الخاتون : مس بيل في العراق (1ـ3) البريطانية Gertrude Bell
سر نجاحها في قهر الصحراء التي أحبتها كان شجاعتها وقدرتها علي احتمال المشاق و
تفهمها للناس وظروفهم
حلمت بقطع الجزيرة من شرقها لغربها.. احتجزها أمير شمر كأسيرة محترمة وعادت لبغداد كسيرة الخاطربعد الاحتلال البريطاني للعراق ـ
خلال الحرب العالمية الاولى ـ وفي السنوات الاولى لقيام الحكومة العراقية تحت الانتداب البريطاني، وفي وقت كانت فيه المرأة العراقية ما تزال رهينة خدرها، ولم يكن من المألوف فيه ان تشارك في الحياة العامة، ظهرت في مجتمع بغداد امرأة انكليزية فريدة، احتلت مكانة بارزة، ومارست نفوذا واسعا في تأسيس الادارة الجديدة، وفي حكم البلاد، وشاركت في حياتها السياسية، ودخلت مجتمع الرجال بلا تحفظ، فجالست ساسة البلاد وحكامه من عراقيين وبريطانيين، وشيوخ العشائر من عرب واكراد، ورجال الدين من سنة وشيعة، وزعماء البلد ووجوهه من موالين للسلطة ومعارضين.
تلك هي مس بيل التي وان كانت صفتها الرسمية سكرتيرة شرقية للمعتمد السامي البريطاني في العراق، فإنها ـ في الواقع ـ كانت كما لقبها الكثيرون، ملكة غير متوجة للبلاد، لها في كل مجتمع صوت، وفي كل قضية رأي، وفي كل مقام مقال.
وليس من الاسرار التاريخية ان مس بيل كانت احدى الشخصيات التي رسمت، مستقبل العراق السياسي لسنوات عديدة بعد الاحتلال البريطاني، وكان لها دور كبير في تأسيس الحكومة العراقية الجديدة وربما في نصب فيصل الاول على عرش العراق.
وسأحاول الآن، وفي نطاق ما يستوعبه الوقت المحدد، ان اقدم لمحات عن حياة غيرترود بيل ورحلاتها ومسيرتها في العراق، مع عناية خاصة بالنواحي التي هي معروفة أقل من غيرها نسبيا عن حياة هذه المرأة التي كان العراقيون يسمونها (الخاتون) ويدعوها الملك فيصل الاول (اختي)، ويخاطبها السيد عبد الرحمن النقيب بـ(ابنتي)، ويلقبها عبد المجيد الشاوي ـ مازحا ـ بـ(ام المؤمنين)، ويسعى اليها الساسة والوجوه والشيوخ واصحاب الحاجات، ويستأذنها بعضهم حتى في زيارة المعتمد السامي، او مواجهة الملك فيصل الاول، ويستشيرونها في الامور المهمة، ويعطون بتوجيهها. هذه هي المرأة التي كانت تضع مشروعات القوانين، وترشح الوزراء، ويحسب لرأيها حساب في وزارتي الخارجية والمستعمرات، وتعد من موجهي سياسة بريطانية في العراق في عهدي الاحتلال والانتداب.
هل كانت مس بيل صديقة للعراق حقا؟ ام كانت قبل كل شيء مغامرة تجوب الآفاق، متعتها وهواها في ركوب الاسفار، ومشاهدة غرائب الامصار، والبحث عن نوادر الآثار؟
نالت غيرترود بيل شهرة لا بأس بها بمؤلفاتها الاولى عن رحلاتها وتنقيباتها الاثرية في الشرق الادنى، وفي شمال الجزيرة العربية قبل الحرب العالمية الاولى، ولكن هذه الشهرة كانت محصورة في نطاق معين، وقاصرة على الاوساط الاكاديمية، وعلى المعنيين بالشؤون الشرقية وعلم الاثار، وشهرتها الحقيقية انما جاءت من رسائلها التي نشرتها بعد وفاتها بسنة واحدة تقريبا.
ان مس بيل ـ لحسن الحظ ـ من الاشخاص الذين يمكن ان تستخلص سيرتهم من رسائلهم، وهذه الرسائل التي كانت تبعث بها الى والديها غالبا، والى بعض اصدقائها المقربين احيانا، باستثناء فجوات قليلة، تغطي حياتها كلها منذ ايام طفولتها في شمال انكلترا، الى مرضها الاخير في بغداد، في تموز (يوليو) سنة 1926 ـ وكانت تكتبها من البلدان التي تسافر اليها. واهمها بطبيعة الحال واحفلها بالمعلومات التاريخية، هي التي كانت تبعث بها من العراق خلال السنوات العشر الاخيرة من حياتها، وهي اشبه ما تكون بالمذكرات او اليوميات، وكانت تكتبها بصورة متعاقبة، وفي فترات قصيرة، وتضمنها وصف كل ما تزوره من اماكن، او تشهده من احداث، او تقوم به من اعمال، وكل ما يعن لها من خواطر ازاءها، او ما يبلغها من اخبار واشاعات بحكم عملها ضابطة استخبارات اولا ثم سكرتيرة شرقية لدار الاعتماد في ما بعد.
كانت غرترود بيل قادرة في نهاية يوم سفر حافل ومتعب، على تدوين وصف كامل لما شهدته وسمعته في رسائل كانت في كثير من الحالات تبلغ بضع صفحات كبيرة، ذات اسطر ناعمة متراصة، مكتوبة بسرعة كبيرة، وغير خالية من الاخطاء الاملائية. وقد جرت على هذه العادة يوما بعد يوم وعاما بعد عام، خلال فترة تزيد عن خمسين عاما. وكانت رسائلها الموجهة الى والديها بصورة خاصة تحتوي على كثير من المعلومات الرسمية والسرية، والاراء والملاحظات الشخصية، ولم يكن ليطلع عليها احد سواهما. وكانا يحتفظان بها في حرز حريز بسبب اهمية المعلومات التي تتضمنها، حتى اصبحت هذه الرسائل تؤلف في مجموعها وثائق تاريخية خطيرة وخاصة عن الحالة السياسية والاجتماعية في العراق، وسجلا حافلا بالمعلومات النادرة والدقيقة عن الاسلوب الذي كان متبعا في حكم العراق، وطراز تفكير البريطانيين العاملين فيه، وطريقة تعاملهم مع العراقيين وآرائهم الحقيقية فيهم، وكيفية اتصال العراقيين بالانكليز، وعلاقات مختلف الشخصيات العراقية في ذلك العهد بهم.
ولما نشرت رسائل غيرترود بيل للمرة الاولى في سنة 1927 (وكانت قد رتبتها واعدتها للنشر زوجة ابيها الليدي بيل ) حذفت منها الرقابة امورا كثيرة وجدت ان الوقت لم يحن بعد لنشرها، وخاصة فيما يتعلق بمن ورد ذكرهم من الاشخاص الذين كانوا ما يزالون على قيد الحياة. وعلى اثر صدورها كتب الرحالة المعروف فيلبي رسالة الى محرر جزيرة اوبزرفر شدد فيها الوطأة على قلم الرقابة، وقال انها شوهت تلك الرسائل ومسختها. وضرب على ذلك عدة امثلة.
ومع ذلك فقد كان نشر تلك الرسائل حدثا خطيرا، اذ قامت بسببها ضجة كبرى، واحتفلت لها الصحافة احتفالا كبيرا. وقد نشرت جريدة تايمز اللندنية بمناسبة صدورها مقالة افتتاحية عن غيروترود بيل واعمالها، اتبعتها بمقالتين مفصلتين تضمنتا عرضا للرسائل وتقييما لها. وجاء في افتتاحية التايمز (22 آب/ اغسطس 1927): على الرغم من أن وفاة مس بيل كانت خسارة عامة عظيمة، فان سيرتها كانت دليلا على ان طول الحياة ليس شيئا مذكورا الى جانب غزارة ما تحفل به .
وقد راجت رسائل المس بيل رواجا عظيما، فأعيد طبعها سبع مرات خلال اربعة اشهر ومرات عديدة اخرى بعدها. وبعد ان كانت مس بيل معروفة في العراق بصفة خاصة، وبين بعض الاوساط المعنية بالشؤون الشرقية في خارجه، فان نشر رسائلها جلب لها شهرة عالمية واسعة.
سيرة المغامرة
وفي سنتي 1960 و1961 نشرت اليزابيث بورغوين سيرة غيرترود بل مستقاة من رسائلها واوراقها الشخصية في جزأين يتضمنان فقرات طويلة مقتبسة من تلك الرسائل. وقالت في مقدمتها في الوقت الذي صدرت فيه طبعة (الليدي بيل) كان التنقيح ضرورة سياسية. ولكنني في هذين الجزأين تمكنت من الافادة بصورة كاملة من جميع رسائلها ويومياتها، فلم احذف منها شيئا ذا اهمية سياسية كانت ام شخصية، ولم اقم ـ عن طريق اضافة عبارات خارجة عن الصدد ـ بأي تحريف في معانيها الأصلية في اي موضع. ففي رسائلها التي بلغ عددها الألوف، وفي 14 مجلدا من اليوميات التي خلفتها، كتبت غيرترود بيل حياتها، كما انها عرضت الخفايا السياسية في عهدها .
وعلى الرغم من ان الجزأين اللذين نشرتهما اليزابيث بورغوين يحتويان على أهم المعلومات عنها، فان قصة المس بيل لم تكتب بعد كما ينبغي لها. وهي قصة امرأة عاطفية، ذكية، مثقفة، تهوى الآثار، وتعشق الاسفار، ولا يقر لها في مكان قرار. احبت مرتين، وفجعت بحبها في كلتيهما، فالتمست النسيان والسلوى في الرحلات، تارة في مدن ايران تتعلم الفارسية وتدرس آدابها، وطورا في جبال الالب تتسلق قممها وتغالب ثلوجها واعاصيرها. ثم في صحاري الجزيرة العربية، تتحدى رمالها وتقتحم مجاهلها، وتتعرف على قبائلها. واخيرا في العراق تسهم في تأسيس دولته الجديدة، ورسم مستقبله، وتوجيه سياسته.
ان النهج الذي نهجته غيرترود بيل في حياتها، والمهمات التي اضطلعت بها، كان كله من اختيارها وصنعها، واما ما واجهته من اقدار، فلم تكن لها حيلة ازاءها.
وهي كبرى بنات السير توماس هبو بيل ، من اكبر رجال استخراج الحديد في يوركشاير. ولدت سنة 1868 في مدينة درهام ، وماتت امها وهي في الثالثة من عمرها اثناء ولادة اخيها موريسو ، فتزوج ابوها ثانية من فتاة اسمها فلورنس وهي ابنة السير جوزيف اوليفي، طبيب السفارة البريطانية في باريس. ولذلك نشأت غرترود لا تعرف اما سواها، وهي تدعوها أمي في رسائلها الكثيرة التي كتبتها اليها في ما بعد. وكانت اخت السير جوزيف اوليفي متزوجة من السير فرانك لاسلز الذي كان من الدبلوماسيين البريطانيين البارزين في زمانه.
تلقت غيرترود تعليمها اولا في (كينغ كوليدج)، وكانت تلميذة ممتازة في كل شيء سوى الموسيقى والخط. ثم دخلت جامعة اوكسفورد، وحصلت على مرتبة الشرف الاولى في التاريخ الحديث وهي دون العشرين من عمرها، وكانت اول فتاة تحصل على هذه المرتبة من تلك الجامعة المتزمتة.
وكانت السنوات العشر التي اعقبت تخرجها حافلة بضروب منوعة من النشاط، من قيام بخدمات اجتماعية في لندن ويوركشاير، وتسلق جبال الالب في سويسرا وايطاليا، ورحلة حول العالم، وزيارات طويلة الى السير فرانك والليدي لاسلز في العواصم التي كانا يمثلان بريطانيا فيها: بخارست وطهران وبرلين.
وخلال وجودها في ايران درست غيرترود اللغة الفارسية وتعلمتها الى حد استطاعت معه ان تنشر في سنة 1897 ترجمة لديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، فنالت الترجمة نجاحا لا بأس به، وقد سبق لها ان نشرت قبل ذلك ببضع سنوات كتابا آخر بعنوان صور فارسية استوحته من سفرنامة ، ولكنه كان غفلا عن توقيعها لأنه كان في رأيها تافها.
كانت زيارة غرترود الى طهران من أسعد الفترات في حياتها على الرغم من النهاية المحزنة التي انتهت اليها. فقد تعرفت هناك على ملحق شاب بالمفوضية البريطانية يدعى هنري كادوغان كان يشاركها حبها للشعر، وسرعان ما وقعت في غرامه، وأعلن الاثنان خطبتهما. وكتبت غيرترود الى ابويها تزف اليهما النبأ، ولكنهما كانا ـ فيما يبدو ـ قد سمعا بما يثقل كاهله من ديون، وما يتصف به من طباع صعبة، فطلبا اليها ان تنتظر. وكانت غيرترود قد بلغت سن الرشد، واصبحت مستقلة في امورها حرة في تصرفها، ولكنها مع ذلك انصاعت لطلبهما، وعادت الى انكلترا فورا. وبعد تسعة اشهر توفي هنري كادوغان على اثر مرض قصير.
وعلى الرغم من ان بلاد فارس والأدب الفارسي استوليا على خيالها وتفكيرها في البداية، فان البلاد العربية استهوتها في ما بعد، وملكت عليها نفسها وكان لها اثر ابعد وابقى في حياتها. وقد قرأت غيرترود كتاب الرحالة دوتي عن اسفاره في البلاد العربية، وشغفت به في وقت لم يكن قد لفت الانظار اليه في انكلترا بعد، فجذبها الى الحياة العربية والصحاري العربية والأدب العربي. واخذت ترحل اليها وهي ما تزال جزءا من الدولة العثمانية، كما صارت من سنة الى اخرى ترقب انبعاث الشعور القومي العربي ونموه خلال الفترة الاخيرة من حكم السلطان عبد الحميد، وفي عهد جمعية الاتحاد والترقي، وتتابع باهتمام ما يجد في الشرق الادنى من تحولات سياسية، وما يحدثه النفوذ الغربي المتزايد من آثار، ولكن اهتمامها الكبير، ومتعتها الحقيقية كانت في الحياة الشرقية: العادات الغربية عنها، ازياء الطبقات المتواضعة بألوانها الزاهية، آراء الطبقات الحاكمة وطراز تفكيرها، ومدى تمسكها بالاساليب القديمة او اكتسابها تدريجيا مظاهر المدنية الحديثة.
قامت مس بيل برحلتها الاولى الى الشرق الادنى سنة 1905 مخترقة فلسطين وحوران وشمال سورية على ظهور الخيل. وكانت خلال ذاك قد تعلمت من اللغة العربية ما مكنها من عقد اواصر الصداقة مع عدد غير قليل من الناس في تلك المناطق. وقد وضعت كتابا وصفت فيه هذه الرحلة سمته الصحراء والمعمورة ونشرته في سنة 1906. وفي هذا الكتاب ظهر اهتمامها بالعرب وشغفها باللغة العربية وآدابها للمرة الاولى، وربما كان ابرع كتبها. وهو كتاب تفوح منه رائحة الصحراء ونسائمه جذابة طرية، ومع ذلك لا تطغي فيه العاطفة الجامحة على الاحكام العقلية المتزنة. وقد صدرت الكتاب ببيت من الشعر العربي لتأبط شرا، هو:
يري الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي = بحيث اهتدت ام النجوم الشوابك
وكانت غيرترود خلال هذه الفترة تهتم بالآثار القديمة التي تمر بمواقعها خلال رحلاتها، حتى اعدت نفسها، بدون دراسة جامعية منظمة، لتكون باحثة اركيولوجية، فقامت في سنة 1907 بتنقيبات وحفريات أثرية في مواقع الحثيين والبيزنطيين في منطقة بيك بيركليسه في تركيا، بالتعاون مع السير وليم رامزي الذي تعرفت عليه في مدينة قونية . وفي تلك المدينة ايضا تعرفت على رجل انكليزي آخر ـ لا نعرف عنه الكثير ـ قدر ان يكون له في ما بعد شأن كبير في حياتها ومستقبلها، وهو الكابتن تشارلز دوتي ـ ويلي .
