الأحد، 22 نوفمبر 2015

علم الأصوات اللغوية و أنواعه بالصور (phonetics)

- تعريف علم الصوتيات وكونه أ حد فروع علم اللغة
علم الصوتيات : هو العلم الذى يتناول دراسةالأصوات البشرية دراسة علمية من جوانب مختلفة ومتكاملة بدءًا من خروج الصوت من الممر الصوتى وانتهاءً بوصول الصوت إلى الأذن ثم المخ فيُسمع ويُدرَك

ويُعَد علم الصوتيات أحد فروع علم اللغة والتى تتطرق إلى العديد من الفروع
(
العلوم المختلفه مثل علم النحو Syntaxوعلم الصرف Morphology وعلم المعنى Semanticsوغيرها من العلوم )



ولكنه يعتبر الأهم من بين هذه العلوم نظراً لإهتمامه بدراسة الأصوات البشرية والتى تُعَد الجانب الظاهر للغة والشكل الخارجى الذى نعبر به عما يدور فى أذهاننا من أفكار

فالأصوات تُعَد وسيلة التواصل الأولى لبنى البشر

2 -الأصوات البشرية وأنواعها

الصوت : هو أصغر وحدة كلامية ( فعندما نتكلم نتفوه بالعديد من سلاسل الأصوات

المتشابكة التى تتحد لتكون الكلمات والتى بدورها تتحد لتكون الجمل ومِن ثَم الكلام)

ويمكن تقسيم الأصوات البشرية إلى نوعين رءيسيين وهما:



الأصوات البشرية

Speech Sounds

صوامت

CONSONANTS

صوائت

VOWELS




فالصوائت : هى الأصوات التى تخرج من الجهاز الصوتى والتى تفتقد وجود أى إعتراض من

قِبَل أعضاء النطقسواء بالغلق أو بالتضييق أثناء نطقها وهى تتمثل فى لغتنا العربية

كحركة قصيرة أو ما تسمى ب SHORT VOWEL

أو كحركة طويلة أو ما تسمى ب LONG VOWEL

مثلاً:

عند نطق صوت ا لألف المد ( الحركة الطويلة ) فى كلمة مثل كلمة باب سنلاحظ خروج الهواء بسلام من داخل الممر الصوتى إلى الخارج دون أدنى إعاقة أو تضييق

وعلى الصعيد الأخر نجد النقيض

فالصوامت : تتسم بوجودإعتراض للهواء عند خروج الصوت من الممر الصوتى من قِبَل أعضاء

النطق سواء كانت هذه الإعاقه إما بالغلق التام فتكون عندئذٍا لإعاقة تامة(مثل نطق صوت الباءوالذى يتميز بغلق تام للشفتين عند نطقه فتحدث الإعاقة الكاملة)

وإما بالتضييق فتكون عندئذٍ الإعاقة غير تامة(مثل صوت السين الذى يتسم بالتضييق الذى يحدث بين عضوى نطقه)

ويوجد نوعٌ ثالثٌ من الأصوات وهى التى لايمكن تصنيفها كصوامت ولا يمكن تصنيفها كصوائت

وهذه الأصوات هى ما تسمى بأشباه الصوائت أو أنصاف الحركات

أو ( Semi-Vowels)

وهى تلك الأصوات التى تبدأ أعضاء النطق بها من منطقة حركة من الحركات

(أى تبدأ عند نطقها كنطق حركة من الحركات)

ولكنها تنتقل من هذا الموضع بسرعة ملحوظة إلى موضع حركة أخرى

ولأجل هذه الطبيعه الإنتقالية أو الإنزلاقية

عُدَّت هذه الأصوات كاأشباه صوائت وليست كصوائت خالصة

مثلاً: صوتى الياء والواو فى اللغه العربية يتم تصنيفهم كاأشباه صوائت

ويُلاحَظ إختلاف نطق هذه الاصوات فى اللغة على حسب مستوياتها

فمثلاً:

فى كلمة "بيت"

عند نطقها بالفصحى تُنطَق الياء فى هذه الكلمة كشبه صائت

ولكن عند نطقها بالعامية تنطق الياء فيها كصائت ( حركة طويلة)

3 - تَفَرُّع علم الصوتيات إلى ثلاثة علوم أساسية

علم الصوتيات الفسيولوجى (الوظائفى أو النطقى)

Physiological / Articulatory Phonetics

يهتم بدراسة عملية إنتاج الأصوات ورصد تحركات أعضاء الكلام المختلفة أثناء النطق داخل

الجهاز الصوتى



علم الصوتيات الفيز يائى :(Acoustic Phonetics)

هو العلم الذى يختص بدراسة الخصائص الفيزيائية للأصوات المختلفة
فيدرس الصوت فى الوسط الهوائى ( المرحلة الإنتقالية للصوت منذ خروجه من فم المتكلم حتى وصوله لأذن المستمع)

علم الصوتيات السمعى والإدراكى :

(ِِِAuditory and Perceptual phonetics )


يختص بدراسة كيفية سماع الأصوات عن طريق عضو السمع (الأذن)

وكيفية إدراك هذه الأصوات وفك شفرتها فى المخ


ويتضح مما سبق أن هذه الدراسات الصوتية المختلفة متشابكة ومتكاملة فيما بينها


فهم ثلاثه علوم لا إنفصام لهم وكل منهما مرتبط بالأخر




فهذه الدراسات تسعى فى النهاية إلى هدف واحد وهو دراسة الأصوات


البشر ية


ولكن كل منهم يهتم بدراسة جانب من جوانب الصوت البشرى على حدى


فالعلم الأول على سبيل المثال يهتم بدراسة الجانب النطقى للصوت ( كيف يُنطَق الصوت ) وهى المرحلة الاولى التى يبدأ منها الصوت رحلته الى الخارج




