السبت، 13 يونيو 2015

ارتقاء الكائن الإنساني

 يشكِّل الماضي ذاكرة هائلة تحفظ تاريخًا طويلاً من التجارب الإنسانية والكونية. إنه يمثل بنية كلِّية تنطوي فيها الحصيلة النفسية والمعرفية لتجربة الإنسان في الكون، بل ولتجربة الحياة في الكون. وهذا الماضي هو الذي يربطنا إلى الوجود، بما هو حقيقة انتمائنا، في كلِّ لحظة، إلى صيرورة الحياة المتطورة والمتجلِّية فينا. إن تجربة الإنسان عبر العصور هي حقيقة راسخة لا نستطيع التنصل منها، لأنها باقية في ذاكرتنا الجمعية وفي ذاكرة الكون الكبرى. وإن كنَّا لا نعرف بعدُ طبيعة هذه الذاكرة الكلِّية – هذه الخبرة الكونية المكتنَزة – فإننا نستيقن من وجودها، لأنها، في الجوهر، القانون الطبيعي في حركته الديناميَّة عبر لانهايتين: كبرى وصغرى. ومن هنا فإن سيرورة التجربة الكونية تعتمد على وجودنا مادمنا موجودين.
لكن الخبرة الإنسانية باقية ومستمرة في الكون – بقينا أم فنينا. فإذا لم نبالِ بمصيرنا، واستهترنا بقيمة وجودنا، ورذلنا معاني خبرتنا وتجاربنا عبر العصور، فإن الخبرة الكونية ليست مهمِلة لخبراتنا، والتجربة الكونية ليست مستهترة بتجاربنا. فهذه الخبرة الكونية هي حكمة الكون، ووعيه المستتر، والقانون النابض في كلِّ ذرة وكلِّ رعشة حياة. وهذه الخبرة هي المعرفة الحق التي على الإنسان أن يتحمل مسؤوليته بالمشاركة فيها.
إننا لا نهتم اليوم، في زحمة انهماكنا في حياة استهلاكية منهِكة، إلى أننا بتنا نقف عند منعطف حاسم في سياق تطورنا. لا بل إن فكرة تطورنا نفسها لا تشغلنا إلا كمسألة وقتية ومعلوماتية؛ ويغيب عنَّا تمامًا أن هذه المسألة تمسُّنا مباشرة، في صميمنا، لأننا نتطور في الحقيقة من لحظة إلى لحظة، ونتحول باستمرار نحو إمكانات متنامية، فسيولوجيًّا ونفسيًّا وعقليًّا وروحيًّا. فإن كان الإنسان، حتى عهد قريب، غير مدرك لمعنى وجوده على الأرض، وغير عارف لتاريخه عليها، فقد بات يعرف اليوم، أكثر من أيِّ وقت مضى، أهمية دوره في سيرورة تطور الحياة، على الرغم من تجاهله له – الأمر الذي يضعه أمام مسؤوليته وجهًا لوجه. فلا مناص له من تحمل هذه المسؤولية، وإلا كان غير جدير بالدور الذي أوكِل إليه.
وبقدر ما تمثل هذه المرحلة من تاريخ الإنسان والحياة منعطفًا حاسمًا في تبلور إمكان التوافق بين الاختيار الحرِّ والواعي والتناغم مع الطبيعة والكون. فإنها محمَّلة بنتائج ستشكل قطعًا زخمًا هائلاً في ذاكرة الكون، مما سيحرض بالتأكيد تطورًا للحياة موازيًا لهذه النتائج.
ضمن هذا المنظور نستطيع أن نرى إلى الماضي كخلفية ديناميَّة للحاضر (سبق وأشرنا إليها)، تعمِّم المعارف والمشاعر البشرية، وتحقِّق الاستعداد النفسي والعقلي عند الجماعات والأفراد، لتقبُّل مقدرات جديدة، أو حتى لتفتُّح كينونات جديدة. من هنا فإن مسؤولية الإنسان مضاعفة: فهو مسؤول تجاه الطبيعة وقانونها، كما هو مسؤول أمام نفسه، من حيث وعيه لخياره الحر. فإما أن يكون مؤخِّرًا لسيرورة التطور ومعيقًا لتفتح الوعي الكوني، وإما يكون مهيِّئًا لظهور الإنسان الجديد المزمع أن يأتي!
***
سمحت الدراسات التي تمت إبان العقود الثلاثة الأخيرة، كما والاكتشافات التي جرت في أفريقيا (جنوب أفريقيا، إثيوبيا، كينيا، تنزانيا، المغرب...) وآسيا (الصين، فلسطين، سوريا، تركيا...) وأوروبا (فرنسا واليونان) بوضع مخطط واضح نسبيًّا لتاريخ ظهور الإنسانيات القديمة على الأرض وتطورها وانتشارها. وينتسب الإنسان إلى الثدييات المصنفة في رتبة الرئيسات التي ظهرت منذ نحو 70 مليون سنة. وقد تمايز فرع البشريات، كما يبدو، منذ نحو 15 إلى 5 ملايين سنة. إلا أن بعض الاكتشافات الحديثة جدًّا، التي لا يزال الجدال قائمًا حول تفسيرها، تُرجِع هذا التمايز إلى نحو 30 مليون سنة. والحق أن الأصول البعيدة لتمايز البشريات الأولى لا تزال غامضة، والاكتشافات الحديثة في البيولوجيا الجزيئية والباليونتولوجيا لا تتفق تمامًا بعدُ حول هذه النقطة.
وتدرس البيولوجيا الجزيئية والكروموسومية المركبات الكيميائية الحيوية (وبخاصة بنى البروتينات) لخلايا الحيوانات الحالية، وتقارن الكروموسومات فيما بينها. وتسمح الاختلافات أو التشابهات بتحديد القرابات، مما يساعد عمل الباليونتولوجي إلى حدٍّ كبير. وتُثبِت الأبحاث وجود تطور حيوي كيميائي وتطور على مستوى الكروموسومات بشكل خاص. والبروتينات هي تجمعات في سلاسل في نظام محدَّد لجزيئات أساسية هي الحموض الأمينية. وضمن المجموعة نفسها من الحيوانات، تظل هذه السلاسل ثابتة ثباتًا كبيرًا، لكنها تختلف بين أنواع الحيوانات. وقد تبين أن الإنسان وقرد الشمبنزي قريبان جدًّا أحدهما من الآخر مورِّثيًّا، إذ إن لهما 99% من المورثات المشتركة. وقد حاول أحد العلماء طرح توقيت جزيئي يُرجِع الانفصال بين الإنسانيات والشمبنزي إلى نحو 5 ملايين سنة. لكن المناهج التي اعتُمِدَتْ في ذلك غير كاملة، ولا تسمح إلا بتحديد شكل من أشكال التشابه ليس إلا. أما القرابة الحقيقية أو القِدَم فهما أمران منوطان بالباليونتولوجيا حصرًا. ومن جهة أخرى، فإن نسبة 1% فقط من المورثات المختلفة لا يُعقَل أن تكون سببًا لما نلحظه من فارق شاسع بين إمكانات القرد والإنسان. ويؤكد الباليونتولوجيون أن تحقُّق هذه النسبة المتقاربة في تفرعات شجرة واحدة يُعَدُّ مقبولاً، وإن كان يصعب تفسيره إحصائيًّا من وجهة نظر البيولوجيا الجزيئية.
