الحمد لله رب العالمين ... مرسل موسى وعسى ومحمد عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم .. وبعد ..
فقد تفضلت عليّ أختي الأستاذة منال الكندي فزودتني بمقالة كتبتها أختنا المهندسة نجاة النهاري،تحت عنوان (كيف يسلم اليهودي وهذا حال المسلمين؟!).
القسم الأول :
إن أول ما لفت نظري في المقالة هو هذه اللغة الرصينة،التي تشي بالبحث عن الحقيقة ... بل والتي تبدو مستنكرة لما يحصل من المسلمين .. قياسا على القصة التي أوردتها عن النبي محمد – عليه وعلى موسى السلام – وهذه نقطة سوف أعود لها إن شاء الله.
حتى يحين وقت العودة إلى نقطة الاستنكار هذه ابدا بمقتطف من مقدمة رسالة المهندسة :
(كثيرون وجهوا لي الدعوة للتخلي عن معتقدي اليهودي ودخول الاسلام، وكثيرون أيضاً يلعنونني كل يوم ويصفوني بالكافرة ويقولون ان غير المسلمين مصيرهم إلى نار الله.
بعث لي أحد الأصدقاء قصة جميلة عن النبي محمد ويهودي كان يسكن جواره ويلحق به الأذى والنبي يصبر عليه، وعندما مرض اليهودي زاره النبي فخجل اليهودي من اخلاقه ودخل الاسلام... عندما قرأتها فهمت أن تصرفات واخلاق النبي محمد كانت هي مقياس اليهودي للاعجاب بالاسلام واعتناقه قبل حتى أن يقرأ مافي القرآن.. ولحظتها تساءلت مع نفسي: يا ترى المسلمون اليوم بماذا سيغرون اليهودي لدخول الاسلام..!؟
أرجو أن لا تغضبكم صراحتي، فأنا أحاول أن أفهم الاسلام على طريقة اليهودي الذي أسلم بسبب تصرفات النبي قبل كلام القرآن.. )
أفتتح هذا الحوار بالإشارة إلى بعض النقاط :
النقطة الأولى : اشارت أختنا المهندسة إلى حديث افتراق المسلمين – حسب الحديث الشريف – إلى 70 فرقة – الصواب أنها 73 فرقة - كلها في النار إلا واحدة .. وأنها – أي المهندسة - حين سالت صديقتها عن اسم تلك الفرقة أخبرتها أنها لا تعرف اسمها .. وكل فرقة تدعي أنها هي ... والحقيقة أن تلك الصديقة كان يجب أن تنقل النص المقدس بأمانة .. 73 فرقة (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وفي رواية الطبراني (ما أنا عليه اليوم وأصحابي). أي أن النجاة عبر (المنبع الصافي) .. وهو الذي حفظ قصة إسلام اليهودي.
النقطة الثانية :
أشارت أختنا المهندسة إلى تقاتل المسلمين وإلى مقتل 80 ألف مسلم – على يد مسلمين – في سوريا،وكذلك مقتل 280 ألف مسلم عراقي .. على يد مسلمين أيضا.
هذا خلط بين (دين الإسلام) وبين حماقات البشر ... والتي يمثلها أسوء تمثيل مجازر لينين وستالين حين تم قتل 66 مليون نسمة في عهدهما .. ولا أقارن بين دين سماوي ومذهب بشري .. ولكنني أمثل لحماقات البشر.
النقطة الثالثة : تقول المهندسة أنها إذا أرادت أن تدخل الإسلام .. فهل ستدخله (سنية) أم (شيعية) ؟
هنا يجب أن نشير إلى مسألتين :
المسألة الأولى :
أن السنة هم (الأمة) وأن (الشيعة) فرقة .. قد تتجاوز 10% من المسلمين .
المسألة الثانية : أن كل ما يقوم به السنة هو (ردة فعل) على ما يقوم به (الشيعة) .. بمعنى أنه بدون (تكفير الصحابة) والطعن في زوجات النبي – عليه وعلى موسى السلام – ما كان للصراع بين السنة والشيعة أن ينشب .. وكان للأمر أن يظل خلافا سياسيا من أحق بالخلافة (علي) – عليه السلام – أم ( أبو بكر وعمر وعثمان )- رضي الله عنهم – وأعتقد أن الإنسان – بغض النظر عن عقيدته – يستطيع بالعقل أن يقارن بين (أمة) تترضى على جميع تلاميذ مدرسة محمد – عليه وعلى موسى السلام – بما فيهم أئمة الشيعة من آل البيت عليهم السلام .. وبين (فرقة) بدأت فـ(كفرت) معظم تلاميذ تلك المدرسة ..
النقطة الرابعة : كان لي أن أسعد بأن ذلك اليهودي دخل الإسلام بسبب تعامل النبي محمد – عليه وعلى موسى السلام – ولكن قناعتي أنه دخل الإسلام لسببين ... فإضافة إلى (التعامل) نحن نؤمن – كما قي القرآن الكريم – أن اليهود يعرفون النبي محمدا – عليه وعلى موسى السلام – كما يعرفون أبناءهم .. فلم تكن القضية إذا في جوهرها دخولا للإسلام قبل معرفة كلام القرآن ... حسب تعبير أختنا المهندسة
إذا تجاوزنا هذه النقاط،فما هو جوهر القضية؟
جوهر القضية .. هو سؤال نستطيع أن نتجاوزه بما أن المهندسة نجاة يهودية وليست ملحدة ،والسؤال المتجاوز هو : هل يوجد خالق أم لا؟
بما أن المهندسة تنتمي إلى دين سماوي ... فإن جوهر القضية .. كما هي عقيدتي يتمثل في أن (الدين) واحد لأن الرب – سبحانه وتعالى – واحد ... وكل الأنبياء إخوة ... يحملون نفس الرسالة .. وتخطي هذه الحقيقة نحو مقارنة سلوك أتباع الدينات قد يحرف القضية عن مسارها الصحيح.