والثانى يدرس الجانب الفيزيائى للأصوات وكيفية إنتقاله فى الهواء وهذه هى المرحلة الثانيه فى العملية الصوتية




أما الثالث فنجده يدرس المرحلة الاخيرة وهى عند وصول الصوت للأذن ثم الى المخ لتتم بذلك عمليتى السمع والإدراك


4 - بعض المفاهيم المرتبطة بعلم الصوتيات


1الأبجدية الصوتية العالمية(I PA)


International Phonetic Alphabet


هو نظام عالمى للأصوات الكلامية


هى مجموعه من الرموز وُضِعَت لكى تعبر عما ننطقه من أصوات


بعض الرموز الصوتية المختلفة


وهذه الأبجدية تمثل كل الأصوات البشر ية الموجودة فى جميع لغات العالم


ويُعَد السبب الرئيسى لوجود هذا النظام


ما نجده من فجوة بين ما ننطقه من أصوات وبين شكلها الكتابى


فمثلاً عند نطق كلمة "جنب" وكلمة "منى" فسوف تلاحظ وجود إختلاف صوتى بين نطق صوت النون فى الكلمتين "سواء كان شعورك بهذا الإختلاف مصدره إحساسك النطقى أو إحساسك السمعى"


فالنون فى كلمة "منى" هى النون الصحيحة التى تخرج من مخرجها الصحيح


ولكن النون فى كلمة " جنب " نجدها ملتبسة بمخرج صوت الميم وليست خارجة من مخرج النون الصحيح


إذاً يمكن إستخدام هذا النظام العالمى للتعبير عن هذه الإختلافات الصوتية برموز صوتية مختلفة والتى لايمكن التعبير عنها بالشكل الكتابى المعتاد لها"


وهذا المثال السابق يوضح الفرق بين مفهومين هامين فى مجال الدراسات الصوتية


ألا وهم


الفونيم: Phoneme)) هو الصوت أو الوحدة الصوتية التى إذا تغيرت فى كلمة معينة تغيرمعنى الكلمة


فمثلاً : إذا لاحظت الفرق بين الكلمتين


"سام ، صام" سنجد أن الفرق الوحيد بين هاتين الكلمتين والذى أدى إلى إختلاف المعنى هو الصوت الأول فى كل من الكلمتين فلولا هذا الإختلاف لتطابقت الكلمتان


إذاً فيمكن إعتبار صوت السين فى الكلمة الاولى فونيماً وصوت الصاد فى الكلمة الثانية فونيماً ايضاً


الألوفون: Allophone)) هو الصوت أو الوحدة الصوتية التى إذا تغيرت فى كلمة لا تغير معناها


مثل : الفرق بين نطق صوت النون فى كلمة "جنب" عند نطقها (إخراجها) من مخرجها الصحيح وبين نطق النون فى نفس الكلمة ولكن من مخرجها غير الصحيح والملتبس بمخرج صوت أخر (كما ننطقها فى كلامنا المعتاد)


ويُعَد صوت النون فى الحالة الأخيرة ألوفوناً لصوت النون فى الحالة الأولى


ويمكن التعبير عن هذا الألوفون بالرمز الصوتى [ɱ]


ملحوظة:


عندما نريد أن نرمز لصوتاً كألوفون يجب وضعه بين [ ]ولكن إذا كان فونيماً فيجب وضعه بين / /


الكتابة الصوتية: (Transcription)


ما هى إلا إستخدام الرموز الصوتية العالمية للتعبير عما ننطقة من أصوات كبديل للشكل الكتابى المعتاد والذى لا يُظهِر الإختلافات الصوتية


فمثلاً: إذا اردنا التعبير عن الإختلاف الصوتى بين صوت النون فى الكلمتين "جنب، منى" فسوف نعبر عن كلمة "جنب "بهذا الشكل [ɡæɱb ]


وعن كلمة "منى" بهذا الشكل


Monæ/ /


"تم بحمد الله"
المراجع
1 – كتاب " الصوتيات والفونولوجيا" للاستاذ الدكتور / محمد صالح الضالع
استاذ علوم الصوتيات بكلية الاداب جامعة الاسكندرية

2 - كتاب "علم الاصوات" للدكتور / كمال بشر
الصور التوضيحية :عن طريق البحث على موقع جوجل
الأصوات في اللغة

الأصوات في اللغة ، نابع عن تحولات المجتمعات البشرية من ساذجة إلى متطورة ، أو من بدائية إلى متحضرة ، وما يرافق هذا التحول من تحول بالعلاقات الاجتماعية ، والمناخ القومي العام ، مما ينطبع أثره على الظواهر الاجتماعية وأبرزها اللغة لأنها أكبر ظواهره التفاهمية والتخاطبية ، فتتحول تدريجياً إلى لغة متطور في كثير من أبعادها المرتبطة بتطور مجتمعها ، إذ لا يمكن أن ينفصل التفكير في تحول مسار لغة ما عن التفكير في تحوّل مسار متكلمي تلك اللغة ، فاللغة في تطورها جزء لا يتجزأ من المحيط في تطوره ، وليس بالضرورة التطور إلى الأفضل بل قد تتطور اللغة إلى شيء آخر يعود بها التدهور والانحطاط ، تفقد فيه جملة من خصائصها الفنية أو الصوتية أو الجمالية ، وتنسلخ فجأة عن ملامحها الذاتية وتستبدلها بما هو أدنى قيمة لغوية .
وقد تزدهر ازدهاراً يفوق حد التصور إذا كانت بسبيل من حماية أصالتها كما هي الحال في اللغة العربية إذ يحرسها القرآن العظيم .
التحول التأريخي هذا لا يعنينا الاهتمام بأمره كثيراً في ظاهرة الصوت اللغوي ، وإنما تعنى هذه الدراسة بالشق الآخر من التحول وهو التحول التركيبي الذي ينشأ عادة نتيجة لظواهر تغيير أصوات اللغة الواحدة ، واستبدال صوت منها بصوت آنياً أو دائمياً ، فما استجاب للإبدال الصوتي الموقت يطلق عليه مصطلح المماثلة ، وما استجاب للإبدال الصوتي الدائم يطلق عليه مصطلح المخالفة . هذا ما يبدو لي في التحول التركيبي ، وهذه علة هذين المصطلحين ، وقد يوافق هذا الفهم قوماً ، وقد لا يرتضيه قوم آخرون ، ولكنه ما توصلت إليه في ظاهرتي المماثلة والمخالفة في التراث العربي واللغة منه بخاصة .
أ ـ المماثلة : Assimilation ، ظاهرة أصواتية تنجم عن مقاربة صوت لصوت ، فكلما اقترب صوت من صوت آخر ، اقتراب كيفية أو مخرج ، حدثت مماثلة ، سواء ماثل أحدهما الآخر أو لم يماثله .
والمماثلة أنواع أبرزها :
1 ـ المماثلة الرجعية ، ومعناها : أن يماثل صوت صوتاً آخر يسبقه .


