الأربعاء، 14 يناير 2015

مفردات: الفساد والإفساد في القرآن الكريم

تئن البشرية من آثار الفساد الذي أصبح ظاهرة كونية - مع اختلاف حجمه وصوره من دولة الى أخرى حسب اختلافها في المستوى الثقافي، والوعي السياسي، واحترام القوانين المنظمة لحياة الناس·
والدول القوية تستغل إمكاناتها الاقتصادية، والعلمية، والعسكرية في إفساد أوجه الحياة في الدول الأخرى بغية إضعاف قوتها، والسيطرة عليها، واستغلال خيراتها·
والقرآن الكريم - كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، ودستور الإسلام الذي هو رحمة الله للعالمين - اهتم اهتماما واضحاً بهذه الآفة الاجتماعية الخطيرة، فقد حذر من الفساد، وبين أسبابه، ودواعية وآثاره، وتوعد المفسدين·
فما الفساد؟
قال الراغب الأصفهاني: الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال، قليلا كان الخروج أو كثيرا، ويضاده الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس، والبدن، والأشياء الخارجة عن الاستقامة·
يقال: فسد فساداً وفسوداً، وأفسده غيره إفساداً(1)
وفي القاموس المحيط: فسد: ضد صلح، فهو فاسد وفسيد، والفساد: أخذ المال ظلما والجدب، والمفسدة: ضد المصلحة، وفسده تفسيداًً: أفسده، وتفاسدوا: قطعوا الأرحام، واستفسد: ضد استصلح(2)
وقد ورد- في القرآن الكريم - خمسون كلمة من مادة (فسد) موزعة على الصيغ الآتية:
1- الفعل الماضي ثلاث مرات في ثلاث آيات:
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}(سورة البقرة 25)
{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}(الأنبياء 22)
{ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض}(المؤمنون 31)
2- ورد مصدر الفعل (فسد) وهو الفساد إحدى عشرة مرة (3)
في خمس منها جاء منكرا - بدون >ال<، وفي ست منها جاء معرفا بال·
3- وجاء الفعل >أفسد< بزيادة همزة التعدية مرة واحدة في قوله - عز وجل- على لسان ملكة >سبأ<
{إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة}(سورة النمل 34)
وجاء مضارعه >يفسد< بضم حرف المضارعة - أربع عشرة مرة (4)
جاء مسنداً إلى ضمير المفرد الغائب مرتين:
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها}(البقرة 30)
{ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها}(البقرة 205)
وجاء مسنداً الضمير المتكلمين مرة واحدة: على لسان إخوه يوسف عليه السلام:
{ماجئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين}(سورة يوسف 73)
وجاء مسنداً إلى ضمير المخاطبين خمس مرات·
وجاء مسنداً إلى ضمير جماعة الغائبين ست مرات·
4- ولم يرد في القرآن الكريم مصدر الفعل >أفسد< وهو الإفساد·
5- وإنما ورد اسم الفاعل من هذا الفعل إحدى وعشرين مرة (5)
جاء مفرداً مرة واحدة في قوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح}(سورة البقرة 220)
وجاء مجموعا جمع مذكر سالما عشرين مرة:
وبذلك يكون عدد المفردات القرآنية - من مادة فسد - خمسين كلمة·
منها (32) اثنان وثلاثون اسما: مصدر >فسد< وهو الفساد (11) إحدى عشرة مرة
واسم الفاعل من الإفساد: مصدر أفسد (21) إحدى وعشرين مرة ومنها (8) ثمانية عشر فعلا:
>فسد< ثلاث مرات، و>أفسد< مرة واحدة، ومضارع >أفسد< (14) أربع عشرة مرة·
ولم يرد - في القرآن الكريم مضارع >فسد< وهو >يفسد< - بفتح حرف المضارعة·
وهذه الألفاظ الخمسون وردت في (21) إحدى وعشرين سورة قرآنية هي:
سورة البقرة، آل عمران، المائدة، الأعراف، الأنفال، يونس، هود، يوسف، الرعد، النحل، الإسراء، الأنبياء، المؤمنون، الشعراء، النمل، القصص، العنكبوت، الروم، غافر، محمد، الفجر·
ونلحظ من التأمل في الآيات الكريمة التي وردت فيها مفردات الفساد والإفساد ما يأتي:
1- أن الإفساد يقابل الإصلاح·
{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون}(البقرة 11)، {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون}( النمل 48)، و{لاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}(الأعراف 56)·
