلما أو نطقا قمعا واضطهدا#.وفي معناه الحديث الصحيح أيضًا: $بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس# وفي رواية: $يصلحون إذا فسد الناس#.
وأما قوله: $وشربت الخمور#. فهذا لا يحتاج إلى شرح ولا بيان، لأنه أصبح في هذا الزمان شاهد عيان، وشاهد العيان لا يحتاج إلى برهان، فلقد أصبح من شأن الخمر -الَّتِي هي أم الخبائث، والتي لعن رسول الله ج فيها عشرة عدد لَم يرد في غيرها أبدًا- أصبحت تحمى من دول يقال أنَّها مسلمة، تحمي الخمر، وتحرس من هذه الدول لتباع وتشترى علنًا، وتفتح فيها الخمارات، والدولة حامية لها بحدها وحديدها، وسياطها وسجونِها، لأن تلك الدولة تعد الخمر موردًا من مواردها الاقتصادية، ولقد انعقد مجلس الأمة أو مجلس الشعب في إحدى البلدان العربية ليبحث تحريم الخمر أي منع بيعه بصورة علنية في ذلك البلد، فتصدى وزير ذلك البلد منافحًا عن الخمر، لأنه زعم أن الخمر توفر لاقتصاد بلاده ستة ملايين جنيه، ومن أجل ذلك فهو لا يريد منعها فإلى الله نشكو غربة الإسلام، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أما قوله: $ولعن آخر هذه الأمة أولها#. فهذا قد حصل فكثير من الناس لعنوا أول هذه الأمة، وزعموا أنَّهم رجعيون، وأنَّهم السبب في تأخر العرب عن ركب الحضارة، ولَم يعلم المساكين أن المسلمين هم أصل هذه الحضارة وكم سمعنا وسمع الناس من الشتم المقذع لمن تأسى بالسنة وتزيا بزيها ولعنوا شكله ووصفه، فسموا الملتحي شاكوشًا ومكنسة بلدية، ووصفوه بالقذارة والوساخة، وحامل جراثيم، ولَم يصفوا بذلك إلا من تزيا بالسنة وما جاءت به السنة.
أما ما جاء من عند أسيادهم الغرب فهو الطيب وإن كان هو القذارة، فكم رأينا من يحلق لحيته، ويربي شاربه، وإبطه وأظفاره، وتوليته، ويعد هذا تقدمًا علمًا بأن هذه هي الوساخة بعينها فالأظفار يأكل بِها، والشارب يتدلى على الفم الذي هو مسلك الأكل، فيعلق به ما يعلق، والإبط هو منفذ الروائح، ولهذا أمر النَّبِي ج بتعاهد هذه الأشياء لما في تركها من الوساخة.
والمهم أنَّهم يستحسنون ما جاء من الغرب وإن كان هو الوساخة، ويستقبحون ما جاء من الشرع وإن كان هو النظافة وهو الجمال، وما ذاك إلا لانعكاس الفطر والعياذ بالله، وأما قوله: $فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وخسفًا، ومسخًا، وقذفًا#. أي: رميًا بالحجارة. $وآيات تتتابع كنظام بالٍ قطع سلكه فتتابع#. أي: فلينتظروا العذاب عند ذلك بالريح، كما حصل لقوم عاد، والخسف كما حصل لقارون، والمسخ كما حصل لأصحاب السبت، والقذف كما حصل لقوم لوط، إلى غير ذلك من الآيات وأنواع العذاب، والله أعلم.
الدليل السادس:
قال الترمذي: حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي، قال حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين  أن رسول الله ج قال: $في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف. فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذلك ؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف، وشربت الخمور#. قال الترمذي: هذا حديث غريب.
الكلام على سند الحديث:
قال الحافظ في التقريب: عباد بن يعقوب الرواجني أبو سعيد الكوفي صدوق رافضي حديثه في البخاري مقرون، قلت: المبتدع إذا عرف بالصدق فإنه لا يرد حديثه إلا فيما يؤيد بدعته، وليس هذا كذلك، لاسيما وقد روى له البخاري. ثُمَّ قال: عبد الله بن عبد القدوس التميمي السعدي صدوق رمي بالرفض أيضًا، ويقال فيه كما قيل في سابقه، لاسيما وقد أخرج له البخاري تعليقًا، أما الأعمش فهو أشهر من نار على علم ولكنه مدلس وقد عنعن، وأما هلال بن يساف فهو بكسر الياء التحتانية ثُمَّ مهملة ثُمَّ فاء، ويقال بن إساف الأشجعي مولاهم الكوفي ثقة ورمز له البخاري تعليقًا، ومسلم والأربعة. ومن هذا يتبين أن رجال السند كلهم ثقات وليس فيه إلا عنعنة الأعمش, وهذا ينجبر بما للحديث من شواهد، فهو صحيح لا شك فيه, وهو يفيد مفاد الحديث الأول إلا أنه قصر السبب على ثلاثة أشياء هي: $ظهور القيان والمعازف وشرب الخمور#. وقد تقدم بيان ذلك بما فيه كفاية والله أعلم.
الدليل السابع:
قال البخاري في باب: "الحراب والدرق يوم العيد من كتاب العيدين": حدثنا أحمد، قال حدثنا ابن وهب، قال أخبرنا عمرو، أن محمد بن عبد الرحمن الأسدي حدثه، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قال: $دخل علي رسول الله ج وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النَّبِي ج! فأقبل عليه رسول الله  فقال: دعهما. فلما غفل غمزتُهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النَّبِي ج وإما قال: $تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم. فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة. حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم. قال: فاذهبي#.
وفي "باب سنة العيدين لأهل الإسلام" أورده من طريق آخر إلى عروة عن عائشة -رضي الله عنها- وفيه: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله ج ؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله ج: $يا أبا بكر إن لكل قوم عيد وهذا عيدنا#.
الكلام على هذا الحديث:
قول عائشة: فانتهرني من النهر وهو الزجر، قوله: $مزمارة الشيطان# وفي رواية: $مزامير الشيطان#. قال الحافظ في الفتح: "بكسر الميم يعني الغناء أو الدف، لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمر وهو الصوت الذي له صفير، ويطلق على الصوت الحسن، وعلى الغناء سميت به الآلة الَّتِي يزمر بِها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنَّها تلهي، فقد تشغل القلب عن الذكر". ا’.
قال القرطبي: "المزمور الصوت، ونسبته إلى الشيطان ذم على ما ظهر لأبي بكر ".
قوله: $دعهما# زاد في رواية هشام: $يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا# ففيه تعليل الأمر بتركهما، وإيضاح خلاف ما ظنه أبو بكر  من أنَّهما فعلتا ذلك بغير علمه ج، لكونه وجده مغطى بثوبه فظنه نائمًا فتوجه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه، مستصحبًا لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو، فبادر إلى إنكار ذلك، قياما عن النَّبِي ج بذلك مستندًا إلى ما ظهر له، فأوضح له النَّبِي ج الحال، وبين له الحكم مقرونًا ببيان الحكمة بأنه في يوم عيد، فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر في الأعراس.
قلت: من القواعد الأصولية أنه إذا تعارض خاص مع عام خصص من أفراد العموم ما تناوله ذلك الخاص، وبقي ماعداه مما تناوله لفظ العموم مشمولاً بالحكم الأصلي، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: من الآية45] خصص منه الوالد فلا يُقتل بالولد والمسلم فلا يُقتل بالكافر، والحر فلا يقتل بالعبد، وبقي ماعدا ذلك، فلا يقال أن منع القصاص في هذه الثلاثة مبطل لحكم القصاص بالكلية، ومثل ذلك يقال في الغناء واللهو. فإباحة الغناء والدف في الأعياد والأعراس على هيئة مخصوصة وبصفة مخصوصة، لا يكون مبيحًا للغناء بجميع أنواعه واللهو بجميع آلاته، وهذا لا يقوله إلا جاهل أو مكابر.