ومن قدر الله – سبحانه وتعالى – أنني كتبت بعض هذه الأسطر .. ثم أخذت استراحة .. فقرأت سورة (مريم) – مجرد وجود سورة في القرآن باسم امرأة قضية في حد ذاتها تستحق التوقف عندها – فوجدت سلسلة من الأنبياء .. وهم حسب تسلسل ذكرهم في السورة :
(زكريا / يحيى / عيسى / إبراهيم / إسحاق / يعقوب / موسى / هارون / إسماعيل / إدريس) عليهم وعلى نبينا محمد السلام. بعد تزكية الأنبياء المذكورين جاءت آية تقول :
(فخلف من بعدهم خلف أضاع الصلاة واتبعوا الشهوات) سورة مريم آية (59).
يبدو لي وكأن المهندسة ركزت في نظرتها للإسلام .. على سلوك بعض أتابعه .. لا على أصل الإسلام ...
وهنا أستطيع أن أقدم ثلاث لمحات .. للفرق بين الإسلام والمسلمين :
اللمحة الأولى : يقول نبينا محمد – عليه وعلى موسى السلام - .. فيما معناه (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه) ... وقارني بسلوك المسلمين !!
اللمحة الثانية : يقول نبينا محمد – عليه وعلى موسى السلام - .. فيما معناه : لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر .. ثم شرح الكبر بأنه (بطر الحق وغمط الناس) أي احتقارهم .. وقارني بين النص وبين احتقار بعض المسلمين لبعضهم .. إلا من رحم الله.
اللمحة الأخيرة : تقول الأخت المهندسة أن كثيرين – من المسلمين طبعا – لعنوها .. هذا في حد ذاته يقدم دليلا على انفصام المسلم عن دينه تطبيقا .. في الحديث – ما معناه - أن بعض اليهود دخلوا على النبي – عليه وعلى موسى السلام – فقالوا (السامُ عليكم) – والسام هو الموت – فغضبت أمنا عائشة – رضي الله عنها – ولعنتهم .. نهاها النبي – عليه وعلى موسى السلام – عن ذلك فقالت :
أما سمعت ما قالوا؟
قال :
أما سمعتِ ما قلت لهم؟
قلت : وعليكم.
وفي القرآن نقرأ أن سيدنا موسى وسيدنا هارون – عليهما وعلى نبينا السلام – أُمرا بأن يقولا للرجل الذي قال (أنا ربكم الأعلى) .. فرعون ( فقولا له قولا لينا ..) فأين هذا من لعن امرأة تنتمي إلى دين سماوي؟!!
بهذه اللمحة انتهى القسم الأول من هذا الحوار.
برزخ بين قسمين
قبل القسم الثاني .. لديّ عتب على أختنا المهندسة .. فقد جعلت مسلمي هذا الزمان (أنموذجا) قد يدفعها إلى الإسلام .. وقد يدفعها بعيدا عنه .. وعتبي أنها تجاهلت مسلمين آخرين .. في الأندلس تحديدا حيث عاش اليهود مع المسلمين في مشهد للتعايش غير مسبوق .. واضطهدوا معا عند سقوط دولة الإسلام هناك ..
ويذكر لنا صاحب قصة الحضارة نبذة عن أثر الحضارة العربية على اليهود .. ( وترجم موسى بن طبون كتاب العناصر لإقليدس من اللغة العربية أيضا، وترجم كتاب القانون الصغير لابن سينا، وكتاب الترياق للرازي (..) وشروح ابن رشد القصيرة لأرسطو . وتزعم يعقوب بن طبون (..) ترجم عددا من الرسائل العربية إلى اللغة العبرية (..) وقد ولد يعقوب هذا في مرسيلية حوالي عام 1194 ودعاه فريدريك الثاني تدريس اللغة العربية في جامعة نابلي، وفيها ترجم إلى اللغة العربية شروح ابن رشد الكبرى . وكان لهذه الشروح أبلغ الأثر في الفلسفة اليهودية . (..) وترجمت إلى اللغة اللاتينية كثير من التراجم العبرية للكتب العربية من ذلك أن كتاب التيسير لابن زهر ترجم إلى اللغة اللاتينية في بدوا ( 1280 ) وتمثل لنا ترجمة كتاب كليلة ودمنة لبيدبا الطريق الملتوية التي كانت تسير فيها الهجرة الثقافية : فقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية من ترجمة أسبانية لترجمة لاتينية لترجمة عبرية لترجمة عربية لترجمة فهلوية لترجمة للنسخة السنسكريتية المزعومة){ص 16جـ6 مجلد 4 (قصة الحضاةر) / ول ديورانت / ترجمة : محمد بدران ) }
القسم الثاني ..
ما إن انتهيت من قراءة مقالة أختنا المهندسة .. وتقريعها للمسلمين الذين يقتل بعضهم بعضا .. والبعيدين عن سلوك نبيهم – عليه وعلى موسى السلام – حتى تذكرت يهوديا – أو من كان يهوديا – آخر ... هو ليوبولد فايس .. أو أخونا محمد أسد فيما بعد ... والذي ذكرني به هو أنه أعمل سوط اللوم في المسلمين البعيدين عن أصول دينهم .. ولأنه كان أول من خطر في بالي فقد اخترت لهذا الحوار .. اسم (رسالة مفتوحة إلى فاطمة أسد ) أو هكذا وجدت الاسم يجري على قلمي .. وهذا القسم الثاني من الحوار .. سوف أتركه لأخينا محمد أسد ... ومقتطفات من كتابه .. ( الطريق إلى الإسلام) - نقله إلى العربية : عفيف البعلبكي / بيروت / دار العلم للملايين / الطبعة الخامسة 1977م،في 407 صفحات،( عنوان الكتاب – كما جاء في الغلاف الداخلي - بالإنجليزية The Road to Mecca ).