وقد ظهرت نتائج ابحاث غيرترود والسير وليم رامزي في كتاب مشترك صدر في سنة 1909 بعنوان الف كنيسة وكنيسة . وكانت تجارب غيرترود في مجال الآثار القديمة ستصبح ذات فائدة كبيرة لها حين عملت على تأسيس المتحف العراقي في بغداد بعد ذلك بخمسة عشر عاما تقريبا، مما سنتحدث عنه في حينه.
وفي السنة التالية بدأت غيرترود رحلة اخرى، اكثر طموحا، فسافرت من حلب منحدرة على نهر الفرات، ثم اخترقت الصحراء التي كانت خالية من الطرق المطروقة، باحثة في طريقها عن آثار القصور القديمة، وكانت قد سمعت كثيرا من الروايات عن الاخيضر ، فاجتازت الصحراء مرة اخرى الى منطقة قبائل الدليم، وبعد مسيرة اربعة ايام كانت في موقع الاخيضر ، ثم عادت بطريق بغداد والموصل الى آسيا الصغرى.
ووصفت غيرترود بيل هذه الرحلة في كتاب من أشهر كتبها وهو من مراد الى مراد الذي صدر في سنة 1911. وفي هذا الكتاب يحتل البحث الاركيولوجي والطوبوغرافي في اراضي ما بين النهرين الهادئة على حدود العراق الشمالية قسما لا يقل في اهميته عن تقديراتها للاوضاع السياسية في الشرق الادنى وانطباعاتها عن ثورة تركية الفتاة ، اضافة الى عدد كبير من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها خلال الرحلة. وكانت غيرترود بيل كبيرة الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي منذ ذلك الوقت المبكر في تاريخ هذا الفن، ومن اوائل من ادرك قيمته الوثائقية.
وقد صدرت هذا الكتاب ايضا ببيت آخر من الشعر العربي للشاعر الجاهلي لبيد هو:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع = وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وكانت مولعة بهذا البيت كثيرة الترداد له.
وعادت غيرترود بيل الى تنقيباتها الأثرية في الاخيضر في سنة 1911 ونشرت نتائج تلك التنقيبات في دراسة بعنوان قصر الاخيضر وجامعه وهو كتاب ضخم صدر في سنة 1914 وكان اهم ما نشرته من دراسات اركيولوجية.
حب جديد
كانت غيرترود بيل خلال هذه الفترة تراسل الكابتن تشارلز دوتي ـ وايلي الذي سبق ان تعرفت عليه في قونية. ولما تكررت مراسلاتهما وتتابعت، اصبح من الواضح لها انها تقع في شباك حب جديد. والتقي الاثنان في لندن في سنة 1912 ثم في سنة 1913.
وكانت المشكلة ان دوتي ـ وايليي كان متزوجا، وكانت زوجته خلال زيارة غيرترود الثانية غائبة عن لندن، ولكن العلاقة بين الاثنين ـ فيما يبدو ـ لم تكن سرا، لان غيرترود كانت تدعوه الي يوركشاير، فيذهب لرؤيتها، ويحل ضيفا في دار والديها.
وعرض عليها دوتي ـ وايلي الزواج بعد ان يطلق زوجته، ولكنها رفضت قائلة انها لا تستطيع ان تبني سعادتها على صرح بيت مهدم. وبقيت بين نارين، يمضها حبها تعذيبا، ويأبى ضميرها ان ينصاع لنداء القلب. فكانت تمر بها فترات من الكآبة واليأس تجعلها على شفا الانتحار. حتى قررت اخيرا ان تقوم بمغامرة جديدة، فتذهب الى الصحاري العربية التي ما فتئ سحرها يجتذبها.
وكان المشروع الذي تفكر فيه منذ مدة طويلة هو القيام برحلة عبر الجزيرة العربية من غربها الى شرقها، وهي منطقة لم يصلها اوروبي منذ عشرين عاما، ولم تصلها امرأة اوروبية قط، باستثناء الليدي آن بلنت. فمضت في مشروعها قدما، علها تبتعد عن الجو الخانق الذي احاط بها في انكلترة، وتجد في مغامرتها الجديدة شيئا من السلوى.
بدأت غرترود بيل رحلتها الصحراوية الجديدة من دمشق في بداية سنة 1913وكتبت قبل مغادرتها رسالة تضمنت هذه الصرخة اليائسة.
لا بد للعالم ان يمضي وشأنه زمنا من دوني. لو عرفت كيف أجيء، على ثري الجحيم لوجدتني مصيبة في التماس اي مخرج. انها في معظمها غلطتي، ولكن ذلك لا يغير من كونها سوء حظ لكلينا. انني اذهب بعيدا عنه الان.. والزمن كفيل بقتل اكبر المطالب .
وتمكنت مس بيل بعد سفرة مضنية من الوصول الى معاقل شمر في حايل، ولكنها لم تتمكن من الذهاب ابعد من ذلك. وكان امير حايل غائبا، وصلاته مع جاره الجنوبي امير نجد عبد العزيز بن سعود سيئة. فتخوّف نائب امير حايل من السماح لامرأة اوروبية مسيحية بالمرور الى بلاد سكانها محافظون متعصبون لتقاليدهم، واحتجزها في حايل، فكانت اشبه بسجينة او اسيرة محترمة، ولم يسمح لها بمواصلة رحلتها، فاضطرت الى العودة الى بغداد في نيسان (ابريل) 1914، فوصلتها متعبة خائرة القوى، كسيرة الخاطر لاخفاقها في المشروع الذي فكرت فيه سنوات طويلة، وعلقت عليه آمالا عريضة. ولكنها مع ذلك حصلت خلال هذه السفرة على ذخيرة كبيرة من المعلومات الجغرافية، وتعرفت على عدد كبير من الاشخاص في شمال الجزيرة العربية، واطلعت على التيارات السياسية والعلاقات القبلية في تلك المناطق، مما كان سيعود عليها بفائدة كبيرة في عملها في المستقبل، ذلك العمل الذي لم تكن بعد لتعلم شيئا عنه، ولم يمر بخلدها مرورا. فكان تقييمها لامير نجد عبد العزيز بن سعود ـ مثلا ـ بأنه: اهم شخصية في وسط الجزيرة العربية . وقد سجلت هذا الرأي في ذلك الوقت المبكر الذي كانت فيه شخصية الملك عبد العزيز غير معروفة في العالم الخارجي، ولم تكن الاحداث قد اظهرته على مسرح السياسة العربية والدولية بعد.
وكانت غيرترود بيل تقوم بمعظم رحلاتها المحفوفة بالمخاطر دون ان يصحبها رفيق سفر، ولم يكن معها سوى خادم واحد. وهي لم تحاول قط، في اي مكان حلت فيه ان تخفي هويتها او كونها امرأة. بل انها كانت تعتقد ان كونها امرأة هو خير حماية لها بين عرب الصحراء الفخورين بعاداتهم، والذين يحترمون الثقة التي توضع فيهم، ويعدون حماية الضيف، والذود عن ماله وعرضه، من واجبات المروءة والشرف.
ويرى كل من كتب عن مس بيل ان سر نجاحها في قهر الصحراء التي احبتها احيانا، واحتوتها اخرى، هو انها فضلا عن بنيتها القوية، وقدرتها العجيبة على احتمال المشاق، جمعت بين الشجاعة المتناهية، والتفهم السريع لكل من تجعلها الظروف على اتصال بهم من الناس، على اختلاف بيئاتهم وعقلياتهم.
عادت مس بيل الى انكلترة في آذار (مارس) 1914، فمنحتها الجمعية الجغرافية الملكية وساما ذهبيا تقديرا لرحلتها الصحراوية الاخيرة، ولكنها لم تتمكن من سرد قصة هذه الرحلة في كتاب كما فعلت بعد رحلاتها السابقة، مع انها كانت من اهمها واحفلها بالمغامرات، فقد حال دون وضعها كتابا عن رحلتها الى حائل نشوب الحرب العالمية الاولى بعد عودتها بشهور قلائل، وقرارها بأن تتطوع للقيام بعمل ما لخدمة بلادها خلال الحرب. وقد انتمت الى مكتب اسسته منظمة الصليب الاحمر للبحث عن المفقودين والجرحى في بولون بفرنسا.
وخلال وجودها في لندن لقيت الكابتن دوتي ـ وايلي مرة اخرى. وكانت جذوة الحب بينهما ـ فيما يظهر ـ ما تزال متقدة. وفي ذلك الوقت صدرت اليه الاوامر بالالتحاق باحدى الوحدات التي كانت تقاتل في غاليبولي (جناق قلعة) في الدردنيل. فقضت معه بضعة ايام قبل سفره. وفي 20 نيسان (ابريل) كتب اليها من ساحة القتال قائلا:
عزيزتي: الليلة سأجمع كل رسائلك، وأرزمها، وأتركها معنونة اليك . وكأنه كان يشعر بمصير محتوم قريب، لانه اكد عليها في هذه الرسالة ان لا تفكر في الانتحار او تقوم بمحاولة من هذا القبيل .. لان ذلك سيجعل روحي في عالم بعيد آخر، اكثر حزنا واضطرابا .
وكانت اقامة غيرترود بيل في لندن، بعد سفر داوتي ـ وايلي اقسى فترة في حياتها، لم تذق فيها طعما للراحة ولا للسعادة، فقد كان اخوها موريس في جبهة القتال في فرنسا، والرجل الذي احبته في اهوال القتال في الدردنيل.
وكانت اخت غيرترود لأبيها الليدي ريتشموند تقيم في منطقة هامبستيد في لندن، وكانت غيرترود تتردد عليها او تخاطبها بالتلفون كلما اثقلتها الهموم، فتجد شيئا من الراحة. وبينما كانت غيرترود تتناول الغداء مع بعض اصدقائها في لندن، بلغها ان الكابتن دوتي وايلي قتل في الدردنيل وهو يقود مفرزة استرالية. فذهبت بأسرع ما تستطيع الى اختها، وهي في حالة من الذهول واليأس والأسى. فلما رأتها اختها حسبت بادئ الامر ان اخاها قتل في الحرب، ولكن غيرترود صرخت قائلة: لا.. ليس موريس . وسقطت على احد الأرائك تجهش بالبكاء.
وبينما كانت غيرترود بيل في غمرة حزنها وحيرتها فتح امامها بصورة مفاجئة تماما، باب جديد الى الشرق. ففي خريف سنة 1915، حينما كانت بوادر حركة قومية عربية منظمة تظهر الى الوجود وتتبلور، اخذت السلطات البريطانية في القاهرة تستخدم عددا من الاشخاص الذين لهم معرفة سابقة بالبلاد العربية، وخبرة في شؤونها، للعمل في مكتب استخبارات انشأته هناك باسم المكتب العربي . وكانت المهمة الاولى لهذا المكتب اجتذاب تلك الحركة العربية نحو بريطانيا، واستغلالها لصالح الحلفاء. وكان رئيس هذا المكتب الجنرال كلايتن، ومن اعضائه هوغارث، ولورنس، وكورنواليس. فرشحت غيرترود بيل للعمل في هذا المكتب ايضا، لخبرتها في الشؤون العربية، وخاصة في شؤون العشائر، تلك الخبرة التي ظهرت جليا في مؤلفاتها عن رحلاتها في البلاد العربية.
ووصلت غيرترود الى القاهرة في 30 تشرين الثاني (يناير) سنة 1915، فعهد اليها بمهمة تجميع ما لديها وما يتيسر لها الحصول عليه من معلومات عن العشائر في شمال جزيرة العرب، وتلخيصها وتحليلها، للافادة منها في علاقات بريطانيا مع تلك العشائر واتصالاتها بها. وقد اصبح المكتب العربي في ما بعد مدرسة سياسية عرفت بمدرسة القاهرة، تقابل مدرسة الهند . وكان لاعضائه دور مهم في صياغة سياسة بريطانيا في العراق وفي الشرق العربي بعد الحرب.
وفي كانون الثاني (يناير) سنة 1916 ارسلت غيرترود بيل في مهمة خاصة من القاهرة الى دلهي بطلب من حكومة الهند التي كانت تعد معجما جغرافيا للبلاد العربية، فرغبت في الاستعانة بما لديها من معلومات وفيرة في هذا الموضوع. وكان نائب الملك في الهند اللورد هاردنغ صديقا قديما لها، فلما أنهت مهمتها هناك طلب اليها ان تمر بالبصرة بطريق عودتها، وكانت الحملة الاستطلاعية البريطانية قد احتلها.
ووصفها اللورد هاردنغ للسير برسي كوكس، كبير الضباط السياسيين في الحملة البريطانية بأنها امرأة خارقة الذكاء، ولها دماغ رجل، تتكلم العربية بطلاقة وتعرف عن عشائر الصحراء اكثر من اي شخص آخر، ربما باستثناء ليتشمان. وكانت الغاية من إرسالها الى البصرة هي ان تربط بين ما لديها من معلومات عن العشائر العربية، وبين ما كان يصل الى مقر الحملة الاستطلاعية البريطانية التي كانت قد احتلت البصرة قبل ذلك. فكان وصول غيرترود الى البصرة، فيما اريد به ان يكون زيارة قصيرة، بداية صلة جديدة بالعراق. صلة قدر لها ان تستمر حتى اليوم الاخير من حياتها. فقد ألحقت اولا بهيئة موظفي الاستخبارات العسكرية، وبعد ثلاثة اشهر انضمت الى هيئة سكرتارية رئيس الحكام السياسيين، السير برسي كوكس، بصفة ضابط سياسي مساعد، واخذت تقوم بواجبات السكرتير الشرقي. وعلى اثر احتلال بغداد في آذار (مارس) سنة 1917، وانتقال سلطة الاحتلال اليها، انتقل معها السير برسي كوكس.
نص المحاضرة التي ألقيت في قاعة الكوفة بلندن
مساء الأربعاء 7 كانون الأول (ديسمبر) 2005
الكاتب: دبلوماسي وكاتب عراقي. تخرج من كلية الحقوق ببغداد عام 1945 وواصل دراسته في جامعة لندن. قضي في السلك الدبلوماسي العراقي 25 سنة تقريبا عمل خلالها في لندن وعمان والقاهرة وجدة وباريس وانقرة وواشنطن وموسكو علي التوالي، كما كان وكيلا مساعدا لوزارة الخارجية ومديرا عاما للدائرة السياسية فيها. عين في سنة 1967 سفيرا في الصين ولكنه استقال وتفرغ للكتابة والتأليف. مارس تدريس اللغة العربية قبل التحاقه بوزارة الخارجية وشارك في مؤتمرات علمية تاريخية عديدة، وحاضر في عدد من الجامعات العراقية والبريطانية والالمانية. منحه اتحاد المؤرخين العرب (وسام المؤرخ العربي) كما انه يحمل (وسام الاستقلال) الاردني. ومن كتبه: من مذاهب الادب الغربي 1943، اليهود والصهيونية في علاقات الدول الكبري 1967، العراق في مذكرات الدبلوماسيين الاجانب 1969، الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية (موسوعة في 12 جزءا صدرت منها ستة اجزاء حتي الآن) وغيرها من الدراسات، وحقق العديد من الكتب منها مذكرات رستم حيدر (1989)، وكتاب (خواطر وآراء) للرصافي 1988 ومذكرات جعفر العسكري (باللغة العربية 1988 وباللغة الانكليزية 2003) وآخرها مذكرات محمد حديد.
وله اكثر من خمسمئة بحث ومقالة في مختلف المجلات والجرائد العربية اضافة الي 1800 حلقة من زاوية هذا اليوم في التاريخ .
