فقد
كنت في زيارة قريبة لإحدى الدول العربية قبل دخول شهر رمضان المبارك، وقد
بدأت
الاستعدادات لشهر الصيام، ومعالم الفرحة والبهجة على محيّا كل مسلم
يدرك قيمة هذا الشهر، وما أعدَّ الله تعالى فيه للمسلمين من منح عظيمة لا
تدركها العقول، ولا تتخيلها التصورات، فوقفت متأملاً لعظمة الباري سبحانه،
وعظمة تشريعه، فأوقفتني ثلاث وقفات أحسب أنها في غاية الأهمية للنظر
والتأمل لتنعكس على واقعنا الفردي والجماعي:
الوقفة الأولى: وحدة مصدر التلقي المبني على وحدة العبودية للخالق جل وعلا، الذي خلق الخلق لغاية كبرى، جاءت واضحة في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] فأرسل الرسل لبيانها وتجليتها: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النمل: 36] وأنزل الكتب موضحة تفاصيلها، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25] هذه
العبودية العظيمة، في توجيهها لله سبحانه وتعالى ضبطت بأهم ضابط، وهو
مصدرية التلقي، فالمصدر واحد وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم، ولأهمية هذا المعنى الأساس، وخطورته، أكد في القرآن الكريم في
أساليب شتى، وصيغ متنوعة، قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [التغابن: 11] وقال سبحانه: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال: 1] وقال سبحانه: (قل أطيعوا الله والرسول..) [آل عمران: 32].
كما أكد خطورة مخالفة هذا الأصل، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
وجاءت هذه المعاني مؤكدة أيضاً في السنة النبوية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الني صلى الله عليه وسلم قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى»(1).
والصوم ممثلاً في شهر رمضان المبارك جاء التكليف فيه من هذين المصدرين، قال تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، وقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]، وقال عليه الصلاة والسلام: «بني الإسلام على خمس ...الحديث»(2)،
والمسلم وهو يتلقى هذا التكليف من مصدره العظيم يؤديه بكل استسلام وفرح
بهذه العبادة التي يستشعر عظمة التلقي فيها، ومن ثم عظمة آثارها في الدنيا
والآخرة، ومن هنا يتلقى المسلم جميع تعاليم دينه، ويعمل بها وينفذها بكل
طواعية وانقياد، واستشعار لآثاره العظيمة، وإن خالفت هذه التعاليم هواه،
وعقله ومزاجه، وأعراف بلده.
فليست هذه – أعني الهوى، والعقل، والأعراف – مصادر لتلقي التشريع إذا خالفت أمر الله جل وعلا أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعليه
فنحذر أن نقع في شرك الهوى، وعبادة المزاج، وغرور العقل، وأسر الأعراف
والتقاليد. ولنتجرد لأمر الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثانية: سؤال
يطرح نفسه عندما نظرت إلى تلك الاستعدادات لرمضان، وإلى البهجة بقدومه،
وأحسب أن هذا عند كل المسلمين في كل مكان، والسؤال: من الذي وحّد الناس على
هذا الفعل؟
والجواب:
لا شك أنه الله تعالى، فهو الواحد سبحانه، وهو المشرّع وحده سبحانه،
وإليه الملجأ سبحانه، وحّد الناس على هذا التشريع العظيم، فظهر ذلك جلياً
واضحاً في سلوك الناس مع هذا الركن من أركان الإسلام.
أفلا
يكون ذلك موسماً لنجدد التعامل مع ربنا ونخلص أعمالنا كلها لله سبحانه
وتعالى، ونعيد النظر في تعاملنا الأسري فيكون على هدي نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم، ونعيد حساباتنا في التعامل مع الآخرين، وكذا في تعاملنا
المالي.
أعتقد
أن رمضان ينادينا بأعلى صوته أنه آن الأوان للتعامل الجاد، وإعادة
الحسابات، والعمل للآخرة، علّ مجداً ضاع فيعود، وعلّ عزاً تهنا طريقه أن
نجده، وعلّ توحدا ندركه فيما بيننا، وتوحيداً لخالقنا نجده حيّاً بين
مجتمعاتنا.
آن الأوان لأن نهذب سلوكنا، ونقوّم تصرفاتنا، ونحيي قلوبنا، ونحسّن أخلاقنا، فيكون رمضان شاهداً لنا لا علينا.
الوقفة الثالثة: هؤلاء المسلمون في كل مكان، وهم يصومون نهار رمضان، ويقومون ليله متوجهين في هذه العبادات إلى الله الواحد الأحد.
أفلا
يكون هذا التوجه جامعاً لهم في توجيهاتهم كلها، فيتعرف بعضهم على أحوال
بعض، ويتحسس أغنياؤهم أحوال فقرائهم، وأقوياؤهم وضع ضعفائهم. ورؤساؤهم
أحوال مرؤسيهم، وعلماؤهم ودعاتهم أحوال عامتهم، فيقوم كل صنف بواجبه،
ويؤديه حسب استطاعته، فإن لم يستطع أن يقدم شيئاً محسوساً فلا أقل من دعاء
في جوف الليل، أو عند الإفطار، أو آخر الليل عند السحر، أو في سجود خاشع
لله عز وجل.
أظن
أن هذا الدعاء مع الشعور القلبي بعظمة الواجب تجاه المسلمين في كل مكان
من أنفع ما يقوم، ومن أقوى ما يستطاع، ومن أكثر الأشياء تأثيراً.
وإن
زاد على ذلك فقدّم مالاً أو رأياً أو كتابة أو حثاً على فعل خير أو درء
شر، أو كلمة أو إصلاحاً، أو تعليماً أو دعوة، فكل ذلك خير على خير، وفي ذلك
فليتنافس المتنافسون.
أسأل الله تعالى أن نكون جميعا كذلك.
ونلتقي على خير
1435/9/5
بقلم المشرف العام على شبكة السنة النبوية وعلومها
أ . د . فالح بن محمد الصغير
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..