يطرح ذلك، من جهة أخرى، مسألة إعادة النظر بمفهوم "الطفرة" mutation التي لا يمكن لها، ضمن المعطيات الحالية، أن تعلِّل ظهور الإنسان ابتداءً من القردة. أفلا يُثبِت ذلك أن للتطور منحى داخليًّا موازيًا للمنحى الخارجي؟
إن الحديث عن "منحى داخلي" يتطلب منا تحديده تحديدًا واضحًا. لكن مَن منَّا يستطيع تحديد ما هو غير محدَّد؟ إن قياس الجانب الجَوَّاني لمسألة التطور الشكلي يفترض إخضاع الأبعاد اللانهائية للأبعاد المنتهية. ولعلنا نستطيع التنصل من الوقوع في مطبِّ التحديدية بأن نتمثل البنية النفسية للإنسان كانعكاس لبنية نفسية للكون. بل لعلنا، أكثر من ذلك، نجد في الكون نفسه انعكاسًا لأنماط بدئية Archetypes كامنة في لاوعي كوني Cosmic Unconscious. ومن هنا يمكن لنا أن نعد هذه النماذج الأصلية – "الأعيان الثابتة"، بمصطلح ابن عربي – هي البعد الحقيقي الجَوَّاني لكلِّ تشكُّل طبيعي! فالأنواع الطبيعية هي "أعيان ثابتة" كامنة في لاوعي كوني؛ وإفصاح هذا اللاوعي عن نفسه يتوافق مع سيرورة التطور في حدَّيها النازل (من النموذج البدئي إلى الشكل) والصاعد (من الشكل باتجاه النموذج الأصلي).
الأصول البعيدة
يرجع ظهور الإنسان على الأرض إلى فترة غامضة تثير جدلاً كبيرًا بين العلماء، وترجع إلى ما بين 20 و8 ملايين سنة. ولعلنا لا نجد في الأنواع المعروفة التي ترجع إلى هذا الماضي السحيق سلفًا حقيقيًّا للإنسان. ومع ذلك، لا بدَّ لنا من الاعتراف بأن هذه الفترة تشكل البوتقة التي انطلقت منها شرارة أول كائن بشري، ألا وهو الأوسترالوبِثِكوس Australopithicus (قرد الجنوب). أما الأنواع التي ترجع إلى هذه الفترة فهي: الدرِيوبِثِكوس Dryopithicus (قرد شجر البلوط) والأورانوبِثِكوس Ouranopithicus (قرد السماء) الشيفابِثِكوس Sivapithicus (قرد الإله شيفا) والرامابِثِكوس Ramapithicus (قرد الإله راما). ويقر العلماء اليوم بوجود حلقة ضائعة بين هذه العائلة وبين البشريات الأولى، حيث بات من الثابت تطورها نحو أشكال مختلفة من القردة.
ويمكننا القول إن العلماء لم ينقِّبوا عن هذه الحلقة في الموقع الصحيح. فمفهوم التطور ليس مجرد استمرارية لحلقات من التغيرات الشكلية. وعلينا في الحقيقة أن نبحث عن الأسباب الجوهرية التي تؤدي إلى ظهور خصائص جديدة وإمكانات جديدة وأنواع جديدة. ولا شك أن العوامل المادية لمثل هذا التحول هي عوامل لانهائية، تتعلق بالبيئة بأبعادها كلِّها. لكن من المؤكد أيضًا وجود عوامل أخرى تتعلق بالاستعداد الذاتي لدى الإنسان الأول – النموذج البدئي (آدم) – على الظهور والانطلاق في العالم الطبيعي إلى عالم أوسع من العالم المادي.
لقد حققت أشكال الحياة كافة هذه الانطلاقة ابتداء من "خمائر بدئية"، كما يعبِّر تلار دُه شاردان. لكننا نعرف أن إمكانات هذه الانطلاقة كانت محدودة عند الحيوان بأشكال شتى. والحق أن هذه المحدودية تتبدَّى، من جانب آخر، كأقصى ما يمكن للنوع إنجازه في ظرفه وبيئته. وضمن هذا الإطار، يمكن لنا ليس فهم ظهور البشريات الأولى وحسب، بل وتتالي ظهور أنواع الإنسانيات بمقدرات أكثر فأكثر تفتحًا.
إن ظهور أولى الإمكانات النفسية–العقلية المتطورة عند البشريات الأولى كان السبب الحقيقي لتفردها وتمايزها. ولست أريد بذلك أبدًا أن هذه الطاقة المتفتحة كانت السبب المباشر في ولادة الكائن الإنساني، لكنني لا أستطيع القبول أيضًا بأن الشكل الفسيولوجي والتطور المعلوماتي المورِّثي، وحتى الطفرة المورِّثية، هي أسباب ظهور هذا الكائن، بمقدراته النفسية والعقلية. بل يجدر بنا فهم التطور كسياق كلِّي للباطن وللظاهر على حدٍّ سواء، للمعنى والشكل، للروح والمادة. فإذا كانت الطبيعة قد طورت الخلية إلى كائنات معقدة تتميز بالمهارات المتناغمة مع الطبيعة، فهذا يعني أنها كانت قد وصلت إلى مرحلة حاسمة مكَّنتْها من إبراز قدرات معنوية كامنة من خلال قدرات شكلية ظاهرة. بعبارة أخرى، يمكننا القول إن التطور الطبيعي بلغ حدًّا يمكِّنه من استيعاب تفتح نماذج كونية جديدة كانت لا تزال هاجعة في اللاوعي الكوني.
لا بدَّ لي من الإقرار هنا بوجود عوالم في الطبيعة توازي العالم المادي وتتغلغل فيه – وهي العوالم التي يمكن لنا تسميتها بعوالم النفس والعقل. وإن كنت لست في معرض البرهان على وجود عالم عقلي أو نفسي تنسجه عقول أو نفوس شتى، لكني أتساءل: كيف يتسنَّى لنا فهمُ ظهور الطاقة النفسية والعقلية في الإنسان دون أن يكون ثمة في الأصل منجم خام لمواد، أو بالأصح، لقوى هذه الطاقات؟ إن التطور الإنساني، من هذا المنظور، يُعَدُّ تعبيرًا ذا حدَّين عن تفتُّح النماذج الثابتة الأصيلة في الكون. ففي الإنسان تجسدت القدرة على طرح إشكالية المعرفة والشعور. وفيه أيضًا تبلور مفهوم الحرية والتمييز. كذا نستطيع التأكيد على أن ظهور الإنسانيات الأولى كان نتيجة تناغم كوني، أفصح فيه الكون عن تجربته الكبرى – المغامرة الأزلية – بتجسُّد فريد.
الأوسترالوبِثِكوس Australopithicus
يمثل الأوسترالوبِثِكوس أولى الإنسانيات، بإجماع العلماء كافة. ومع أن هذا البشري الأول لم يكن قد اتصف بعدُ بميزات إنسانية واضحة، لكنه لم يكن قردًا بالتأكيد. ويمكننا القول إنه كان أول كائن تتفتح فيه إمكانات فسيولوجية ونفسية واعدة. وقد انتشر الأوسترالوبِثِكوس (قرد الجنوب) في شرق أفريقيا (إثيوبيا، كينيا، تنزانيا) وجنوبها بين نحو 6.5 و1 م ع. وقد تبين أن هناك عدة أنواع منه، خاصة بعد اكتشافات موقع آفار Afar الثورية في إثيوبيا إبان السبعينات والثمانينات، في سويات ترجع إلى 3 م ع وأكثر. ونميز حاليًّا أربعة أنواع كبرى منه: أفرِنسيس Afarensis وأفريكانوس Africanus وروبوستوس Robustus وبوييسي Boiesi.