يرى (أسد) أن (... نمو الإنسان الروحي،في نظر الإسلام مرتبط ارتباطا لا انفصام له بجميع نواحي طبيعته الأخرى. إن الدوافع الجسمانية جزء متمم لطبيعته فهي ليست نتيجة أي (خطيئة أولى ) – ذلك المفهوم الغريب عن تعاليم الإسلام – بل قوى إيجابية،وهبها الله للإنسان فيجب أن يتقبلها وأن يفيد منها بحكمة على أنها كذلك. ومن هنا فإن مشكلة الإنسان ليست في كيف يكبت مطاليب{هكذا } جسده،بل كيف يوفق بينها وبين مطاليب{هكذا} روحه بطريقة تجعل الحياة مترعة وصالحة.){ص 185 }. ثم يقرع أحد المسلمين :
(كيف حدث أنكم أيها المسلمون قد فقدتم ثقتكم بأنفسكم،تلك الثقة بالنفس التي مكنتكم في الماضي من نشر دينكم،في اقل من مئة عام،من جزيرة العرب حتى الأطلسي غربا والى أعماق الصين شرقا – وإنكم اليوم تسلمون أنفسكم بمثل هذه السهولة ومثل هذا الضعف إلى أفكار الغرب وعاداته؟ لماذا لا تستطيعون،وانتم الذين أنار أجدادكم العالم،بالعلم والفن في وقت كانت أوربا فيه غارقة في البربرية والجهل،أن تستجمعوا شجاعتكم للعودة إلى دينكم التقدمي المنير،كيف حدث أن أتاتورك،ذلك الذي ينكر على الإسلام قيمه،قد أصبح في نظركم انتم المسلمين رمز "الانبعاث الإسلامي؟"(..) قل لي – كيف حدث أن دين نبيكم،وكل ما فيه من البساطة والوضوح،قد دفن تحت أنقاض من تأملات متحذلقيكم ومماحكاتهم العقيمة؟كيف حدث أن أمراءكم وكبار إقطاعييكم يمرحون في الرخاء والنعيم،بينما يعيش الكثيرون من إخوانهم المسلمين في فقر وقذارة يفوقان الوصف – مع أن نبيكم قد لقنكم انه"لا يؤمن أحدكم إذا بات شبعان وجاره جائع"؟هل تستطيع أن تقول لي لم دفعتم النساء إلى مؤخرة حياتكم – مع أن النساء من حول النبي وصحابته اشتركن ذلك الاشتراك الرائع الأخاذ في حياة رجالهن؟ كيف حدث أن كثيرا جدا منكم،أيها المسلمون،جهلة وان قليلا جدا منكم يعرفون مجرد القراءة والكتابة..(..) همس :
-"ولكن .. أنت مسلم.." فضحكت وأجبت :
-" كلا.إنني لست بمسلم،ولكني رأيت في الإسلام قدرا كبيرا من الجمال بحيث أنني أستشيط غضبا أحيانا لرؤيتكم تضيعونه.(..) فهز مضيفي رأسه وقال : " كلا .. إن الأمر هو كما قلت. أنت مسلم،ولكنك لا تعرف ذلك .. لماذا لا تقول الآن : "لا إله إلا الله،محمد رسول الله"فتصبح مسلما معنا(..)قلها الآن،اذهب معك غدا إلى كابل وآخذك إلى الأمير(..) سوف يهبك البيوت والحدائق والمواشي (..) – "إني إذا قلتها يوما،فسأقولها لأني مطمئن إليها،لا من اجل بيوت الأمير وحدائقه". ){ص 313 – 315}.
ويواصل لومه ..(ولكن ما همني أكثر من فشل مسلمي اليوم في تطبيق نظام الإسلام إنما كانت إمكانيات ذلك النظام نفسه – لقد كفاني أن اعلم انه لفترة قصيرة،في أوائل التاريخ الإسلامي،بذلت فعلا محاولة ناجحة لتطبيق ذلك النظام،وان ما بدا ممكنا في يوم ما يمكن أن يصبح ممكنا لا حقا في وقت آخر. (..) إذا كان ذلك المثل الأعلى نفسه ما زال متاحا لكل راغب في الاستماع إلى رسالته؟ وقد نكون، نحن المحدثين،هكذا فكرت في نفسي،بحاجة يائسة إلى تلك الرسالة بأكثر مما احتاج إليها الناس في أيام محمد. إنهم كانوا يعيشون في بيئة ابسط كثيرا من بيئتنا نحن،وكانت مشاكلهم ومصاعبهم أسهل حلا وأيسر إلى حد كبير.لقد كان العالم الذي كنت أعيش أنا فيه – كل ذلك العالم – يترنح بسبب من فقدان أي اتفاق على ما هو خير وما هو شر روحيا،وبالتالي اجتماعيا واقتصاديا.){ص 322 – 323 }.