2 ـ المماثلة التقدمية ، ومعناها : أن يماثل الصوت الأول الصوت الثاني .
3 ـ المماثلة المزدوجة ، ومعناها : أن يماثل صوت الصوتين اللذين يحوطانه(1) .
والمماثلة في أنواعها متناسقة الدلالة في اللغة العربية في حالات الجهر والهمس ، والشدة والرخاوة ، والانطباق والانفتاح ، مما يتوافر أمثاله في مجال الصوت ، وتنقل مجراه .
إن انتقال حالة الجهر في الصوت العربي إلى الهمس في المماثلة الرجعية شائع الاستعمال في أزمان موقوتة لا تتعداها أحياناً إلى صنعة الملازمة والدوام ، وإنما تتبع حالة المتكلم عند الممازجة بين الأصوات أو في حالة الإسراع ، وهناك العديد من الكلمات العربية قد أخضعت لقانون المماثلة الرجعية ، وهي أوضح فيما اختاره عبدالصبور شاهين ، فالكلمة ( أخذت ) مثلاً مما نظّر له عنها ، ( أخذت ) حينما تنطق آنياً ( أخَتُ ) فقد آثرت التاء في ( أخذت ) وهي مهموسة ، في الذال قبلها وهي مجهورة ، فأفقدتها جهرها ، وصارت مهموسة مثلها ، وتحولت إلى تاء ، ثم أدغم الصوتان .
أما عن المماثلة التقدمية ، فإن في العربية باباً تقع فيه هذه المماثلة بصورة قياسية ، في صيغة « افتعل ـ افتعالاً » حيث يؤثر الصامت الأول في الثاني ، قال تعالى : ( واًدّكَرَ بَعدَ أمَّة أنَا أنَبّئُكُم بتَأويله فَأَرسلُون ) (2) . الفعل : هو ذكر ، وصيغة ( افتعل ـ افتعالاً ) منه ( إذتكر ـ إذتكاراً ) إذ تزاد الألف في الأول ، والتاء تتوسط بين فاء الفعل وعينه ، فيكون الفعل ( إذتكر ) والذال مجهورة ، والتاء مهموسة ، فتأثرت التاء بجهر الذال ، فعادت مجهورة ، والتاء إذا جهر بها عادت دالاً ، فتكون : ( إذ دكر ) والدال تؤثر في الذال بشدتها ، فتتحول الذال من صامت رخو إلى صامت شديد ( دال ) ثم تدغم الدالان ، فتكون « إدَّكَرَ »(3) .
____________
(1) ظ : مالمبرج ، علم الأصوات : 141بتصرف وأختصار .
(2) يوسف : 45 .
(3) ظ : عبد الصبور شاهين ، علم الأصوات الدراسة : 145 بإضافة وتصرف .
ب ـ وأما المخالفة : Dissimilation فتطلق عادة على أي تغيير أصواتي يهدف إلى تأكيد الاختلاف بين وحدتين أصواتيتين ، إذا كانت الوحدات الأصواتية موضوع الخلاف متباعدة (1) أو تؤدي إلى زيادة مدى الخلاف بين الصوتين (2 ) .
وقد وهم الدكتور إبراهيم أنيس رحمه الله بعدّه علماء العربية القدامى لم يفطنوا لظاهرة المخالفة في الأصوات ولم يعنوا بها عناية بالغة (3) .
بينما يدل الاستقراء المنهجي لعلم الأصوات عند العرب أن قوانين علم الصوت العربي لم تفتها ظاهرة المخالفة بل تابعتها بحدود متناثرة في كتب اللغة والنحو والتصريف ، وهو ما فعله علماء العربية في التنظير للمخالفة تارة ، وبدراستها تارة اخرى ، منذ عهد الخليل بن أحمد ( ت : 175 هـ ) حتى ابن هشام الأنصاري ( ت : 761 هـ ) .
يقول الدكتور عبد الصبور شاهين « عرفت العربية ظاهرة المخالفة في كلمات مثل : تظنّن ، حيث توالت ثلاث نونات ، فلما استثقل الناطق ذلك تخلص من أحدها بقلبها صوت علة فصارت : تظنى .. ولها أمثلة في الفصحى مثل : نفث المخ : أنفثته نفثاً ، لغة في نقوته ، إذا استخرجته ، كأنهم أبدلوا الواو تاءّ » (4) .
وهذا ما ذهب إليه الأستاذ فندريس في ظاهرة المخالفة صوتياً ، وكأنه يترجم تطبيق العرب بأن « يعمل المتكلم حركة نطقية مرة واحدة ، وكان من حقها أن تعمل مرتين » (5) . فإذا تركنا هاتين الظاهرتين إلى مصطلحين صوتيين آخرين يعنيان بمسايرة تطور الصوت في المقطع أو عند المتكلم ، وهما : النبر والتنغيم ، لم نجد العرب في معزل عن تصورهما تصوراً أولياً إن لم يكن تكاملياً ، وإن لم نجد التسمية الاصطلاحية ، ولكننا قد نجد مادتها التطبيقية في شذرات ثمينة .
____________
(1) ظ : مالمبرج ، علم الأصوات : 148 .
(2) ظ : تمام حسان ، مناهج البحث في اللغة : 134 .
(3) ظ : إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : 211 .
(4) عبد الصبور شاهين ، علم الأصوات الدراسة : 150 .
(5) فندريس ، اللغة : 94 .