ترجع متحجرات أوسترالوبِثِكوس أفرِنسيس، الذي اكتُشف في العام 1976، إلى ما بين 3.2 و3.8 م ع (لايتولي Laetoli في تنزانيا وحضر Hadar في إثيوبيا). وأهم متحجِّراته المكتشفة وأشهرها هي لوسي Lucy؛ وهي متحجرة شبه كاملة. ويتراوح طول هذا النوع بين 1 و1.10 م؛ وهو منتصب، مثل أنواع الأوسترالوبِثِكوس الأخرى كافة، ويلاحَظ أن إبهام القدم موازية لبقية الأصابع عنده. وتتميز أنواع الأوسترالوبِثِكوس بسعة دماغية تقارب الـ500 سم3 وسطيًّا. وهذه السعة أضعف عند أفريكانوس، الذي عُرِفَ منذ نحو 3 م ع في جنوب أفريقيا وشرقها (إذ تصل إلى نحو 440 سم3)، في حين أن طوله يصل إلى 120 سم تقريبًا، بينما يتراوح وزنه بين 20 و30 كلغ. أما روبوستوس وبوييسي، فمتوسط سعة دماغ كلِّ منهما 500 سم3؛ وكانا نباتيين أكثر من أفريكانوس. وفي كلِّ الأحوال، تدلنا هذه الأنواع الأربعة على تلمُّسات طبيعية واضحة باتجاه التأنسُن hominization، وإن كان العلماء غير قادرين حتى الآن على وضع خارطة واضحة لارتباط أفراد هذه العائلة بعضهم ببعض.
وقد وصلنا عدد قليل من أدوات الأوسترالوبِثِكوس؛ وهي من الحصى المشغولة ونصال الكوارتز، إضافة إلى أدوات عظمية وسنية وقرنية. أما معطيات البيئة الحيوانية والنباتية في ذلك الوقت فقد كشفت عن تغير من وسط أكثر رطوبة إلى وسط أقل رطوبة بين 4 و2 م ع. ومن الثابت تقريبًا أن البيئة كانت مؤلَّفة، منذ نحو 4 م ع، من غابات وسهوب كثيفة من السافانا. ومنذ نحو 2.5 م ع، حصل جفاف فجائي. وفي ذلك الوقت بالذات ظهر "الإنسان الماهر" Homo habilis على المسرح.
النوع الإنساني: Homo
يعترف معظم علماء الأنثروبولوجيا القديمة بنوع الهومو هابِلِس Homo habilis (الإنسان الماهر) الذي يثير جدلاً كبيرًا مع ذلك حول ظهوره وعمره. ونجده في كينيا وإثيوبيا وتنزانيا؛ كما اكتُشِفَ في أفريقيا الجنوبية في العام 1976. ويرجع عمره تقريبًا إلى 2 م ع؛ لكن من الممكن أنه كان موجودًا في أفريقيا الشرقية منذ نحو 4 م ع (كينيا) ومنذ نحو 3 م ع في إثيوبيا. وتتراوح سعة جمجمته بين 500 و800 سم3. وقد تطورت معه الصناعة الحجرية، وتُنسَب إليه أولى المعسكرات البدائية والأدوات الصوانية التي اكتُشِفت في أولدفاي Oldwai. ومن المرجَّح ظهور بدايات التنظيم الاجتماعي لديه، مما وفَّر له إمكان الشعور بالاستقرار النسبي.
ولا شك أن هذا المناخ الحميم والأكثر استقرارًا قاد إلى ظهور الهومو إركتوس (الإنسان المنتصب Homo erectus). وقد اكتُشِفَ أولاً في جاوة البِثِكانثروبوس (الإنسان القرد Pithecanthropus) في نهاية القرن الماضي، ثم في الصين (إنسان الصين Sinanthropus) بين العامين 1921 و1937. لكن التنقيبات التالية كشفت عنه في أفريقيا الشمالية Atlanthropus، ثم في تنزانيا وتشاد وكينيا وإثيوبيا، ومن بعدُ في أوروبا. ومن الثابت أن هذا الإنسان انتشر في العالم القديم كلِّه. وترجع آثار هذا الإنسان في الصين إلى 1.7 م ع، بينما يُقترَح عمر 1.6 م ع للبقايا المتحجرة التي وُجِدَتْ شرق بحيرة توركانا Turkana في كينيا، الأمر الذي يُبقي المجال مفتوحًا حول أصوله، مع إمكان طرح فرضية هامة في ظهوره في أكثر من موقع ظهورًا متزامنًا تقريبًا. وتتراوح سعة جمجمته بين780 و1225 سم3. ونلاحظ أن الجمجمة طويلة وخفيضة، وأن عظام قحفها ثخينة. ونلاحظ أيضًا بدايات ظهور للذقن، في حين أن أسنانه تطابق أسناننا الحالية، إنما بنسبة حجم أكبر قليلاً. ولعل ظهور الذقن يشير إلى نضجه النفسي، حيث تعبِّر الذقن في الوجه الإنساني عن العواطف والمشاعر.
وقد أصبح تنظيم المعسكرات عند الهومو إركتوس واضحًا جدًّا، حيث نجد فيها، مثلاً، أماكن مخصَّصة للحامة وأخرى للنحت الحجري. ويبدو أن الهومو إركتوس عاش في مواقع بيئية متنوعة، من المدارية المغلقة والرطبة في جاوة، إلى القريبة من السهوب المعتدلة في الصين (زوكوديان)، وفي مناخ أكثر جفافًا في المغرب وإثيوبيا. وكان هذا الإنسان أول من استعمل المواقد في معسكراته منذ نحو 800000 سنة. ومع الهومو إركتوس ظهر نمط جديد من التقصيب الحجري يدعى باللوفالوازي levallois؛ وفيه لا يكتفي الناحت بنحت الحجر، بل يفكِّر مسبقًا بالشكل الذي سيعطيه إياه وبطريقة استخدامه. ولعل الجماجم المكسرة عمدًا التي وُجِدَتْ في جاوة والصين وتنزانيا تشير إلى أولى "الطقوس" التي مارسها الإنسان.
وتُعَدُّ كافة هذه المُعامِلات الجديدة التي دخلت في السيرورة التطورية نتاجًا طبيعيًّا لتطور نفسي طويل، عمل اللاوعي الجمعي للإنسانية على تعميمه على مدى مئات آلاف السنين – هذا دون أن نشير إلى أهمية المُعامِلين المورِّثي والبيئي، خاصة أنه ليس لدينا أيُّ دليل مباشر على تحدُّر الهومو إركتوس من سلفه الهومو هابِلِس. ونصادف هذه المسألة عينها عندما نعرِض لظهور الهومو سابيانس الذي يرجَّح أنه تحدَّر عن الهومو إركتوس. فمع كلِّ مرحلة جديدة من مراحل ظهور هذه الإنسانيات نجد فجوة لا نستطيع ردمها فيما يخص انكفاء نوع وانتشار نوع جديد. ومع أن هذه العملية كانت تتطلب عشرات آلاف السنين أو أكثر في العصور القديمة، فإننا نجد أن نوعين من الهومو سابيانس قد تعايشا لفترة زمنية طويلة، دون أن نستطيع تحديد الشكل الانتقالي بينهما. وفي الحقيقة، فإننا لا نستطيع تقديم تفسير نهائي لهذه المراحل الانتقالية الحاسمة دون أن نأخذ بعين الاعتبار، كما يبدو، تدخُّل مُعامِلات جديدة، هي في الأصل تبلورات لنماذج ثابتة أكثر فأكثر تفتحًا ومقدرة على استيعاب الخبرة الإنسانية الأسبق.