وأخيرا يصل إلى الإسلام .. (في ذات يوم من أيام شهر أيلول من سنة 1926 كنت راكبا مع زوجتي في قطار برلين تحت الأرض،فوقعت عيني اتفاقا على رجل أنيق الملبس جالس قبالتي. كان،على ما بدا لي،تاجرا تبدو عليه آثار النعمة والثراء،على ركبتيه حقيبة صغيرة جميلة وفي أصبعه خاتم ماسي كبير.وأخذت أفكر بتكاسل كيف أن مظهر هذا الرجل الحسن كان يعكس الرخاء الذي كان المرء يقع عليه في كل مكان في أوربا الوسطى في تلك الأيام (..) إن معظم الناس كانوا يلبسون جيدا ويأكلون جيدا،ومن هنا لم يكن الرجل قبالتي خلاف غيره من الناس.إلا أنني عندما نظرت إلى وجهه خيل إلي أنني لم أكن انظر إلى وجه سعيد،فقد بدا لي قلقا : لا قلقا فحسب،بل شقي بصورة حادة،ترسل عيناه نظرات فارغة إلى الأمام،وزاويتا شفتيه متقلصتان ألما – ألما غير جسماني.وإذ لم أرد أن أكون وقحا،فقد أشحت بوجهي فرأيت إلى جانبه سيدة على شيء من الظرف.لقد كان وجهها هي أيضا يعبر تعبيرا غريبا عن عدم سعادتها،كأنما كانت تعاني أو تفكر في شيء يسبب لها الألم.ومع ذلك فقد كان ثغرها يفتر عما يشبه ابتسامة جامدة لم اشك في أنها لا بد أن تكون عادية لديها.وعندئذ أخذت أجيل بصري في جميع الوجوه الأخرى – وجوه أناس كانوا جميعهم دون استثناء يرتدون الملابس الحسنة ويقتاتون بالغذاء الجيد – وفي كل وجه منها استطعت أن أميز تعبيرا عن الألم الخبيء،إلى درجة أن صاحبه بدا وكأنه لا يشعر به. (..) كانت الانطباعة قوية إلى درجة جعلتني اذكرها لزوجتي،فأخذت هي أيضا تنظر حولها بعيني رسام حريص اعتاد دراسة القسمات البشرية.ثم استدارت إليّ دهشة وقالت : أنت على حق .. إنهم جميعا يبدون وكأنهم يعانون آلام الجحيم .. وإنني لأتساءل هل يعرفون هم أنفسهم ماذا يعتمل في نفوسهم؟ "
لقد عرفت أنهم لم يكونوا يعلمون .. وإلا لما كان باستطاعتهم أن يستمروا في إضاعة حياتهم وتبديدها كما كانوا يفعلون،دون أيما إيمان بالحقائق الرابطة،دون أيما هدف ابعد من الرغبة في رفع "مستوى معيشتهم"،دون أيما أمل غير حيازة المزيد من الملذات المادية والمزيد من الممتلكات،ولربما المزيد من القوة ..
واتفق عندما عدنا إلى البيت،أن ألقيت نظرة على مكتبي،وكان عليه نسخة مفتوحة من القرآن كنت أقرا فيها من قبل. وبصورة آلية،رفعت الكتاب لأضعه جانبا. ولكن ما إن هممت بإغلاقه حتى وقعت عيني على الصفحة المفتوحة أمامي وقرأت : (( َلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ{1} حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ{2} كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ{3} ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ{4} كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ{5} لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ{6} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ{7} ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ{8})) واعتراني الصمت لحظة،واني لاعتقد أن الكتاب كان يهتز في يدي. ثم قلت لزوجتي : "اصغي إلى هذا. أليس هو جوابا عما رأيناه في القطار؟" اجل لقد كان. كان جوابا قاطعا إلى درجة أن كل شك زال فجأة. لقد عرفت الآن،وبصورة لا تقبل الجدل،أن الكتاب الذي كنت ممسكا به في يدي كان كتابا موحى به من عند الله . فبالرغم من أنه وضع بين يدي الإنسان منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا فانه توقع{بما أن الحديث عن الخالق،سبحانه وتعالى،فالأصح أن يُقال "أخبر بوضوح"} بوضوح شيئا لم يكن بالمكان أن يصبح حقيقة إلا في عصرنا هذا المعقد الآلي.
لقد عرفت الناس التكاثر في جميع العصور والأزمنة : ولكن هذا التكاثر لم ينته قط من قبل إلى أن يكون مجرد اشتياق إلى امتلاك الأشياء،والى أن يصبح ملهاة حجبت رؤية أيما شيء آخر : حنين لا يقاوم إلى التملك،والعمل،والاستنباط أكثر فأكثر. اليوم أكثر من أمس،وغدا أكثر من اليوم : عفريت راكب على أعناق الناس يسوق قلوبهم بسوط إلى الأمام نحو أهداف تتلألأ عن بعد ولكنها تنحل إلى لاشيئية زرية خسيسة حالما تصبح في متناول اليد : وذلك الجوع،ذلك الجوع النهم إلى أهداف جديدة لا تنتهي ينمو في قلب الإنسان : "كلا، لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم .."
لقد عرفت أن هذا لم يكن مجرد حكمة إنسانية من إنسان عاش في الماضي البعيد في جزيرة العرب النائية،فمهما كان مثل هذا الإنسان على مثل هذا القدر من الحكمة فانه لم يكن يستطيع وحده أن يتنبأ بالعذاب الذي يتميز به هذا القرن العشرون : لقد كان ينطق لي،من القرآن،صوت أعظم من صوت محمد ..(..) سعيت إلى صديق مسلم لي،{ صديق لي مسلم هندي } هندي كان في ذلك الحين رئيسا للجالية الإسلامية الصغيرة في برلين،وأعلمته برغبتي في اعتناق الإسلام،مد يده اليمنى نحوي ووضع يدي اليمنى فيها.
وبحضور شاهدين قلت : اشهد أن لا إله إلا الله،وان محمدا رسول الله.){ص 326 – 329 }.
لم يبق لي إلا أن أعتذر عن الإطالة ... وأختم بهذا الدعاء :
اللهم أرنا الحق حقا .. وارزقنا اتباعه .. وأرنا الباطل باطلا .. وارزقنا اجتنابه ..
وصلّ الله على سيدنا محمد وعلى جميع رسل الله .
تلويحة الوداع :
مما يثير الدهشة .. ما رواه البخاري عن جابر بن عبدالله. أن جنازة مرت على النبي (صلى الله عليه وسلم وعلى سيدنا موسى) قام لها واقفا.
فقيل له يا رسول الله انها جنازة يهودي. فقال (صلى الله عليه وسلم وعلى سيدنا موسى): (أليست نفسا)؟ (أخرجه البخاري في كتاب الجنائز)
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي
– المدينة المنورة في 4/9/1434هـ = 13/7/2013م.