الخاتون: مس بيل في العراق (2 ــ 3)
بيرسي كوكس
بيل وصفت العلامة أنستاس الكرملي بالخبيث.. وآمنت باستحالة تحقيق وعد بلفور وإقامة وطن قومي لليهود
مارك سايكس صاغ بيان تحرير بغداد ونشره الجنرال مود على مضض تطبيقا لتعليمات الحكومة في لندن
بيرسي كوكس الاستخبارات والسكان
وكانت اعمال بيرسي كوكس في بغداد كثيرة. فالى جانب تنظيم اعمال الاستخبارات كان ـ بوصفه رئيسا للضباط السياسيين ـ واسطة الاتصال بين قائد الجيش والسكان المدنيين، ومستشاره في اتصالاته السياسية بهم. وكان معظم وقته يصرف في مقابلة الوجهاء والشيوخ من شتى انحاء العراق، مما اظهر الحاجة الى مساعدة شخص خبير بتاريخ العشائر وانسابها، عالم باتجاهاتها والعلاقات بينها. وكانت مس بيل خير من يستطيع القيام بها العمل. ولكن قائد القوات البريطانية، الجنرال مود، اعرب عن مخاوف كبيرة حينما علم ان امرأة ـ مهما كانت كفاءتها ـ آتية للانضمام الى السكرتارية. كما انه خشي ان يتخذ قدومها سابقة بالنسبة لزوجات الضباط اللواتي قد يطالبن بالانتقال الى بغداد اسوة بها، وهو امر لم تكن السلطات البريطانية قد سمحت به بعد. ولكن السير بيرسي كوكس تمكن من اقناعه بعد ان اكد له بانها قادرة على تقديم خدمات يعجز عنها اي عضو اخر في الادارة السياسية.
وبعد احتلال بغداد بأسبوع واحد، كانت غيرترود بيل في طريقها اليها من البصرة على ظهر باخرة عسكرية بريطانية. وكانت رحلة نهرية بطيئة استغرقت تسعة ايام. وفي 15 نيسان (ابريل) وصلت بغداد، وكانت الدار التي خصصت لسكناها ـ على قولها ـ اشبه بعلبة خانقة، فقضت فيها ليلة، ثم خرجت تبحث عن غيرها، فعثرت في محلة السنك ، قرب مدرسة الدهانة في ذلك الوقت، على بستان ورد فيه ثلاثة بيوت صيفية تعود لاحد اصدقائها القدماء، وهو موسى جلبي الباجه جي، فانتقلت اليها بعد خمسة ايام.
اصبحت مس بيل عنصرا مهما في هيئة موظفي السير بيرسي كوكس، وكانت ـ حسب تعبيرها ـ تقوم بوظيفة غربال لحشود الزوار والوفود واصحاب الحاجات الذين يتدفقون على مقره يوميا طالبين مقابلته. وكانت تزود السير بيرسي مع كل زائر بورقة تبين له فيها القبيلة التي ينتمي اليها، والمنطقة التي يمثلها، وما تعرفه عن ماضيه وميوله، والغرض من المقابلة، مما كان يوفر عليه كثيرا من الوقت ويسهل له العمل.
وقد وجدت مس بيل على اثر وصولها الى بغداد ان هناك توترا شديد في العلاقات بين الجنرال مود، قائد القوات البريطانية، والسير بيرسي كوكس، رئيس مستشاريه السياسيين. وكان مبعث هذا التوتر هو الاختلاف الصارخ بين عقليتيهما وشخصيتيهما.
كان الجنرال مود عسكريا ممتازا، همه الاول متابعة الحرب، ومواصلة انتصاراته لاستكمال فتح العراق صعدا الى الشمال. وكان في اتصالاته بسكان اراضي العدو المحتلة ـ كما كانت توصف في ذلك الوقت ـ يتصرف تصرف الفاتح العسكري دون اعارة اي اهتمام للاعتبارات السياسية، او مشاعر سكان البلاد.
والواقع ان البيان الذي اصدره الجنرال مود بتوقيعه حين دخوله بغداد، مؤكدا لسكانها ان البريطانيين دخلوا محررين لا فاتحين لم يكن من انشائه، بل انه كان معارضا له بشدة، ولم ينشره الا على مضض، وبناء على تعليمات من الحكومة البريطانية التي ابرقت اليه بنص البيان. وكان الذي دبجه هو السير مارك سايكس، احد طرفي معاهدة سايكس ـ بيكو سيئة الصيت.
اما السير بيرسي كوكس فكان سياسيا محنكا خبيرا في الشؤون العربية، عاش بين العرب سنوات طويلة بصفة مقيم بريطاني في الخليح. وكان بوصفه مسؤولا عن اتصالات القيادة العامة بسكان البلاد، معنيا بانشاء ادارة مدنية تحل محل الادارة العثمانية التي انسحب معظم موظفيها مع القوات التركية، وبموافاة الحكومة البريطانية بتقارير دورية ومنظمة عن الاحوال العامة في البلاد. ولكن الجنرال كان يميل الى التسلط، ولا يبدي اي اهتمام لتعليمات الحكومة حول السياسة الواجب اتباعها ولا لآراء كوكس، بل كان يتدخل في كل صغيرة وكبيرة بصورة مستمرة وغير ضرورية، بحجة الضرورات العسكرية. وفي عام 1917 كانت العلاقة بين الرجلين قد بلغت ذروتها من التوتر، وابرق السير بيرسي كوكس الى لندن طالبا تعزيز مركزه، وتمكينه من القيام بواجبه بصورة صحيحة، او اعفاءه من منصبه.
وفي هذا النزاع بين القطبين العسكري والسياسي كان للمس بيل دور حاسم. فقد صادف ان قام السير رونالد ستورز، من كبار رجال المكتب العربي في القاهرة بزيارة الى بغداد، فشرح له كوكس موقفه، وعرض مآخذه على الجنرال مود، وأيدته في ذلك المس بيل تأييدا قويا. وبادرت مس بيل من جهة اخرى الى كتابة رسالة مفصلة الى السير آرثر هيرتزل، وكيل وزارة الهند، الذي كانت لها به معرفة وثيقة، فاطلع عليها وزير الخارجية اللورد كرزن، وتمكن من حمل الحكومة البريطانية على تأييد كوكس والاستجابة لطلباته.
الأب أنستاس الكرملي
ومع ذلك فلو علم السير بيرسي كوكس، وغيرترود بيل، بما كانت الاقدار تخفيه للجنرال مود، لما كلفا نفسيهما كل هذا العناء، بل اكتفيا بالانتظار بضعة ايام اخرى. ففي مساء 14 تشرين الثاني (نوفمبر) حضر الجنرال مود حفلة اقامتها مدرسة الاليانس اليهودية في بغداد لتكريمه، وهناك قدمت اليه القهوة كما قدمت الى غيره. ولكنه طلب شيئا من الحليب ليضيفه على القهوة، فجيء له بحليب ربما كان غير مغلي، وكان مرض الكوليرا منتشرا في بغداد في تلك الفترة، ويبدو ان الحليب الذي قدم له كان ملوثا بجراثيمه، فأصيب الجنرال بالكوليرا، ومات بعد اربعة ايام، وانتهت المشكلة بهذا الحل الجذري. وقيل في حينه ان جهة ما دست السم للجنرال مود في القهوة، والله اعلم. وقالت مس بيل في رسالة كتبتها على اثر وفاته: لم يختر احد للموت وقتا افضل من الذي اختاره الجنرال مود.. .
ورغب الانكليز بعد احتلال بغداد في اصدار جريدة تنطق بلسانهم وتعبر عن سياستهم، فأطلقوا عليها ـ باقتراح من الاب انستاس الكرملي ـ اسم العرب ، وصدر عددها الأول في 4 تموز (يوليو) 1917، وقد عهد بادارة الجريدة ورئاسة تحريرها الى المستر جون فيلبي في باديء الامر، وكان يساعده الاب انستاس، ثم تولت مس بيل ادارة سياستها بعد ان تركها فيلبي، وكتبت في ذلك الى والدها تقول: انني ابدأ اعمالا جديدة وطريفة، احدها رئاسة تحرير (العرب) وهي الجريدة المحلية التي نصدرها. وتملأ ذهني الخطط لجعلها اكثر حيوية بالحصول على مراسلين في شتى المناطق، ومحرر للاخبار المحلية. وانني واثقة بان القراء سيهتمون لسماع ان ابن فلان فرضت عليه غرامة لخروجه بدون فانوس بعد حلول الظلام، اكثر من اهمامهم بالاخبار التي تفيد ان قرية مجهولة في الفلاندر قد قصفت.. .
ثم تشير الى الاب انستاس فتقول: الاب انستاس، مساعد رئيس التحرير، يأتي اسبوعيا لقراة المقالات الافتتاحية التي اقوم بمراقبتها. وهو عربي من لبنان، اشبه بشخصية خارجة على التو من احد مؤلفات شوسر، عظيم المعرفة بلغته، كما انه يتكلم الفرنسية ويكتبها وكأنه احد ابنائها.
ثم تقول: ولا يقلل من حبي له اقتناعي بانه ـ على الرغم من ثيابه الكهنوتية. رجل خبيث.. .
وفي ايلول سنة 1917 التحق الكرنل ارنولد ويلسن (السير ارنولد ويلسن فيما بعد) بهيئة موظفي السير بيرسي كوكس، واصبح نائبا له. وعلى الرغم من الاختلاف بين طبائع الرجلين والتباين في آرائهما، فمن الغريب ان التفاهم بينهما كان سائدا طيلة عمل الكرنل ويلسن مساعدا او نائبا للسير بيرسي كوكس. اما علاقة ويلسن بالمس بيل فكانت مختلفة جدا.
وفي ربيع سنة 1918 استدعي السير بيرسي كوكس الى لندن للمشاورة، وانتهى الامر باعارة خدماته ليكون وزيرا مفوضا في ايران، فأصبح الكرنل ويلسن وكيلا للحاكم المدني العام في العراق، وبقي على رأس الادارة المدنية في العراق خلال سنتين حافلتين بالمشاكل والاضطرابات، وكان الرئيس المباشر للمس بيل طيلة هذه المدة.
كانت تقام في العراق، مع تقدم الجيش البريطاني فيه، ادارة مدنية جديدة، وكانت هذه الادارة تنظم على اساس اعتبار العراق منطقة من مناطق الهند، وكان الهدف النهائي هو ضم العراق الى الهند ليصبح جزءا من الامبراطورية البريطانية.
ولكن مع التغيير الذي طرأ على الجو الدولي بعد الهدنة، لم يعد ضم العراق الى الهند مقبولا دوليا، وكان على بريطانيا ان تبحث عن صيغ اخرى للابقاء على سيطرتها، ولذلك كان لابد من اعادة تخطيط السياسة البريطانية بحيث لا تقتصر على تحقيق اهداف بريطانية فقط، بل تطمئن في الوقت نفسه مطامح الرئيس الامريكي وود رو ويلسن التي عبّر عنها بمبدأ تقرير المصير وتكافؤ الفرص الاقتصادية لجميع الدول، ضمن بنوده الاربعة عشر. ولم يكن نظام الانتداب الذي ابتدع الا محاولة للتوفيق بين مصالح الشركاء المتناحرين، على الرغم من ان تطبيق الانتداب عمليا كان سيضمن اعطاء الاولوية لاهداف بريطانية الاستراتيجية والتجارية.
وقد وجد كثير من البريطانيين صعوبة كبيرة في قبول هذا التغيير، وما ارتاحوا له، وخاصة السير آرنولد ويلسن الذين كان مطلق اليدين في ادارة البلاد بين سنتي 1918 ـ 1920 ولا شك ان اصراره على تجاهل تطورات الوضع الدولي، والجو الجديد الذي ساد في لندن، ادى الي نتائج وخيمة جدا وربما كانت الاضرار التي عادت بها سياسته على مصالح بريطانية اكبر مما عادت به على العراق.
كان ويلسن استعماريا بنشأته وثقافته وآرائه السابقة. وكان من اولئك المؤمنين بـ رسالة الرجل الابيض وبأن من الواجبات التي القاها التاريخ على عاتق بريطانيا هو حمل مشعل المدنية بين شعوب الشرق المتأخرة، كما كتب في ما بعد قائلا:
ان دور بريطانيا في رعاية بني الانسان هو بث المباديء المسيحية في حكمهم. لقد كان ايماننا بالعراق، مثل ايمان هربرت ادوارد بالهند، انه كان امانة بيد الحكومة البريطانية، وانه بحاجة الى ما هو اكثر من ميزات المدنية المادية. ان سياستنا يجب ان تكون اعداد العراق للحرية اولا، ومن ثم اطلاقه حرا. وكنا نؤمن بأن العراق لن يكون اهلا لممارسة الحرية قبل ان يختمر بمبادئ المسيحية .
ان اصرار ويلسون على ضرورة بقاء العراق تحت حكم دولة اجنبية الى ان يصبح قادرا على حكم نفسه، فضلا عن تجاهله لرغبات سكان البلاد، ومبادئ تقرير المصير، كان اشبه بمنطق من يقول للطفل لا تدخل الماء حتى تتعلم السباحة .
القدرة على التكيف مع الظروف
اما مس بيل، فانها على الرغم من كونها على قدر كبير من الصلابة في آرائها ومواقفها، فان احد اسرار قوتها كان يمكن في قدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة.
ويبدو ان إقامتها الطويلة المتواصلة في بغداد قد جعلتها اكثر تفهما للامور، واحدثت تغييرا كبيرا في آرائها عن القومية العربية ومستقبل العراق السياسي. ولو قارنا بين كتاباتها المبكرة ومواقفها الاخيرة، لوجدنا التطور في آرائها واضحا. فهي حتى سنة 1919 كانت تعتقد ان ليست هنالك في الشرق الاوسط عقائد وطنية، ولا روابط قومية. فقد كتبت مثلا في كتابها الصحراء والمعمورة الذي نشر في سنة 1907 تقول ان الجمعيات التي تدعو الى الوحدة العربية، ومنشوراتها الحماسية، لا قيمة لها مطلقا، لانه ليست هنالك امة عربية.. فالتجار السوريون يفصلهم عن البدو برزخ اوسع من ذلك الذي يفصلهم عن العثمانيين. والبلاد السورية تقطنها اقوام تتكلم العربية، ولكن هم كل منها هو ان تمسك بخناق الاخرى .
ولما زارت الشرق للمرة الثانية بعد اعلان الدستور العثماني، وتولي حزب الاتحاد والترقي زمام الحكم في الدولة العثمانية، دونت ملاحظاتها في كتابها من مراد الى مراد الذي صدر في سنة 1911 فأشارت الى مرورها بالموصل، ووصفت الاضطرابات التي حدثت فيها خلال الثورة التي جاءت بالاتحاديين الى الحكم، قائلة ان الحكم العثماني هو افضل حكم بالنسبة للطوائف المختلفة والمتناحرة في المنطقة.
وفي احدى رسائلها الى ابيها في سنة 1918 كتبت تقول ان العراقيين يريدون الانكليز ولا يريدون غيرهم لانهم يعلمون اننا سنحكم حسب عادات البلاد، ويدركون ان نصب امير عربي امر مستحيل .
وفي مؤتمر الصلح في باريس، حينما استدعيت مع الكرنل ويلسن الى باريس لتقديم المشورة للوفد البريطاني الى المؤتمر، نصحت الامير فيصل ـ الذي كان مندوبا عن الحجاز في المؤتمر ـ ان يتفق مع الفرنسيين بشأن سورية، وان يتقرب اليهم لان الامريكيين لا يمكنهم ان يعاونوهم والانكليز لا يريدون ان يتدخلوا في شؤون سورية.
ويروي رستم حيدر الذي كان المندوب الثاني للحجاز في المؤتمر بمعية فيصل، والذي حضر اجتماعاتها به، في مذكراته التي حققتها ونشرتها في سنة 1989 انه استغرب قولها هذا، واستفسر من الدكتور احمد قدري الذي كان معهم: هل مس بيل يهودية؟ قال: لا، قلت اذن هي مشتراة من الفرنسويين، او انها عشقت احد ظرفائهم، وهي تميل الى الاستعمار المطلق في الشرق. كما ان الكولونيل الذي يحكم في بغداد، مليكة الشرق، لا يريد للجنة كينغ ـ كراين ان تذهب لترى اعماله فيها، وهو لا يريد ان يجعل للاهالي صوتا مرتفعا بل يريدها كالاغنام، لان هذا لا يوافق افكاره الاستعمارية. ولنعلم ان الحزب الاستعماري المستبد الذي يتألف من امثال هؤلاء الملوك في المستعمرات، الصعاليك في بلادهم، هو حزب كبير لا يستهان بمطامعه يريد الاستبداد لانه هو الحاكم. ومس بيل معاونته، لا ترى رأيا غير رأيه .