ولهذا قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء بآلة وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الثاني بقولها: وليستا بِمغنيتين. فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما اللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت، وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب، بفتح النون وسكون المهملة وهو الحداء، ولا يسمى فاعله مغنيًا، وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير، وتَهييج وتشويق، بما فيه من تصريح بالفواحش أو تعريض، قال القرطبي: وليستا بمغنيتين. أي ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عن المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا النوع من الشعر إذا كان فيه وصف النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف اثنان في تحريمه. ا’.
فتبين من هذا أن الغناء يطلق ويراد به رفع الصوت بتكسير وتمطيط فيدخل في حداء الإبل، وتسكين الأطفال، وغناء الحجاج، والترنم بالشعر وقراءة القرآن، وما أشبه ذلك، وعلى هذا فإن غناء الجاريتين مما يطلق عليه اسم الغناء لغة، وليس من الغناء المعروف الذي ورد في الشريعة ذمه والوعيد عليه، والعقاب لفاعله، فهو ما كان فيه وصف للنساء، والحب وتهييج للشهوة، وإغراء بالفاحشة، وكل الأغاني اليوم مصبوغة بِهذه الصبغة، على هذا فإنَّها مما لا يختلف في تحريمه.
قال العيني في كتابه "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": قال القرطبي: "أما الغناء فلا خلاف في تحريمه، لأنه من اللهو واللعب المذموم بالاتفاق، فأما ما يسلم من المحرمات فيجوز القليل منه في الأعراس والأعياد وشبههما، ومذهب أبي حنيفة في تحريمه، وبه يقول أهل العراق، ومذهب الشافعي كراهته، وهو المشهور عن مالك -قلت: سيأتي ما يدل على أن الشافعي ومالكًا يقولان بتحريمه- إلى أن قال: وقال بعض مشائخنا مجرد الغناء، والاستماع إليه معصية حتى قالوا سماع القرآن بالألحان معصية، والتالي والسامع آثمان، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ الآية. قلت: قد تقدم بأن الغناء هو مجرد رفع الصوت بتكسير وتمطيط، والنتيجة تختلف باختلاف الكلام المتغنى به، وما يعكسه من آثار ونتائج سيئة أو حسنة، والحكم يترتب على ذلك:
1- فإن كان الكلام المتغنى به في وصف الحرب، وكانت الحرب في نصرة الحق ودحض الباطل كان التغني به حقًّا، ومن هذا القبيل أشعار حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، ولهذا قال النَّبِي ج لحسان: $اهجهم وروح القدس معك#.
2- وإن كان الكلام المتغنى به يصف الخدود، والقدود، ويذكر العشق والوصل والصدود، بما يستثير الغرائز الكامنة، ويوقظ الشهوات النائمة وينبه القلوب الغافلة، بما يدفعها للحرام والوقوع في الآثام كان حرامًا.
3- وإن كان الكلام يثير النشاط، وينفض عن المتغني به الكسل، ولَم يكن فيه تعريض بأحد، ولا وصف لمحرم، كحداء الإبل -وكما جاء في الحديث الصحيح: $يا أنجشة رويدك سوقًا بالقوارير#- ومثل ذلك الأغاني المهدئة، والمسكنة، كغناء النساء في أراجيح الأطفال، وغناء الأم الوالهة لوحيدها الغائب بما يسكن عنها لوعة الفراق، وكمد البعد، كان مباحًا.
4- وإن كان الكلام المتغنى به يثير الخشية من الله، والحب لجلاله، ويرغب فيما عنده من جنته وثوابه، ويرهب مما عنده من ناره وعقابه، أو يفيد علمًا نافعًا، أو يعين على حفظه كان مستحبًا، ما لَم تصحبه آلة أو رقص أو خروج عن الآداب الشرعية، أو تغني امرأة رجالا يتلذذوا بصوتِها، فإن صحبه شيء من ذلك انقلب الحلال حرامًا. أما الأناشيد فهي حرام لكونِها بدعة والصوفية تتعبد بِها, فلذلك نقول أن الأناشيد حرام ووصفها بالإسلامية وصف باطل.
5- أما القرآن فلا يؤثر إلا الخشية من الله، لذا كان التغني به مطلوبًا وفاعله مثابًا، ولولا ذلك ما أثنى النَّبِي ج على أبي موسى  بقوله: $لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود#. فكان من لازم ذلك أن صوت أبي موسى محبوب إلى الله، كما كان صوت داود بالزبور إذا رتلها محبوبًا إلى الله؛ لأن النَّبِي ج لا يثني إلا على ما كان محبوبًا إلى الله، والله جل وعلا لا يحب إلا ما كان مشروعًا ومرضيًا لديه، ولهذا جاء في الحديث: $ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن#. ولكن هذا الحكم يتمشى إذا كان الصوت الحسن طبعًا للإنسان، أما إذا كان متكلفًا فإنه يكون مكروهًا وقد يبلغ إلى حد التحريم إذا جعل القرآن خاضعًا للنغمات الموسيقية ومنساقًا معها، بل قد يصل إلى حد الكفر إذا كان استخفافًا بالقرآن وحطًّا من قدره، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ [فصلت: من الآية40]. والإلحاد: هو الميل بالقرآن عما أنزل من أجله بأي صورة كانت، وقد ظهر من هذا أن الحكم يرتبط بماهية الكلام المتغنى به وما يعكسه من آثار على العقول والأجسام.
وعلى هذا فإن ما غنته الجاريتان ليس من النوع المحرم، بل من النوع المباح، لاسيما وهو من جوار صغار، بل قد أخذ السلف تحريم الغناء من هذا الحديث، وجعلوه من أجل ذلك من أدلة تحريمه، وذلك من قول أبي بكر  في هذا الحديث: $أمزامير الشيطان في بيت رسول الله ج#. وقد أقره رسول الله ج على هذه التسمية، والإقرار هو أحد مصادر التشريع الثلاثة الَّتِي هي القول، والفعل، والإقرار، ولو كان أبو بكر قد وضع هذه التسمية في غير موضعها لأنكر عليه النَّبِي ج، فلما سكت عنه علم من ذلك أنها تسمية حق لأن النَّبِي ج لا يقر إلا على الحق، ولكن ظن أبو بكر أن هذا من الممنوع، فأخبره النَّبِي ج أن الأعياد يسمح فيها بشيء من اللهو الذي لا يضر مثل هذا والله أعلم.
وفي هذا الحديث أيضًا إقرار النَّبِي ج للحبشة على اللعب بالحراب والدرق في المسجد، وذلك من عدة الحرب ومن القوة الَّتِي أمر الله بِها في قوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: من الآية60]. وليس من اللهو الممنوع ولهذا أبيح في المسجد كما كان النَّبِي ج وخلفاؤه الراشدون يبعثون الجيوش من المسجد. وقد شغب قوم ممن قصرت أفهامهم عن المقاصد الشرعية والقواعد الأصولية بِهذا الحديث، وظنوا أنه يكفي للاستدلال به على جواز الغناء بأي صورة كانت، وعلى أي كيفية كانت، وسألخص الإجابة على الشبه الَّتِي استند إليها هؤلاء فيما يأتي فأقول:
1- أن نوع الشعر المتغنى به في هذا الحديث لَم يكن من الشيء الممنوع، فقد أفاد الحديث أنه من شعر يوم بعاث، وأشعار الحروب مروية ومتداولة في زمن النَّبِي ج والأزمنة الَّتِي بعده، حتى اليوم، لَم ينكر ذلك أحد، وقد سمع النَّبِي ج الشيء الكثير من ذلك، بل أثنى على ما كان في نصرة الله ورسوله، فقال لحسان: $اهجهم وروح القدس معك#. وقال: $اللهم أيده بروح القدس#. ولما أنكر عمر بن الخطاب  على حسان إنشاد الشعر في المسجد, قال حسان: قد أنشدته في المسجد وفيه من هو خير منك فسكت.
2- أن الغناء من جوار صغار، ومثل هذا يتسامح فيه لأنَّهن لسن مكلفات ولاسيما إذا كان في مثل هذه المناسبة، وبمثل هذا الشعر.
3- وقد كان هذا في يوم عيد، والأعياد يشرع فيها الانبساط أكثر من غيرها، لأنَّها تأتي بعد كد النفوس في العبادة فيحصل بالانبساط ترويح على أهل النفوس المكدودة، أما أصحاب الأرواح العالية الذين يرتاحون للعبادة فلا يحتاجون إلى ذلك، ومن هذا القبيل قول النَّبِي ج: $قم يا بلال فأرحنا بالصلاة#.
4- تحريم الغناء ثابت بالكتاب والسنة ثبوتًا لا شك فيه، وهو عام، والترخيص خاص، وإذا تعارض عام وخاص خصص من العموم ما أخرجه الخاص، وبقي ماعداه داخلاً في حيز العموم، ولهذا نقول بجواز الغناء والضرب بالدف في الأعياد والأعراس، وعند قدوم الغائب، ما لَم يكن في ذلك إغراء بفاحشة، أو تَهييج على محرم.
5- ويُعلم مما تقدم أن الترخيص في الأعياد والأعراس رخصة لمصلحة أو مصالح دينية، رجحت على المفسدة الحاصلة باللهو، وعلى هذا فإنه يقتصر على محل الرخصة ولا يتعداها إلى غيرها، لا في السبب، ولا في الآلة، ولا في النوع، ولهذا يجب أن نقول بتحريم العود، والربابة والكمان والكوبة، والكمنج وغيرها، لأن الترخيص لا يتناولها، وكما يقتصر في الآلة على ما ورد وهو الدف والغربال، وكذلك يقتصر على ما ورد في النوع، فلا يجوز لمسلم أن يستقدم المغنين في الغناء مع فرقهم الموسيقية بعذر الترخيص في الأعراس، لما في ذلك من مفاسد دينية واجتماعية واقتصادية لا نطيل بتفصيلها، وكذلك السبب فلا يجوز اللهو في الختان وغيره مما لَم يرد، لأن الرخص لا يقاس عليها، هذه قاعدة أصولية والله أعلم.
الدليل الثامن:
قال الترمذي في سننه: حدثنا علي بن خشرم، قال أخبرنا عيسى بن يونس، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء عن جابر بن عبد الله  قال: $أخذ النَّبِي ج بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجده يجود بنفسه، فأخذه النَّبِي ج فوضعه في حجره فبكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتبكي أولم تكن نُهيت عن البكاء ؟ فقال: لا ولكن نُهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان#. وفي هذا الحديث كلام أكثر من هذا، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. ا’.
هكذا أورده الترمذي هنا غير تام أي في كتاب الجنائز، ورواه أبو داود الطيالسي من طريق أبي عوانة، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن جابر  قال: خرج رسول الله إلى النخل ومعه عبد الرحمن بن عوف، فانتهى إلى ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فبكت عائشة، فقال له عبد الرحمن ابن عوف: ألَم تنهنا عن البكاء؟ قال: $لم أنه عن البكاء، وإنَّما نُهيت عن صوتين فاجرين: صوت مزمار عند نعمة. مزمار شيطان ولعب وصوت عند رنة مصيبة، شق الجيوب، ورنة شيطان#. ومدار الحديث في جميع طرقه على ابن أبي ليلى محمد بن عبد الرحمن وهو سيئ الحفظ, وباقي رجال سنده رجال الصحيحين إلا علي بن خشرم فهو من رجال مسلم. وأصل الحديث في الصحيحين من طريق أنس بن مالك  بدون هذه الزيادة، ولفظه: دخلنا مع رسول الله على أبي سيف القين، وكان ظئرًا لإبراهيم وفيه. فقال عبد الرحمن: وأنت يا رسول الله ؟ قال: $يا ابن عوف إنَّها رحمة ثُمَّ أتبعها بأخرى#. فقال ج: $إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لَمحزونون#.
قال الحافظ بن حجر في فتح الباري (ج3/ص174) في شرح الحديث المذكور من صحيح البخاري: "ووقع في حديث عبد الرحمن نفسه: فقلت يا رسول الله: تبكي أولم تنه عن البكاء ؟ وزاد فيه $إنما نُهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان وصوت عند مصيبة، خمش وجوه وشق جيوب، ورنة شيطان# , قال $إنما هذا رحمة ومن لا يرحم لا يرحم#. ا’. هكذا أورده الحافظ وسكت عليه ولا يسكت إلا على ما هو حسن أو مقارب.
وقال الحاكم في المستدرك (ج4/ص40): أخبرنا أبو عبد الله الأصبهاني، حدثنا أحمد بن مهران الأصبهاني، حدثنا عبد الله بن موسى، أنبأنا إسرائيل، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن جابر  عن عبد الرحمن بن عوف  قال: أخذ النَّبِي ج بيدي، فانطلقت معه إلى إبراهيم ابنه وهو يجود بنفسه، فأخذه النَّبِي ج في حجره حتى خرجت نفسه، قال فوضعه وبكى. فقلت: أتبكي يا رسول الله وأنت تنهى عن البكاء ؟ قال: $إني لَم أنه عن البكاء ولكني نَهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة، ولهو ولعب، ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة، لطم وجوه، وشق جيوب، وهذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم، ولولا أنه وعد صادق، وقول حق، وأن يلحق أولانا بأخرانا، لحزنا عليك يا إبراهيم حزنًا أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، وتبكي العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب#.
وقال ابن سعد في الطبقات (ج1/ص 138): أخبرنا عبد الله بن نمير الهمداني والنضر بن إسماعيل أبو المغيرة، قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن عطاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن عبد الرحمن ابن عوف  قال: أخذ رسول الله ج بيدي، فانطلق بي إلى النخل الذي فيه إبراهيم، فوضعه في حجره وهو يجود بنفسه، فذرفت عيناه، فقلت: أتبكي يا رسول الله، أولَم تنه عن البكاء ؟ قال: $إنَّما نَهيت عن النوح عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان# الحديث لفظه قريب من اللفظ الأول، ومخرجهما متحد، ورجال سند ابن سعد كلهم رجال الصحيحين إلا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فقد قال الحافظ فيه: سيئ الحفظ، وقد تقرر في علم المصطلح أن حديث سيئ الحفظ، ومجهول الحال، والمدلس، والمرسل يتوقف فيه حتى يوجد له عاضد، ومتى وجد له عاضد ارتفع إلى درجة الحسن لغيره، وهذا الحديث بِهذه الزيادة تترجح صحته لثلاثة أمور:
الأول: أن أصل الحديث في صحيح البخاري.
الثاني: أن الزيادة وردت من راوي الأصل، والذي حضر القصة، وهو أحفظ لحديثه من غيره الذي روى عنه، ومما يؤكد ذلك أنه هو المنكر لبكاء النَّبِي ج، والكلام كان موجهًا إليه، وفي مثل هذه الحالة يكون عبد الرحمن منتبهًا لكلام رسول الله ج ومتلهفًا إليه، وحريصًا على أخذه كشرع ينبني عليه الحل والحرمة، فإن قيل: قد حضر أنس القصة، ورواها بدون هذه الزيادة، فالجواب أن أنسًا في ذلك الوقت كان غلامًا، ومكانه من رسول الله أبعد من مكان عبد الرحمن بن عوف، والخطاب كان موجهًا إلى عبد الرحمن كما تقدم.
