من سلط "داعش" على الإسلام
والمسلمين؟ هذا السؤال أصبح يلح عليّ كل صباح كلما وقعت على شيء
مما تتناقله الصحف ووكالات الأنباء عما ينسب إلى ممارساتها وبلاويها، التي تجاوزت حدود سوريا والعراق ووصلت إلى أوروبا، ولم تستثنِ أستراليا. حصيلة يوم أمس الأول كانت شاهدا على ذلك، إذ تناقلت وسائل الإعلام أخبار احتجاز شخص رفع رايتهم لرواد أحد المقاهي في سيدني بأستراليا، وحين احتجز أربعة أشخاص آخرون رهينة في بلجيكا، فإن الأصابع أشارت على الفور إلى "داعش" بعدما أصبحت المرشح الأول لأي ترويع يحدث في أي مكان بالكرة الأرضية، بل إن جريدة الأهرام حين نشرت على صفحتها الأولى أمس عنوانا ذكر أن 50 ألفا يشيعون ضحايا بدر الإسلام بالدقهلية، فإن أذهان البعض كانت مهيأة لإضافة الجريمة إلى سجل داعش الملطخ بالدماء أو الإخوان عند الحد الأدنى (وهو ما نبهتني إليه قارئة حصيفة انتابها القلق حين قرأت العنوان). لكن الخبر تحدث عن شيء مختلف تماما أساء العنوان التعبير عنه، لأن "بدر الإسلام" لم يكن سوى اسم مركب صيد صدمتها نقل بضائع عملاقة في البحر الأحمر وأغرقت ركابها!
صحيح أن البعض يدعي أن بعض ما ينسب إلى داعش مبالغ فيه أو مغلوط، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يقبل كتبرير لسوء سمعتها، ذلك أنه لا يوجد دخان بغير نار وراءه، كما يقول المثل العامي. لذلك فما كانت سمعة داعش لتسوء إلى تلك الدرجة المزرية والمنفرة لولا أن ممارساتها على أرض الواقع هي التي أوحت بذلك، وهي الممارسات التي لطخت سمعة الدولة الإسلامية وأهانت الخلافة وابتذلت شعار "لا إله إلا الله" حتى حولته إلى راية تثير الخوف والرعب وتمهد لقطع الرؤوس وسبي النساء وسحق المخالفين. وبسبب داعش فقد شوهت صورة المقاومة، وأصبح الطرف الإسلامي موصوما بكل ما يشينه وينفر الناس منه، ليس ذلك فحسب، وإنما تسببت ممارسات داعش في رفع منسوب كراهية المسلمين في العالم الخارجي. كما أنها أهدت الاتجاهات اليمينية والفاشية في أوروبا حججا قوية عززت مطلبها الداعي إلى طرد المسلمين وإعادتهم إلى أقطارهم الأصلية باعتبارهم أنهم أصبحوا خطرا يهدد أمن واستقرار المجتمعات الغربية، حتى قرأت شتائم لداعش من جانب بعض المسلمين خلال مواقع التواصل الاجتماعي، حيث كالوا لهم السباب بسبب العملية التي تمت في سيدني، معتبرين أن ذلك يمكن أن يغلق الأبواب أمام هجرة شبابهم إلى أستراليا.
هذه الشواهد وغيرها أثارت لديَّ شكوكا قوية في مشروع داعش وحكاية الخلافة والدولة الإسلامية، ذلك أن المفاسد التي حققها ذلك المشروع تتجاوز بكثير أي مصالح يبدو أنها حققتها. وقد لا أعترض على مقولة إن ذلك التنظيم يعبر عن غضب أهل السنة وثورتهم على ما حاق بهم من ظُلم في ظل الحكم الطائفي المهيمن في العراق. وإذ اعتبر ذلك أمرا مفهوما، إلا أن ذلك لا يبرر ولا يغفر كمّ الجرائم التي ارتكبت أو الدماء التي أريقت أو الممارسات البشعة التي تمت بحق الأقليات في سوريا والعراق.
منذ وقت مبكر أشرت في كتابات منشورة إلى احتمال أن تكون لأبالسة النظام السوري يد في انطلاق داعش والنفخ فيها لإخافة الجميع من البديل الذي يمكن أن يحكم سوريا لو قدر للثورة الراهنة على نظام الأسد أن تنجح. وكان تقديري أن الرسالة التي أريد توصيلها من وراء ذلك تعلن على الملأ أنه إذا كانت للنظام السوري سوءاته، فإن الطرف الذي يرشح نفسه بديلا له أسوأ وأضل سبيلا.