ويذكر رستم حيدر في مذكراته ايضا انه اجتمع مساء اليوم نفسه بلورنس ونقل له آراء غيرترود بيل، فقال له لورنس: ان مس بيل عقلها صغير، وليس لقولها اهمية تذكر، واما الكولونيل (ويلسن) فليس من رأيها تماما، على انه حاكم في بغداد، ويريد ان يحتفظ بموقعه .
ان ما ذكرناه من قدرة مس بيل على التكييف السريع مع الظروف المتغيرة، جعلها تغير كثيرا من آرائها بسرعة. وفي حين ان ويلسن بقي مصرا على عدم الاعتراف بأن الشعور الوطني في العراق قوة يجب ان يحسب حسابها، ويجب التعاون معها بدلا من محاولة كبتها، فان مس بيل ادركت في النهاية انه يجب، على الاقل، الاعتراف بحقيقة واحدة، وهي ان الناس يفضلون ان يحكموا أنفسهم بأنفسهم، ولو بدون كفاءة، على ان يحكمهم غيرهم بكفاءة عالية .
وكتبت في احدى رسائلها من بغداد فيما بعد:
ان ما اتمنى ان يقوم به السير بيرسي كوكس هو ان يعطي مواطني هذا البلد مسؤولية واسعة، فهي الطريق الوحيدة لجعلهم يعرفون اية مهمة صعبة هي الحكم.
اننا اذ نشجع هذا الكائن الحي على النمو، ونجس نبضاته في ايدينا، لا نستطيع ان نحول دون نموه وارتفاعه.. .
وفي رسالة كتبتها الى المستر بومان الذي كان مديرا للمعارف في العراق في عهد الاحتلال، ثم انتقل الى عمل مماثل في القدس، قارنت بين سياسة بريطانيا في فلسطين (بادارة هربرت صموئيل) وسياستها في العراق قائلة:
انني لن اقبل، ولو اعطيت الدنيا كلها، ان اعمل في تلك السكرتارية (تريد سكرتارية حكومة فلسطين) اذ ان مهمتنا في العراق مهما كانت عسيرة، فاننا على الاقل نسبح مع التيار الموجود، وهو التيار الوطني، والذي هو، على اي حال، الحركة الوحيدة الظاهرة، في حين انكم (في فلسطين) كما يبدو لي، مضطرون الى السير في عكس التيار .
ولم تكن افكار غيرترود بيل حول ضرورة الاعتراف بواقع الشعور الوطني قاصرة على العراق وحده، وانما كانت آراؤها في مستقبل فلسطين لا تقل عنها وضوحا، جاء في رسالة كتبتها من بغداد في مطلع سنة 1918 وبعد اعلان تصريح بلفور تقول:
.. وبالمناسبة، فانني اكره التصريح الصهيوني للمستر بلفور حول سورية (وهي تريد سورية بالمعنى الجغرافي الذي كان يشمل سورية ولبنان وفلسطين) واؤمن بأنه لا يمكن تحقيقه... فالبلاد بصورة عامة لا تصلح للاهداف التي يفكر فيها اليهود. انها ارض فقيرة، غير قابلة لتنمية كبيرة، وثلثا سكانها على الاقل هم من العرب المسلمين الذين ينظرون الى اليهود باحتقار. وهو في رأيي مشروع مصطنع كليا، بعيد عن اية علاقة بالواقع، وانني اتمنى له الفشل الذي يستحقه، والذي سيناله فيما اتصور.. .
وفي مناسبة لاحقة كتبت الى ابيها (في 1920/10/10) تقول:
.. لننتقل الآن الى منطقة اخرى من مناطق الانتداب: فلسطين. ان نفس المباديء العامة يجب ان تنطبق عليها. ومع ذلك فان هربرت صموئيل خلال الشهرين الماضيين، أسس في فلسطين حكومة بريطانية ذات مستشارين عرب. وهو يفعل ذلك لأن تأسيس اي نوع من المنشآت الوطنية ذات الطابع المستقل سيؤدي الى رفض الصهيونية ــ ولكن اليس هذا شجبا كافيا للصيهونية؟ انني شخصيا اعتقد ذلك، وأؤمن انه في وقت ما، وربما بمساعدة مصر، ستنفض فلسطين عنها نير الصهيونية. وستكون الغلطة غلطتنا، لانه اذا كان هنالك درس اتاح لنا العراق فرصة تعلمه، فهو انك لا تستطيع ان تدافع عن امر، وتفعل غيره .
عملت غيرترود مع ويلسن بانسجام في البداية، ولما صدر التصريح البريطاني ـ الفرنسي حول مستقبل البلاد العربية، عارضه ويلسن بشدة وابرق الى الحكومة البــــــريطانية قائلا:
ان تعيين امير (عربي) في الوقت الحاضر ليس عمليا، وامر غير مرغوب فيه. ولا اعلم فيما اذا كان مثل هذا التعيين يعد التزاما ضروريا بالنسبة الى التصريح الصادر في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1918 فاذا كان الامر كذلك فانني اتوقع ان يكون النهج الذي اختارته حكومة جلالته لهذا البلد شائكا.. .
ويقول ويلسن ان مس بيل طلبت اليه ان يبلغ وزير المستعمرات انها تتفق في الرأي مع ما جاء في هذه البرقية وجميع البرقيات التي ارسلت حتي ذلك الوقت حول هذا الموضوع.
في سورية
ولكن على الرغم من هذا الانسجام المبدئي بدأت بوادر الخلاف تظهر في رسائل مس بيل الى والديها.
وكانت قد مرت سنة كاملة تقريبا بين توقيع معاهدة فرساي وتوزيع الانتدابات في مؤتمر سان ريمو في نيسان (ابريل) 1920، ولم تصدر عن المقيمية البريطانية خلال سنة 1919 اية تصريحات واضحة عن السياسة التي تعتزم بريطانيا انتهاجها في العراق. وظهرت بوادر عدم ارتياح شديد فيه بسبب استمرار الاحتلال العسكري من جهة، وقيام دولة عربية مستقلة في سورية، من جهة اخرى. اذ لم يرتح العراقيون حين رأوا ان السوريين اعتبروا قادرين على حكم انفسهم، بينما كانوا هم ـ في نظر الحلفاء ـ غير اهل لذلك.
وفي اواخر سنة 1919 قامت مس بيل بزيارة الى سورية، وقابلت هناك عددا من العراقيين الذين يشغلون مناصب مهمة في حكومتها، ابرزهم ياسين الهاشمي. ويبدو انها تعرفت هناك للمرة الاولى على نوع الحكومة التي يريدها العراقيون الذين يعملون مع فيصل في دمشق. وقدمت لدى عودتها تقريرا من اهم تقاريرها بعنوان سورية في تشرين الاول (اكتوبر) 1919 غطى مقابلاتها ومباحثاتها خلال زيارتها. وقد ختمته بوصف الفوضى وسوء الادارة السائدين في سورية خلال حكم فيصل. ولكنها مع ذلك لم تشجب قيام حكم وطني قبل أوانه، بل بررت ذلك الوضع بأنه كان ضرورة تاريخية لا بد لبريطانيا من مواجهة مثله وقبوله في العراق ايضا وقالت: حينما نؤسس ادارة مدنية في هذه البلاد (أي في العراق) فان وجود حكومة وطنية في سورية منذ سنة أمر لن ينساه الوطنيون العراقيون .
وقد اعتبر ويلسن ان سكرتيرته الشرقية، بتقريرها هذا، الذي جاء خلافا لآرائه، قد خانته وخذلته.
وفي رسالة كتبتها مس بيل في 12 شباط (فبراير) 1920 اشارت الى الوضع في العراق، قائلة: وفيما عدا ذلك، فان الأمور ليست سهلة. اعتقد ان ويلسن يعالج الوضع بصورة ممتازة .
وهنا كانت مس بيل مخطئة. فالواقع ان ويلسن لم يكن ليعالج الوضع بصورة ممتازة. اذ حدثت في الرميثة بعد كتابة هذه الرسالة بمدة قصيرة، الواقعة التي كانت فاتحة ثورة عارمة انتشرت في سائر انحاء الفرات الاوسط والأسفل، ثم امتدت الي بغداد وغربها وشمالها حتى بعقوبة وشهربان وسامراء.
تلك هي ثورة العشرين، او الثورة العراقية التي اجبرت الحكومة البريطانية على تغيير سياستها العراقية، والاقلاع نهائيا عن فكرة الحكم المباشر، وتطبيق سياسة الانتداب تحت قناع معاهدة بريطانية ـ عراقية.
ويبدو ان احداث الثورة قد زادت في توتر اعصاب ويلسن وخشونته مع موظفيه وكل من يتصل به. فقد كتبت مس بيل في 9 ايار (مايو) 1920 تقول: ان تناول الغداء في المكتب امر مزعج نوعا ما. ويلسن يترأس اجتماعات الغداء، وهو كثيرا ما يكون غاضبا كالدب. ولذلك فان الطريقة الوحيدة هي اهماله وعدم التحدث اليه. وهـــــو لا يرتاح الى ذلك ايضا. ولكن ما العمل؟ .
وحيـــــنما منح ويلسن وسام فارس الامبراطورية الهندية (K.C.I.E) الذي اصبح بموجبه يحمل لقب سير ، كتبت غيرترود في احدى وسائلها (في 23 ايار/مايو 1920):
لقد منح ويلسن وسام (فارس الامبراطورية الهندية) وانني مسرورة جدا، فـــــهو جدير به كل الجدارة. اعترف أنني اتمنى انهم وقد منحوه رتبة فارس، لو استطاعوا ايضا ان يمنحوه شيئا من الصفات الخلقية التي تنسب الى الفرسان عادة .
واستمرت العلاقات بين مس بيل والسير آرنولد ويلسن بين مد وجزر، وفي تموز (يوليو) 1920 بلغ الخلاف بينهما ذروته في فصل عاصف وصفته قائلة: كنا حتى الآن نقضي ضربا من (شهر العسل)، ثم حدث لسوء الحظ ان افضيت الى احد اصدقائنا العرب هنا بنتفة من المعلومات التي لم يكن (من حيث المبدأ) ينبغي اعطاؤها. وهي لم تكن ذات اهمية كبيرة، ولم يتبادر الى ذهني انني اخطأت حتى ذكرت الأمر لويلسن عرضا. وكان في ذلك الصباح في سورة من الغضب، فصب جامه علي. قال ان عدم تبصري في الأمور لا يحتمل، وانني يجب ان لا اطلع على اية ورقة في المكتب بعد الآن. وقد اعتذرت عن تلك الهفوة المعينة لكنه استمر قائلا: لقد اسأت اكثر من اي شخص آخر هنا، وانني لو لم اكن على وشك المغادرة لطلبت فصلك منذ شهور
الخاتون: مس بيل في العراق (3 ــ 3)
نجدة فتحي صفوة
الجنرال مود أخطأ في اعتراضه على تعيين امرأة.. والملك فيصل كان يدعوها بـ أختي ويستشيرها دائما
أحبت وطنها إنكلترا.. وعاشت بعاطفتها مع العراق... والجواسيس الحقيقيون هم من أمدوها بالمعلومات والتقارير
تغير السياسة
ولما قررت الحكومة البريطانية تغيير سياستها في العراق، ارتأت اعادة السير بيرسي كوكس بصفة مندوب سام لتنفيذ هذه السياسة الجديدة، وتأسيس حكومة ذات واجهة عربية، تدار ـ حسب قول مس بيل ـ بأيد عراقية وأدمغة بريطانية. وعلى أثر عودة السير بيرسي كوكس الى العراق، غادره آرنولد ويلسن في ايلول (سبتمبر) 1921، وكتبت مس بيل: .. كان الاسبوع الماضي مزدحما بحفلات التوديع لآرنولد ويلسن، وفي الليلة السابقة لمغادرته جاء لتوديعي، وقلت له انني أشعر بخيبة لا استطيع وصفها، وانني آسفة في الواقع لأننا لم نتمكن من جعل علاقاتنا افضل. اجاب انه جاء ليعتذر، فقاطعته قائلة: انني واثقة ان الذنب كان ذنبي بقدر ما كان ذنبه، وانني اتمنى ان لا يغادر حاملا في صدره ضغينة نحوي، فأجابني مبادلا عاطفتي التي ابديتها بالمثل. اما ما كان يدور في فكره عن الأمر كله فعلم ذلك عند الله وحده . ويبدو ان ما كان يدور في فكر ويلسن حقيقة هو نفس ما قاله لها، وانه كان صادقا فيما ابداه لها من عواطف. فقد كانت غيرترود بيل تكتب رسائلها وهي ما تزال تحت تأثير احداث الساعة، وما تتركه من غضب وتأثر، فتعكس بذلك حالتها النفسية الآنية، وقبل ان تبتعد عن الاحداث بدرجة تسمح لها باعادة التفكير في الامور بصورة عقلية هادئة. اما آرنولد ويلسن فقد كتب رأيه في غيرترود بيل بعد ذلك بسنوات، وفي وقت كانت فيه غرترود بيل قد غادرت هذه الدنيا، وذلك في كتابه بلاد ما بين النهرين: بين ولاءين ، فأشاد بمواهبها وخدماتها، وختم ما كتبه عنها بقوله: هل كان ذلك بين أهلها في انكلترا، ام في رياض طهران التي احبتها كثيرا، ان مست شفتيها احلام المسيح للمرة الاولى بنداء حي صادر عن هيكله؟ ذلك ما لا اعلمه، ولكنني مؤمن بأنها كانت موهوبة حقا لتخدم علي حد سواء البلد الذي ولدت فيه، وذلك الذي اتخذته موطنا، بقدرة وحماسة نادرتين بقدر ما هما ثمينتان .
وكتبت مس بيل بعد مغادرة ويلسن، مرة اخرى الى ابيها قائلة: أشعر منذ مغادرة ويلسن كأنني خرجت من كابوس وأشارت في رسائلها التالية الى اخطاء ويلسن في مسؤوليته التاريخية التي أساءت الى مصالح بريطانيا، وأثارت الشعب العراقي ضدها: انني اشعر، بصورة اعمق فأعمق، كم كان ويلسن مخفقا بصورة مفجعة في فهم الوضع، وكم اساء بقصر نظره الى فرص النجاح. انني اعرفه من تجربتي الشخصية بأنه لا ذمة له، وكسياسي اعتقد انه عاد بأكبر ضرر يمكن ان يعود به فرد من الافراد .
وقالت في رسالة اخرى: انه أثار الشعور القومي، واستخف بقوته، واساء فهمه تماما. ان ويلسن مسؤول عن واحد من اكبر الاخطاء السياسية التي ارتكبناها في آسيا.. . وعلى الرغم من ان كلا من غيرترود بيل وويلسن تحدث احدهما عن الآخر في كتبه، وسجل رأيه فيه بصراحة، فمن الطريف ملاحظة انهما لم يطلعا على رأي بعضهما في بعض.
فقد نشرت رسائل مس بيل في سنة 1927، وكان ويلسن على قيد الحياة، ولكن تلك الطبعة من رسائلها كانت منقحة ولم ينشر فيها شيء من تعليقاتها على الاشخاص الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة، وبضمنهم ويلسن.
ولما نشر ويلسن كتابه بلاد ما بين النهرين: بين ولاءين في سنة 1930، ودون فيه رأيه في غيرترود بيل، كانت هي قد توفيت قبل ذلك بسنوات. فلم تطلع على ما كتبه ويلسن عنها. ولما صدرت الطبعة الجديدة من رسائل مس بيل في سنة 1961 التي تضمنت ما سبق ان حذف من الطبعة الاولى، كان ارنولد ويلسن ميتا. فقد انتهى الأمر بآرنولد ويلسن بعد مغادرته العراق ان عين مديرا لشركة النفط الايرانية، ثم عاد الى انكلترا فانتخب نائبا في مجلس العموم. ولما نشبت الحرب العالمية الثانية تطوع للخدمة في القوة الجوية وهو يقارب الخمسين من عمره، وقتل في سنة 1945 وهو يقــــاتل بطائرته فوق برلين، فمات دون ان يطلع على ما جاء في رسائل غرترود بيل عنه.