الثالث: أن هذه الزيادة لها شواهد متعددة من الكتاب والسنة، تبلغها درجة الصحة، أو درجة الشهرة الَّتِي لا يجوز ردها، والله أعلم.
الدليل التاسع:
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا عبد العزيز بن سلمة، حدثنا هلال بن أبي هلال، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: إن هذه الآية الَّتِي في القرآن: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:90]. قال: هي في التوراة إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل، ويبطل به اللعب والمزامير والزفن والكبارات يعني: البرابط, والزمارات يعني: به الدف والطنابير والشعر، والخمر مرة لمن طعمها أقسم الله بيمينه وعزته، ومن شربَها بعد ما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة ، ومن تركها لأسقينه إياها في حظيرة القدس.
قال ابن كثير بعد ما أورده: هذا إسناد صحيح، الزفن: الرقص. ثُمَّ قال أيضًا -حديث آخر- قال الإمام أحمد حدثنا أبو عاصم هو النبيل أخبرنا عبد الحميد بن جعفر حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن رسول الله ج قال: $من قال علي ما لَم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم# , قال سمعت رسول الله ج يقول: $إن الله حرم الخمر والميسر، والكوبة، والغبيراء، وكل مسكر حرام#.
قلت: أبو عاصم النبيل من رجال الصحيحين، عبد الحميد بن جعفر روى له مسلم، يزيد بن أبي حبيب من أصح الأسانيد، عمرو بن الوليد ابن عبدة السهمي مولى عمرو بن العاص مصري صدوق، عن مولاه عبد الله بن عمرو الصحابي فالحديث صحيح، الكوبة: الطبل، وللحديث شواهد منها عن قيس بن سعد بن عبادة عند أحمد وفي سنده عبيد الله بن زحر متكلم فيه، ومنها عن عبد الله بن عمرو عنده، وفي سنده فرج بن فضالة متكلم فيه أيضًا وفي لفظ كل منهما بعض المخالفة للحديث الأول، إلا أن محل الاستشهاد متحد والله أعلم.
الدليل العاشر:
قال في منحة المعبود، بترتيب مسند الطيالسي أبي داود "كتاب اللهو واللعب": حدثنا أبو داود، قال حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام، عن عبد الله بن زيد الأزرق، عن عقبة بن عامر  قال: قال رسول الله ج: $ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا وكل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه، وتأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنَّهن من الحق#.
هشام الدستوائى ويحيى بن أبي كثير من رجال الصحيحين، أبو سلام الحبشي قال في التقريب من الثالثة ورمز له هكذا ( بخ م عم ) أي أنه من رجال مسلم والأربعة، وعبد الله بن زيد الأزرق مقبول من الرابعة. ا.’. من التقريب. وعلى هذا فالحديث صحيح، وقد عزاه في الفتح إلى النسائي وأبي داود وابن حبان وصححه أي ابن حبان. ا. ’. فتح.
وإذ قد ثبت الحديث فإن الغناء والمعازف تدخل في اللهو الباطل دخولاً أوليًّا، ومن يستطيع أن يقول أن آلات اللهو المحدثة اليوم بكل ما فيها من وقاحة، وسمج، وتخنث، وميوعة، وخروج عن الآداب، والحياء والفضيلة واتصاف بكل قبح ورذيلة أنَّها من الحق، أو أنَّها ليست من الباطل، لا يقول ذلك إلا جاهل، أو مكابر مغالط.
الدليل الحادي عشر:
عن ابن عباس  أن رسول الله ج قال: $إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام# رواه أحمد، وعزاه الشوكاني إلى أبي داود وابن حبان، والبيهقي، قال في المنتقى بعد إخراج الحديث: الكوبة: الطبل قاله سفيان، عن علي بن بذيمة، وعن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة، عن النَّبِي  قال: $إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير، والكبارات يعني البرابط، والمعازف، والأوثان الَّتِي كانت تعبد في الجاهلية#. رواه أحمد، قال البخاري: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي بن يزيد ضعيف والقاسم بن عبد الرحمن ثقة. ا. ’. نقلاً من المنتقى لابن تيمية ( ).
الدليل الثاني عشر:
وقال أبو بكر الخلال في كتاب ( الأمر بالمعروف ): أخبرنا عبد الله بن محمد بن أيوب المخرمي، حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن جحادة، عن أبي جعفر، عن أبي هريرة  عن النَّبِي ج أنه نَهى عن كسب المزمار، قلت: رجال هذا الحديث كلهم ثقات ماعدا عبد الله ابن محمد المخرمي فإني لَم أجد له ترجمة.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا عبد الله بن سعيد عن معاوية بن صالح، عن حاتم بن حريث، عن ابن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، عن أبي مالك الأشعري  قال: قال رسول الله : $ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونَها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بِهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير#. قال ابن القيم: وهذا إسناد صحيح .
قلت: هو كما قال، فإن عبد الله بن سعيد هو أبو سعيد الأشج، روى له الجماعة، حاتم بن حريث الطائي مقبول من الرابعة، معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي من رجال مسلم، ابن أبي مريم يزيد بن أبي مريم السلولي ثقة من الرابعة، عبد الرحمن بن غنم مختلف في صحبته، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين. ا.’. تقريب.
وأصل هذا الحديث في صحيح البخاري كما تقدم، إلا أنه ذكر هناك بالشك في الصحابي، وأورده معلقًا، وقد ذكرت الإجابة على من ضعفه وأوردت المتابعات الَّتِي تبين بِها صحة الحديث، وهذا السند يعتبر
من متابعاته، والميزة في هذا السند عدم الشك في الصحابي والله أعلم.
الدليل الثالث عشر:
قال ابن القيم: وأما حديث عائشة فقد قال ابن أبي الدنيا: حدثنا الحسن بن محبوب، وحدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ج: $يكون في أمتي خسف، ومسخ، وقذف#. قالت عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله وهم يقولون: لا إله إلا الله ؟ فقال: $إذا ظهرت القينات، وظهر الزنا، وشربت الخمر، ولبس الحرير، كان ذا عند ذا#. الحسن ابن محبوب ترجم له ابن أبي حاتم وقال: كتب عنه أبي، وسألته عنه فقال: لا بأس به. أبو النضر هاشم بن القاسم ومحمد بن المنكدر من رجال الصحيحين، أبو معشر البراء من رجال مسلم. فالحديث صحيح.
وهذا ما أردت إيراده من الأدلة الَّتِي وردت في السنة والتي بلغت درجة الصحة والقبول، أو قاربتها، وقد تركت الأحاديث الضعيفة الَّتِي ضعفها شديد، وفيما ذكر كفاية لمن أراد الحق، وتجرد عن الهوى، فمجموع هذه الأحاديث كلها تكون حجة لا يردها إلا مكابر، أو منساق مع الهوى نسأل الله التوفيق والسلامة. اللهم يا من بيده قلوب العباد أصلح قلوبنا، ويا من عليه المعول في كل شيء قوم عوجنا، ويا من له الأمر كله هب لنا إخلاصًا في أعمالنا، وعزيمة على ما يرضيك من أقوالنا وأفعالنا.