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
فقد تفضلت عليّ أختي الأستاذة منال الكندي فزودتني بمقالة كتبتها أختنا المهندسة نجاة النهاري،تحت عنوان (كيف يسلم اليهودي وهذا حال المسلمين؟!).
القسم الأول :
إن أول ما لفت نظري في المقالة هو هذه اللغة الرصينة،التي تشي بالبحث عن الحقيقة ... بل والتي تبدو مستنكرة لما يحصل من المسلمين .. قياسا على القصة التي أوردتها عن النبي محمد – عليه وعلى موسى السلام – وهذه نقطة سوف أعود لها إن شاء الله.
حتى يحين وقت العودة إلى نقطة الاستنكار هذه ابدا بمقتطف من مقدمة رسالة المهندسة :
(كثيرون وجهوا لي الدعوة للتخلي عن معتقدي اليهودي ودخول الاسلام، وكثيرون أيضاً يلعنونني كل يوم ويصفوني بالكافرة ويقولون ان غير المسلمين مصيرهم إلى نار الله.
بعث لي أحد الأصدقاء قصة جميلة عن النبي محمد ويهودي كان يسكن جواره ويلحق به الأذى والنبي يصبر عليه، وعندما مرض اليهودي زاره النبي فخجل اليهودي من اخلاقه ودخل الاسلام... عندما قرأتها فهمت أن تصرفات واخلاق النبي محمد كانت هي مقياس اليهودي للاعجاب بالاسلام واعتناقه قبل حتى أن يقرأ مافي القرآن.. ولحظتها تساءلت مع نفسي: يا ترى المسلمون اليوم بماذا سيغرون اليهودي لدخول الاسلام..!؟
أرجو أن لا تغضبكم صراحتي، فأنا أحاول أن أفهم الاسلام على طريقة اليهودي الذي أسلم بسبب تصرفات النبي قبل كلام القرآن.. )
أفتتح هذا الحوار بالإشارة إلى بعض النقاط :
النقطة الأولى : اشارت أختنا المهندسة إلى حديث افتراق المسلمين – حسب الحديث الشريف – إلى 70 فرقة – الصواب أنها 73 فرقة - كلها في النار إلا واحدة .. وأنها – أي المهندسة - حين سالت صديقتها عن اسم تلك الفرقة أخبرتها أنها لا تعرف اسمها .. وكل فرقة تدعي أنها هي ... والحقيقة أن تلك الصديقة كان يجب أن تنقل النص المقدس بأمانة .. 73 فرقة (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وفي رواية الطبراني (ما أنا عليه اليوم وأصحابي). أي أن النجاة عبر (المنبع الصافي) .. وهو الذي حفظ قصة إسلام اليهودي.
النقطة الثانية :
أشارت أختنا المهندسة إلى تقاتل المسلمين وإلى مقتل 80 ألف مسلم – على يد مسلمين – في سوريا،وكذلك مقتل 280 ألف مسلم عراقي .. على يد مسلمين أيضا.
هذا خلط بين (دين الإسلام) وبين حماقات البشر ... والتي يمثلها أسوء تمثيل مجازر لينين وستالين حين تم قتل 66 مليون نسمة في عهدهما .. ولا أقارن بين دين سماوي ومذهب بشري .. ولكنني أمثل لحماقات البشر.
النقطة الثالثة : تقول المهندسة أنها إذا أرادت أن تدخل الإسلام .. فهل ستدخله (سنية) أم (شيعية) ؟
هنا يجب أن نشير إلى مسألتين :
المسألة الأولى :
أن السنة هم (الأمة) وأن (الشيعة) فرقة .. قد تتجاوز 10% من المسلمين .
المسألة الثانية : أن كل ما يقوم به السنة هو (ردة فعل) على ما يقوم به (الشيعة) .. بمعنى أنه بدون (تكفير الصحابة) والطعن في زوجات النبي – عليه وعلى موسى السلام – ما كان للصراع بين السنة والشيعة أن ينشب .. وكان للأمر أن يظل خلافا سياسيا من أحق بالخلافة (علي) – عليه السلام – أم ( أبو بكر وعمر وعثمان )- رضي الله عنهم – وأعتقد أن الإنسان – بغض النظر عن عقيدته – يستطيع بالعقل أن يقارن بين (أمة) تترضى على جميع تلاميذ مدرسة محمد – عليه وعلى موسى السلام – بما فيهم أئمة الشيعة من آل البيت عليهم السلام .. وبين (فرقة) بدأت فـ(كفرت) معظم تلاميذ تلك المدرسة ..
النقطة الرابعة : كان لي أن أسعد بأن ذلك اليهودي دخل الإسلام بسبب تعامل النبي محمد – عليه وعلى موسى السلام – ولكن قناعتي أنه دخل الإسلام لسببين ... فإضافة إلى (التعامل) نحن نؤمن – كما قي القرآن الكريم – أن اليهود يعرفون النبي محمدا – عليه وعلى موسى السلام – كما يعرفون أبناءهم .. فلم تكن القضية إذا في جوهرها دخولا للإسلام قبل معرفة كلام القرآن ... حسب تعبير أختنا المهندسة
إذا تجاوزنا هذه النقاط،فما هو جوهر القضية؟
جوهر القضية .. هو سؤال نستطيع أن نتجاوزه بما أن المهندسة نجاة يهودية وليست ملحدة ،والسؤال المتجاوز هو : هل يوجد خالق أم لا؟
بما أن المهندسة تنتمي إلى دين سماوي ... فإن جوهر القضية .. كما هي عقيدتي يتمثل في أن (الدين) واحد لأن الرب – سبحانه وتعالى – واحد ... وكل الأنبياء إخوة ... يحملون نفس الرسالة .. وتخطي هذه الحقيقة نحو مقارنة سلوك أتباع الدينات قد يحرف القضية عن مسارها الصحيح.