الإنسان العاقل Homo sapiens
عُرِفَ الهومو سابيانس بشكلين: هومو سابيانس نياندرتالِنسيس Home sapiens neanderthalensis وهومو سابيانس سابيانس Homo sapiens sapiens. وقد اكتشف علماء الآثار "إنسان نياندرتال" في غرب أوروبا أولاً، حيث عاش بين نحو عامي 80000 و35000 ق م. وقد اقترحت فرضيةٌ قديمةٌ هجرتَه إلى الشرق الأدنى، حيث اكتُشِفَتْ آثارُه في فلسطين (الطابون) والعراق (شانيدار). لكن الاكتشافات الحديثة، وخاصة في فلسطين وسوريا، ترجِّح أن هذا الإنسان ظهر في المنطقة ظهورًا مستقلاً. بل إن التنقيبات الجارية في بعض المواقع في سوريا (وأهمها عفرين) تثبت، على ما يبدو، أنه انتقل، على العكس، من الشرق الأدنى إلى أوروبا. ويمكن أن تصل السعة الدماغية عند إنسان نياندرتال إلى 1700 سم3. وهو أول إنسان يدفن موتاه (لافيرَّاسي La Ferrassie في فرنسا، وشانيدار في العراق). وقد عاش هذا الإنسان في مناخ بارد، حيث اجتاح الجليد جزءًا كبيرًا من أوروبا في عصره. وتميزتْ بيئته الحيوانية بحيوانات قادرة على احتمال البرد، مثل الدب والرنة والماعز البري وظبي الجبل. وانطفأ هذا الإنسان منذ نحو 35000 سنة لأسباب لا تزال مجهولة. وتثبت الاكتشافات الحديثة أن النياندرتاليين عاصروا خَلَفَهم "الإنسان العاقل"، وأنه أمكن حصول ما يمكن أن ندعوه بالاختلاط بين الطرفين، كما تؤكد ذلك إحدى الجماجم في السخول في فلسطين.
وبشكل معاصر لإنسان نياندرتال تقريبًا ظهر في منطقة الشرق الأدنى نمط حديث من الإنسانيات منذ ما يقارب الـ50000 سنة (الأبحاث الحديثة ترجِّح تاريخًا أبعد لإنسانَي نياندرتال وكرومانيون). ونعرف هذا الإنسان اليوم معرفة كاملة في قفزة والسخول في فلسطين؛ وهو يطابق، في العديد من صفاته، الإنسان الحالي. إنه إنسان كرومانيون Cro-Magnon، هومو سابيانس سابيانس. وتتراوح سعته الدماغية بين 1000 و2000 سم3. ونلاحظ ظهور الذقن ظهورًا كاملاً لديه. ويمكن اليوم اعتبار إنسان السخول وقفزة السلفَيْن المباشرين لإنسان كرومانيون في أوروبا. وتثبت الدراسات الحديثة هجرة الهومو سابيانس سابيانس من الشرق الأدنى إلى أوروبا من خلال عدة دراسات على صعيد الكروموسومات، كما وعلى صعيد التنقيب الأثري. غير أن الانتقال من الهومو إركتوس إلى إنسان النياندرتال، أو إلى الهومو سابيانس سابيانس، لا يزال غير واضح. ومع ذلك فإن منطقة الشرق الأدنى – وآسيا بعامة – مرشحة بامتياز لاحتضان هذا التحول.
كان إنسان كرومانيون، أو الهومو سابيانس سابيانس، أول من اجتاز مضيق بيرنج بين آسيا وأمريكا، ليعبر إلى القارة الجديدة ويعمرها منذ نحو 30000 سنة. وهو سَلَف الإنسان الذي يعمُر الأرض اليوم. وقد تأقلم مع كافة أحوال المناخ، في كافة أصقاع العالم، وتميَّز بتنوعه الفيزيائي والثقافي، كما وبنموِّ مقدراته النفسية والعقلية وتطورها. وهو ينتشر اليوم بأعداد هائلة على سطح الكرة الأرضية؛ وكان أول الإنسانيات التي تعد نفسها متميِّزة عن الطبيعة!
العصور الحجرية
تُقسَم العصور الحجرية – وهي العصور التي اعتَمَدتْ فيها أنواعُ الإنسانيات اعتمادًا رئيسيًّا على الأدوات الحجرية – إلى العصر الحجري القديم (الباليوليثي) والعصر الحجري الأوسط (الميسوليثي) والعصر الحجري الحديث (النيوليثي). ويُقسَم الباليوليثي إلى أدنى وأوسط وأعلى. وإبان مراحل الباليوليثي الطويلة تطورت الصناعة الحجرية من أشكال خشنة إلى أشكال دقيقة وفعالة، وظهرت الصناعات العظمية الغزيرة، حيث صُنِعَتْ من عظام الحيوانات الرماحُ القصيرة والخطافات والإبرة ذات الخرم والمخارز. ومع بداية الباليوليثي الأعلى، تنوعت الثقافات إلى حدٍّ كبير في أنحاء العالم كافة. لكننا لا نستطيع إلا أن نُدهَش أمام توازي هذه الثقافات إبان مراحل معينة، مما يشير إلى تطور أداتي يرافقه تطور تصوري–إدراكي موازٍ لدى الشعوب المختلفة.
أما الميسوليثي فيتميز بالثقافات التي اعتمدت نظامًا اقتصاديًّا يرتكز على الإنتاج، أي ببداية مرحلة التدجين والزراعة. ويرجع ظهور الثقافات الميسوليثية في الشرق الأدنى إلى 10000 سنة ق م. وتبيِّن أحدث البقايا المكتشفة لإنسان هذا العصر توافقًا تطوريًّا كبيرًا باتجاه الإنسان الحالي. وقد استخدم هذا الإنسان أدواتٍ حجرية صغيرة الحجم غالبًا. ومع اعتماده في غذائه على القنص البري والصيد البحري، فقد اهتم اهتمامًا كبيرًا بالتقاط الحلزونات والأصداف. وقد انتشرت ثقافات الميسوليثي بسرعة عبر أنحاء العالم، لتؤكد مجددًا توازي التطور الإنساني، ولتثبت، أكثر فأكثر، فرضية وجود ذاكرة جمعية تغذِّي الجماعات والشعوب بالمعارف المكتسبة في مواقع مختلفة على كوكب الأرض. ولعلنا نلمح هذا التعميم، كأكثر ما يكون وضوحًا، في الإشعاع النيوليثي الذي عمَّ الكرة الأرضية انطلاقًا من بوتقة الشرق الأدنى إبان آلاف قليلة من السنين.