FFFFF

الباب الثالث
في ذكر الشبه التي تعلق بها من أجاز سماع الغناء
فمنها حديث عائشة في قصة الجاريتين اللتين غنتا في يوم العيد، وقد أجيب عن هذه الشبهة بخمسة أجوبة ذكرتُها في شرح الحديث المذكور، وملخصها كما يلي:-
أولا: أن نوع الشعر المتغنى به ليس من الممنوع، بل هو مما تقاول به الأنصار يوم بعاث.
ثانيا: أنه صادر من جوار صغار، ومثل ذا يتسامح فيه.
ثالثا: أنه في يوم عيد، والأعياد يشرع فيها الانبساط الذي لا يشتمل على الممنوع.
رابعا: أن تحريم اللهو عام وهذا خاص، والتخصيص مقصور على الأعراس والأعياد، بشرط أن يكون نوع الكلام المتغنى به مباحًا، وأن لا يشتمل على فتنة.
خامسا: أن الترخيص في الأعياد لمصلحة أو مصالح دينية رجحت على المفسدة.
وأزيد هنا فأنقل ما قاله ابن الجوزي رحمه الله في الرد على من احتج بِهذا الحديث على جواز مطلق الغناء فقال في كتابه "قد العلم والعلماء": وكيف يحتج بذلك الواقع في ذلك الزمان، عند قلوب صافية، على هذه الأصوات المطربة الواقعة، في زمان كدر، عند نفوس قد تملكها الهوى، ما هذا إلا مغالطة للفهم، أوليس قد صح عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت: لو رأى رسول الله ج ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد -إلى أن قال-: وأين الغناء بِما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، من غناء مستحسن، بآلة مستطابة، وصناعة تجذب النفس، وغزليات يذكر فيها الغزال والغزالة والخال والخد والقد والاعتدال؟ فهل يثبت هناك طبع، هيهات بل ينْزعج شوقًا إلى المستلذ، ولا يدعي أنه لا يجد ذلك إلا كاذب أو خارج عن آدميته، قال: وقد أجاب أبو الطيب الطبري على هذا الحديث بجواب آخر قد أخبرنا به أبو القاسم الحريري عنه أنه قال: هذا الحديث هو حجتنا، لأن أبا بكر  سمى ذلك مزمور الشيطان، ولَم ينكر النَّبِي ج على أبي بكر قوله، وإنما منعه من التغليظ في الإنكار لحسن رفقه، لاسيما في يوم العيد، وقد كانت عائشة -رضي الله عنها- صغيرة في ذلك الوقت، ولَم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء، وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء، وقد أخذ العلم عنها.ا.’. من (ص237, 238).
ثانيا: استدلوا أيضًا بحديث رواه الترمذي عن بريدة  قال: خرج رسول الله ج في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالِمًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغن، قال لها: $إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا#. فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثُمَّ دخل علي وهي تضرب ثُمَّ دخل عثمان وهي تضرب، ثُمَّ دخل عمر وهي تضرب، فألقت الدف تحت استها ثُمَّ قعدت عليه، فقال رسول الله: $إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثُمَّ دخل علي وهي تضرب، ثُمَّ دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف#. رواه أحمد والترمذي وصححه.
قال في تحفة الأحوذي شرح الترمذي للشيخ محمد بن عبد الرحمن المباركفوري (ج10/ص178) قال -رحمه الله-: "وإنَّما مكنها ج من ضرب الدف بين يديه لأنَّها نذرت، فدل نذرها على أنَّها عدت انصرافه على حال السلامة نعمة من نعم الله عليها، فانقلب الأمر من صفة اللهو إلى صفة الحق، ومن المكروه إلى المستحب، ثُمَّ لَم يكره من ذلك ما يقع به الوفاء بالنذر، وقد حصل ذلك بأدنى ضرب ثُمَّ عاد الأمر في الزيادة إلى حد المكروه، ولَم ير أن يمنعها لأنه لو منعها ج كان يرجع إلى حد التحريم ولذا سكت عنها، وحمد انتهاءها عند مجيء عمر ". ا.’.
وقال الشوكاني: وقد استدل المصنف بحديث الباب على جواز ما دل عليه وهو "الضرب بالدف" عند القدوم من الغيبة، والقائلون بالتحريم يخصون مثل ذلك من عموم الأدلة الدالة على المنع، قلت: وما رد به على الحديث الأول يرد به على هذا، فيقال: إن الغناء في هذا الحديث كان من جارية صغيرة، وكان الكلام بشيء مباح الأصل، وكان شكر لله على حياة رسوله وبقاءه ممتعًا بالصحة، وهو مخصوص من العموم أيضًا كما تقدم، فيباح الضرب بالدف لقدوم الغائب من جارية صغيرة، والتغني بما لا يمجه الطبع، ولا يخرج عن الفضيلة ولما كان الاستمرار في الضرب والغناء والزيادة على حد الإباحة من الشيطان، وانقطع بمجيء عمر  قال النَّبِي ج: $إن الشيطان ليخاف منك يا عمر#. وقد تبين من هذا أن الاستدلال بِهذا الحديث على مطلق الغناء من جميع آلات العزف مغالطة يريد أصحابُها دحض الحق، وإعزاز الباطل، وتلك جناية على الإسلام، وفعلة شنيعة يسألهم الله عنها.
يا أمة الإسلام إن الواجب علينا أن نحكم الإسلام بمعزل عن الهوى، والمؤثرات الخارجية، بعيدًا عن ضغوط الهوى والأطماع، والمجتمعات والسلطات المحلية وغير المحلية، ولا نكون مؤمنين حق الإيمان إلا إذا كنا كذلك، إذا قدمنا رضا الرب على هوى النفس ورضا الناس, وعلى الانصياع مع الأطماع، أو خوف البطش من قوة أرضية، والله أعلم.
ثالثا: ما رواه خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ -رضي الله عنها- قالت: دخل علي النَّبِي ج فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف، يندبن من قتل من آبائي يوم بدر، حتى قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال النَّبِي ج: $لا تقولي هكذا، وقولي كما كنت تقولين#. عزاه في المنتقى إلى الجماعة إلا مسلما والنسائي، الحديث لا شك في صحته لإخراج البخاري له، أما الجواب عليه فهو كالجواب على الحديثين السابقين، فالواقعة في عرس، ومن جوار صغار، وبأشعار الحرب ومراثي القتلى، ومثل ذلك جائز في مثل هذه الحالة.
رابعا: ومنها حديث ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله ج فقال: $أهديتم الفتاة ؟ قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا. فقال رسول الله ج: إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم: فحيانا وحياكم#. رواه ابن ماجه بسند فيه الأجلح، وثقه قوم وضعفه آخرون، وأبو الزبير مدلس وقد عنعن، ويضاف إلى هذا أن سماع أبي الزبير من ابن عباس مختلف فيه، فالحديث ضعيف بِهذا السند، إلا أن أصله ثابت في البخاري، ومع هذا فإنه لا دليل فيه على جواز مطلق الغناء، لأن الضرب بالدف، والتغني بما يباح ولا يغري بكأس أو سفاح جائز في الأعراس، فهو مستثنى من المنع، ورخصة من عزيمة، لحكمة سبق أن أشرت إليها.
خامسا: ومنها حديث أنس الذي رواه ابن ماجه قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا عيسى بن يونس، قال: حدثنا عوف، عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك  أن النَّبِي ج مر ببعض المدينة، فإذا هو بجوار يضربن بدفهن ويتغنين، ويقلن:
نحن جوار من بني النجار
يا حبذا محمد من جار

فقال النَّبِي ج: $الله يعلم أني لأحبكن# الحديث صحيح؛ لأن رجال سنده كلهم ثقات مشاهير مخرج لهم في الصحيح، أما الجواب عنه فإنه كما تقدم أن الغناء من جوار صغار، وبكلام يدل على محبة النَّبِي ج، ولذا قال: $الله يعلم أني لأحبكن#. فهذا كل ما شغب به الذين يبيحون الأغاني، وقد رأيت أيها القارئ الكريم الأجوبة عليها، والحق أحق أن يتبع، والله الموفق والهادي إلى سواء السبل.