النبر يُعنى عادة بمتابعة العلو في بعض الكلمات لأنه لا يسم وحدة أصواتية واحدة ، بل منظومة من الوحدات الأصواتية (1) .
والتنغيم ـ كما أفهمه ـ يعني عادة بمتابعتة صوت المتكلم في التغيرات الطارئة عليه أصواتياً بما يلائم توقعات النفس الإنسانية للتعبير عن الحالات الشعورية واللاشعورية .
وكان المستشرق الألماني الدكتور براجشتراس قد وقف موقف المتحير حيناً ، والمتسائل حيناً آخر ، من معرفة علماء العربية بمصطلح النبر ، فهو لم يعثر على نص يستند عليه ، ولا أثر يلتجىء إليه في إجابة العربية عن هذا الأمر (2) .
والحق أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود كما يقال ؛ غير أن القدماء من العرب لم يدرسوا النبر في تأثيره في اللغة ، بل لأنه يعنى بضغط المتكلم على الحرف ، وبذلك ربطوه بالتنغيم أحياناً ، وبالإيقاع الذي يهز النفس ، ويستحوذ على التفكير ، وقد اختار عبد الصبور شاهين مقطعاً من خطبة تروى لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أثبتها وعقب عليها ، قال الإمام علي فيما روي عنه : « من وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال : فيم ؟ فقد ضمَّنه ، ومن قال : علام ؟ فقد أخفى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزاولة » . وللقارىء أن يتخيل أداء هذه الجمل المتتابعة موقعة على نحو يشد إليها أسماع الناس ، ويستأثر بإعجابهم » (3) .
الحق أن اللحاظ المشترك بين النبر والتغنيم عند العرب القدامى يجب أن يكون موضع عناية من الناحية النظرية ، مع فرض توافره تطبيقاً
____________
(1) ظ : مالمبرج ، علم الأصوات : 187 .
(2) ظ : براجشتراسر ، التطور النحوي : 46 .
(3) عبد الصبور شاهين ، علم الأصوات الدراسة : 200 .


قرأنياً في سور متعددة ، وخطابياً عند النبي عليه السلام والأئمة والصحابة وفصحاء العرب في جملة من الخطب .
اتضح لزميلنا الدكتور خليل العطية أن ابن جني ( ت : 392 هـ ) في عبارته ( التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ) (1) يمكن أن يشار عنده بها إلى مصطلحي النبر والتنغيم ، بما تتفتّق معاني ألفاظ العبارة من دلالات لغوية فقال :
« وتشير ألفاظ التطويح والتطريح والتّفخيم من خلال معانيها اللغوية إلى رفع الصوت وانخفاضه والذهاب به كل مذهب ، وهي على هذا إشارة الى النبر ، وليس النبر غير عملية عضوية يقصد فيها ارتفاع الصوت المنبور وانخفاضه ، كما أن تمطيط الكلام ، وزوي الوجه وتقطيبه ، مظهر من المظاهر التي تستند عليها ظاهرة التنغيم » (2) .
فإذا نظرنا إلى تعريف التنغيم عند الأوروبيين بأنه « عبارة عن تتابع النغمات الموسيقية أو الإيقاعات في حدث كلامي معين » (3) ، ثبت لدينا أن هذا التعريف الفضفاض لا يقف عند حدود في التماس ظاهرة التنغيم وضبطها ، لأن تتابع النغمات والإيقاعات بإضافتها إلى الحدث الكلامي تختلف في هبوطها وصعودها نغماً وإيقاعاً ، فهي غير مستقرة المستويات حتى صنف مداها عند الدكتور تمام حسان إلى اربعة منحنيات : « مرتفع وعال ومتوسط ومنخفض » (4) .
و معنى هذا أن ليس بالإمكان قياس مسافة التنغيم ليوضع له رمز معين ، أو إشارة معلمة عند العرب ، لهذا فقد كان دقيقاً ماتوصل إليه زميلنا الدكتور طارق الجنابي باعتباره التنغيم « قرينة صوتيية لا رمز لها ، أو يعسر أن تحدد لها رموز ، ومن ثم لم يكن موضع عناية اللغويين القدامى ، ولكنه وجد من المحدثين اهتماماً خاصاً بعد أن أضحت اللغات المحكية
____________
(1) ابن جني ، الخصائص : 2|370 .
(2) خليل إبراهيم العطية ، في البحث الصوتي عند العرب : 67 وما بعدها .
(3) ماريو باي ، أسس علم اللغة : 93 .
(4) ظ : تمام حسان ، اللغة العربية معناها ومبناها : 229 .