ومن قدر الله – سبحانه وتعالى – أنني كتبت بعض هذه الأسطر .. ثم أخذت استراحة .. فقرأت سورة (مريم) – مجرد وجود سورة في القرآن باسم امرأة قضية في حد ذاتها تستحق التوقف عندها – فوجدت سلسلة من الأنبياء .. وهم حسب تسلسل ذكرهم في السورة :
(زكريا / يحيى / عيسى / إبراهيم / إسحاق / يعقوب / موسى / هارون / إسماعيل / إدريس) عليهم وعلى نبينا محمد السلام. بعد تزكية الأنبياء المذكورين جاءت آية تقول :
(فخلف من بعدهم خلف أضاع الصلاة واتبعوا الشهوات) سورة مريم آية (59).
يبدو لي وكأن المهندسة ركزت في نظرتها للإسلام .. على سلوك بعض أتابعه .. لا على أصل الإسلام ...
وهنا أستطيع أن أقدم ثلاث لمحات .. للفرق بين الإسلام والمسلمين :
اللمحة الأولى : يقول نبينا محمد – عليه وعلى موسى السلام - .. فيما معناه (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه) ... وقارني بسلوك المسلمين !!
اللمحة الثانية : يقول نبينا محمد – عليه وعلى موسى السلام - .. فيما معناه : لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر .. ثم شرح الكبر بأنه (بطر الحق وغمط الناس) أي احتقارهم .. وقارني بين النص وبين احتقار بعض المسلمين لبعضهم .. إلا من رحم الله.
اللمحة الأخيرة : تقول الأخت المهندسة أن كثيرين – من المسلمين طبعا – لعنوها .. هذا في حد ذاته يقدم دليلا على انفصام المسلم عن دينه تطبيقا .. في الحديث – ما معناه - أن بعض اليهود دخلوا على النبي – عليه وعلى موسى السلام – فقالوا (السامُ عليكم) – والسام هو الموت – فغضبت أمنا عائشة – رضي الله عنها – ولعنتهم .. نهاها النبي – عليه وعلى موسى السلام – عن ذلك فقالت :
أما سمعت ما قالوا؟
قال :
أما سمعتِ ما قلت لهم؟
قلت : وعليكم.
وفي القرآن نقرأ أن سيدنا موسى وسيدنا هارون – عليهما وعلى نبينا السلام – أُمرا بأن يقولا للرجل الذي قال (أنا ربكم الأعلى) .. فرعون ( فقولا له قولا لينا ..) فأين هذا من لعن امرأة تنتمي إلى دين سماوي؟!!
بهذه اللمحة انتهى القسم الأول من هذا الحوار.
برزخ بين قسمين
قبل القسم الثاني .. لديّ عتب على أختنا المهندسة .. فقد جعلت مسلمي هذا الزمان (أنموذجا) قد يدفعها إلى الإسلام .. وقد يدفعها بعيدا عنه .. وعتبي أنها تجاهلت مسلمين آخرين .. في الأندلس تحديدا حيث عاش اليهود مع المسلمين في مشهد للتعايش غير مسبوق .. واضطهدوا معا عند سقوط دولة الإسلام هناك ..
ويذكر لنا صاحب قصة الحضارة نبذة عن أثر الحضارة العربية على اليهود .. ( وترجم موسى بن طبون كتاب العناصر لإقليدس من اللغة العربية أيضا، وترجم كتاب القانون الصغير لابن سينا، وكتاب الترياق للرازي (..) وشروح ابن رشد القصيرة لأرسطو . وتزعم يعقوب بن طبون (..) ترجم عددا من الرسائل العربية إلى اللغة العبرية (..) وقد ولد يعقوب هذا في مرسيلية حوالي عام 1194 ودعاه فريدريك الثاني تدريس اللغة العربية في جامعة نابلي، وفيها ترجم إلى اللغة العربية شروح ابن رشد الكبرى . وكان لهذه الشروح أبلغ الأثر في الفلسفة اليهودية . (..) وترجمت إلى اللغة اللاتينية كثير من التراجم العبرية للكتب العربية من ذلك أن كتاب التيسير لابن زهر ترجم إلى اللغة اللاتينية في بدوا ( 1280 ) وتمثل لنا ترجمة كتاب كليلة ودمنة لبيدبا الطريق الملتوية التي كانت تسير فيها الهجرة الثقافية : فقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية من ترجمة أسبانية لترجمة لاتينية لترجمة عبرية لترجمة عربية لترجمة فهلوية لترجمة للنسخة السنسكريتية المزعومة){ص 16جـ6 مجلد 4 (قصة الحضاةر) / ول ديورانت / ترجمة : محمد بدران ) }
القسم الثاني ..
ما إن انتهيت من قراءة مقالة أختنا المهندسة .. وتقريعها للمسلمين الذين يقتل بعضهم بعضا .. والبعيدين عن سلوك نبيهم – عليه وعلى موسى السلام – حتى تذكرت يهوديا – أو من كان يهوديا – آخر ... هو ليوبولد فايس .. أو أخونا محمد أسد فيما بعد ... والذي ذكرني به هو أنه أعمل سوط اللوم في المسلمين البعيدين عن أصول دينهم .. ولأنه كان أول من خطر في بالي فقد اخترت لهذا الحوار .. اسم (رسالة مفتوحة إلى فاطمة أسد ) أو هكذا وجدت الاسم يجري على قلمي .. وهذا القسم الثاني من الحوار .. سوف أتركه لأخينا محمد أسد ... ومقتطفات من كتابه .. ( الطريق إلى الإسلام) - نقله إلى العربية : عفيف البعلبكي / بيروت / دار العلم للملايين / الطبعة الخامسة 1977م،في 407 صفحات،( عنوان الكتاب – كما جاء في الغلاف الداخلي - بالإنجليزية The Road to Mecca ).