والنيوليثي هو العصر الحجري الحديث، الممتد بين الميسوليثي وعصور المعادن؛ وهو يشير إلى عصر الحجر المصقول. لكن هذا التعريف لم يعد كافيًا لاستيعاب هذه المرحلة. ويُقصد بالتسمية اليوم العصر الذي انتقل فيه الإنسان من الصيد إلى الإنتاج الزراعي والرعوي. وقد ظهرت أولى بوادر هذا التحول في الشرق الأدنى. وأدى تطور تأريخ البقايا العضوية التي ترجع إلى نحو 10000 سنة (الكربون 14، التأريخ بالخشب) إلى تجديد معارفنا حول هذا التحول، إضافة إلى الاكتشافات الهامة التي تمَّت إبان السبعينات والثمانينات، كما في شاتال حويوك (تركيا) وفي المريبط (سوريا).
وقد طُرِحَتْ عدة فرضيات لتفسير سيرورة النَّوْلَثة في الشرق الأدنى. لكنها جميعًا لا تقدم تفسيرًا وافيًا لهذا الانتقال من شكل حياة دام مئات آلاف السنين إلى شكل جديد تمامًا في أثناء فترة قصيرة جدًّا لا تتعدى الألفي سنة. والحق أن الاستعداد النفسي عند الإنسان كان قد بلغ مرحلة من النضج مكَّنته من تحقيق هذه القفزة؛ هذا إضافة إلى تمرُّس الإنسان القديم بالخبرة الطبيعية، أي بقدرته على الملاحظة والتجريب. إن خبرة طويلة مكتنزة في لاوعيه بات بإمكانها في ذلك الحين أن تبرز كمُعامِل داخلي موافق لعدة مُعامِلات خارجية، كالبيئة والنمو الديموغرافي والمهارات اليدوية. ولنا دلالة على ذلك في استمرار حصول هذا التحول في أكثر من مكان ومن قارة بشكل منفصل ومتميز. ويطرح العلماء فرضية وجود أكثر من مركز نَوْلَثَة في الشرق الأدنى، مما يدعم فكرتنا حول الاستعداد النفسي العام كمحرِّض أساسي للتغير الثقافي. ويبيِّن جاك كوفان J. Cauvin أن النَّوْلَثَة هي سيرورة ثقافية، اعتمدتها الشعوب اعتمادًا واعيًا ومتأنيًا، ضمن ظروف تحضُّر واستقرار نلاحظها، للمرة الأولى، عند المجموعات النطوفية التي سادت ثقافتها، إبان الألف التاسع ق م، على مناطق فلسطين والشرق الأدنى عمومًا. ويمكن تفسير إرادة التغيير هذه بتأقلم الإنسان النفسي مع مجتمع أكثر تعقيدًا وعددًا. وضمن هذا المعنى يمكن الحديث عن نضج نفساني جماعي يبدو أنه لم يبلغ هذه الذروة قبل ذلك.
وبعد ظهور القرية ذات المنزل الدائري (الألف التاسع ق م)، نجد القرية ذات البيوت المربعة (الألف الثامن) التي تمثل بدايات المدن، مثل أري (الألف السابع)، ثم شاتال حويوك (الألف السادس). وقد ظهر التدجين في الألف الثامن إثر تقنية في الصيد ربطت بين الإنسان والكلب. وسرعان ما تم تدجين الماعز والخروف والخنزير. وظهرت في الألف الثامن أيضًا أولى حبوب القمح وبعض الحبوب الأخرى التي زُرِعَتْ. وتدعى هذه المرحلة أيضًا بـ"قُبَيْل النيوليثية"، أو "النيوليثية ما قبل الفخارية"؛ إذ إن الفخاريات لم تظهر إلا في الألف السابع ق م. وإبان ثلاثة آلاف سنة تالية شهد الشرق الأدنى ازدهار حضارة رائعة. ومن أهم المدن، في مستواها التقني الرفيع وإشعاع تجارتها وتعقيد ديانتها، بالإضافة إلى شاتال حويوك،  نذكر مدنًا أصبحت شهيرة، مثل جرمو وأري وحسونة وحلف والعبيد. ونجد في هذه المواقع الإبداعات النيوليثية المميِّزة لهذا العصر، مثل النسيج وصقل الصخور والعجلة ومختلف أشكال الأفران، ثم بدايات التعدين فيما بعد.
لقد اكتشف الإنسان النيوليثي الزراعة والتدجين، وبنى البيوت ودفن موتاه وعبد الآلهة، وعرف الآنية الفخارية وآلات الحياكة البدائية والإبرة والصابون والمحراث، وطور فنونًا وطقوسًا ولغات متميزة. ولا شك أن سيرورة النَّوْلَثَة انعكست عليه جسديًّا ونفسيًّا وعقليًّا. فقد اكتمل شكلُه الفسيولوجي الحالي، وأصبح أمرن وأكثر امتشاقًا من أسلافه، كما تأقلم مع حياة اجتماعية غنية جدًّا. وتطورت حاجاته النفسية إلى حدٍّ كبير، وبات تعبيره عن رؤاه الداخلية أكثر صراحة ونضجًا. ولا شك أن الأساطير القديمة ظهرت إبان تلك المرحلة بالذات. ومع نهاية العصر النيوليثي في الشرق الأدنى، نحو العام 3300 ق م، اكتشف الإنسان الكتابة والعد – وتلك كانت بداية التاريخ!
الارتقاء النفسي–العقلي
إذا كان ارتقاء الكائن الإنساني قد مرَّ، عبر مراحله المختلفة، بعدة أنماط تطورية ميزتْ تحصيله لقدرات متزايدة على الفهم والتعبير، فإن هذا الارتقاء بلغ مرحلة حاسمة عندما تعلَّم الإنسان الكتابة والتدوين؛ إذ اتخذت كافة أشكال التعبير بُعدًا جديدًا. فالرقص والغناء والموسيقى والرسم والنحت والشعر والعبادة والأسطورة والطقوس حُمِّلت جميعًا بقدرة تعبيرية إضافية. والحقيقة أن اختراع الكتابة لم يكن مجرد حدث في مسيرة الإنسان التطورية. وإذا جاز لنا القول، فإن الكتابة لم تكن اختراعًا، بل تحقيق لنموذج بدئي أصيل في التعبير، انتقل معه الإنسان من كونه مستبطِنًا للمعنى إلى كونه كاشفًا له. ومع عبوره هذه العتبة، كان الإنسان قد اكتمل كبنيان نفسي.
شكَّل اللقاء المذهل بين حضارات اليونان وفارس والرافدين والشام ومصر في الشرق الأدنى ذروة توهج هذا الاستعداد النفسي الجماعي. والحق أن هذا المثال يُعَدُّ دليلاً، في الوقت نفسه، على نضج نفسانية "أممية". فالقرون القليلة السابقة للميلاد كانت مفعمة بروح ديناميَّة حرضتْ نفسانية الشعوب على الإبداع والتجديد، ليس فقط في الشرق الأدنى، بل في الهند والشرق الأقصى وأوروبا وأفريقيا وأمريكا! ومنذ ذلك الوقت تطورت اللغة فأصبحت أغنى وأمتن. وبذلك فإن الفكر، الذي تمثل بأساطير الشعوب القديمة وفنونها وعلومها، كان تحقيقًا ومدًّا للطاقة النفسية. ولعل هذه المرحلة كانت الأولى من نوعها التي ظهرت فيها ظهورًا جليًّا إمكاناتُ النفس على تجاوز ذاتها إلى تعبير عقلي بالدرجة الأولى.