كان ما قلته مجرد استنتاج لا دليل عندي عليه، إلا أنني وجدت في التقرير الذي نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية يوم الجمعة الماضي (12/12) قرينة تؤيد ما ذهبت إليه. ذلك أن التقرير الذي كتبه مارتن جولوف أحد الخبراء المعنيين بالشرق الأوسط، اعتمد على معلومات من مصدر في داخل قيادة داعش، كانت تربطه به علاقة وثيقة منذ وقت مبكر. مما ذكره الكاتب نقلا عن مصدره العراقي أن المخابرات السورية لم تكن بعيدة عن أنشطة داعش. وأن الذي توسط في العلاقة بين الطرفين كان الضباط البعثيين في جيش صدام حسين الذين تعرفوا عليهم وتفاعلوا معهم حين جمعتهم الزمالة أثناء الاعتقال في سجن «بوكا» جنوبي العراق. وهؤلاء الضباط هم الذين رتبوا للجماعة لقاءاتهم مع أقرانهم من الضباط البعثيين في سوريا.
تحدث القيادي في داعش الذي انتحل له اسم "أبو أحمد" عن اجتماعين سريين عقدا في منطقة الزبداني قرب دمشق في ربيع عام 2009، حضره قادة بعثيون عراقيون سابقون لجأوا إلى سوريا وممثلون عن المخابرات السورية، إلى جانب شخصيات مهمة من عناصر القاعدة في العراق (التي تطورت بعد ذلك وأصبحت تحمل اسم داعش). وكان هذان الاجتماعان من بين حلقات التعاون بين المخابرات السورية وبين التنظيم داخل العراق، الذي كان ينشط ضد الاحتلال وضد حكومة نوري المالكي، لكنه أدى إلى جانب ذلك، وبمضي الوقت إلى ممارسة ضغط قوي على حكومة المالكي. والأهم من ذلك أنه أسهم في تضخيم صورة تنظيم القاعدة وتوسيع نطاق عملياتها، ومن ثم صرف الانتباه عن حكومة بشار الأسد في سوريا. وهو مسلسل تتابعت حلقاته على النحو الذي نعرف، وانتهى بنجاح مخطط أبالسة النظام البعثي في سوريا، الذين استطاعوا الإبقاء عليه. ولم يبالوا بالكوارث والخرائب التي حلت بالمنطقة جراء ذلك.
فهمي هويدي
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
مما تتناقله الصحف ووكالات الأنباء عما ينسب إلى ممارساتها وبلاويها، التي تجاوزت حدود سوريا والعراق ووصلت إلى أوروبا، ولم تستثنِ أستراليا. حصيلة يوم أمس الأول كانت شاهدا على ذلك، إذ تناقلت وسائل الإعلام أخبار احتجاز شخص رفع رايتهم لرواد أحد المقاهي في سيدني بأستراليا، وحين احتجز أربعة أشخاص آخرون رهينة في بلجيكا، فإن الأصابع أشارت على الفور إلى "داعش" بعدما أصبحت المرشح الأول لأي ترويع يحدث في أي مكان بالكرة الأرضية، بل إن جريدة الأهرام حين نشرت على صفحتها الأولى أمس عنوانا ذكر أن 50 ألفا يشيعون ضحايا بدر الإسلام بالدقهلية، فإن أذهان البعض كانت مهيأة لإضافة الجريمة إلى سجل داعش الملطخ بالدماء أو الإخوان عند الحد الأدنى (وهو ما نبهتني إليه قارئة حصيفة انتابها القلق حين قرأت العنوان). لكن الخبر تحدث عن شيء مختلف تماما أساء العنوان التعبير عنه، لأن "بدر الإسلام" لم يكن سوى اسم مركب صيد صدمتها نقل بضائع عملاقة في البحر الأحمر وأغرقت ركابها!