موضع دراسة في المختبرات الصوتية » (1) .
وفقدان موضع العناية لا يدل على فقدان الموضوع ، فقد كان التنغيم مجال دراسة لجملة من فنون العربية في التراكيب والأساليب ، في تركيب الجملة لدى تعبيرها عن أكثر من حالة نفسية ، وأسلوب البيان لدى تعبيره عن المعنى الواحد بصور متعددة ، وهذا وذاك جزء مهم في علمي المعاني والبيان نحواً وبلاغة ؛ وهي معالم أشبعها العرب بحثا وتمحيصاً ، وإن لم يظهر عليها مصطلح التنغيم .
____________
(1) طارق عبد عون الجنابي ، قضايا صوتية في النحو العربي : « بحث » .

نظرية الصوت اللغوي
وليس جديداً القول بسبق العرب إلى تأصيل نظرية الصوت اللغوي ، واضطلاعهم بأعباء المصطلح الصوتي منذ القدم ، لقد كان ما قدمناه في « منهج البحث الصوتي عند العرب » وإن كان جزئي الإنارة ، فإنه كاف ـ في الأقل ـ للتدليل على أصالة هذا المنهج ، وصحة متابعته الصوتية في أبعاد لا يختلف بها إثنان .
نضيف إلى ذلك ظاهرة صوتية متميزة في أبحاث العرب لم تبحث في مجال الصوت ، وإنما بحثت في تضاعيف التصريف ، ذلك أن صلة الأصوات وثيقة في الدرس الصّرفي عند العرب في كل جزئياته الصوتية ، فكان ما توصل إليه العرب في مضمار البحث الصرفي عبارة عن استجابة فعلية لمفاهيم الأصوات قبل أن تتبلور دلالتها المعاصرة ، فإذا أضفنا إلى ذلك المجموعة المتناثرة لعناية البحت النحوي بمسائل الصوت خرجنا بحصيلة كبيرة متطورة تؤكد النظرية الصوتية في التطبيق مما يعد تعبيراً حيّاً عن الآثار الصوتية في أمهات الممارسات العربية في مختلف الفنون .
« ولقد كان للقدماء من علماء العربية بحوث في الأصوات اللغوية شهد المحدثون الأوروبيين أنها جليلة القدر بالنسبة إلى عصورهم ، وقد أرادوا بها خدمة اللغة العربية والنطق العربي ، ولا سيما في الترتيل القرآني ، ولقرب هؤلاء العلماء من عصور النهضة العربية ، وإيصالهم بفصحاء العرب كانوا مرهفي الحسّ ، دقيقي الملاحظة ، فوصفوا لنا الصوت العربي وصفاً أثار دهشة المستشرقين وإعجابهم » (1) .
____________
(1) إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : 5 .
وهذه البحوث الصوتية التي سبق إليها علماء العربية فأثارت دهشة المستشرقين ، وأفاد منها الأوروبيين في صوتياتهم الدقيقة التي اعتمدت أجهزة التشريح ، وقياس الأصوات في ضوء المكتشفات ، قد أثبتت جملة من الحقائق الصوتية ، كان قد توصل إليها الأوائل عفوياً ، في حسّ صوتي تجربته الذائقة الفطرية ، وبعد أن تأصلت لديهم إلى درجة النضج ، قدّمت منهجاً رصيناً رسّخ فيه المحدثون حيثيثات البحث الصوتي الجديد في المفردات والعرض والأسلوب والنتائج على قواعد علمية سليمة .
لقد قدم العرب والمسلمين مفصّلاً صوتياً مركباً من مظاهر البحث الصوتي يمثل غاية في الدقة والتعقيد ، لم يستند إلى أجهزة متطورة ، بل ابتكرته عقول علمية نيرة ، وأذهان صافية ، تجردت للحقيقة ، وتمحضت للبحث العلمي ، مخلصة فيه النية ، وكانت الخطوط العريضة لهذا العطاء على وجه الإجمال عبارة عن مفردات هائلة ، ونظريات متراصة ، يصلح أن يشكل كل عنوان منها فصلاً من باب ، أو باباً في كتاب ، يستقرىء به الباحث ما قدمه علماء العربية من جهد صوتي متميز واكبه الغربيون بعد ان عبّد طريقه العرب والمسلمون ، هذه المفردات في عنوانات ريادية تمثل الموضوعات الآتية في نظرية الصوت :
1 ـ ظاهرة حدوث الصوت .
2 ـ معالم الجهاز الصوتي عند الإنسان .
3 ـ أنواع الأصوات العالمية .
4ـ درجات الأصوات في الاهتزازات .
5 ـ بدايات الأصوات عند المخلوقات.
6 ـ علاقة الأصوات باللغات الحيّة .
7 ـ أعضاء النطق وعلاقتها بالأصوات .
8 ـ الأصوات الصادرة دون أعضاء نطق .
9 ـ علاقة السمع بالأصوات .
10 ـ مقاييس الأصوات امتداداً أو قصراً .
11 ـ تسميات الأصوات وأصنافها .
12 ـ الأصوات الزائدة على حروف المعاجيم .
13ـ الزمان والصوت ( مسافت الصوت ) .
14ـ المكان والصوت ( مساحة الصوت ) .
15 ـ المقاطع الصوتية بالإضافة إلى مخارج الأصوات .
16 ـ النقاء الصوتي .
17 ـ الموسيقي والصوت .
18 ـ العروض والصوت .
19 ـ النبر والصوت .
20 ـ التنغيم والصوت .
21 ـ التقريب بين الأصوات .
22 ـ الرموز الكتابية والأصوات .
23 ـ إئتلاف الحروف وعلاقته بالأصوات .
هذه أهم مفردات المصطلح الصوتي في نظرية الصوت اللغوي عند العرب توصلنا إليها من خلال عروض القوم في كتبهم ، وطروحهم في بحوثهم ، وأن لم يشتمل عليها كتاب بعينه ، وإنما جاءت استطراداً في عشرات التصانيف ، ونحن لا نريد حصرها بقدر ما نريد من التنبيه ، أن هذه الموضوعات التي سبق إليها العرب ، هي التي توصل إليها الأوروبيين اليوم ، ومنها استقوا معلوماتهم الأولية ، ولكنهم أضافوا وجددوا وأبدعوا ، وتمرست عندهم المدارس الصوتية الجديدة ، تدعمها أجهزة العلم ، والأموال الطائلة ، والخبرات الناشئة ، مع الصبر على البحث ، والأناة في النتائج .
لقد كان ما قاله المرحوم الأستاذ مصطفى السقا وجماعته في مقدمتهم لسر صناعة الإعراب ملحظاً جديراً بالاهتمام ... « والحق أن الدراسة الصوتية قد اكتملت وسائلها وموضوعاتها ومناهجها عند الأوروبيين ، ونحن جديرون أن نقفو آثارهم وننتفع بتجاربهم ، كما انتفعوا هم بتجارب الخليل وسيبويه وابن جني وابن سينا في بدء دراساتهم للأصوات اللغوية » (1) . فالأوروبيون أفادوا من خبراتنا الأصيلة . فهل نحن منتفعون ؟
لقد توصل العرب حقاً إلى نتائج صوتية مذهلة أيدها الصوت الغوي الحديث في مستويات هائلة نتيجة لعمق المفردات الصوتية التي خاض غمارها الروّاد القدامى ، وقد أيد هذا التوصل إثنان من كبار العلماء الأوروبيين هما : المستشرق الألماني الكبير الدكتور براجشتراسر ، والعالم الانكليزي اللغوي المعروف الأستاذ فيرث .
أ ـ يقول الدكتور براجشتراسر في معرض حديثه عن علم الأصوات :
« لم يسبق الأوروبيين في هذا العلم إلا قومان : العرب والهنود » (2) .
ب ـ ويقول الأستاذ فيرث :
« إن علم الأصوات قد نما وشب في خدمة لغتين مقدستين هما : السنسكريتية والعربية » (3) .
والعرب مقدمون على الهنود في النص الأول لأنهم أسبق ، والسنسكريتية في النص الثاني لغة بائدة آثارية ، والعربية خالدة .
و ـ أقف عند رأيين في نظرية الصوت اللغوي :
الأول : توصل الدكتور العطية « أن بعض مباحث العرب في البحث الصوتي داخلة في ( علم الصوت : phonetics ) لاشتماله على دراسة التكوين التشريحي لجهاز النطق والصوت ومكوناته وعناصره وصفاته العامة والخاصة على مستوى المجموعة البشرية . كما أن بعض جوانب ( علم الصوت
____________
(1) مصطفى السقا وآخرون ، سر صناعة الاعراب ، مقدمة التحقيق : 19 .
(2) براجشتراسر ، التطور النحوي : 57 .
(3) ظ : أحمد مختار عمر ، البحث اللغوي عند العرب : 101 وانظر مصدره .
الوظيفي phonolgy ) تبدو جلية في دراسة قوانين التأثر و التأثير ، واستكناه النبر والتنغيم ، وطول الصوت وقصره ، سواء أكان طوله صفة دائمة أم آنية عارضة » (1) .
الثاني : إن الصوت قد فرض نفسه عند العرب في دراسات قد لا تبدو علاقتها واضحة بالصوت ، وقد وقف الدكتور الجنابي عند جملة « من مسائل النحو عرض لها النحويون وتأولوها ، واعتلوا لها بعلل لا تقنع باحثاً ، ولا ترضي متعلماً ، ولكن التفسير الصوتي هو الذي يحل الإشكال ويزيل اللبس بمعزل عن القرائن أو العلاقات المعنوية بين المفردات ، فلا صلة للتغيير الحركي بالفاعلية والمفعولية مثلاً ، ولا رابطة له بالأساليب . وإنما هو لون من الانسجام مع التغيير التلقائي الذي أشرت إليه » (2) .
هذان الرأيان نلمح بهما تمكن الدرس الصوتي عند العرب ، فجملة مباحثهم صوتياً داخلة في علوم الصوت ، وما لم يجدوا له تعليلاً فيحل إشكاله التفسير الصوتي ، وهذان ملحظان جديران بالتأمل .
أما خلاصة تجارب الأروبيين في المصطلح الصوتي فقد كانت نتيجة حرفية لمداليل النظرية الصوتية عند العرب في نتائج ما توصل إليه علماؤهم الأعلام .
هذه النظرية الصوتية عند العرب عبارة عما توصل إليه العرب من خلال تمرسهم وتجاربهم بنظريات نحوية وصرفية وبيانية وصوتية وإيقاعية وتشريحية شكلت بمجموعها « نظرية الصوت » وهي في تصور تخطيطي تشمل المنظور الآتي :
أ ـ النظرية العربية في الأبجدية الصوتية على أساس المخارج والمدارج والمقاطع كما عند الخليل وسيبويه والفرّاء .
ب ـ النظرية العربية في أجهزة النطق وأعضائه ، وتشبيهه بالناي تارة ، وبالعود في جسّ أوتاره تارة أخرى كما عند ابن جني .
____________
(1) خليل إبراهيم العطية ، في البحث الصوتي عند العرب : 108 .
(2) طارق عبد عون الجنابي ، قضايا صوتية في النحو العربي « بحث » .