FFFFF

الباب الرابع
في أقوال السلف في الغناء
اعلم -وفقني الله وإياك إلى معرفة الحق والعمل به- أن جمهور السلف -من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم- متفقون على تحريم الغناء والعزف، وسأسوق لك أقوال كثير من هؤلاء:-
وقد روي عن بعضهم جواز ذلك ولكن الذين حكى عنهم جوازه لَم يريدوا به الغناء المتعارف عليه الآن، وإنما أرادوا به رفع الصوت، والترنم بأبيات شعرية ليس فيها محذور ولا محرم، وهو الغناء اللغوي، ومن المعلوم أن هذا وأمثاله مما جرت به العادة في عصر النبوة وبعده، وثبتت فيه أحاديث كثيرة منها ما سبق ذكره، ومنها حديث الحداء، وقول النَّبِي ج: $يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير#. ومنها ارتجاز عامر بن الأكوع في عزوة خيبر، وارتجاز عبد الله بن رواحة في الخندق، وفي بناء المسجد، وقد كان النَّبِي ج يرتجز معهم بِهذه الأراجيز، ويسمع الشعر، فقد سمع حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير وغيرهم كل هذا وغيره مما ثبت في الصحاح، والسنن والمسانيد والمعاجم والسير، يدل على جواز إنشاد الشعر الذي ليس فيه وصف النساء ولا الخمر، وليس فيه إغراء بفاحشة، ولا تزيين لباطل، ولا هتك لعرض أحد، ويطلقون عليه اسم الغناء، ولَم يزل المسلمون ينكرون الشعر الذي يصف المحرم ويغري به، ولو لَم يتغن به صاحبه، فقد ذكر المؤرخون أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  سمع امرأة وهي تغني وتقول:
هل من سبيل إلى خمر فاشربُها
هل من سبيل إلى نصر بن حجاج

فدعا بنصر بن حجاج فإذا هو شاب جميل في غاية الجمال، فحلق رأسه فصار أجمل، فسيره إلى الكوفة، وذكروا أيضًا أن عمر بن عبد العزيز غرب عمر بن أبي ربيعة الشاعر المعروف إلى جزيرة دهلك، حين أكثر من التغزل والتشبيب بالنساء حتى الحاجَّات، فكيف إذا تغنى به صاحبه بألحان ماجنة، وآلات فاتنة، فإنَّهم يكونون أشد له إنكارًا.
أما الغناء المعروف الآن فلا يختلف اثنان من أهل العلم في تحريمه والخلاصة أن الذين روي عنهم إباحته لَم يقصدوا إلا الترنم بالأشعار المباحة فقط، وقد تقدم بيان ذلك بما فيه كفاية، فالاستدلال به على جواز الغناء المعروف الآن مغالطة، مع أنا نقول أنه لا حجة في قول أحد سوى رسول الله ج، فلو صح أن أحدًا منهم أباح ذلك فقوله مردود عليه، لأنه يعتبر معارضًا لقول رسول الله ج ومخالفًا له، ومن المعلوم لدى كل مسلم أن الله لَم يكلفنا باتباع أحد سوى رسوله، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: من الآية7] وقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: من الآية63]. ويقول ابن عباس: $يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم: قال رسول الله ج، وتقولون قال: أبو بكر وعمر#. والنبي ج يقول: $لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به#. مع العلم أن أكابر أهل العلم والدين في كل زمان ومكان قد حكوا الإجماع من سلف الأمة على تحريم الأغاني، وممن حكى الإجماع: ابن جرير الطبري في تفسيره، والذي يعتبر من أبرز علماء القرن الثالث، وأحفظهم وأعلمهم بمواقع الخلاف والوفاق، حكى إجماع السلف على تحريم الغناء ماعدا رجلين اثنين هما: إبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن العنبري وقد حكى ذلك ابن القيم عن أبي الطيب الطبري من الشافعية، فحكى عنه أنه قال: "وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما". قال ابن القيم.
قلت: يريد بِهما إبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن العنبري. وقد حكى الإجماع على تحريمه أيضًا ابن الصلاح، وابن المنذر، فهؤلاء خمسة من أبرز علماء أزمنتهم حكوا إجماع السلف على تحريمه، فمن يأتي أعلم من هؤلاء بالوفاق والخلاف وهل بعد الحق إلا الضلال، اللهم إلا ما حكي عن بعض السلف من إباحة الغناء اللغوي كما تقدم، ولَم يقصدوا بذلك الغناء المعروف الآن.
وقد صح تحريم الغناء عن جماعة من الصحابة، منهم عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة وعائشة  أجمعين، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل". وقد روي مرفوعًا والموقوف أصح، وقال رجل لابن عباس: "ما تقول في الغناء أهو حلال أم حرام ؟ فقال: لا أقول حرامًا إلا ما في كتاب الله، قال أفحلال هو: قال: لا أقول ذلك: ثُمَّ قال له: أرأيت الحق والباطل إذا كان يوم القيامة فأين يكون الغناء ؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل ؟ فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك".
قال ابن القيم بعد حكاية هذا الأثر: "فهذا جواب ابن عباس عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح الخمر، والزنا، واللواط، والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربات، فإن غناء القوم لَم يكن فيه شيء من ذلك، ولو شاهدوا الغناء لقالوا فيه أعظم قول، فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر، وأعظم من فتنته، فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعة بإباحته، فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، والميتة على المذكاة، والتحليل الملعون فاعله على النكاح الذي هو سنة رسول الله ج.
وقال أيضًا: قال ابن وهب: أخبرني سليمان بن بلال عن كثير بن زيد أنه سمع عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: كيف ترى في الغناء ؟ فقال له القاسم: هو باطل، فقال: قد عرفت أنه باطل، فكيف ترى فيه ؟ فقال القاسم: أرأيت الباطل أين هو ؟ قال: في النار، قال: فهو ذاك. وقال: الفضيل ابن عياض: "الغناء رائد الفجور"، وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك: يا بني أمية: إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعليه فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا. ونزل الحطيئة برجل من العرب ومعه ابنته مليكة، فلما جنه الليل سمع غناء فقال لصاحب المنْزل: كف هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك ؟ قال: إن الغناء رائد من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه يعني ابنته، فإن كففته عني وإلا خرجت عنك، وقال خالد بن عبد الرحمن: كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناء من الليل فأرسل بكرة فجيء بِهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستحرم له العنـز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة ثُمَّ قال: اخصوهم، فقال عمر بن عبد العزيز: هذه المثلة ولا تحل، فخل سبيلهم، فخلى سبيلهم. ا.’. نقلاً عن إغاثة اللهفان.
وقال أبو بكر الخلال في كتاب "الأمر بالمعروف"، أخبرني محمد بن هارون، أن مثنى الأنباري حدثهم، قال: سمع أحمد بن حنبل صوت طبل في جواره، فقام إليهم من مجلسنا، حتى أرسل إليهم فنهاهم, قال: وأخبرني محمد بن عبد الحميد الكوفي قال: كان محمد بن مصعب إذا سمع صوت عود أو طنبور من دار أرسل إليهم أن أرسلوا إلي ذلك الخبيث، فإن أرسل إليه كسره، وإلا قعد على الباب يقرأ فيجتمع الناس، فيقولون محمد ابن مصعب، فلا يدع حتى يخرج إليه فيكسره، وقال: أخبرني عصمة بن عصام، قال: حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله قال: أكره الطبل وهي الكوبة، نَهى رسول الله ج، وقال: أخبرني حرب قال: قلت لإسحاق: رجل كسر طنبور رجل؟ قال: ليس عليه شيء، وقال: أخبرني منصور أن جعفرًا حدثهم قال: سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور، والعود والطبل، فلم ير عليه شيء، قيل له: الدفوف، فرأى أن الدف لا يعرض له، وقد روي عن النَّبِي ج في العرس، قيل له: يكون فيه جرس؟ قال: لا. وقال: أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، إنه سئل عن الغناء فقال: ينبت النفاق في القلب لا يعجبني، قال: وحدثني أبي قال: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباخ، قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء قال: إنما يفعله عندنا الفساق، وروى بسنده إلى مكحول قال: من مات وعنده مغنية لَم يصل عليه، قال وأخبرني عبد الله بن أحمد، قال: سمعت أبي، قال: سمعت محمد بن يحيى القطان قال: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة، بقول أهل الكوفة في النبيذ، وبقول أهل المدينة في السماع يعني الغناء، وبقول أهل مكة في المتعة أو كما قال، لكان فاسقًا، ثُمَّ روى بسنده عن سليمان التيمي قال: لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله. ا.’. نقلاً من كتاب الخلال.
قال ابن القيم: وأما الشافعي فقال في كتاب "القضاء": إن الغناء لهو ومكروه يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو فاسق ترد شهادته، قال: وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ وقال الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه": ولا تصح يعني الإجارة على منفعة محرمة، كالغناء والزمر، وحمل الخمر.
وقال النووي في الروضة "القسم الثاني": أن يغني ببعض آلات الغناء بِما هو من شعار شاربي الخمور، وهو مطرب كالطنبور، والعود، والصنج، وسائر المعازف والأوتار، يحرم استعماله واستماعه، قال: وصنف أبو القاسم الدولعي كتابًا في تحريم اليراع، وحكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف، والشبابة، والغناء، فقال في فتاويه: وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف، والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام، عند أئمة المذهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولَم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع.
قال: وأما أبو حنيفة وأصحابه فهم أشد الناس في ذلك، فقد صرحوا بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه فسق ترد به الشهادة، وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: ادخل عليهم بغير إذنِهم، لأن النهي عن المنكر فرض, فلو لَم يجز الدخول لامتنع الناس عن إقامة هذا الفرض. ا.’. نقلاً عن إغاثة اللهفان.
وقال في "زاد المستقنع" في فقه الحنابلة في باب الإجازة: "الثالث" الإباحة في العين، فلا تصح على نفع محرم كالزنا، والزمر، والغناء وجعل دار كنيسة، أو لبيع الخمر. وقال في باب الغضب: وباقي جنايتها –أي: الدابة- هدر، كقتل الصائل عليه، وكسر مزمار، وصليب، وآنية ذهب، فضة، وآنية خمر غير محترمة. وفي مختصر المزني: "باب ما ترد به الشهادة" قال الشافعي: وأكره اللعب بالنرد للخبر، وإن كان يديم الغناء، ويغشاه المغنون معلنًا فهذا سفه، ترد به الشهادة، وإن كان يقل فلا ترد، فأما الاستماع للحداء، ونشيد الأعراب فلا بأس به. ا.’.
ولَم يزل علماء الإسلام في كل زمان ومكان ينكرون الاغاني والملاهي، ويحرمونَها، وينهون الناس عن الاشتغال بِها، والعكوف عليها.
وإليكم هذه القصة الَّتِي تدل أن الناس ما زالوا يعرفون حكم الإسلام في الأغاني والملاهي وهو التحريم، وحتى صار هذا أمرًا معلومًا حتى عند غير أهل الإسلام، ذكر الحافظ بن كثير -رحمه الله- في التاريخ: أن عضد الدولة أرسل أحد علماء زمنه المدعو أبا بكر الباقلاني في رسالة إلى ملك الروم, فلما وصل إليه إذا هو لا يدخل عليه أحد إلا من باب قصير كهيئة الراكع ففهم الباقلاني أن مراده أن ينحني الداخل عليه كهيئة الراكع لله T، فدار باسته إلى الملك، ودخل من الباب ثُمَّ انفتل فسلم عليه، فعرف الملك ذكاءه، وكان من العلم والفهم، فعظمه ويقال أن الملك أحضر بين يديه آلة الطرب المسماة بالأرغل، وهي آلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى، وأراد الملك أن يستفزه بِها، ويستخف عقله، فلما سمعها الباقلاني وخاف أن تظهر عليه حركة ناقصة، أخذ سكينًا وجرح رجله، ليشتغل بِها عن هذه الآلة، فعجب الملك من كونه لَم تظهر منه حركة، ثُمَّ اكتشف أنه قد جرح رجله، فازداد به إعجابًا.
وقال ابن القيم -رحمه الله-:-
فدع صاحب المزمار والدف والغنا
ودعه يعش في غيه وضلاله
وما اختاره عن طاعة الله مذهبا
على تنتنا( ) يحيا ويبعث أشيبا