قد يبدو الرباط الذي شددنا به النفس إلى العقل به مُقحَمًا، لا ضرورة له في سياق التطور الإنساني. لكننا في الحقيقة لا نستطيع إلا أن نُرجِع العقل والنفس إلى بذرة واحدة، إلى طاقة بدئية تمايزت، شيئًا فشيئًا، إلى وجهين لحقيقة واحدة. فالسيرورة النفسية كانت الرحم الذي احتضن العقل حتى ساعة ولادته. ويمكننا أن نلحظ هذا الفكر النفساني منذ الهومو إركتوس على الأقل. فمجرد تعلُّم الإنسان لنحت الأداة الصوانية جعله يرتقي إلى مستوى أعلى من ردِّ الفعل الغريزي غير المدرِك. إن العصور الطويلة التي أمضاها الإنسان في نحت الأداة الصوانية تشير، دون شك، إلى ولادة بطيئة لقوى النفس والعقل. ويمكننا تصور هذه القوى متداخلةً وهيولانية في الإنسان القديم، تمايزتْ ببطء شديد وعلى مراحل، موافِقةً لتطوره الفسيولوجي، كما ولتفتح إمكاناته الداخلية.
كذا فإننا لا نستطيع في الحقيقة تطبيق نظرية أرنولد توينبي A. Toynbee على هذه المراحل الموغلة في القدم. فالتطور الثقافي، الذي يعكس تطورًا نفسيًّا وعقليًّا، لم يكن ليتم عبر "مواجهة التحديات" وإيجاد حلول لها. ومع ذلك، نقبل أن البيئة الخارجية ساهمت، إلى حدٍّ بعيد، في تطور العقل والنفس. فقد تغذى هذا الكيان النفسي، على مدى مئات آلاف السنين، بمشاهد كثيرة كان لها انعكاس مباشر أو غير مباشر على طبيعته الداخلية، كالأمطار والصواعق والخسوف والكسوف والنجوم والنيران والثلوج والبحار والأنهار والحيوانات؛ والأهم من ذلك كلِّه، دورات الحياة المتكررة باستمرار: ولادة الشمس وانطفاؤها، وولادة الإنسان وموته، إلخ. لم يكن الإنسان القديم ليشعر تجاه هذه الظاهرات بالـ"تحدِّي"، على حدِّ تعبير توينبي، بل كان يستمد منها انطباعات نفسية ومشاعر شتى. ولا نستطيع هنا التمييز بين الفكر والشعور؛ فالشعور والفكر كانا واحدًا.
ولعل إنسان نياندرتال هو الذي شهد أولى لحظات تمايُز العقل عن النفس عندما وقف وقفته التاريخية أمام الموت. وكان إنسان كرومانيون، على الأرجح، أول من استطاع إدراك نفسه في الطبيعة ككائن قادر على الشعور بها. وفي تلك اللحظة بدأ العقل ينمو في اتجاهه الخاص.
إن المشاعر التي بدأ الإنسان القديم يأنسها – وبخاصة مع إنسان نياندرتال ثم إنسان كرومانيون – غدت مصدرًا ملهمًا لنفسانية اكتملتْ صورُها الطبيعية والرمزية، وبدأت تستلهم معانيها. ويرجَّح أن بدايات النطق عند الإنسان ترجع إلى هذه الفترة. ويمكننا القول إن إنسان نياندرتال شهد أهم لحظات البزوغ العقلي هذه. لكن تمايُز العقل هذا كان داعمًا للنفس إلى حدٍّ كبير. ولعل إنسان نياندرتال كان مهيأ في تلك اللحظات لاستذكار أحلامه! لكن لا شك، في المقابل، أن إنسان كرومانيون ترك لنا تعبيرًا صريحًا عن هذه الأحلام في جدارياته الرائعة على جدران المغائر (لاسكو، مثلاً).
التطور المعرفي
تدلنا دراسة تاريخ الإنسان إلى أن سيرورة تطورية كانت تقود الإمكانات البشرية باتجاه معرفة عقلية متنامية. وتدلنا هذه الدراسة أيضًا أن هذه السيرورة كانت – ولا تزال – سيرورة دورية في جوهرها؛ أي أنها تحقق تفتح الطاقات البشرية من خلال أدوار زمنية تتصف بأحوال نفسية وعقلية خاصة. وهكذا فإن التطور الإنساني يبلغ مداه الأقصى إبان دور ما في مجال معين، فيكون لا بدَّ من اكتمال الدور عند ذاك، وتحقيق التطور في باقي المجالات، قبل أن تبدأ مرحلة جديدة من التطور في هذا المجال بالذات. لكأن هذه الأدوار تفصح في الحقيقة عن إيقاع التفتح الداخلي للنماذج البدئية في الإنسان. ويمكننا الاستطراد في هذا الطرح فنقول إن الأدوار يمكن أن تكون جزئية، تتم إبان أزمنة قصيرة في مناطق محدودة وإبان ظرف معين، أو كلِّية، تحكم السيرورة التطورية الشاملة على الكرة الأرضية، أو في مناطق واسعة منها، إبان أزمنة طويلة نسبيًّا. ويكون التطور إبان دور جزئي غير ملموس، ويظهر عمومًا من خلال بعض الإنجازات. لكن توالي الأدوار الجزئية واكتمال الدور الكلِّي المؤلِّف لها يُظهِر تطورًا جليًّا، ليس من خلال الإنجازات المعرفية فحسب، بل ومن خلال تفتُّح مقدرات الإنسان النفسية والعقلية.
وضمن هذا المنظور، فإن التطور الثقافي يخضع لإيقاع متضمن في القانون الطبيعي لوجودنا، التجربة الكونية الأزلية. ولا يخرج عن هذا النطاق إيقاع التحديات والحلول الذي تحدث عنه توينبي. لكن توينبي لم يتنبه إلى الصيرورة الدورية، واعتبر أن عدم إيجاد شعب أيَّ حلٍّ لتحدٍّ واجهه يُعَدُّ ضعفًا وهزيمة. لكننا نجد أمثلة كثيرة في التاريخ كان لا بدَّ فيها من توقف إنجاز معرفي عند حدود معينة حتى يكتمل الدور التطوري الذي تمَّ فيه. ومن جهة أخرى، ألا يجب أن نُدخِل مُعامِل التطور النفسي والعقلي للإنسان في معادلة التحدِّي والحل – هذا المُعامِل الذي يشتمل في جوهره على ديناميَّة متأصلة في النماذج البدئية للإفصاح عن نفسها؟
وبعد، ألا يحق لنا أن نطرح التحدي الأكبر – مشكلة المعرفة – كمرحلة تطورية في سيرورة التطور الكلِّية؟
إن دراسة تاريخ المعرفة الإنسانية تقودنا إلى الغوص في مسألة المعرفة ذاتها. لكننا لن نسترسل في بحث طبيعة المعرفة، بل سنتوقف فقط عند نقطة أساسية. فالمعرفة مفهوم مرن جدًّا، يتخذ شكلانية معينة إبان عصر معين، تتناسب مع مقدرات الإنسان حينئذٍ، كما ومع الظرف العام السائد. وإبان دور معين، تلبس المعرفة ثوب الفهم الذي يناسب "الشكل" إبان هذا الدور؛ لكن هذا الثوب يخفي الحقيقة الأعمق للمعرفة – وهي حقيقة التاريخ نفسه – ألا وهي التطور والتفتح غير المحدودين. فجوهر كلِّ إنجاز معرفي يحققه الإنسان إنما هو حالة الارتقاء الموازية التي يبلغها. كذا يبني كلُّ عصر الشكل المعرفي الخاص به، أو إذا شئنا، "أسطورته المعرفية". أما الأسطورة المعرفية الحقيقية فلا تنفك تتجدد في كلِّ دور، وتنمو وتزدهر مع الأجيال، مادامت ليست مجرد الأفكار، بل تشمل "الحالات" النفسية والعقلية التي أبدعتْها.