ج ـ النظرية العربية في التمييز بين الأصوات عن طريق إخفاء الصوت .
د ـ النظرية العربية في ربط الإعلال والإبدال ، والترخيم والتنغيم ، والمدّ والأشمام بعميلة حدوث الأصوات وإحداثها .
هـ ـ النظرية العربية في التلاؤم بين الحروف وأثره في سلامة الأصوات ، والتنافر فيها وأثره في تنافر الأصوات .
و ـ النظرية العربية في أصول الأداء القرآني ، وعروض الشعر والإيقاع الموسيقي ، وعلاقة ذلك بالأصوات .
زـ النظرية العربية في التوصل إلى معالجة التعقيدات النحوية ، والمسوغات الصرفية في ضوء علم الأصوات .
هذا العرض الإشاري لنظرية الصوت اللغوي ، يكفي عادة للتدليل على أصالة النظرية عند العرب ، دون حاجة إلى استجداء المصطلحات الأجنبية ، أو استحسان الجنوح إلى الموارد الأوروبية ، فبحوث العرب في هذا المجال متوافرة ، وقد يقال إن التنظيم يعوزها ، وأنها تفتقر إلى الترتيب الحديث ، للاجابة عن هذه المغالظة نضع بين أيدي الباحثين المنصفين : الفصل الثاني من هذا الكتاب بين يدي الموضوع ، والذي أطمح أن يكون مقنعاً بأمانة وإخلاص في إثبات تنظيم البحث الصوتي ، وسلامة مسيرة الصوت اللغوي ، وموضوعية العرض دون تزيد أو ابتسار في علم الأصوات وعالمها .
والله ولي التوفيق .