وفي تنتنا يوم المعاد نجاته
سيعلم يوم العرض أي بضاعة
ويعلم ما قد كان فيه حياته
دعاه الهدى والغي من ذا يجيبه
وأعرض عن داعي الهدى قائلا له
يراع ودف بالصنوج وشادن
فما شئت من صيد بغير تطارد
إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا
أضاع وعند الوزن ما خف أوربا
إذا حصلت أعماله كلها هبا
فقال لداعي الغي أهلا ومرحبا
هواي إلى صوت المعازف قد صبا
وصوت مغن صوته يقنص الظبا
ووصل حبيب كان بالهجر عذبا

ولو أردنا استقصاء ما قيل وما كتب في تحريم الملاهي لبلغ مجلدًا ضخمًا وفيما ذكر الكفاية لمن قصد الحق، وتجرد عن الهوى، والحمد لله أولاً وآخرا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.
وبعد أن ختمت الكلام رأيت أن ألحق قصيدة الشيخ حسن بن علي القاضي، أحد أدباء العصر المرموقين، والتي رد بِها على من رثى أم كلثوم المغنية المعروفة يوم موتِها، فجزاه الله خيرًا على ما أبداه من نصرة للحق ودحض للباطل، وإهانة لأهله، زاده الله توفيقًا، وأكثر من أمثاله فقال:
من أم كلثوم هذي أنت تبكيها
مضت بما قدمت والله سائلها
إن التراث الذي أبقت لَكُمْ فَلَكَمْ
كم غادة خلعت ثوب الحيا وغدت
صرعى على نغمات الناي قد ذهلت

ومن بِها كلف إياه تنعيها
عن الذي كان يجري في نواديها
أشقى البلاد وأشقاكم ويشقيها
في حضن مسعور تغويه ويغويها
كدمية بصق الشيطان في فيها

من قال إن الذي أسدت لأمتها
هبها بنت جيش مصر من مكاسبها
ألم يكن من حرام كل ما جمعت

مجد فقد قال بُهتانًا وتمويها
أو الأرامل قد باتت تواسيها
وأنت بالشعر ترجو أن تزكيها


إن الرسول الذي غنت لتمدحه
لا يرتضي أن يراها في غوايتها
ما بال أحمد لَم تحفل به بلد
كأنه لَم يكن بالأمس في لجب
خاض الغمار وكان الجو معتكرا
حتى هوت قمة الإجرام فانطلقت
هم يعجبون إذا اهتزت يرنحها
ويذهلون إذا الشيطان أرعشها
فالحمد لله أخزى المائعين بِها
تخلصت مصر فارتاحت فما بقيت
إن الَّتِي عمرت دهرًا فما سلكت
وخاب من بات يغري المبطلين بِها
ذكراه قد رفعت إن كنت ناسيها
تغري بألحاظها من كان يغريها
أهدى لها النصر فاهتزت روابيها
يزجي الكتائب في سيناء يفديها
والنار مسعرة والموت يذكيها( )
مقاول السوء تبدي من مساويها
دل الغواية في أضرى لياليها
بنغمة الآه أو راحت تُهاديها
وخاب بائع أعراض وشاريها
إلا بقايا خبيثات تعانيها
دربًا إلى الله قد خابت مساعيها
أيُكْسِبُ الفُجْرَ تقديسًا وتأليها

ولما قال الشيخ حسن القاضي هذه الأبيات ردًّا على من رثى المغنية المذكورة انبرى بعض أصحاب الشهادات العليا من كلية الشريعة واللغة، ممن كتب عليهم الخذلان، فأعرضوا عن القرآن وولوا وجوههم شطر صوت الشيطان، فأنشأ كل واحد منهم قصيدة يرد بِها على حسن القاضي في رده، محاولاً أن يوري نار الباطل بزنده، وأن يلبس أهله زورًا ثوب الفخار، ولَم يعلم المسكين أن ذلك هو العار والنار، فأنشأت القصيدة الآتية لأذكرهم بنعم الله الكثيرة لديهم، لعلهم أن يفيقوا إلى رشدهم، ويعرفوا حق الله عليهم فقلت:
من لي بقوم حيارى
آتاهم الله علما
آتاهم الله نطقا
كي ينصروا الدين دوما
معطي اللسان ومعطي
أعطاهم الله ذكرا
استبدلوا بالأغاني
أعجب لهم ما استعاضوا
أعجب لهم كيف باعوا
باعوا الهدى واستعاضوا
استبدلوا صوت شاد
وليتهم حين حادوا
واسترحموا الله عفوا
لكنهم قد تَمادوا
هبوا لنصر الضلال
كي يرفعوا الحق عالي
مبينا في الجدال
شكرا لمعطي الجمال
الشفاه رمز الجمال
فاستبدلوا بالضلال
وأبغضوا كل تالي
من باطل ومحال
بيعًا رخيصًا بغالي
عنه بوحل الضلال
عما أتى في الطوال
قروا بسوء الفعال
في مدلهم الليالي
في كبرة وتعالي