وكان ارنولد ويلسن قد عهد الى المس بيل خلال عملها معه بوضع تقرير شامل عن الوضع العام في العراق وما وقع فيه من احداث منذ الاحتلال البريطاني، فأعدت تقريرا مفصلا بعنوان عرض للادارة المدنية في العراق فلقي هذا التقرير اهتماما زائدا، واحدث ضجة كبيرة، وقدم الى كلا مجلسي العموم واللوردات، ونشر ككتاب ابيض رسمي، وقابلته الصحافة البريطانية بثناء واستحسان، وعلقت عليه احدى الجرائد بقولها:
واخيرا اصبح بوســــع امــرأة ان تدبج كتابا ابيض كهذا.. .
واشارت غيرترود الى هذا التعليق في احدى رسائلها الى أبيها قائلة: تسلمت الان رسالة الوالدة التي تقول فيها ان هناك ضجة كبرى حول تقريري، ويبدو ان الخط العام الذي اتخذته الصحافة هو انه لامر جدير بالاهتمام والتقدير ان يستطيع كلب الوقوف على ساقيه الخلفيتين ـ اي ان تستطيع امرأة تحرير (كتاب أبيض). ليتهم ادركوا مصدر الاستغراب هذا، واهتموا بالتقرير نفسه اذا كان فيه ما يساعدهم على فهم العراق .
وفي 11 تشرين الاول (اكتوبر) 1920 عاد السير بيرسي كوكس الى بغداد بعد ان فشلت سياسة ويلسن فشلا ذريعا، وقررت الحكومة البريطانية تغيير سياستها في العراق وتأسيس حكومة ذات واجهة عربية، واصبح الحاكم المدني العام السابق يسمى المندوب السامي ، وبذلك كان اول ممثل سياسي بريطاني في العراق. واستقبل السير بيرسي كوكس استقبالا حافلا واشترك في الاحتفال بقدومه الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي وألقى في الترحيب بها كلمة استهلها بهذين البيتين:
عد للعراق واصلح منه ما فسدا وابثث به العدل وامنح اهله الرغدا
الشعب فيه عليك اليوم معتمد فيما يكون، كما قد كان معتمدا
ثم حمل الزهاوي على الثورة العراقية وعلى القائمين بها حملة شعواء وذمها ذما شديدا. وعلق المرحوم عبد الرزاق الحسني على ذلك مستشهدا بالآية الكريمة: والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر انهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون .
واستبشرت مس بيل بعودة السير بيرسي كوكس بطبيعة الحال، واصبحت يده اليمني في كل اعماله، واسهمت مساهمة فعالة في تأسيس الحكومة المؤقتة واقناع السيد عبد الرحمن النقيب بقبول رئاستها، وفي اختيار وزرائها، بهمة لا تعرف الكلل، وحيوية نادرة.
تشرشل في وزارة المستعمرات
وفي شباط (فبراير) 1921 نقل المستر وينستون تشرشل من وزارة الحرب وأصبح وزيرا للمستعمرات، فقرر عقد مؤتمر في القاهرة دعا اليه الممثلين العسكريين والسياسيين البريطانيين في الشرق الادنى لاعادة النظر في سياسة بريطانية في المنطقة ودراسة امكانات خفض النفقات البريطانية فيها، وتقرير علاقات الدولة الجديدة المقبلة في العراق ببريطانيا العظمى من حيث النفقات، وشكل الدولة المقبلة، وشخص رئيسها، ونوعية قوات الدفاع فيها، وغير ذلك. فلما ذهب السير بيرسي كوكس لحضور هذا المؤتمر كان من جملة من اصطحبهم معه سكرتيرته الشرقية غيرترود بيل التي كانت المرأة الوحيدة في المؤتمر. ومن المعروف ان فكرة ترشيح فيصل الاول لعرش العراق كانت قد تقررت بصورة نهائية هناك.
ومنذ نصب فيصل الاول على عرش العراق، وهو قرار كان للمس بيل دور كبير في تبنيه، لم يتمتع احد بثقته مثل تلك المرأة الانكليزية التي كان يدعوها: (أختي). وفي كثير من ساعات الازمات كانت هي الوسيطة المقبولة في تسهيل الاتصالات السرية بين دائرة المندوب السامي والبلاط الملكي. اما في الاوقات الاعتيادية فكان عملها بصورة رئيسية متصلا بشؤون العشائر. على انه لم تكن هنالك اية قضية ادارية لم يستعن فيها فيصل الاول ورجاله، والمندوب السامي واعوانه، بمعونتها، وكانت معرفتها بالبلد وسكانه تفوق معرفتهم دائما.
وقد اظهرت الايام كم كان الجنرال مود مخطئا في اعتراضه على تعيين امرأة في هيئة موظفي المفوض المدني، لأن كون مس بيل امرأة كان على العكس مما توقعه، من اهم اسباب نجاحها في عملها سواء أكان ذلك في تأثيرها على فيصل الاول ورجاله، ام في اتصالاتها بالأسر العراقية، وتعرفها على زوجات الساسة والزعماء، ودخولها بيوتهم، مما لم يكن في امكان أي رجل القيام به.
وكان من جملة واجبات مس بيل، بوصفها الكسرتيرة الشرقية لدار الاعتماد، اعداد تقرير استخبارات نصف شهري تضمنه كل احداث البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يدور على ألســــنة الناس من اشاعات، وما يتحدث به الناس في المقاهي والاســـواق، او تردده النسوة في مجالسهن، وتحاول اعطاء صورة واضحة لاتجاهات الرأي العام العراقي وانطباعاته خلال اسبوعين. وهذه التقارير محفوظة جميعا في مركز الوثائق العامة بلندن وفي مكتبة المتحف البريطاني، وبامكان الباحثين والمؤرخين الاطلاع عليها بسهولة.
حوارات مع الخادم
وكانت مس بيل تضمّن رسائلها الى والديها كثيرا من المعلومات التي تذكرها في تقاريرها الرسمية وما لا تذكره فيها احيانا، وخاصة ما هو طريف او غريب منها، او ما له صفة شخصية. وكان يتساوي لديها ـ في رسائلها ـ اهتمامها بحديث لها مع الملك، او حدوث ازمة وزارية خطيرة، او حديث مع طباخها صباحا قبل ذهابها الى عملها.
وانقل ـ على سبيل المثال ـ فقرة من رسالة لها الى أبيها مؤرخة في 7 كانون الاول (ديسمبر) 1919:
.. وكذلك طباخي الجديد ـ آه يا أبتي كم ستعجبك رؤيته وهو يتجول مزهوا بعباءته. وهو على الرغم من اجادته الطبخ الى حد بعيد، وصنعه كيكات ممتازة، فانه لا يستطيع ان يقرأ او يكتب، وذاكرته معطوبة.
ان حسابات الصباح مثال على ذلك، فهي تجري كالاتي:
غيرترود: يلله مهدي، الحساب، لازم اروح للدائرة.
مهدي: خادمج، خاتون، اشتريت.. شسمه
غيرترود: زين، شسمه؟
مهدي: تّمن، قرانين
غيرترود: ثمان آنات. وبعد؟
مهدي: بعد اشتريت شسمه
غيرترود: شنو؟ يلله
مهدي: خبز، ست آنات
غيرترود: زين، داوم
مهدي: بعدين اشتريت شسمه
غيرترود: يا فاطر السماوات ـ شنو؟
مهدي: شكر.. روبيتين
غيرترود: روبيتين؟ زين
مهدي: بعدين خاتون، نسيت البيض مال البارحة
غيرترود: زين، بعد؟
مهدي: بعدين اشتريت لحم. روبية
غيرترود: وبعد؟
مهدي: والله اشتريت ـ خاتون احضّر لجنابج لحم للعشاء؟
غيرترود: كيفك.. خلّص الحساب مهدي: على راسي، وبعد اشتريت شسمه وهكذا دواليك حتى اصل الى حالة بين الهستيريا والضحك..
وبعد ان تطلب الى أبيها ارسال بعض الحاجيات تقول:
هل تعلم يا أبي ماذا يسمونني هنا؟ أم المؤمنين. وآخر من كان يلقب بهذا اللقب عائشة زوجة الرسول. وهكذا ترى لماذا لا استطيع ان اترك هذا البلد.. .
المتحف العراقي
هنالك ناحية مهمة اخرى في حياة غيرترود بيل في العراق تستحق اشارة خاصة، وهي اهتمامها بالآثار القديمة وتأسيسها المتحف العراقي.
كانت غيرترود بيل بحكم خبرتها الطويلة السابقة في شؤون الاثار، وولعها بالتنقيبات الآركيلوجية، كبير الاهتمام بآثار العراق القديمة، ولكن انشغالها الكثيرة خلال السنوات الاولى من قيام الادارة الجديدة في العراق لم تسمح لها باعارة هذه الناحية ما تستحقه من وقتها وعنايتها. فلما انتهت المفاوضات الطويلة والصعبة لعقد المعاهدة العراقية ـ البريطانية في سنة 1925، تمكنت مس بيل، على الرغم من بقائها في منصبها سكرتيرة شرقية لدار الاعتماد، ان تخصص مزيدا من الوقت لشؤون الآثار، فعملت على تأسيس ادارة للآثار القديمة وعُيّنت مديرة فخرية لها وبقيت تشغل هذه المديرية حتى وفاتها.
وقد مشت مس بيل في تشجيع البعثات الأثرية على القدوم الى العراق واجراء الحفريات والتنقيبات في مواقعه الأثرية الغنية بالاثار، وخاصة في (اور)، وعملت على تحقيق مشروع انشاء متحف وطني، واتخذت له مكانا دائما في بغداد، في البناية التي شغلها المتحف العراقي حوالي أربعين عاما، في شارع الامين ببغداد.
الرحلة الأخيرة
قضت غيرترود بيل في العراق عشر سنوات كاملات لم تقطعها سوى ثلاث اجازات قصيرة في اوروبا وانكلترا، وبلغت الثامنة والخمسين من عمرها وهي في عمل دائب، وحركة لا تنقطع، مما استنفد رصيدها من القوة الجسمية، وكان الأطباء قد نصحوها بعدم قضاء صيف آخر في بغداد، ولكنها رفضت مغادرة العراق حتى تنتهي من تأسيس المتحف.
وفي مساء الاحد، 11 تموز (يوليو) اوت الى فراشها وطلبت الى خادمتها (ماري) ان توقظها في السادسة صباحا. وكانت (ماري)، كسائر المحيطين بغيرترود، قلقة على صحتها، فتسللت الى غرفتها ليلا لتطمئن عليها فوجدتها على ما يرام. ولكنها حين دخلت لايقاظها في السادسة صباحا كانت غيرترود في رقدة ابدية. وعلم فيما بعد انها تناولت جرعة كبيرة من حبوب منومة تدعي Dial حسبما كتب الدكتور دنلوب مدير المستشفى الملكي في بغداد، في تقريره عن وفاتها. وكانت وفاتها قبل يومين من عيد ميلادها الثامن والخمسين.
وهكذا انتهت حياة حافلة بالمغامرات والمنجزات وانطوت صفحة ملونة طريفة من تاريخ العراق الحديث، كما فقد الاستعمار البريطاني ركنا مهما من اركانه.
جرى للمس بي في اليوم التالي تشييع رسمي حضره الملك علي مندوبا عن اخيه الملك فيصل الاول، والمعتمد السامي البريطاني، ورئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، والوزراء، ورئيس المجلس النيابي، وعدد كبير من الاعيان والنواب والوجهاء والمستشارين البريطانيين، ودفنت في مقبرة المسيحيين في الباب الشرقي (قرب ساحة الطيران).
يصف الذين كانوا على معرفة بالمس بيل شكلها ومظهرها بانها كانت ذات شعر نحاسي اللـــــون، وعينين عسليتين تميلان الى الخضرة. وبشرة براقة، وانف مدبب وطويل بشكل غريب. ويقال ان الرجال الاوروبيين ـ ومنهم لورانس ـ كانوا يجدونها جذابة. وعلى الرغم من انها كانت متوسطة الطول، منتصبة القامة، وتتمتع بكثير من الانـــوثة في مظهرها وملبسها، فان النسوة المحافظات ـ فيما يقال ـ كن، لأمر ما، لا يرتحن اليها.
وكانت كبيرة الاهتمام بملابسها، تخترق ازقة بغداد الضيقة، وغير المبلطة، وهي مرتدية اخر الازياء الباريسية. وفي رسائلها الى والديها نقرأ طلبات مستمرة لمختلف الملابس والقمصان وغيرها من مخازن لندن وباريس المشهورة.
وكانت غيرترود بيل يوم وصولها الى العراق في الثانية والخمسين من عمرها، وكانت امرأة نحيفة جدا، ولم تكن من النوع الذي يميل اليه الرجال العراقيون، وخاصة في ذلك العهد، لنحافتها المفرطة، ولكن اثرها فيهم كان مع ذلك كبيرا بسبب شخصيتها القوية ولباقتها وحركتها الدائبة، وكانوا يخاطبونها قائلين: خاتون، حتى اصبح ذلك لقبا لها تعرف به، فاذا تحدثوا عنها قالوا: الخاتون، وكانت ألف لام التعريف تغني عن ذكر اسمها.
وكان بيتها موئل كثير من الرؤساء والاعيان، كما زارها وتناول العشاء معها الملك فيصل الاول غير مرة. وكان من اكثر رؤساء العشائر ترددا عليها: فهد الهــــذال، شيخ مشايخ عنزة، وعلي السليمان، شيخ الدليم، وحسن السهيل، شيخ بني تميم.
وكان لها اصدقاء من الوجهاء المحليين، اقربهم الى قلبها الحاج ناجي في الجادرية، وجعفر عطيفة في الكاظمية، وفائق بك (والد المرحومين ماهر فائق وباهر فائق) في الفحامة. وكانت كلما ضاق صدرها، او رغبت في القيام بنزهة، قصدت احدهم في بستانه بسيارة او زورق بخاري او على صهوة جوادها الذي كانت تحتفظ به في اسطبل صغير في حديقة دارها. وكانت غيرترود تأنس اليهم بعيدا عن جو عملها اليومي والموضوعات التي تشغلها، وقد تردد ذكرهم كثيرا في رسائلها.
ولم يكن مجتمع بغداد في ذلك الوقت قد تعود اختلاط الجنسين، ولم يكن من المألوف لدي الناس ان تسلك امرأة مثل سلوكها، او تمارس مثل نفوذها، او تشغل مثل منصبها. ولذلك اصبحت (الخاتون) موضوع احاديث الناس في المقاهي والدواوين والبيوت. فهي تسير سافرة في الشوارع، وتحيي الرجال، وتزورهم في بيوتهم ومكاتبهم الرسمية، وتستقبلهم في بيتها. وعلى الرغم من كونها في العقد السادس من عمرها لم تنج من بعض اقاويل السوء التي نشرت عنها. وصار الناس يتحدثون عن علاقات لها مع هذا الرجل او ذاك من الشخصيات العراقية او البريطانية.
الزهاوي وذات العيون الزرق
وكان الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي في ايام الاحتلال البريطاني ينشر من حين لآخر، في احدى الصحف المحلية، رباعيات شعرية تضمنت غزلا في عيون زرقاء، فاستغل خصومه ـ وهم يعرفون تردده وقلقه ـ هذه المناسبة لاحراجه فاطلقوا في الاندية والمجالس اشاعة فحواها ان هذه الرباعيات تضمنت غزلا بعيون مس بيل، وما كادت هذه الشائعة تبلغ سمع الزهاوي حتى طار هلعا وامتلأ رعبا، واسرع يبعث الرسل اليها ويقسم اغلظ الايمان بين يديها ان ليس لتلك الرباعية اي صلة بعينيها.
ولكن الشيخ تقي الخاصي كان اشجع من الزهاوي حين نظم في مس بيل قصيدة تهكمية اشتهرت في حينها، وتناقلها الناس لطرافتها، ومن ابياتها:
وافت الينا مس بيل راكبة طرمبيل
تحكي البدور وجها وشعرها يحكي الليل
ترنو غزال نجد وتشرئب كالخيل
فما رأتها عين الا وقالت: كيل كيل
عرج علينا نقضي عشية في الاوتيل
وكان اول من فطن الى اهمية رسائل مس بيل في العراق هو الصحافي القدير رفائيل بطي بما أوتي من حس صحافي مرهف وثقافة عصرية ومتابعة لما ينشر في الغرب بصورة لم تتح لغيره من الصحافيين في عهده. فعني بنشر ترجمة لرسائل مس بيل في جريدته (البلاد) يوميا بصورة متسلسلة ابتداء من عددها الاول. وعلى الرغم من ان الجريدة لم تذكر اسم المترجم إلا أن رفائيل بطي أخبرني انه كان يونس السبعاوي.