الخليل ومدرسته الصوتية
ذهب استاذنا الدكتور المخزومي : « أن الخليل أول من التفت إلى صلة الدرس الصوتي بالدراسات اللغوية الصرفية ، الصرفية والنحوية ، ولذلك كان للدراسة الصوتية من عنايته نصيب كبير ، فقد أعاد النظر في ترتيب الأصوات القديمية ، الذي لم يكن مبنياً على أساس منطقي ، ولا على أساس لغوي ، فرتبها بحسب المخارج في الفم ، وكان ذلك فتحاً جديداً ، لأنه كان منطلقاً إلى معرفة خصائص الحروف وصفاتها » (1) .
لم تكن هذه الأولية اعتباطية ، ولا الحكم بها مفاجئاً ، فهما يصدران عن رأي رصين لأن الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : 175 هـ ) هو أول من وضع الصوت اللغوي موضع تطبيق فني في دراسته اللغوية التي انتظمها كتابه الفريد ( العين ) بل هو أول من جعل الصوت اللغوي أساس اللغة المعجمي ، فكان بذلك الرائد والمؤسس .
لا أريد التحدث عن أهمية كتاب العين في حياة الدرس اللغوي ولكن أود الإشارة أن كتاب العين ذو شقين : الأول المقدمة ، والثاني الكتاب بمادته اللغوية وتصريفاته الإحصائية المبتكرة التي اشتملت على المهمل والمستعمل في لغة العرب .
والذي يعنينا في مدرسة الخليل الصوتية مواكبة هذه المقدمة في منهجيتها لتبويب الكتاب ، وبيان طريقته في الاستقراء ، وإبداعه في
____________
(1) المخزومي ، في النحو العربي ، قواعد وتطبيق : 4 .
الاحصاء ، ورأيه في الاستنباط ومسلكية التصنيف الجديد ، والأهم الذي نصبو إليه « إن مقدمة العين على إيجازها ؛ أول مادة في علم الأصوات دلت على أصالة علم الخليل ، وأنه صاحب هذا العلم ورائده الأول » (1).
يبدأ الخليل المقدمة بالصوت اللغوي عند السطر الأول بقوله : « هذا ما ألفه الخيل بن أحمد البصري من حروف :
أ . ب . ت . ث . . . » (2) .
وأضاف أنه لم يمكنه « أن يبتدئ التأليف من أول : أ ، ب ، ت ، ث ، وهو الألف ، لأن الألف حرف معتل ، فلما فاته الحرف الأول كره أن يبتدئ بالثاني ـ وهو الباء ـ إلا بعد حجة واستقصاء النظر ، فدبّر ونظر إلى الحروف كلها ، وذاقها فوجد مخرج الكلام كله من الحلق ، فصيّر أولاها بالابتداء أدخل حرف في الحلق » (3) .
ومعنى هذا أن الخليل قد أحاط بالترتيب ( الألفبائي ) من عهد مبكر ، ولم يشأ أن يبتديء به مع اهتدائه إليه ، لأن أول حرف في هذا النظام حرف معتل ، ولا معنى أن يبتدىء بما يليه وهو الباء لأنه ترجيح بلا مرجح ، وتقديم دون أساس ، فذاق الحروف تجريبياً ، فرأى أولاها بالابتداء حروف الحلق ، وذاقها مرة أخرى ، فرأى ( العين ) أدخل حرف منها في الحلق ، بل في أقصى الحلق .
قال ابن كيسان : ( ت :299 هـ ) سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال : « لم أبدأ بالهمزة لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف ، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة لا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة ، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها ، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء ، فوجدت العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف » (4) .
____________
(1) مقدمة التحقيق لكتاب العين :1|10 .
(2) الخليل : كتاب العين : 1|47 .
(3) نفس المصدر :1|47 .
(4) السيوطي : المزهر : 1|90 .
وإذا صح ما نقله ابن كيسان ، وستجد في البحث ما يتعارض معه نوعاً ما ـ فالخليل يعتبر الهمزة والألف في الحيز الأول لأصوات حروف المعجم ، ولكنه ينتقل إلى الحيز الثاني فيختار الصوت الأنصع بتذوقه للحرف من مخرجه الصوتي ، وهو يوضح طريقته المبدعة بذاك ، فيجرد من نفسه معنياً يتكلم عنه ، فيقول : « وإنما كان ذواقه إياها أنه كان يفتح فاه بالألف ، ثم يظهر الحرف نحو : إب ، إت ، إع ، إغ ، فوجد العين أدخل الحروف في الحلق فجعلها أول الكتاب ، ثم ما قرب منها الأرفع فالأرفع حتى أتى آخرها وهو الميم » (1) .
ومعنى هذا أنه سار مع الحروف مسيرة مختبرية استقرائية ، ابتداء من أقصى الحلق ، فالحلق ، ومروراً بفضائه ، فالأسنان ، وانتهاء بالشفة فالميم عندها ، لأن الميم أرفع حروف الشفة .
وهذا يدل على ذائقة حسية فريدة ، وصبر عنيف على الاستنتاج ، حتى توصل إلى ما توصل إليه ابتداعاً وابتكاراً ، دون الاستعانة بأي جهاز علمي ، إذ لا جهاز آنذاك ، وهو مالم يثبت العلم التشريحي الحديث بكل أجهزته الدقيقة ، ومختبراته الضخمة خلافاً له فيما يبدو إلا يسيراً (2) .
إن الخليل في ذائقته الصوتية هذه ، قد قلب حروف العربية ، فوضعها في منازل معينة ضمن مخارج صوتية معينة بحسب مدارج مقدرة من أقصى الحلق حتى إطباق الشفة في الميم .
واتضح أن الخليل رحمه الله تعالى قد صنف هذه المخارج إلى عشرة أصناف كالآتي :
1 ـ ع ، ح ، هـ ، خ ، غ .
2ـ ق ، ك .
3 ـ ج ، ش ، ض .
____________
(1) الخليل ، كتاب العين : 1|47 .
(2) ظ : المؤلف ، منهج البحث الصوتي عند العربي : نقد وتحليل : « بحث » .
4 ـ ص ، س ، ز .
5 ـ ط ، د ، ت .
6 ـ ظ ، ث ، ذ .
7 ـ ز ، ل ، ن .
8 ـ ف ، ب ، م .
9 ـ و ، ا ، ي .
10 ـ همزة (1) .
ولم يكتف الخليل بهذا التقسيم الفيزولوجي الدقيق بحسب تذوقه الخاص ، بل نصّ على تسمية كل قسم من هذه الأقسام ، وأفاد اللغات العالمية جمعاء ، بأصل من الأصول الأولى في الاصطلاحات الصوتية دون أن يسبقه إلى ذلك سابق ، بل عوّل عليه فيه كل لا حق .
لقد حدد الخليل كل صنف من اصناف الحروف المعجمية على بنية صوتية متميزة ، تحسها كياناً مستقلاً ، وتتذوقها قاعدة صلبة ، وعلل ذلك على أساس صوتي متكامل ، ووعي بأبعاد هذا الأساس ، فكوّن بذلك نظاماً فريداً غير قابل للرد إذ جاء فيه بضرس قاطع لا يختلف به إثنان ، وسيّر ذلك مسيرة نابضة بالحياة لا يلحقها الهرم ، ولا تعوزها النضارة ، فهي غضة طرية في كل حين ، قال الخليل :
« فالعين والحاء والغين والخاء حلقية ، لأن مبدأها من الحلق .
والقاف والكاف لهويتان ، لأن مبدأها من اللهاة .
والجيم والشين والضاد شجرية ، لأن مبدأها من شجر الفم .
والصاد والسين والزاء أسلية ، لأن مبدأها من أسلة اللسان .
والطاء والتاء والدال نطعية ، لأن مبدأها من نطح الغار الأعلى .