2- والإفساد يشمل الشرور والمعاصي التي تتعلق بحقوق العباد كالقتل، {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}(البقرة 30)، والتخريب {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}(البقرة 205)، والسرقة {ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين}(يوسف 73)، وأكل حقوق اليتامى وأموالهم {وإن تخالطوهم فأخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح}(البقرة 220)، وتطفيف الكيل والميزان >أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين<(6)·
>من المخسرين: الناقصين لحقوق الناس في الكيل والميزان، والقسطاس المستقيم: الميزان السوي الذي لابخس فيه على من وزنتم له، ولا تعثوا في الأرض مفسدين: لا تفسدوا فيها أشد الإفساد بالقتل، والغارة، وقطع الطريق ونحو ذلك<(7)·
3- كثير من المفسدين تختل لديهم مقاييس الخير والشر فيزعمون أن إفسادهم إصلاح، >وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون< ولم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوه الى التبجح والتبرير< والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون كثيرون جدا في كل زمان، يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم، ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم، والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم، لأن ميزان الخير والشر، والصلاح والفساد يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يؤوب إلى قاعدة ربانية (8)، {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}(الكهف 104/103)·
4- وإذا كان الصلاح والإصلاح من صفات المؤمنين المتقين فإن الفساد والإفساد من صفات الكافرين، والمنافقين، والفاسقين {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}(القصص 4)·
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}(البقرة 205)·
{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}(الرعد 25)، {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}(محمد 22)·
5- من مؤهلات الإفساد بعد الكفر والنفاق، العلو والطغيان، والترف المصاحب للغنى {وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد}(الفجر 12/10)·
{وقضينا إلى بني إسرائيل لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا}(الإسراء 4)
قال ابن عباس >أول الفساد قتل زكريا، والثاني قتل يحيى عليهما السلام- فإنهم لما استحلوا المحارم، وسفكوا الدماء سلط الله عليهم بختنصر ملك بابل فقتل منهم سبعين ألفاً حتى كاد يفنيهم وذلك أول الفسادين، فإذا جاء وعد المرة الأخيرة من إفسادكم بقتل يحيى، وانتهاك محارم الله بعثنا عليكم أعداءكم·· فقد سلط الله عليهم مجوس الفرس، فشردوهم في الأرض، وقتلوهم ودمروا ملكهم تدميرا<(9)·
وقال قوم قارون له لما بغى عليهم بغناه {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}(القصص 76)·
قال صاحب الظلال: الفساد بالبغي والظلم، والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله، ومراعاة الآخرة، والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء، والفساد بإنفاق المال في غير وجهه، أو بإمساكه عن وجهه على كل حال<(10)·
6- إن الإفساد المقترن بقوة ترعب الناس وترهبهم شرع الله - سبحانه وتعالى لمقاومته، وحماية الناس منه حد {الحرابة< إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}(المائدة 33)·
7- كثيرا ما يكون الإفساد تهمة يرقى بها المصلحون، ولهذا يجب الاحتكام إلى أحكام الشرع في التفريق بين المصلح والمفسد· ألم يقل فرعون - وهو رأس من رؤوس الفساد والإفساد- {ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}(غافر 26) وقال له الملأ من قومه محرضين على التخلص من موسى وأتباعه المؤمنين - {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض}(الأعراف 127)·
8- انتشار الفساد في المجتمعات ثمرة مرة لفساد قلوب الناس وعقائدهم، وسوء أعمالهم وهو في الوقت نفسه - بعض عقاب الله لهم على هذه الأعمال السيئة·