يرى (أسد) أن (... نمو الإنسان الروحي،في نظر الإسلام مرتبط ارتباطا لا انفصام له بجميع نواحي طبيعته الأخرى. إن الدوافع الجسمانية جزء متمم لطبيعته فهي ليست نتيجة أي (خطيئة أولى ) – ذلك المفهوم الغريب عن تعاليم الإسلام – بل قوى إيجابية،وهبها الله للإنسان فيجب أن يتقبلها وأن يفيد منها بحكمة على أنها كذلك. ومن هنا فإن مشكلة الإنسان ليست في كيف يكبت مطاليب{هكذا } جسده،بل كيف يوفق بينها وبين مطاليب{هكذا} روحه بطريقة تجعل الحياة مترعة وصالحة.){ص 185 }. ثم يقرع أحد المسلمين :
(كيف حدث أنكم أيها المسلمون قد فقدتم ثقتكم بأنفسكم،تلك الثقة بالنفس التي مكنتكم في الماضي من نشر دينكم،في اقل من مئة عام،من جزيرة العرب حتى الأطلسي غربا والى أعماق الصين شرقا – وإنكم اليوم تسلمون أنفسكم بمثل هذه السهولة ومثل هذا الضعف إلى أفكار الغرب وعاداته؟ لماذا لا تستطيعون،وانتم الذين أنار أجدادكم العالم،بالعلم والفن في وقت كانت أوربا فيه غارقة في البربرية والجهل،أن تستجمعوا شجاعتكم للعودة إلى دينكم التقدمي المنير،كيف حدث أن أتاتورك،ذلك الذي ينكر على الإسلام قيمه،قد أصبح في نظركم انتم المسلمين رمز "الانبعاث الإسلامي؟"(..) قل لي – كيف حدث أن دين نبيكم،وكل ما فيه من البساطة والوضوح،قد دفن تحت أنقاض من تأملات متحذلقيكم ومماحكاتهم العقيمة؟كيف حدث أن أمراءكم وكبار إقطاعييكم يمرحون في الرخاء والنعيم،بينما يعيش الكثيرون من إخوانهم المسلمين في فقر وقذارة يفوقان الوصف – مع أن نبيكم قد لقنكم انه"لا يؤمن أحدكم إذا بات شبعان وجاره جائع"؟هل تستطيع أن تقول لي لم دفعتم النساء إلى مؤخرة حياتكم – مع أن النساء من حول النبي وصحابته اشتركن ذلك الاشتراك الرائع الأخاذ في حياة رجالهن؟ كيف حدث أن كثيرا جدا منكم،أيها المسلمون،جهلة وان قليلا جدا منكم يعرفون مجرد القراءة والكتابة..(..) همس :
-"ولكن .. أنت مسلم.." فضحكت وأجبت :
-" كلا.إنني لست بمسلم،ولكني رأيت في الإسلام قدرا كبيرا من الجمال بحيث أنني أستشيط غضبا أحيانا لرؤيتكم تضيعونه.(..) فهز مضيفي رأسه وقال : " كلا .. إن الأمر هو كما قلت. أنت مسلم،ولكنك لا تعرف ذلك .. لماذا لا تقول الآن : "لا إله إلا الله،محمد رسول الله"فتصبح مسلما معنا(..)قلها الآن،اذهب معك غدا إلى كابل وآخذك إلى الأمير(..) سوف يهبك البيوت والحدائق والمواشي (..) – "إني إذا قلتها يوما،فسأقولها لأني مطمئن إليها،لا من اجل بيوت الأمير وحدائقه". ){ص 313 – 315}.
ويواصل لومه ..(ولكن ما همني أكثر من فشل مسلمي اليوم في تطبيق نظام الإسلام إنما كانت إمكانيات ذلك النظام نفسه – لقد كفاني أن اعلم انه لفترة قصيرة،في أوائل التاريخ الإسلامي،بذلت فعلا محاولة ناجحة لتطبيق ذلك النظام،وان ما بدا ممكنا في يوم ما يمكن أن يصبح ممكنا لا حقا في وقت آخر. (..) إذا كان ذلك المثل الأعلى نفسه ما زال متاحا لكل راغب في الاستماع إلى رسالته؟ وقد نكون، نحن المحدثين،هكذا فكرت في نفسي،بحاجة يائسة إلى تلك الرسالة بأكثر مما احتاج إليها الناس في أيام محمد. إنهم كانوا يعيشون في بيئة ابسط كثيرا من بيئتنا نحن،وكانت مشاكلهم ومصاعبهم أسهل حلا وأيسر إلى حد كبير.لقد كان العالم الذي كنت أعيش أنا فيه – كل ذلك العالم – يترنح بسبب من فقدان أي اتفاق على ما هو خير وما هو شر روحيا،وبالتالي اجتماعيا واقتصاديا.){ص 322 – 323 }.