(1) الخليل ، كتاب العين : 1|48 .
والظاء والذال والثاء لثوية ، لأن مبدأها من اللثة .
والراء واللام والنون ذلقية ، لأن مبدأها من ذلق اللسان .
والفاء والباء والميم شفوية ، لأن مبدأها من الشفة .
والياء والواو والألف والهمزة هوائية في حيز واحد ، لأنها لا يتعلق بها شيء (1) .
إن هذه التسميات التشخيصية قد نهضت بكيان كل صوت وعادت به إلى نقطة انطلاقه ، واهتداء الخليل إليها بذهنه المتوهج فطنة وذكاءً ، دون مثال يحتذيه عند من سبقه من علماء العربية كنصر بن عاصم الليثي وأبي عمرو بن العلاء لدليل ناصع على موسوعية فذة ، وعبقرية لا تقاس بالأشباه ، كيف لا وبداية إفاضاته الصوتية مبكرة ومبتكرة .
ختم الخليل هذه المقدمة بما بدأه من ملحظ صوتي ليس غير : « بدأنا في مؤلفنا هذا بالعين ، وهو أقصى الحروف ونضم إليه ما بعده حتى نستوعب كلام العرب الواضح والغريب ، وبدأنا الأبنية بالمضاعف لأنه أخف على اللسان ، وأقرب مأخذاً للمتفهم » (2) . ولمّا كانت هذه المقدمة مشتملة على الإفاضة الصوتية الأولى عند العرب ، فإننا نشير إلى بعض ملامحها بإيجاز وتحديد :
1 ـ لقد أدرك الخليل بفطرته الصافية ، وحسه المتوقد ، أهمية الصوت اللغوي في الدراسات اللغوية المتخصصة ، فأشار إلى أبعادها من ينابيعها الأولى ، فوضع يده على الأصول في انطلاق الأصوات من مخارجها الدقيقة ، وأفرغ جهده الدؤوب في التماس التسميات للمسميّات فطبق بها المفصل ، وتمكن من استنباط طائفة صالحة من الأسرار الصوتية من هذا الخلال ، لذلك فقد كان صحيحاً ما توصل إليه محققا العين أن في المقدمة منه « بواكير معلومات صوتية لم يدركها العلم فيما خلا العربية من اللغات إلا بعد قرون عدة من عصر الخليل » (3) .
(1) الخليل ، كتاب العين : 1|58 .
(2) المصدر نفسه : 1|60 .
(3) ظ : مقدمة التحقيق لكتاب العين : 1|10 .



يمكن تحميل مجموعة من الملفات المتعلقة بالموضوع
من هنا على بركة الله

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..