ولعلنا نستطيع من هنا استخلاص مقياس عام للتطور الحضاري: كلما كانت إنجازات الحضارات المعرفية متوافقة مع "أسطورتها المعرفية" الحقيقية كان مستوى هذه الحضارات أرفع وأعلى. ولتوضيح ذلك نقول إن الإنجازات، في حدِّ ذاتها، لا تشكِّل معيارًا حقيقيًّا لقياس نموِّ حضارة ما وتفتحها، بل يجب علينا أن نسبر التطور النفسي–العقلي الذي تَرافَق وهذه الإنجازات، وأن نقدِّر مدى توازن هذا التطور الداخلي مع الإنجاز الظاهري. وتلكم طريقة، من جهة أخرى، لفهم إنجاز حضاري ما. فإبان العصور القديمة كانت النفس البشرية هي قائدة التطور المعرفي الإنساني، في حين كان العقل لا يزال في طور النمو. ولهذا كانت الإنجازات الكبرى ترتدي غالبًا زيَّ الأسطورة الموافق لرموز النفس وللحدس العقلي الذي كان غير مقيَّد بعد بإشراطات خارجية. وإبان ذلك الدور الطويل الذي مهَّد لنمو المنطق العقلي نموًّا متوازنًا مع مقدرات النفس البشرية، والذي شارف على الانتهاء، كما يبدو، مع اختراع الأبجدية، حقق الإنسان إنجازات رائعة، بما هي إبداعات تجريبية وتراكمية على مستوى الظاهر، وحدسية على مستوى الباطن. وهذا التوازن بين القيمة النفسية–العقلية والشكل الخارجي للإنجاز هو الذي كان – ولازال – يضفي على الأسطورة المعرفية القديمة خلودها وغناها.
جلاء النماذج البدئية
لعل إحدى أهم المراحل التطورية النفسية التي مرَّ بها الإنسان هي تلك الفترة التي صاغ إبانها أساطيره. ولا حاجة بنا إلى القول إن الأسطورة لم تكن مجرد تأليف أدبي كُتِبَ بهدف التسلية أو إقامة الشعائر الدينية. وتفيدنا دراسة النصوص القديمة بأن الأسطورة كانت تتعلق، في جوهرها، ببُعد معرفي لدى الإنسان القديم. ففيها ضمَّن معارفه الرمزية كافة؛ ومنها كان يشتق مبادئه في التنجيم والطب والزراعة؛ وبها كان يستشعر ذلك الجانب الداخلي فيه الذي كان ينمو وينضج. لكن الأسطورة، في جوهرها أيضًا، كانت حلمًا بشريًّا جمعيًّا، وتوقًا إلى الطاقة الإنسانية غير المتفتِّحة بعد. بلى، كان الإنسان القديم يشعر أنه يخبِّئ في أعماقه طاقات عظيمة؛ وهذه الطاقات كان يحدس أنها متصلة مع الكون. وكانت اتصاليتها هذه ظاهرة له في كلِّ شيء. ومن هنا فإن الوثن، في نظره، كان أعظم من مجرد حجر!
لكننا نستطيع أن نستشف عمقًا أبعد لهذا التوازي، لا بل التواحُد مع العالم. فلا ننسينَّ أن الإنسان القديم ظل فترة طويلة يتعامل مع الطبيعة عن قرب شديد. وهكذا انطبعتْ في ذاكرته وفي لاوعيه ذكرياتُه معها. ولا شك أن أكثر هذه الصور تكرارًا وأهمها في نظره اتخذ معنًى أعمق في نفسانيته من مجرد طبيعتها البسيطة. ولا شك أيضًا أن هذه المعاني توافقت مع تفتُّح النماذج البدئية الأولى في لاوعيه الجمعي. ومن الصعوبة بمكان تحديد مرحلة جلاء هذه الأعيان الثابتة؛ لكننا نرجح أن إنسان نياندرتال كان حالمًا من طراز فريد: حالمًا رأى تشكُّل النماذج البدئية الأولى! لا بل إننا لا نغالي إذا قلنا إن هذه "الأعيان الثابتة" كانت مُعامِلاً حاسمًا في نطقه وتعبيره عن شعوره. وعند هذه النقطة تتسنَّم النفس ذروة مشاركتها في التطور الإنساني!
إن هذه العلاقة بين النفس الخافية والنفس الواعية هي أساس التطور الأولي لبذرة العقل–النفس قبل تمايزها. ولعلنا نلمس في التطور المتسارع لمقدرات إنسان كرومانيون هذا التطور المتوازي للأسطورة الداخلية والأسطورة الخارجية. ففي حين كانت الأسطورة الخارجية تُبنى على أحداث أو وقائع يمكن أن تكون قد وقعت جزئيًّا، فإن الأسطورة الداخلية كانت ترفدها باستمرار بأعيانها الثابتة. وهكذا ولدت أساطير الشعوب التي تتحدث عن خبرات متماثلة بلغات مختلفة: ولادة العالم وأصله، الطوفان، البطل الإلهي، البعث والقيامة، إلخ.
كذا كانت الأسطورة الداخلية هي المحرِّض الرئيسي للأسطورة المعلنة. وعندما تراجعت الأسطورة الداخلية تراجعت الأساطير عمومًا وتحولت إلى فلسفات!
ولعل أهم الأعيان الثابتة التي بلورتْها النفس الوليدة كانت، على الأرجح، الرموز الماثلة في العالم الخارجي مثولاً دائمًا – ومنها الشمس والقمر، الأم والأب (ومنهما القرين والقرينة)، وتضخيمات للحيوانات الأساطيرية التي كانت تمثل ثنائية الوحشية البرية والحرية السماوية، أي تلك الحيوانات المجنَّحة، كالحصان الطائر أو التنين أو العنقاء، ثم فيما بعد الحيوان–الإنسان الطائر، كما في التمثيلات الآشورية الفريدة. ولعل الشجرة والجبل والنهر والماء والدم والنار كانت من أهم هذه الأعيان الثابتة. ويمكننا القول إن الأشكال الهندسية، كالدائرة أو المثلث أو المربع، ظهرت فيما بعد. وربما كان اللون الأحمر أهم الألوان التي حلم بها الإنسان القديم، بما هو لون النور والنار، الشمس والدم؛ إضافة إلى الأزرق، لون السماء والبحر، والأخضر، لون البيئة الأكثر دفئًا التي لجأ إليها الإنسان، والأسود، لون الليل والكهوف المظلمة. ونعتقد أن الكهف كان من أهم الأعيان الثابتة التي ترسَّختْ في اللاوعي الإنساني كرمز لهذا اللاوعي نفسه. إن هذه الرموز كانت، دون شك، محرضًا رئيسيًّا للتفتح الروحي للإنسان.
