الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

البقرة العرجاء

         في مكانٍ ما في هذه الدنيا استيقظ المزارع مبكراً كعادته ودخل إلى حظيرة البقر ليطمئن على مصدر رزقه، كل بقرة بخير إلا واحدة يبدو عليها أنها تعرج، عاد المزارع إلى كوخه مهموماً، سأله ولده عن الأمر فأخبره عن البقرة العرجاء، قال له الولد «لا عليك يا أبتاه الحل عندي» رد الوالد «يا بني، هذه الأبقار مصدر رزقنا ولن أتركك تعبث بها» اتصل المزارع بصديق له يستشيره فأخبره عن أشهر مزارع الأبقار في العالم وأنه بإمكانه استقدام خبير من أحدها ليساعده، أرسل المزارع في طلب الخبير، أسرع الخبير في الحضور حاملاً حقيبته الدبلوماسية بيد وفاتورة أتعابه باليد الأخرى، دخل الحظيرة ليعاين البقرة وبعد ساعات طوال خرج على المزارع وقال «في مزرعتنا العظيمة نرش المبيد الحشري في الحظيرة يومياً وأبقارنا لا تعرج فلماذا لا تجرب ذلك؟» أسرع المزارع واشترى مبيداً حشرياً ورشه تحت إشراف الخبير في الحظيرة. في الصباح التالي ذهب المزارع ليتفقد الحظيرة فوجد أن اثنتين من أبقاره ماتتا اختناقاً خلال الليل، والبقرة العرجاء على حالها، استدعى الخبير فجاء بحقيبته وفاتورته ودخل إلى الحظيرة، بعد ساعات خرج وقال للمزارع «أبقارك لم تكن متعودة على المبيد لذلك ماتت، وهذه غلطتك، في مزرعتنا العظيمة نقوم يومياً بوضع أدوية للأبقار في طعامها لتقاوم المبيد، لماذا لا تجرب ذلك؟» خرج المزارع مسرعاً واشترى المبيد والأدوية وتحت إشراف الخبير وضع الأدوية في الطعام ورش المبيد في الحظيرة، في الصباح التالي دخل الحظيرة ليجد بقرتين ميتتين اختناقاً وأخريين ميتتين بسبب التسمم من الأدوية، والبقرة العرجاء ما زالت تعرج، استدعى الخبير، جاء على عجل حتى أنه نسي حقيبته هذه المرة ولكنه طبعاً لم ينس الفاتورة، دخل الحظيرة، عاين جثث الضحايا وبعد ساعات خرج للمزارع قائلاً «أبقارك لم تتعود على أدويتنا المتطورة ولذلك ماتت وهذا طبعاً خطؤك، في مزرعتنا لدينا 10 خبراء وأبقارنا لا تعرج، لماذا لا تجرب ذلك؟».
خرج المزارع مسرعاً واتصل بالمزارع الكبرى طالباً الخبراء وجاؤوا مسرعين بعضهم بحقائب وبعضهم بأجهزة آي باد وفاتورة واحدة طويلة، دخل الخبراء للحظيرة وتأملوا الأبقار الميت منها والحي، وبعد أيام تخللها بيع المزارع لكل ما يملك ليتمكن من دفع فواتير الخبراء وإطعامهم وتوفير المسكن لهم، خرج الخبراء على المزارع وقالو له «بعد مباحثات طويلة وجدنا أن مزارعنا يديرها خبراء فلماذا لا تجرب ذلك؟» خرج المزارع مسرعاً وكتب عقداً لإدارة المزرعة براتب خيالي وسلمه للخبراء، وقعوا توقيع رجل واحد ومضوا في إدارة المزرعة، بعد أيام ماتت كل الأبقار إلا البقرة العرجاء وأتلفت المحاصيل وقدم الخبراء استقالاتهم بعد أن استلموا كامل مستحقاتهم وبقي المزارع إلى جوار البقرة العرجاء يندب حظه.
دخل ابن المزارع على والده وقال «يا أبتاه هل تسمح لي الآن بعلاج بقرتنا؟» رد المزارع غاضباً «خبراء العالم كلهم لم يقدروا على ذلك هل تظن أنك أفضل منهم! أرني ماذا ستفعل!» خرج الولد إلى المنحلة أخذ بعض العسل وعاد إلى البقرة العرجاء ودهن أرجلها بشيء من العسل وأخذ يمسح على ظهرها، «ضرب الأب كفاً بكف وعاد إلى كوخه يتأمل في مزرعته التي صارت أثراً بعد عين، أصبح الصبح وخرج المزارع إلى الحظيرة وإذا بالبقرة العرجاء تركض في الحظيرة بلا عرج، عاد المزارع راكضاً إلى أهل بيته يبشرهم ثم التفت إلى ابنه قائلاً «كيف يا بني عرفت هذا الحل وقد عجز الخبراء عنه» رد الولد «بسيطة يا والدي، أنا أعيش مع هذه الأبقار من صغري، أعرف ما تحب وما تكره، وأعرف ما ينفعها وما يضرها» أطرق المزارع مفكراً في فضيحته عند بقية المزارعين إذا عرفوا بالقصة، فقرر طرد ابنه من المزرعة وأعلن لأهل القرية أن الخبراء الأجانب عالجوا البقرة وأن ابنه قتل بقية البقر، أما الابن فحصل على وظيفة خبير في مزرعة المستشار الأول.
بطبيعة الحال هذه القصة رمزية ولا وجود للبقرة العرجاء ولا المزارع ولا ولده، ولكن مثل هذه القصة يحدث يومياً في مؤسساتنا التي أصبحت مهووسة بالخبراء الأجانب الذين يصرف عليهم الملايين بهدف إيجاد حلول لمشاكلنا، هؤلاء الخبراء يستدعون التجربة التي قدموا منها من دون استيعاب كامل لثقافة مجتمعنا أو خصوصياته؛ ولذلك نجد أن كثيراً من المشاريع التي دخلها المستشارون تأثرت سلباً، سواء في الصحة أو التعليم أو القطاعات الأخرى حاول المستشارون عابثين إيجاد الحلول عبر استنساخ ما فعلوه في ديارهم وكانت النتيجة أن المشاكل الناجمة عن عبثهم كانت أسوأ من المشاكل التي جُلبوا من أجلها، اليوم نحن بحاجة لإعادة النظر في طريقة تعاملنا مع التجارب التي تأتينا من الخارج، استيراد النجاح ليس حلاً فليس كل ما ينطبق على بيئة معينة يناسب البيئات الأخرى، والأدهى والأمر هو أنه في كثير من الأحيان تحاول بعض الجهات التغطية على فشل المستشارين خجلاً من الاعتراف بالخطأ.
الدول التي حققت نقلات حضارية حقيقية لم تستورد سبل النجاح، اليابان طورت أنظمتها الخاصة في الإدارة والصناعة وها هي تدرس اليوم عالمياً، الأتراك اليوم يعتمدون على جامعاتهم وكوادرهم في تطوير صناعات جديدة تركية، حتى وصلوا إلى إنتاج الطائرات، نحن اليوم بحاجة إلى أن نتعامل مع القصور في مؤسساتنا من خلال تطوير الكادر المحلي والبحث عن الحلول المنبثقة من قيمنا وثقافتنا وتجربتنا، وإلا فسينتهي بنا الحال كما انتهى بالمزارع، نقتل البقر ونبقي على الخلل.

ماجد محمد الأنصاري
الثلاثاء، 28 أبريل 2015 02:13 ص

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..