على ان بعض ما جاء في تلك الرسائل من صراحة غير مألوفة في العراق في ذلك الوقت، وما احتواه بعضها من مساس برجال الدين، وخاصة من الشيعة، اثار استياء بعض القراء. وبادر الشيخ باقر الشبيبي الى كتابة مقالة في جريدة (البلاد) نفسها (في عددها الصادر في 20 كانون الثاني ـ يناير 1930) حمل فيها على مس بيل ورسائلها بشدة.
وكذلك انبري شاعر شاب، كان سيقدر له ان يكون من اكبر شعراء العراق فيما بعد، وهو محمد مهدي الجواهري، الى نظم قصيدة موجهة الى مس بيل، او الى روحها، قال فيها انها كانت ترمي الى التفرقة بين اهل العراق، جاء فيها:
قل للمس الموفورة العرض التي= لبست لحكم الناس خير لباس
لي قيلة تلقي عليك بمسمع= وبمحضر من زمرة السواس
ان كل سرك في العراق بان تري= ناسا له مضروبة باناس
فلك التعزي في سياستك التي = عادت عليك بصفقة الافلاس
خطط وقفت لها حياتك اصبحت = شؤما عليك وانت في الارماس
وقد فات منتقدي مس بيل على ما جاء في تلك الرسائل والذين اتهموها بمحاولة زرع الفرقة في صفوف العراقيين ـ كما ورد في المثالين السابقين ـ ان مس بيل لم تكتب رسائلها للنشر، لكي يقال انها كانت تحاول ذلك، بل انها كانت رسائل شخصية لم تتوقع نشرها، ولم تفكر فيه.
واخيرا لا بد لنا ان نتساءل، كما يتساءل الكثيرون، هل كانت مس بيل صديقة للعراق حقا، كما اشتهرت، تعد العراق وطنها الثاني وتسعى لاجل خيره وتقدمه؟ ام كانت مجرد اداة من ادوات الاستعمار لا تهمها غير مصالح بريطانية؟ ام كانت ـ كما وصفها البعض ـ جاسوسة تتظاهر بمحبة البلد الذي تعمل فيه ولا تهمها مصلحته، ولا تهدف الا الى خدمة بلادها؟
كانت مس بيل في البداية ضابطة استخبارات مع جيش الاحتلال، ثم اصبحت سكرتيرة شرقية للمعتمد البريطاني في عهد الانتداب. وهي لم تتظاهر بأية صفة اخرى، ولم تخف طبيعة عملها موظفة في حكومة بلادها بصورة رسمية لا يشوبها الكتمان تخدم بلدها بكل نشاط.
وليس هنالك شك في ان مس بيل كانت مخلصة لوطنها كل الاخلاص، ولو لم تكن كذلك لما استحقت الاحترام، ومن لا يكون مخلصا لوطنه لا يمكن ان يكون مخلصا لوطن آخر مهما تظاهر بمحبته وصداقته.
ولكنها الى جانب ذلك كانت امرأة عاطفية، عاشت في العراق سنوات طويلة، وكونت لنفسها فيه اصدقاء ومحبين، وكانت اذا وجدت الفرصة للقيام بخدمة للعراق واهله، بما لا يتعارض مع مصالح بلادها، وان تنجز بعض الاعمال الطيبة فيه، فلا شك انها كانت تبادر الى القيام بذلك.
والواقع ان الذين كانوا يتصلون بها من ابناء البلد، ويزودونها بالاخبار والمعلومات ـ مأجورين او متبرعين ـ وينفذون ما يكون مخالفا لمصلحة بلادهم من طلباتها، هم اقرب الى صفة الجاسوسية منها.
كتب المرحوم يوسف غنيمة، وزير المالية العراقي السابق، والبحاثة المعروف، مقالة عن مس بيل في مجلة (لغة العرب) الصادرة في ايلول (سبتمبر) 1926 (اي بعد وفاتها بشهرين) عبر فيها عن هذا المعنى بقدر ما تسمح به الظروف في تلك الفترة من الهيمنة البريطانية، قال فيها: اما الخطة التي انتهجتها في سياستها في العراق فهي انها تسعى السعي المتواصل للتوفيق بين السيادة القومية العراقية واستقلال البلاد، وبين مصالح بريطانيا العظمى في هذا القطر. فهي بريطانيا مخلصــــة لبلادها، وصديق حميم للعرب والعراقيين .
وكان امين الريحاني، اديب المهجر الكبير، قد زار العراق حينما كانت مس بيل على قيد الحياة وفي اوج نشاطها السياسي، وتحدث عنها بأسلوبه المعروف في فصل طريف من كتابه ملوك العرب ختمه بقوله: حدثني احد المستشارين قال: طريقة المس بيل السياسية قديمة، وهي مع ذلك لا تركن في الامور لا لعقلها دائما ولا لقلبها. وقال اخر: الناس يأبون التأديب سواء اكانوا عراقيين ام انكليزا.
ولكن المس بيل لا تجابه العراقيين دائما بالقاعدة والعصا كالمعلمة المرشدة، بل تجيئهم مرارا وهي تحمل هدية بدل العصا. هو ذا قلبها عربون اخلاصها ايها الزعيم الوطني، هي ام المؤمنين يقــــينا. واذا رفضت الهدية والمشورة، اذا ابيت النصح والامتثال، فهوذا الســـجل، وفيه سيرة حياتك منذ دببت ودرجت، الى يوم وقفت مستعطفا او محتجا في دار الانتداب .
لذلك لا يبادلها العراقيون الحب والوداد، ولكنهم يحترمونها ويعجبون بها، ويودون لها ما يوده المرء لعمته، او الفتاة لخالتها. لا تحبينا كثيرا، عافاك الله، ولا تتدخلي كثيرا في امورنا .
وبعد، فان مس بيل تمثل في تاريخ العراق عهدا مضى وانقضى، وسيرتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمرحلة من مراحل تاريخنا القريب. وان اهتمامنا بها، ودراستنا لسيرتها ورسائلها ينبعان بطبيعة الحال من اهتمامنا بدراسة تاريخنا بكل صفحاته المشرقة والمظلمة، والافادة من دراسة الماضي وتجاربه الحلوة والمرة، لبناء مستقبل افضل. فالتاريخ قبس من الماضي ينير الطريق الي المستقبل
نجدة فتحي صفوة
المصدر
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
سر نجاحها في قهر الصحراء التي أحبتها كان شجاعتها وقدرتها علي احتمال المشاق و
تفهمها للناس وظروفهم
حلمت بقطع الجزيرة من شرقها لغربها.. احتجزها أمير شمر كأسيرة محترمة وعادت لبغداد كسيرة الخاطربعد الاحتلال البريطاني للعراق ـ
خلال الحرب العالمية الاولى ـ وفي السنوات الاولى لقيام الحكومة العراقية تحت الانتداب البريطاني، وفي وقت كانت فيه المرأة العراقية ما تزال رهينة خدرها، ولم يكن من المألوف فيه ان تشارك في الحياة العامة، ظهرت في مجتمع بغداد امرأة انكليزية فريدة، احتلت مكانة بارزة، ومارست نفوذا واسعا في تأسيس الادارة الجديدة، وفي حكم البلاد، وشاركت في حياتها السياسية، ودخلت مجتمع الرجال بلا تحفظ، فجالست ساسة البلاد وحكامه من عراقيين وبريطانيين، وشيوخ العشائر من عرب واكراد، ورجال الدين من سنة وشيعة، وزعماء البلد ووجوهه من موالين للسلطة ومعارضين.
تلك هي مس بيل التي وان كانت صفتها الرسمية سكرتيرة شرقية للمعتمد السامي البريطاني في العراق، فإنها ـ في الواقع ـ كانت كما لقبها الكثيرون، ملكة غير متوجة للبلاد، لها في كل مجتمع صوت، وفي كل قضية رأي، وفي كل مقام مقال.
وليس من الاسرار التاريخية ان مس بيل كانت احدى الشخصيات التي رسمت، مستقبل العراق السياسي لسنوات عديدة بعد الاحتلال البريطاني، وكان لها دور كبير في تأسيس الحكومة العراقية الجديدة وربما في نصب فيصل الاول على عرش العراق.
وسأحاول الآن، وفي نطاق ما يستوعبه الوقت المحدد، ان اقدم لمحات عن حياة غيرترود بيل ورحلاتها ومسيرتها في العراق، مع عناية خاصة بالنواحي التي هي معروفة أقل من غيرها نسبيا عن حياة هذه المرأة التي كان العراقيون يسمونها (الخاتون) ويدعوها الملك فيصل الاول (اختي)، ويخاطبها السيد عبد الرحمن النقيب بـ(ابنتي)، ويلقبها عبد المجيد الشاوي ـ مازحا ـ بـ(ام المؤمنين)، ويسعى اليها الساسة والوجوه والشيوخ واصحاب الحاجات، ويستأذنها بعضهم حتى في زيارة المعتمد السامي، او مواجهة الملك فيصل الاول، ويستشيرونها في الامور المهمة، ويعطون بتوجيهها. هذه هي المرأة التي كانت تضع مشروعات القوانين، وترشح الوزراء، ويحسب لرأيها حساب في وزارتي الخارجية والمستعمرات، وتعد من موجهي سياسة بريطانية في العراق في عهدي الاحتلال والانتداب.
نالت غيرترود بيل شهرة لا بأس بها بمؤلفاتها الاولى عن رحلاتها وتنقيباتها الاثرية في الشرق الادنى، وفي شمال الجزيرة العربية قبل الحرب العالمية الاولى، ولكن هذه الشهرة كانت محصورة في نطاق معين، وقاصرة على الاوساط الاكاديمية، وعلى المعنيين بالشؤون الشرقية وعلم الاثار، وشهرتها الحقيقية انما جاءت من رسائلها التي نشرتها بعد وفاتها بسنة واحدة تقريبا.
ان مس بيل ـ لحسن الحظ ـ من الاشخاص الذين يمكن ان تستخلص سيرتهم من رسائلهم، وهذه الرسائل التي كانت تبعث بها الى والديها غالبا، والى بعض اصدقائها المقربين احيانا، باستثناء فجوات قليلة، تغطي حياتها كلها منذ ايام طفولتها في شمال انكلترا، الى مرضها الاخير في بغداد، في تموز (يوليو) سنة 1926 ـ وكانت تكتبها من البلدان التي تسافر اليها. واهمها بطبيعة الحال واحفلها بالمعلومات التاريخية، هي التي كانت تبعث بها من العراق خلال السنوات العشر الاخيرة من حياتها، وهي اشبه ما تكون بالمذكرات او اليوميات، وكانت تكتبها بصورة متعاقبة، وفي فترات قصيرة، وتضمنها وصف كل ما تزوره من اماكن، او تشهده من احداث، او تقوم به من اعمال، وكل ما يعن لها من خواطر ازاءها، او ما يبلغها من اخبار واشاعات بحكم عملها ضابطة استخبارات اولا ثم سكرتيرة شرقية لدار الاعتماد في ما بعد.
كانت غرترود بيل قادرة في نهاية يوم سفر حافل ومتعب، على تدوين وصف كامل لما شهدته وسمعته في رسائل كانت في كثير من الحالات تبلغ بضع صفحات كبيرة، ذات اسطر ناعمة متراصة، مكتوبة بسرعة كبيرة، وغير خالية من الاخطاء الاملائية. وقد جرت على هذه العادة يوما بعد يوم وعاما بعد عام، خلال فترة تزيد عن خمسين عاما. وكانت رسائلها الموجهة الى والديها بصورة خاصة تحتوي على كثير من المعلومات الرسمية والسرية، والاراء والملاحظات الشخصية، ولم يكن ليطلع عليها احد سواهما. وكانا يحتفظان بها في حرز حريز بسبب اهمية المعلومات التي تتضمنها، حتى اصبحت هذه الرسائل تؤلف في مجموعها وثائق تاريخية خطيرة وخاصة عن الحالة السياسية والاجتماعية في العراق، وسجلا حافلا بالمعلومات النادرة والدقيقة عن الاسلوب الذي كان متبعا في حكم العراق، وطراز تفكير البريطانيين العاملين فيه، وطريقة تعاملهم مع العراقيين وآرائهم الحقيقية فيهم، وكيفية اتصال العراقيين بالانكليز، وعلاقات مختلف الشخصيات العراقية في ذلك العهد بهم.
ولما نشرت رسائل غيرترود بيل للمرة الاولى في سنة 1927 (وكانت قد رتبتها واعدتها للنشر زوجة ابيها الليدي بيل ) حذفت منها الرقابة امورا كثيرة وجدت ان الوقت لم يحن بعد لنشرها، وخاصة فيما يتعلق بمن ورد ذكرهم من الاشخاص الذين كانوا ما يزالون على قيد الحياة. وعلى اثر صدورها كتب الرحالة المعروف فيلبي رسالة الى محرر جزيرة اوبزرفر شدد فيها الوطأة على قلم الرقابة، وقال انها شوهت تلك الرسائل ومسختها. وضرب على ذلك عدة امثلة.
ومع ذلك فقد كان نشر تلك الرسائل حدثا خطيرا، اذ قامت بسببها ضجة كبرى، واحتفلت لها الصحافة احتفالا كبيرا. وقد نشرت جريدة تايمز اللندنية بمناسبة صدورها مقالة افتتاحية عن غيروترود بيل واعمالها، اتبعتها بمقالتين مفصلتين تضمنتا عرضا للرسائل وتقييما لها. وجاء في افتتاحية التايمز (22 آب/ اغسطس 1927): على الرغم من أن وفاة مس بيل كانت خسارة عامة عظيمة، فان سيرتها كانت دليلا على ان طول الحياة ليس شيئا مذكورا الى جانب غزارة ما تحفل به .
وقد راجت رسائل المس بيل رواجا عظيما، فأعيد طبعها سبع مرات خلال اربعة اشهر ومرات عديدة اخرى بعدها. وبعد ان كانت مس بيل معروفة في العراق بصفة خاصة، وبين بعض الاوساط المعنية بالشؤون الشرقية في خارجه، فان نشر رسائلها جلب لها شهرة عالمية واسعة.
سيرة المغامرة
وفي سنتي 1960 و1961 نشرت اليزابيث بورغوين سيرة غيرترود بل مستقاة من رسائلها واوراقها الشخصية في جزأين يتضمنان فقرات طويلة مقتبسة من تلك الرسائل. وقالت في مقدمتها في الوقت الذي صدرت فيه طبعة (الليدي بيل) كان التنقيح ضرورة سياسية. ولكنني في هذين الجزأين تمكنت من الافادة بصورة كاملة من جميع رسائلها ويومياتها، فلم احذف منها شيئا ذا اهمية سياسية كانت ام شخصية، ولم اقم ـ عن طريق اضافة عبارات خارجة عن الصدد ـ بأي تحريف في معانيها الأصلية في اي موضع. ففي رسائلها التي بلغ عددها الألوف، وفي 14 مجلدا من اليوميات التي خلفتها، كتبت غيرترود بيل حياتها، كما انها عرضت الخفايا السياسية في عهدها .
وعلى الرغم من ان الجزأين اللذين نشرتهما اليزابيث بورغوين يحتويان على أهم المعلومات عنها، فان قصة المس بيل لم تكتب بعد كما ينبغي لها. وهي قصة امرأة عاطفية، ذكية، مثقفة، تهوى الآثار، وتعشق الاسفار، ولا يقر لها في مكان قرار. احبت مرتين، وفجعت بحبها في كلتيهما، فالتمست النسيان والسلوى في الرحلات، تارة في مدن ايران تتعلم الفارسية وتدرس آدابها، وطورا في جبال الالب تتسلق قممها وتغالب ثلوجها واعاصيرها. ثم في صحاري الجزيرة العربية، تتحدى رمالها وتقتحم مجاهلها، وتتعرف على قبائلها. واخيرا في العراق تسهم في تأسيس دولته الجديدة، ورسم مستقبله، وتوجيه سياسته.