وأخيرا يصل إلى الإسلام .. (في ذات يوم من أيام شهر أيلول من سنة 1926 كنت راكبا مع زوجتي في قطار برلين تحت الأرض،فوقعت عيني اتفاقا على رجل أنيق الملبس جالس قبالتي. كان،على ما بدا لي،تاجرا تبدو عليه آثار النعمة والثراء،على ركبتيه حقيبة صغيرة جميلة وفي أصبعه خاتم ماسي كبير.وأخذت أفكر بتكاسل كيف أن مظهر هذا الرجل الحسن كان يعكس الرخاء الذي كان المرء يقع عليه في كل مكان في أوربا الوسطى في تلك الأيام (..) إن معظم الناس كانوا يلبسون جيدا ويأكلون جيدا،ومن هنا لم يكن الرجل قبالتي خلاف غيره من الناس.إلا أنني عندما نظرت إلى وجهه خيل إلي أنني لم أكن انظر إلى وجه سعيد،فقد بدا لي قلقا : لا قلقا فحسب،بل شقي بصورة حادة،ترسل عيناه نظرات فارغة إلى الأمام،وزاويتا شفتيه متقلصتان ألما – ألما غير جسماني.وإذ لم أرد أن أكون وقحا،فقد أشحت بوجهي فرأيت إلى جانبه سيدة على شيء من الظرف.لقد كان وجهها هي أيضا يعبر تعبيرا غريبا عن عدم سعادتها،كأنما كانت تعاني أو تفكر في شيء يسبب لها الألم.ومع ذلك فقد كان ثغرها يفتر عما يشبه ابتسامة جامدة لم اشك في أنها لا بد أن تكون عادية لديها.وعندئذ أخذت أجيل بصري في جميع الوجوه الأخرى – وجوه أناس كانوا جميعهم دون استثناء يرتدون الملابس الحسنة ويقتاتون بالغذاء الجيد – وفي كل وجه منها استطعت أن أميز تعبيرا عن الألم الخبيء،إلى درجة أن صاحبه بدا وكأنه لا يشعر به. (..) كانت الانطباعة قوية إلى درجة جعلتني اذكرها لزوجتي،فأخذت هي أيضا تنظر حولها بعيني رسام حريص اعتاد دراسة القسمات البشرية.ثم استدارت إليّ دهشة وقالت : أنت على حق .. إنهم جميعا يبدون وكأنهم يعانون آلام الجحيم .. وإنني لأتساءل هل يعرفون هم أنفسهم ماذا يعتمل في نفوسهم؟ "
لقد عرفت أنهم لم يكونوا يعلمون .. وإلا لما كان باستطاعتهم أن يستمروا في إضاعة حياتهم وتبديدها كما كانوا يفعلون،دون أيما إيمان بالحقائق الرابطة،دون أيما هدف ابعد من الرغبة في رفع "مستوى معيشتهم"،دون أيما أمل غير حيازة المزيد من الملذات المادية والمزيد من الممتلكات،ولربما المزيد من القوة ..
واتفق عندما عدنا إلى البيت،أن ألقيت نظرة على مكتبي،وكان عليه نسخة مفتوحة من القرآن كنت أقرا فيها من قبل. وبصورة آلية،رفعت الكتاب لأضعه جانبا. ولكن ما إن هممت بإغلاقه حتى وقعت عيني على الصفحة المفتوحة أمامي وقرأت : (( َلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ{1} حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ{2} كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ{3} ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ{4} كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ{5} لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ{6} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ{7} ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ{8})) واعتراني الصمت لحظة،واني لاعتقد أن الكتاب كان يهتز في يدي. ثم قلت لزوجتي : "اصغي إلى هذا. أليس هو جوابا عما رأيناه في القطار؟" اجل لقد كان. كان جوابا قاطعا إلى درجة أن كل شك زال فجأة. لقد عرفت الآن،وبصورة لا تقبل الجدل،أن الكتاب الذي كنت ممسكا به في يدي كان كتابا موحى به من عند الله . فبالرغم من أنه وضع بين يدي الإنسان منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا فانه توقع{بما أن الحديث عن الخالق،سبحانه وتعالى،فالأصح أن يُقال "أخبر بوضوح"} بوضوح شيئا لم يكن بالمكان أن يصبح حقيقة إلا في عصرنا هذا المعقد الآلي.
لقد عرفت الناس التكاثر في جميع العصور والأزمنة : ولكن هذا التكاثر لم ينته قط من قبل إلى أن يكون مجرد اشتياق إلى امتلاك الأشياء،والى أن يصبح ملهاة حجبت رؤية أيما شيء آخر : حنين لا يقاوم إلى التملك،والعمل،والاستنباط أكثر فأكثر. اليوم أكثر من أمس،وغدا أكثر من اليوم : عفريت راكب على أعناق الناس يسوق قلوبهم بسوط إلى الأمام نحو أهداف تتلألأ عن بعد ولكنها تنحل إلى لاشيئية زرية خسيسة حالما تصبح في متناول اليد : وذلك الجوع،ذلك الجوع النهم إلى أهداف جديدة لا تنتهي ينمو في قلب الإنسان : "كلا، لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم .."
لقد عرفت أن هذا لم يكن مجرد حكمة إنسانية من إنسان عاش في الماضي البعيد في جزيرة العرب النائية،فمهما كان مثل هذا الإنسان على مثل هذا القدر من الحكمة فانه لم يكن يستطيع وحده أن يتنبأ بالعذاب الذي يتميز به هذا القرن العشرون : لقد كان ينطق لي،من القرآن،صوت أعظم من صوت محمد ..(..) سعيت إلى صديق مسلم لي،{ صديق لي مسلم هندي } هندي كان في ذلك الحين رئيسا للجالية الإسلامية الصغيرة في برلين،وأعلمته برغبتي في اعتناق الإسلام،مد يده اليمنى نحوي ووضع يدي اليمنى فيها.
وبحضور شاهدين قلت : اشهد أن لا إله إلا الله،وان محمدا رسول الله.){ص 326 – 329 }.
لم يبق لي إلا أن أعتذر عن الإطالة ... وأختم بهذا الدعاء :
اللهم أرنا الحق حقا .. وارزقنا اتباعه .. وأرنا الباطل باطلا .. وارزقنا اجتنابه ..
وصلّ الله على سيدنا محمد وعلى جميع رسل الله .
تلويحة الوداع :
مما يثير الدهشة .. ما رواه البخاري عن جابر بن عبدالله. أن جنازة مرت على النبي (صلى الله عليه وسلم وعلى سيدنا موسى) قام لها واقفا.
فقيل له يا رسول الله انها جنازة يهودي. فقال (صلى الله عليه وسلم وعلى سيدنا موسى): (أليست نفسا)؟ (أخرجه البخاري في كتاب الجنائز)
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي
– المدينة المنورة في 4/9/1434هـ = 13/7/2013م.
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..