{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}(الروم 41)، قال الإمام النسفي: الفساد نحو القحط، وقلة الأمطار، والريع في الزراعات، والربح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس والدواب، وكثرة الحرق والغرق ومحو البركات من كل شيء بسبب معاصيهم وشركهم كقوله - {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}(الشورى 30) >ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا<(11)·
9- ينشأ الفساد عن مخالفة سنن الله، والخروج على القوانين الضابطة لاستقرار الكون، فتفسد الإدارات والهيئات إذا تعدد المسؤولون عن إدارتها· وقد جعل الله - سبحانه وتعالى - عدم فساد نظام السموات والأرض دليلا على وحدانيته· فقال: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}(الأنبياء 22)· أي: لو كان في الوجود آلهة غير الله لفسد نظام الكون كله لما يحدث بين الآلهة من الاختلاف والتنازع في الخلق والتدبير وقصد المغالبة<(12)·
10- لكيلا تفسد الأرض شرع الله قانون المدافعة بين البشر لبعث الهمم، وتجديد النشاط مقاومة الظلم ورد العدوان {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}(البقرة 251)·
>أي لقد كادت الحياة تأسن وتتعفن لولا أن طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم، واتجاهاتهم الظاهرة القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم، وتتدافع· فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبداً نقطة عاملة مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة<(13)·
ونلحظ في التعبير القرآني أن هذا الدفع شأن الله وإرادته، وأن البشر هم أداة ذلك الدفع والتدافع لتحقيق مراد الله في عدم فساد الأرض·
11- وقد حذر الرسل أقوامهم المضي في طريق الفساد· فقد جاء على لسان - صالح- عليه السلام- {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}(الأعراف 73)، وعلى لسان شعيب {فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}(الأعراف 85)·
12- وقد جعل الله من واجبات الصالحين في كل أمة النهي من الفساد، فانتشار الفساد في أمة يدل على تقصير صالحيها في حق مجتمعهم {فلولا كان من القرون من قبلكم أو لو بقية ينهون عن الفساد في الأرض}(هود 116)، والبقية: الفضل والخير، وأطلق على الفضل البقية لأن شأن الشيء النفيس أن صاحبه لا يفرط فيه، والمعنى: هلا كان في الأمم التي أهلكها بسبب المعاصي، واختلال الأحوال أهل فضل ودين وعلم بالشرائع ينهون قومهم عن التمادي في المعاصي، فتصلح أحوالهم، ولا يحق عليهم الوهن والانحلال كما حل ببني اسرائيل حين عدموا من ينهاهم<(14)·
13- وقد تضمنت الآيات التي تناولت حديث القرآن عن الفساد والمفسدين أن الله- عز وجل يكره الفساد، ويبغض المفسدين >والله لا يحب الفساد<، >والله لا يحب المفسدين< >إن الله لا يحب المفسدين<·
وكفى المؤمن تنفيرا من الشيء أن يعرف أن الله يكره ذلك الشيء ويبغض أصحابه·
14- وتوعد الله المفسدين بالخسران المبين، وسوء العاقبة {وربك أعلم بالمفسدين}(يونس 40)، {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}(الأعراف 103)، {إن الله لا يصلح عمل المفسدين}(يونس 81)·
15- كما جعل - سبحانه وتعالى - حسن العاقبة، وحسن ثواب الآخرة {للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}(القصص 83)·

الهوامش:
1- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني 379 ·
2- القاموس المحيط للفيروزابادي مادة (فسد)·
3- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم للأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي 519 ·
4- المرجع السابق 518 ·
5- المرجع السابق 519 ·
6- الشعراء 183/181
7- صفوة البيان لمعاني القرآن للشيخ حسنين محمد مخلوف 114/2، 115 ·
8- في ظلال القرآن   سيد قطب 47/1
9- صفوة التفاسير للشيخ محمد علي الصابوني 152/2 ·
10- في ظلال القرآن 375/6 ·
11- تفسير النسفى 274/2 ·
12- صفوة التفاسير 258/2 ·
13- في ظلال القرآن 396/1
14- تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور 124/12 ·


مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..