ان النهج الذي نهجته غيرترود بيل في حياتها، والمهمات التي اضطلعت بها، كان كله من اختيارها وصنعها، واما ما واجهته من اقدار، فلم تكن لها حيلة ازاءها.
وهي كبرى بنات السير توماس هبو بيل ، من اكبر رجال استخراج الحديد في يوركشاير. ولدت سنة 1868 في مدينة درهام ، وماتت امها وهي في الثالثة من عمرها اثناء ولادة اخيها موريسو ، فتزوج ابوها ثانية من فتاة اسمها فلورنس وهي ابنة السير جوزيف اوليفي، طبيب السفارة البريطانية في باريس. ولذلك نشأت غرترود لا تعرف اما سواها، وهي تدعوها أمي في رسائلها الكثيرة التي كتبتها اليها في ما بعد. وكانت اخت السير جوزيف اوليفي متزوجة من السير فرانك لاسلز الذي كان من الدبلوماسيين البريطانيين البارزين في زمانه.
تلقت غيرترود تعليمها اولا في (كينغ كوليدج)، وكانت تلميذة ممتازة في كل شيء سوى الموسيقى والخط. ثم دخلت جامعة اوكسفورد، وحصلت على مرتبة الشرف الاولى في التاريخ الحديث وهي دون العشرين من عمرها، وكانت اول فتاة تحصل على هذه المرتبة من تلك الجامعة المتزمتة.
وكانت السنوات العشر التي اعقبت تخرجها حافلة بضروب منوعة من النشاط، من قيام بخدمات اجتماعية في لندن ويوركشاير، وتسلق جبال الالب في سويسرا وايطاليا، ورحلة حول العالم، وزيارات طويلة الى السير فرانك والليدي لاسلز في العواصم التي كانا يمثلان بريطانيا فيها: بخارست وطهران وبرلين.
وخلال وجودها في ايران درست غيرترود اللغة الفارسية وتعلمتها الى حد استطاعت معه ان تنشر في سنة 1897 ترجمة لديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، فنالت الترجمة نجاحا لا بأس به، وقد سبق لها ان نشرت قبل ذلك ببضع سنوات كتابا آخر بعنوان صور فارسية استوحته من سفرنامة ، ولكنه كان غفلا عن توقيعها لأنه كان في رأيها تافها.
كانت زيارة غرترود الى طهران من أسعد الفترات في حياتها على الرغم من النهاية المحزنة التي انتهت اليها. فقد تعرفت هناك على ملحق شاب بالمفوضية البريطانية يدعى هنري كادوغان كان يشاركها حبها للشعر، وسرعان ما وقعت في غرامه، وأعلن الاثنان خطبتهما. وكتبت غيرترود الى ابويها تزف اليهما النبأ، ولكنهما كانا ـ فيما يبدو ـ قد سمعا بما يثقل كاهله من ديون، وما يتصف به من طباع صعبة، فطلبا اليها ان تنتظر. وكانت غيرترود قد بلغت سن الرشد، واصبحت مستقلة في امورها حرة في تصرفها، ولكنها مع ذلك انصاعت لطلبهما، وعادت الى انكلترا فورا. وبعد تسعة اشهر توفي هنري كادوغان على اثر مرض قصير.
وعلى الرغم من ان بلاد فارس والأدب الفارسي استوليا على خيالها وتفكيرها في البداية، فان البلاد العربية استهوتها في ما بعد، وملكت عليها نفسها وكان لها اثر ابعد وابقى في حياتها. وقد قرأت غيرترود كتاب الرحالة دوتي عن اسفاره في البلاد العربية، وشغفت به في وقت لم يكن قد لفت الانظار اليه في انكلترا بعد، فجذبها الى الحياة العربية والصحاري العربية والأدب العربي. واخذت ترحل اليها وهي ما تزال جزءا من الدولة العثمانية، كما صارت من سنة الى اخرى ترقب انبعاث الشعور القومي العربي ونموه خلال الفترة الاخيرة من حكم السلطان عبد الحميد، وفي عهد جمعية الاتحاد والترقي، وتتابع باهتمام ما يجد في الشرق الادنى من تحولات سياسية، وما يحدثه النفوذ الغربي المتزايد من آثار، ولكن اهتمامها الكبير، ومتعتها الحقيقية كانت في الحياة الشرقية: العادات الغربية عنها، ازياء الطبقات المتواضعة بألوانها الزاهية، آراء الطبقات الحاكمة وطراز تفكيرها، ومدى تمسكها بالاساليب القديمة او اكتسابها تدريجيا مظاهر المدنية الحديثة.
قامت مس بيل برحلتها الاولى الى الشرق الادنى سنة 1905 مخترقة فلسطين وحوران وشمال سورية على ظهور الخيل. وكانت خلال ذاك قد تعلمت من اللغة العربية ما مكنها من عقد اواصر الصداقة مع عدد غير قليل من الناس في تلك المناطق. وقد وضعت كتابا وصفت فيه هذه الرحلة سمته الصحراء والمعمورة ونشرته في سنة 1906. وفي هذا الكتاب ظهر اهتمامها بالعرب وشغفها باللغة العربية وآدابها للمرة الاولى، وربما كان ابرع كتبها. وهو كتاب تفوح منه رائحة الصحراء ونسائمه جذابة طرية، ومع ذلك لا تطغي فيه العاطفة الجامحة على الاحكام العقلية المتزنة. وقد صدرت الكتاب ببيت من الشعر العربي لتأبط شرا، هو:
يري الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي = بحيث اهتدت ام النجوم الشوابك
وكانت غيرترود خلال هذه الفترة تهتم بالآثار القديمة التي تمر بمواقعها خلال رحلاتها، حتى اعدت نفسها، بدون دراسة جامعية منظمة، لتكون باحثة اركيولوجية، فقامت في سنة 1907 بتنقيبات وحفريات أثرية في مواقع الحثيين والبيزنطيين في منطقة بيك بيركليسه في تركيا، بالتعاون مع السير وليم رامزي الذي تعرفت عليه في مدينة قونية . وفي تلك المدينة ايضا تعرفت على رجل انكليزي آخر ـ لا نعرف عنه الكثير ـ قدر ان يكون له في ما بعد شأن كبير في حياتها ومستقبلها، وهو الكابتن تشارلز دوتي ـ ويلي .
وقد ظهرت نتائج ابحاث غيرترود والسير وليم رامزي في كتاب مشترك صدر في سنة 1909 بعنوان الف كنيسة وكنيسة . وكانت تجارب غيرترود في مجال الآثار القديمة ستصبح ذات فائدة كبيرة لها حين عملت على تأسيس المتحف العراقي في بغداد بعد ذلك بخمسة عشر عاما تقريبا، مما سنتحدث عنه في حينه.
وفي السنة التالية بدأت غيرترود رحلة اخرى، اكثر طموحا، فسافرت من حلب منحدرة على نهر الفرات، ثم اخترقت الصحراء التي كانت خالية من الطرق المطروقة، باحثة في طريقها عن آثار القصور القديمة، وكانت قد سمعت كثيرا من الروايات عن الاخيضر ، فاجتازت الصحراء مرة اخرى الى منطقة قبائل الدليم، وبعد مسيرة اربعة ايام كانت في موقع الاخيضر ، ثم عادت بطريق بغداد والموصل الى آسيا الصغرى.
ووصفت غيرترود بيل هذه الرحلة في كتاب من أشهر كتبها وهو من مراد الى مراد الذي صدر في سنة 1911. وفي هذا الكتاب يحتل البحث الاركيولوجي والطوبوغرافي في اراضي ما بين النهرين الهادئة على حدود العراق الشمالية قسما لا يقل في اهميته عن تقديراتها للاوضاع السياسية في الشرق الادنى وانطباعاتها عن ثورة تركية الفتاة ، اضافة الى عدد كبير من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها خلال الرحلة. وكانت غيرترود بيل كبيرة الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي منذ ذلك الوقت المبكر في تاريخ هذا الفن، ومن اوائل من ادرك قيمته الوثائقية.
وقد صدرت هذا الكتاب ايضا ببيت آخر من الشعر العربي للشاعر الجاهلي لبيد هو:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع = وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وكانت مولعة بهذا البيت كثيرة الترداد له.
وعادت غيرترود بيل الى تنقيباتها الأثرية في الاخيضر في سنة 1911 ونشرت نتائج تلك التنقيبات في دراسة بعنوان قصر الاخيضر وجامعه وهو كتاب ضخم صدر في سنة 1914 وكان اهم ما نشرته من دراسات اركيولوجية.
حب جديد
كانت غيرترود بيل خلال هذه الفترة تراسل الكابتن تشارلز دوتي ـ وايلي الذي سبق ان تعرفت عليه في قونية. ولما تكررت مراسلاتهما وتتابعت، اصبح من الواضح لها انها تقع في شباك حب جديد. والتقي الاثنان في لندن في سنة 1912 ثم في سنة 1913.
وكانت المشكلة ان دوتي ـ وايليي كان متزوجا، وكانت زوجته خلال زيارة غيرترود الثانية غائبة عن لندن، ولكن العلاقة بين الاثنين ـ فيما يبدو ـ لم تكن سرا، لان غيرترود كانت تدعوه الي يوركشاير، فيذهب لرؤيتها، ويحل ضيفا في دار والديها.
وعرض عليها دوتي ـ وايلي الزواج بعد ان يطلق زوجته، ولكنها رفضت قائلة انها لا تستطيع ان تبني سعادتها على صرح بيت مهدم. وبقيت بين نارين، يمضها حبها تعذيبا، ويأبى ضميرها ان ينصاع لنداء القلب. فكانت تمر بها فترات من الكآبة واليأس تجعلها على شفا الانتحار. حتى قررت اخيرا ان تقوم بمغامرة جديدة، فتذهب الى الصحاري العربية التي ما فتئ سحرها يجتذبها.
وكان المشروع الذي تفكر فيه منذ مدة طويلة هو القيام برحلة عبر الجزيرة العربية من غربها الى شرقها، وهي منطقة لم يصلها اوروبي منذ عشرين عاما، ولم تصلها امرأة اوروبية قط، باستثناء الليدي آن بلنت. فمضت في مشروعها قدما، علها تبتعد عن الجو الخانق الذي احاط بها في انكلترة، وتجد في مغامرتها الجديدة شيئا من السلوى.
بدأت غرترود بيل رحلتها الصحراوية الجديدة من دمشق في بداية سنة 1913وكتبت قبل مغادرتها رسالة تضمنت هذه الصرخة اليائسة.
لا بد للعالم ان يمضي وشأنه زمنا من دوني. لو عرفت كيف أجيء، على ثري الجحيم لوجدتني مصيبة في التماس اي مخرج. انها في معظمها غلطتي، ولكن ذلك لا يغير من كونها سوء حظ لكلينا. انني اذهب بعيدا عنه الان.. والزمن كفيل بقتل اكبر المطالب .
وتمكنت مس بيل بعد سفرة مضنية من الوصول الى معاقل شمر في حايل، ولكنها لم تتمكن من الذهاب ابعد من ذلك. وكان امير حايل غائبا، وصلاته مع جاره الجنوبي امير نجد عبد العزيز بن سعود سيئة. فتخوّف نائب امير حايل من السماح لامرأة اوروبية مسيحية بالمرور الى بلاد سكانها محافظون متعصبون لتقاليدهم، واحتجزها في حايل، فكانت اشبه بسجينة او اسيرة محترمة، ولم يسمح لها بمواصلة رحلتها، فاضطرت الى العودة الى بغداد في نيسان (ابريل) 1914، فوصلتها متعبة خائرة القوى، كسيرة الخاطر لاخفاقها في المشروع الذي فكرت فيه سنوات طويلة، وعلقت عليه آمالا عريضة. ولكنها مع ذلك حصلت خلال هذه السفرة على ذخيرة كبيرة من المعلومات الجغرافية، وتعرفت على عدد كبير من الاشخاص في شمال الجزيرة العربية، واطلعت على التيارات السياسية والعلاقات القبلية في تلك المناطق، مما كان سيعود عليها بفائدة كبيرة في عملها في المستقبل، ذلك العمل الذي لم تكن بعد لتعلم شيئا عنه، ولم يمر بخلدها مرورا. فكان تقييمها لامير نجد عبد العزيز بن سعود ـ مثلا ـ بأنه: اهم شخصية في وسط الجزيرة العربية . وقد سجلت هذا الرأي في ذلك الوقت المبكر الذي كانت فيه شخصية الملك عبد العزيز غير معروفة في العالم الخارجي، ولم تكن الاحداث قد اظهرته على مسرح السياسة العربية والدولية بعد.
وكانت غيرترود بيل تقوم بمعظم رحلاتها المحفوفة بالمخاطر دون ان يصحبها رفيق سفر، ولم يكن معها سوى خادم واحد. وهي لم تحاول قط، في اي مكان حلت فيه ان تخفي هويتها او كونها امرأة. بل انها كانت تعتقد ان كونها امرأة هو خير حماية لها بين عرب الصحراء الفخورين بعاداتهم، والذين يحترمون الثقة التي توضع فيهم، ويعدون حماية الضيف، والذود عن ماله وعرضه، من واجبات المروءة والشرف.
ويرى كل من كتب عن مس بيل ان سر نجاحها في قهر الصحراء التي احبتها احيانا، واحتوتها اخرى، هو انها فضلا عن بنيتها القوية، وقدرتها العجيبة على احتمال المشاق، جمعت بين الشجاعة المتناهية، والتفهم السريع لكل من تجعلها الظروف على اتصال بهم من الناس، على اختلاف بيئاتهم وعقلياتهم.
عادت مس بيل الى انكلترة في آذار (مارس) 1914، فمنحتها الجمعية الجغرافية الملكية وساما ذهبيا تقديرا لرحلتها الصحراوية الاخيرة، ولكنها لم تتمكن من سرد قصة هذه الرحلة في كتاب كما فعلت بعد رحلاتها السابقة، مع انها كانت من اهمها واحفلها بالمغامرات، فقد حال دون وضعها كتابا عن رحلتها الى حائل نشوب الحرب العالمية الاولى بعد عودتها بشهور قلائل، وقرارها بأن تتطوع للقيام بعمل ما لخدمة بلادها خلال الحرب. وقد انتمت الى مكتب اسسته منظمة الصليب الاحمر للبحث عن المفقودين والجرحى في بولون بفرنسا.
وخلال وجودها في لندن لقيت الكابتن دوتي ـ وايلي مرة اخرى. وكانت جذوة الحب بينهما ـ فيما يظهر ـ ما تزال متقدة. وفي ذلك الوقت صدرت اليه الاوامر بالالتحاق باحدى الوحدات التي كانت تقاتل في غاليبولي (جناق قلعة) في الدردنيل. فقضت معه بضعة ايام قبل سفره. وفي 20 نيسان (ابريل) كتب اليها من ساحة القتال قائلا:
عزيزتي: الليلة سأجمع كل رسائلك، وأرزمها، وأتركها معنونة اليك . وكأنه كان يشعر بمصير محتوم قريب، لانه اكد عليها في هذه الرسالة ان لا تفكر في الانتحار او تقوم بمحاولة من هذا القبيل .. لان ذلك سيجعل روحي في عالم بعيد آخر، اكثر حزنا واضطرابا .
وكانت اقامة غيرترود بيل في لندن، بعد سفر داوتي ـ وايلي اقسى فترة في حياتها، لم تذق فيها طعما للراحة ولا للسعادة، فقد كان اخوها موريس في جبهة القتال في فرنسا، والرجل الذي احبته في اهوال القتال في الدردنيل.
وكانت اخت غيرترود لأبيها الليدي ريتشموند تقيم في منطقة هامبستيد في لندن، وكانت غيرترود تتردد عليها او تخاطبها بالتلفون كلما اثقلتها الهموم، فتجد شيئا من الراحة. وبينما كانت غيرترود تتناول الغداء مع بعض اصدقائها في لندن، بلغها ان الكابتن دوتي وايلي قتل في الدردنيل وهو يقود مفرزة استرالية. فذهبت بأسرع ما تستطيع الى اختها، وهي في حالة من الذهول واليأس والأسى. فلما رأتها اختها حسبت بادئ الامر ان اخاها قتل في الحرب، ولكن غيرترود صرخت قائلة: لا.. ليس موريس . وسقطت على احد الأرائك تجهش بالبكاء.