الارتقاء الروحي
إن تكوين الكائن الإنساني النفسي والعقلي يشير إلى طاقات كامنة فيه لما تتفتح بعد. فالإنسان مكوَّن وفق صورة أصلية: آدم أولي، عين ثابتة كلِّية، ونموذج بدئي كوني. ولهذا فإن الإنسان محمَّل بمسؤولية كبرى، هي تركيز لمسؤولية كونية في تحقيق تفتح لروح الكون وإفصاح لها. بعبارة أخرى، فإن الإنسان مرآة معرفة الذات للذات. وتطور الإنسان هو جلاء هذه المرآة أكثر فأكثر، لتصبح قدرة على عكس نور ألطف وأشف.
وإن كان التطور الروحي للإنسان لا يُلحَظ عبر تاريخنا الطويل إلا من خلال تحقيقات فردية نادرة، لكننا لا نستطيع إلا أن نلحظ تطورًا روحيًّا جمعيًّا في تبلور نفسانية كلِّية أقدر على تعميم التجربة الفردية وعلى تمثُّلها. وهذا التطور الروحي الجمعي يتلخص بكلمات بسيطة: إنه الانبثاق المستمر عبر العصور لإنسانيات أكثر فأكثر مقدرة على التمييز والشعور والفهم. وفي الحقيقة يتبطن هذا التطور الجمعي على استئثار حقيقي بالنماذج البدئية الأصلية، وعلى طرح كافة الشذوذات التي يمكن أن تشوش صورتها، بما هي الينبوع الذي يُمِدُّنا إمدادًا مستمرًّا بالشكل المعرفي العام، وبما هي الخزان الذي تعود كافة معارفنا فتنصهر فيه.
ومن هنا، فإن المعرفة الإنسانية، في أقصى تجلِّياتها، ليست نهجًا منطقيًّا، وليست المعلومات المحصَّلة، وليست العلم والفلسفة والعقائد، بل هي التجربة الذاتية وقد عُمِّمَتْ عبر المشاركة في لاوعي جمعي واحد وكلِّي؛ بل هي، في شكل من الأشكال، هذه الخلفية ذاتها: النمط البدئي الكوني نفسه وقد أبصر نفسه. وهذه المعرفة الجديدة المنبثقة عن هذه الخلفية الكلِّية، عن هذا الإشعاع الكوني، لا يستطيع إنسان بعينه الإفصاح عنها أو حجبها؛ وهي، من جهة أخرى، محرِّض كلِّ إبداع معرفي فردي.
المعرفة الروحية في جوهرها، إذن، معرفة جمعية، نادرًا ما تتحقق على مستوى الفرد. ذلك أنها معرفة تطورية بالدرجة الأولى، معرفة غير فكرية أو نفسية فقط، بل كلِّية، تشمل الإنسانية جمعاء. ومن هنا فإن تحقيق الفرد لهذه المعرفة يُعَدُّ بمثابة تواحده مع الإنسانية والكون. بل إن معرفته هذه نفسها تنعكس على الإطار الروحي للإنسانية. كذا فإن هذه المعرفة، بما هي لا تخضع لمعاييرنا ولمقاييسنا، تتفلَّت دومًا من إطار التحديد والنمذجة. ولهذا علينا أن نتوقع بكلِّ تأكيد بروز معرفة جديدة في المستقبل، معرفة غير فكرية وغير منطقية ولا تخضع لمناهجنا الحالية، وذلك عندما تنصهر معرفتنا الحالية تمامًا في بوتقة تطورنا الروحي.
مستقبل ارتقاء الكائن الإنساني
على الرغم من تمايز العقل والنفس إبان مسيرة التطور الطويلة، لكنهما ظلا ينموان سوية نموًّا متناغمًا حتى فترة قريبة، ترجع إلى آلاف قليلة من السنين فقط. فعندما بدأ العقل يبني مجرداته الخاصة – وتحديدًا منطقه الفلسفي المجرد – حَكَمَ على نفسه بالانعزال عن النفس. لقد اشتد عود العقل ونما بسرعة، وبنى صرحًا هائلاً من المنطق، توَّجه بإنجازات علمية رفيعة. لكن ذلك لا يعني أن النفس توقفت عن النمو. غير أن نموَّها خضع لتخلخل مستمر، مازال يتفاقم حتى الآن. فإن كان العقل قادرًا على إيهامنا بإنجازاته بقوته وتوازنه، فإن النفس لم تفلح يومًا في إخفاء ضعفها بعد ابتعاد العقل عنها؛ وهي لا تفتأ تناشده العودة إليها والاستماع إلى خبرتها الطويلة العريقة. وفي الحقيقة فإن النفس تُعَدُّ بوتقة الإنسان التي تتبلور فيها طاقاتُه الجديدة. وكما أن العقل بزغ في النفس، كذلك فإن طاقة جديدة تتحضر اليوم فيها للانطلاق؛ وهي طاقة وعي أعلى دون شك. ومشاركة العقل في تفتحها أمر لا بدَّ منه لكي تأتي كاملة.
ومع ذلك، فثمة كيان أوسع بكثير من نفوسنا وعقولنا الفردية. وهذا الكيان هو ما يمكننا دعوته بـ"العقل الجمعي" الذي لم ينفصل – ولن ينفصل أبدًا – عن النفس الجمعية. وهذا العقل الجمعي هو أملنا الحقيقي في مستقبل تطورنا لأنه – إذا صحَّ القول – على صلة مباشرة بلاوعينا الجمعي.
إن المعرفة الإنسانية ليست مجرد كمٍّ من المعنى، بل هي أيضًا الشكل الفنِّي أو الذاتي لهذا المعنى. وبعبارة أخرى، فإن معرفتنا الحالية هي معرفة آنية يمكن تجاوزها معلوماتيًّا في المستقبل. لكن هذه المعرفة ذاتها، بما هي طاقة نفسية وعقلية، ستظل فاعلة في السيرورة التطورية المعرفية للإنسان من خلال شكلها الفني أو ذاتيتها التي ستذوب وتنصهر في بوتقة عقلنا الجمعي.
إن غرور الإنسان في بداية القرن الواحد والعشرين، وتسلطه واعتقاده أنه بات سيد الطبيعة وأن كلَّ ما فيها مسخَّر له، وأن المعرفة باتت قاب قوسين أو أدنى منه، وأن علومه ستفك في القريب العاجل أسرار الحياة والوجود – ذلك كله أنساه أنه لا يزال يصعد، شاء أم أبى، سلَّم التطور، وأن عقلاً فوقيًّا سيبرز إبان آلاف السنين المقبلة، وإنسانًا جديدًا، أعظم مقدرة وأكثر تفتحًا منَّا، وأكثر توازنًا دون شك، سيولد في مستقبل ليس بالبعيد. ولا شك أن هذا الإنسان سيتجاوز علومنا وعقائدنا ومناهج تفكيرنا، وسيبني من جديد "أسطورته"!


إن كلَّ ما يمكننا عمله اليوم، وما يجب علينا عمله، ليس المضيَّ في علومنا التطبيقية العشوائية والإغراق في نتائجها، بل فهم موقعنا من الطبيعة، والعمل على إتاحة الفرصة للإنسان المقبل أن يأتي، لأنه سيحتاج بالتأكيد إلى الطبيعة كما احتجنا إليها، ولأنه سيحتاج إلينا أيضًا كما احتجنا إلى أسلافنا.
*** *** ***


مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..