صحيح أن البعض يدعي أن بعض ما ينسب إلى داعش مبالغ فيه أو مغلوط، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يقبل كتبرير لسوء سمعتها، ذلك أنه لا يوجد دخان بغير نار وراءه، كما يقول المثل العامي. لذلك فما كانت سمعة داعش لتسوء إلى تلك الدرجة المزرية والمنفرة لولا أن ممارساتها على أرض الواقع هي التي أوحت بذلك، وهي الممارسات التي لطخت سمعة الدولة الإسلامية وأهانت الخلافة وابتذلت شعار "لا إله إلا الله" حتى حولته إلى راية تثير الخوف والرعب وتمهد لقطع الرؤوس وسبي النساء وسحق المخالفين. وبسبب داعش فقد شوهت صورة المقاومة، وأصبح الطرف الإسلامي موصوما بكل ما يشينه وينفر الناس منه، ليس ذلك فحسب، وإنما تسببت ممارسات داعش في رفع منسوب كراهية المسلمين في العالم الخارجي. كما أنها أهدت الاتجاهات اليمينية والفاشية في أوروبا حججا قوية عززت مطلبها الداعي إلى طرد المسلمين وإعادتهم إلى أقطارهم الأصلية باعتبارهم أنهم أصبحوا خطرا يهدد أمن واستقرار المجتمعات الغربية، حتى قرأت شتائم لداعش من جانب بعض المسلمين خلال مواقع التواصل الاجتماعي، حيث كالوا لهم السباب بسبب العملية التي تمت في سيدني، معتبرين أن ذلك يمكن أن يغلق الأبواب أمام هجرة شبابهم إلى أستراليا.
هذه الشواهد وغيرها أثارت لديَّ شكوكا قوية في مشروع داعش وحكاية الخلافة والدولة الإسلامية، ذلك أن المفاسد التي حققها ذلك المشروع تتجاوز بكثير أي مصالح يبدو أنها حققتها. وقد لا أعترض على مقولة إن ذلك التنظيم يعبر عن غضب أهل السنة وثورتهم على ما حاق بهم من ظُلم في ظل الحكم الطائفي المهيمن في العراق. وإذ اعتبر ذلك أمرا مفهوما، إلا أن ذلك لا يبرر ولا يغفر كمّ الجرائم التي ارتكبت أو الدماء التي أريقت أو الممارسات البشعة التي تمت بحق الأقليات في سوريا والعراق.
منذ وقت مبكر أشرت في كتابات منشورة إلى احتمال أن تكون لأبالسة النظام السوري يد في انطلاق داعش والنفخ فيها لإخافة الجميع من البديل الذي يمكن أن يحكم سوريا لو قدر للثورة الراهنة على نظام الأسد أن تنجح. وكان تقديري أن الرسالة التي أريد توصيلها من وراء ذلك تعلن على الملأ أنه إذا كانت للنظام السوري سوءاته، فإن الطرف الذي يرشح نفسه بديلا له أسوأ وأضل سبيلا.
كان ما قلته مجرد استنتاج لا دليل عندي عليه، إلا أنني وجدت في التقرير الذي نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية يوم الجمعة الماضي (12/12) قرينة تؤيد ما ذهبت إليه. ذلك أن التقرير الذي كتبه مارتن جولوف أحد الخبراء المعنيين بالشرق الأوسط، اعتمد على معلومات من مصدر في داخل قيادة داعش، كانت تربطه به علاقة وثيقة منذ وقت مبكر. مما ذكره الكاتب نقلا عن مصدره العراقي أن المخابرات السورية لم تكن بعيدة عن أنشطة داعش. وأن الذي توسط في العلاقة بين الطرفين كان الضباط البعثيين في جيش صدام حسين الذين تعرفوا عليهم وتفاعلوا معهم حين جمعتهم الزمالة أثناء الاعتقال في سجن «بوكا» جنوبي العراق. وهؤلاء الضباط هم الذين رتبوا للجماعة لقاءاتهم مع أقرانهم من الضباط البعثيين في سوريا.
تحدث القيادي في داعش الذي انتحل له اسم "أبو أحمد" عن اجتماعين سريين عقدا في منطقة الزبداني قرب دمشق في ربيع عام 2009، حضره قادة بعثيون عراقيون سابقون لجأوا إلى سوريا وممثلون عن المخابرات السورية، إلى جانب شخصيات مهمة من عناصر القاعدة في العراق (التي تطورت بعد ذلك وأصبحت تحمل اسم داعش). وكان هذان الاجتماعان من بين حلقات التعاون بين المخابرات السورية وبين التنظيم داخل العراق، الذي كان ينشط ضد الاحتلال وضد حكومة نوري المالكي، لكنه أدى إلى جانب ذلك، وبمضي الوقت إلى ممارسة ضغط قوي على حكومة المالكي. والأهم من ذلك أنه أسهم في تضخيم صورة تنظيم القاعدة وتوسيع نطاق عملياتها، ومن ثم صرف الانتباه عن حكومة بشار الأسد في سوريا. وهو مسلسل تتابعت حلقاته على النحو الذي نعرف، وانتهى بنجاح مخطط أبالسة النظام البعثي في سوريا، الذين استطاعوا الإبقاء عليه. ولم يبالوا بالكوارث والخرائب التي حلت بالمنطقة جراء ذلك.
فهمي هويدي
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..