هم أنكروا الحق غمطا
يا قوم هلا استحيتم
إذ تنصرون عدوا
روجتم السخف حتى
هل كان ذلك شكرا
شهادة نلتموها
أعطى عطاء جزيلا
وفوق ذلك نُعْمَى
وصحة ثُمَّ أمن
هلا نصرتم لمن قد
يا ويح من كان أعمى
إن الخفافيش( ) تعمى
وأخبث الروح يحيى
ليهنكم ما اقتديتم
من أهل فسق ودعر
ويوم بعث سيدعى
ومن أحب مضلاًّ
حكم الأغاني حرام
لقمان فيها وعيد
والجاثيات والإسراء
وكم أتى من وعيد
خسف ومسخ وقذف
وكم حديث روينا
أئمة الصدق سموا
وكم كلام لحبر
فأحسنوا كيف شاءوا
نظما ونثرا قرانا
فمن يقل ذا حلال
فإنه غير شك
مكابر مستخف
مقدم لهواه
يا أيها الناس عودوا
واصلحوا قبل إلا
والحمد لله ربي
ثم الصلاة على من
تغشاه في كل آن
لحق ذي العرش عالي
من ربكم ذي الجلال
له بسحر المقال
رحمتكم من ضلال
عن رفعكم للمعالي
من فضل ذي الفضل والي
مناصبًا ذات بال
منه بأهل ومال
من فضله المتوالي
أعطى العطايا الجزال
ظن الردى كالمعال
إذ تبصر النور الجالي
في ردغة من صلال(2)
في عاجل ومآل
وفجرة في الفعال
للنار أهل الضلال
يكون في النار صالي
فيما تلا كل تالي
وخامس من طوال
والنجم فافهم مقالي
بعاجل من نكال
سحقا لأهل الضلال
في ذمة عن رجال
بباطل أو محال
يعلو بسحر حلال
وهم رجال المجال
مفصلا في المقال
منافحا بالجدال
داع لنشر الضلال
بحق مرسي الجبال
على رضى ذي الجلال
إلى الهدى من ضلال
يقال لَم يغن مالي
معطي العطايا الجزال
قاد الورى للمعالي
مع صحبه ثُمَّ آل


ذكر من أفرد هذا الموضوع
بالتأليف من العلماء الفطاحل
فمن أقدم من ذكر تأليفه في ذلك ابن أبي الدنيا -رحمه الله-، وقد نقل ابن القيم عنه في كتابه إغاثة اللهفان شيئًا كثيرًا. ثانيا: ابن القيم ألف في ذلك كتابًا سماه "كتاب السماع الكبير" ولا أدري هل طبع أم لا ؟ وعقد فصولا لذلك في إغاثة اللهفان، جاء فيها بالعجب العجاب، فرحمه الله من بحر عباب، وفيلسوف قل أن يخطئ الصواب.
ومنهم أبو الحسين بن المنادي من علماء الحنابلة ذكر ابن القيم أنه ألف كتابا في ذلك سماه "أحكام الملاهي".
ومنهم أبو القاسم الدولعي ألف كتابًا في تحريم اليراع، ومنهم أبو بكر الطرطوشي ألف كتاب في تحريم السماع، أفاد ذلك ابن القيم -رحمه الله-، ومنهم ابن حجر الهيتمي ألف كتاب سماه "كف الرعاع عن محرمات السماع" وهو مطبوع بِهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر.
ومن الذين ألفوا في ذلك في زمننا هذا الشيخ حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله- ألف في تحريم الأغاني كتابًا كبيرًا أجاد فيه وأفاد، فجزاه الله خيرا ومنهم محمد أحمد باشميل ألف في ذلك كتابا سماه "إسكات الرعاع" ومنهم أبو بكر الجزائري ألف كتابا سماه "إعلام الأنام بأن الأغاني حرام" وكل منهما أجاد وأفاد، فجزى الله الجميع خير الجزاء، ورفع درجاتِهم في الفردوس الأعلى، وهذا ما بلغ إليه علمي، ولعل هناك مؤلفون لَم أطلع على مؤلفاتِهم أكثر ممن ذكرتُهم، ومن المؤلفين في هذا الزمان واطلعت على مؤلفه مؤخرًا فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني له كتاب اسمه "تحريم آلات الطرب" وهو من هو علمًا واتقانًا وتحقيقًا وتمسكًا بصحيح السنة. فرحمه الله ورفع درجته في الفردوس الأعلى، والله أعلم.
وأما الفتاوى، وعقد الأبواب والفصول في الكتب، لبيان تحريمه فأشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، فلم يزل العلماء في كل عصر وكل مكان ينكرون على من استباحوها، ويردون عليهم، ويصفونَهم باتباع الهوى، وسلوك مسالك الردى.
وأخيرًا: فإني أهدي كتابي هذا إلى كل مؤمن جعل الحق رائده، والرسول ج قائده، أهديه إلى من أراد لنفسه السلامة، وجنبها مزالق الهلكة، ومهاوي العطب، وموجبات الخزي والندامة، أهديه إلى من سلم قياده لله ولرسوله دون سواهما.
أهديه إلى كل مؤمن غيور على دينه يريد لنفسه وأمته الحصانة والعفة والطهر، اللهم يا من بيده ملكوت كل شيء وفق المسلمين إلى ما تحب وترضى، وألهمهم رشدهم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.



أهـم المراجع
اسم الكتاب اسم المؤلف

كتب التفسير
1- تفسير ابن جرير ابن جرير الطبري
2- تفسير ابن كثير ابن كثير القرشي
3- تفسير القرطبي القرطبي
كتب الحديث
4- صحيح البخاري البخاري
5- صحيح مسلم مسلم
6- سنن النسائي النسائي
7- سنن أبي داود أبو داود
8- سنن الترمذي الترمذي
9- سنن ابن ماجه ابن ماجه
10- منتقى الأخبار المجد بن تيمية
11- نيل الأوطار الشوكاني
12- فتح الباري للحافظ بن حجر
13- عمدة القاري العيني
14- تحفة الأحوذي المباركفوري
15- مستدرك الحاكم الحاكم النيسابوري
16- منحة المعبود
بترتيب مسند الطيالسي أبي داود لأحمد بن عبد الرحمن البنا الساعاتي
كتب الجرح والتعديل وعلوم الحديث
17- الجرح والتعديل ابن أبي حاتم
18- خلاصة التذهيب الخزرجي
19- تقريب التهذيب ابن حجر
20- تدريب الراوي السيوطي
21- نخبة الفكر وشرحها ابن حجر
22- الطبقات الكبرى ابن سعد
مراجع أخرى
23- إغاثة اللهفان ابن القيم
24- نقد العلم والعلماء ابن الجوزي
25- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخلال
26- البداية والنهاية لابن كثير



فهرس الموضوعات
مقدمة 7
الباب الأول: في الأدلة على تحريم الأغاني والمعازف من القرآن 9
الباب الثاني: ما جاء في تحريم الأغاني والمعازف من السنة 24
الباب الثالث: في ذكر الشبه التي تعلق بها من أجاز سماع الغناء 61
الباب الرابع: في أقوال السلف في الغناء 67
ذكر من أفرد هذا الموضوع بالتأليف من العلماء الفطاحل 81
أهم المراجع 85
الفهرس

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..