وبينما كانت غيرترود بيل في غمرة حزنها وحيرتها فتح امامها بصورة مفاجئة تماما، باب جديد الى الشرق. ففي خريف سنة 1915، حينما كانت بوادر حركة قومية عربية منظمة تظهر الى الوجود وتتبلور، اخذت السلطات البريطانية في القاهرة تستخدم عددا من الاشخاص الذين لهم معرفة سابقة بالبلاد العربية، وخبرة في شؤونها، للعمل في مكتب استخبارات انشأته هناك باسم المكتب العربي . وكانت المهمة الاولى لهذا المكتب اجتذاب تلك الحركة العربية نحو بريطانيا، واستغلالها لصالح الحلفاء. وكان رئيس هذا المكتب الجنرال كلايتن، ومن اعضائه هوغارث، ولورنس، وكورنواليس. فرشحت غيرترود بيل للعمل في هذا المكتب ايضا، لخبرتها في الشؤون العربية، وخاصة في شؤون العشائر، تلك الخبرة التي ظهرت جليا في مؤلفاتها عن رحلاتها في البلاد العربية.
ووصلت غيرترود الى القاهرة في 30 تشرين الثاني (يناير) سنة 1915، فعهد اليها بمهمة تجميع ما لديها وما يتيسر لها الحصول عليه من معلومات عن العشائر في شمال جزيرة العرب، وتلخيصها وتحليلها، للافادة منها في علاقات بريطانيا مع تلك العشائر واتصالاتها بها. وقد اصبح المكتب العربي في ما بعد مدرسة سياسية عرفت بمدرسة القاهرة، تقابل مدرسة الهند . وكان لاعضائه دور مهم في صياغة سياسة بريطانيا في العراق وفي الشرق العربي بعد الحرب.
وفي كانون الثاني (يناير) سنة 1916 ارسلت غيرترود بيل في مهمة خاصة من القاهرة الى دلهي بطلب من حكومة الهند التي كانت تعد معجما جغرافيا للبلاد العربية، فرغبت في الاستعانة بما لديها من معلومات وفيرة في هذا الموضوع. وكان نائب الملك في الهند اللورد هاردنغ صديقا قديما لها، فلما أنهت مهمتها هناك طلب اليها ان تمر بالبصرة بطريق عودتها، وكانت الحملة الاستطلاعية البريطانية قد احتلها.
ووصفها اللورد هاردنغ للسير برسي كوكس، كبير الضباط السياسيين في الحملة البريطانية بأنها امرأة خارقة الذكاء، ولها دماغ رجل، تتكلم العربية بطلاقة وتعرف عن عشائر الصحراء اكثر من اي شخص آخر، ربما باستثناء ليتشمان. وكانت الغاية من إرسالها الى البصرة هي ان تربط بين ما لديها من معلومات عن العشائر العربية، وبين ما كان يصل الى مقر الحملة الاستطلاعية البريطانية التي كانت قد احتلت البصرة قبل ذلك. فكان وصول غيرترود الى البصرة، فيما اريد به ان يكون زيارة قصيرة، بداية صلة جديدة بالعراق. صلة قدر لها ان تستمر حتى اليوم الاخير من حياتها. فقد ألحقت اولا بهيئة موظفي الاستخبارات العسكرية، وبعد ثلاثة اشهر انضمت الى هيئة سكرتارية رئيس الحكام السياسيين، السير برسي كوكس، بصفة ضابط سياسي مساعد، واخذت تقوم بواجبات السكرتير الشرقي. وعلى اثر احتلال بغداد في آذار (مارس) سنة 1917، وانتقال سلطة الاحتلال اليها، انتقل معها السير برسي كوكس.
نص المحاضرة التي ألقيت في قاعة الكوفة بلندن
مساء الأربعاء 7 كانون الأول (ديسمبر) 2005
الكاتب: دبلوماسي وكاتب عراقي. تخرج من كلية الحقوق ببغداد عام 1945 وواصل دراسته في جامعة لندن. قضي في السلك الدبلوماسي العراقي 25 سنة تقريبا عمل خلالها في لندن وعمان والقاهرة وجدة وباريس وانقرة وواشنطن وموسكو علي التوالي، كما كان وكيلا مساعدا لوزارة الخارجية ومديرا عاما للدائرة السياسية فيها. عين في سنة 1967 سفيرا في الصين ولكنه استقال وتفرغ للكتابة والتأليف. مارس تدريس اللغة العربية قبل التحاقه بوزارة الخارجية وشارك في مؤتمرات علمية تاريخية عديدة، وحاضر في عدد من الجامعات العراقية والبريطانية والالمانية. منحه اتحاد المؤرخين العرب (وسام المؤرخ العربي) كما انه يحمل (وسام الاستقلال) الاردني. ومن كتبه: من مذاهب الادب الغربي 1943، اليهود والصهيونية في علاقات الدول الكبري 1967، العراق في مذكرات الدبلوماسيين الاجانب 1969، الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية (موسوعة في 12 جزءا صدرت منها ستة اجزاء حتي الآن) وغيرها من الدراسات، وحقق العديد من الكتب منها مذكرات رستم حيدر (1989)، وكتاب (خواطر وآراء) للرصافي 1988 ومذكرات جعفر العسكري (باللغة العربية 1988 وباللغة الانكليزية 2003) وآخرها مذكرات محمد حديد.
وله اكثر من خمسمئة بحث ومقالة في مختلف المجلات والجرائد العربية اضافة الي 1800 حلقة من زاوية هذا اليوم في التاريخ .
الخاتون: مس بيل في العراق (2 ــ 3)
بيرسي كوكس
بيل وصفت العلامة أنستاس الكرملي بالخبيث.. وآمنت باستحالة تحقيق وعد بلفور وإقامة وطن قومي لليهود
مارك سايكس صاغ بيان تحرير بغداد ونشره الجنرال مود على مضض تطبيقا لتعليمات الحكومة في لندن
بيرسي كوكس الاستخبارات والسكان
وكانت اعمال بيرسي كوكس في بغداد كثيرة. فالى جانب تنظيم اعمال الاستخبارات كان ـ بوصفه رئيسا للضباط السياسيين ـ واسطة الاتصال بين قائد الجيش والسكان المدنيين، ومستشاره في اتصالاته السياسية بهم. وكان معظم وقته يصرف في مقابلة الوجهاء والشيوخ من شتى انحاء العراق، مما اظهر الحاجة الى مساعدة شخص خبير بتاريخ العشائر وانسابها، عالم باتجاهاتها والعلاقات بينها. وكانت مس بيل خير من يستطيع القيام بها العمل. ولكن قائد القوات البريطانية، الجنرال مود، اعرب عن مخاوف كبيرة حينما علم ان امرأة ـ مهما كانت كفاءتها ـ آتية للانضمام الى السكرتارية. كما انه خشي ان يتخذ قدومها سابقة بالنسبة لزوجات الضباط اللواتي قد يطالبن بالانتقال الى بغداد اسوة بها، وهو امر لم تكن السلطات البريطانية قد سمحت به بعد. ولكن السير بيرسي كوكس تمكن من اقناعه بعد ان اكد له بانها قادرة على تقديم خدمات يعجز عنها اي عضو اخر في الادارة السياسية.
وبعد احتلال بغداد بأسبوع واحد، كانت غيرترود بيل في طريقها اليها من البصرة على ظهر باخرة عسكرية بريطانية. وكانت رحلة نهرية بطيئة استغرقت تسعة ايام. وفي 15 نيسان (ابريل) وصلت بغداد، وكانت الدار التي خصصت لسكناها ـ على قولها ـ اشبه بعلبة خانقة، فقضت فيها ليلة، ثم خرجت تبحث عن غيرها، فعثرت في محلة السنك ، قرب مدرسة الدهانة في ذلك الوقت، على بستان ورد فيه ثلاثة بيوت صيفية تعود لاحد اصدقائها القدماء، وهو موسى جلبي الباجه جي، فانتقلت اليها بعد خمسة ايام.
اصبحت مس بيل عنصرا مهما في هيئة موظفي السير بيرسي كوكس، وكانت ـ حسب تعبيرها ـ تقوم بوظيفة غربال لحشود الزوار والوفود واصحاب الحاجات الذين يتدفقون على مقره يوميا طالبين مقابلته. وكانت تزود السير بيرسي مع كل زائر بورقة تبين له فيها القبيلة التي ينتمي اليها، والمنطقة التي يمثلها، وما تعرفه عن ماضيه وميوله، والغرض من المقابلة، مما كان يوفر عليه كثيرا من الوقت ويسهل له العمل.
وقد وجدت مس بيل على اثر وصولها الى بغداد ان هناك توترا شديد في العلاقات بين الجنرال مود، قائد القوات البريطانية، والسير بيرسي كوكس، رئيس مستشاريه السياسيين. وكان مبعث هذا التوتر هو الاختلاف الصارخ بين عقليتيهما وشخصيتيهما.
كان الجنرال مود عسكريا ممتازا، همه الاول متابعة الحرب، ومواصلة انتصاراته لاستكمال فتح العراق صعدا الى الشمال. وكان في اتصالاته بسكان اراضي العدو المحتلة ـ كما كانت توصف في ذلك الوقت ـ يتصرف تصرف الفاتح العسكري دون اعارة اي اهتمام للاعتبارات السياسية، او مشاعر سكان البلاد.
والواقع ان البيان الذي اصدره الجنرال مود بتوقيعه حين دخوله بغداد، مؤكدا لسكانها ان البريطانيين دخلوا محررين لا فاتحين لم يكن من انشائه، بل انه كان معارضا له بشدة، ولم ينشره الا على مضض، وبناء على تعليمات من الحكومة البريطانية التي ابرقت اليه بنص البيان. وكان الذي دبجه هو السير مارك سايكس، احد طرفي معاهدة سايكس ـ بيكو سيئة الصيت.
اما السير بيرسي كوكس فكان سياسيا محنكا خبيرا في الشؤون العربية، عاش بين العرب سنوات طويلة بصفة مقيم بريطاني في الخليح. وكان بوصفه مسؤولا عن اتصالات القيادة العامة بسكان البلاد، معنيا بانشاء ادارة مدنية تحل محل الادارة العثمانية التي انسحب معظم موظفيها مع القوات التركية، وبموافاة الحكومة البريطانية بتقارير دورية ومنظمة عن الاحوال العامة في البلاد. ولكن الجنرال كان يميل الى التسلط، ولا يبدي اي اهتمام لتعليمات الحكومة حول السياسة الواجب اتباعها ولا لآراء كوكس، بل كان يتدخل في كل صغيرة وكبيرة بصورة مستمرة وغير ضرورية، بحجة الضرورات العسكرية. وفي عام 1917 كانت العلاقة بين الرجلين قد بلغت ذروتها من التوتر، وابرق السير بيرسي كوكس الى لندن طالبا تعزيز مركزه، وتمكينه من القيام بواجبه بصورة صحيحة، او اعفاءه من منصبه.
وفي هذا النزاع بين القطبين العسكري والسياسي كان للمس بيل دور حاسم. فقد صادف ان قام السير رونالد ستورز، من كبار رجال المكتب العربي في القاهرة بزيارة الى بغداد، فشرح له كوكس موقفه، وعرض مآخذه على الجنرال مود، وأيدته في ذلك المس بيل تأييدا قويا. وبادرت مس بيل من جهة اخرى الى كتابة رسالة مفصلة الى السير آرثر هيرتزل، وكيل وزارة الهند، الذي كانت لها به معرفة وثيقة، فاطلع عليها وزير الخارجية اللورد كرزن، وتمكن من حمل الحكومة البريطانية على تأييد كوكس والاستجابة لطلباته.
الأب أنستاس الكرملي
ومع ذلك فلو علم السير بيرسي كوكس، وغيرترود بيل، بما كانت الاقدار تخفيه للجنرال مود، لما كلفا نفسيهما كل هذا العناء، بل اكتفيا بالانتظار بضعة ايام اخرى. ففي مساء 14 تشرين الثاني (نوفمبر) حضر الجنرال مود حفلة اقامتها مدرسة الاليانس اليهودية في بغداد لتكريمه، وهناك قدمت اليه القهوة كما قدمت الى غيره. ولكنه طلب شيئا من الحليب ليضيفه على القهوة، فجيء له بحليب ربما كان غير مغلي، وكان مرض الكوليرا منتشرا في بغداد في تلك الفترة، ويبدو ان الحليب الذي قدم له كان ملوثا بجراثيمه، فأصيب الجنرال بالكوليرا، ومات بعد اربعة ايام، وانتهت المشكلة بهذا الحل الجذري. وقيل في حينه ان جهة ما دست السم للجنرال مود في القهوة، والله اعلم. وقالت مس بيل في رسالة كتبتها على اثر وفاته: لم يختر احد للموت وقتا افضل من الذي اختاره الجنرال مود.. .
ورغب الانكليز بعد احتلال بغداد في اصدار جريدة تنطق بلسانهم وتعبر عن سياستهم، فأطلقوا عليها ـ باقتراح من الاب انستاس الكرملي ـ اسم العرب ، وصدر عددها الأول في 4 تموز (يوليو) 1917، وقد عهد بادارة الجريدة ورئاسة تحريرها الى المستر جون فيلبي في باديء الامر، وكان يساعده الاب انستاس، ثم تولت مس بيل ادارة سياستها بعد ان تركها فيلبي، وكتبت في ذلك الى والدها تقول: انني ابدأ اعمالا جديدة وطريفة، احدها رئاسة تحرير (العرب) وهي الجريدة المحلية التي نصدرها. وتملأ ذهني الخطط لجعلها اكثر حيوية بالحصول على مراسلين في شتى المناطق، ومحرر للاخبار المحلية. وانني واثقة بان القراء سيهتمون لسماع ان ابن فلان فرضت عليه غرامة لخروجه بدون فانوس بعد حلول الظلام، اكثر من اهمامهم بالاخبار التي تفيد ان قرية مجهولة في الفلاندر قد قصفت.. .
ثم تشير الى الاب انستاس فتقول: الاب انستاس، مساعد رئيس التحرير، يأتي اسبوعيا لقراة المقالات الافتتاحية التي اقوم بمراقبتها. وهو عربي من لبنان، اشبه بشخصية خارجة على التو من احد مؤلفات شوسر، عظيم المعرفة بلغته، كما انه يتكلم الفرنسية ويكتبها وكأنه احد ابنائها.
ثم تقول: ولا يقلل من حبي له اقتناعي بانه ـ على الرغم من ثيابه الكهنوتية. رجل خبيث.. .
وفي ايلول سنة 1917 التحق الكرنل ارنولد ويلسن (السير ارنولد ويلسن فيما بعد) بهيئة موظفي السير بيرسي كوكس، واصبح نائبا له. وعلى الرغم من الاختلاف بين طبائع الرجلين والتباين في آرائهما، فمن الغريب ان التفاهم بينهما كان سائدا طيلة عمل الكرنل ويلسن مساعدا او نائبا للسير بيرسي كوكس. اما علاقة ويلسن بالمس بيل فكانت مختلفة جدا.
وفي ربيع سنة 1918 استدعي السير بيرسي كوكس الى لندن للمشاورة، وانتهى الامر باعارة خدماته ليكون وزيرا مفوضا في ايران، فأصبح الكرنل ويلسن وكيلا للحاكم المدني العام في العراق، وبقي على رأس الادارة المدنية في العراق خلال سنتين حافلتين بالمشاكل والاضطرابات، وكان الرئيس المباشر للمس بيل طيلة هذه المدة.
كانت تقام في العراق، مع تقدم الجيش البريطاني فيه، ادارة مدنية جديدة، وكانت هذه الادارة تنظم على اساس اعتبار العراق منطقة من مناطق الهند، وكان الهدف النهائي هو ضم العراق الى الهند ليصبح جزءا من الامبراطورية البريطانية.
ولكن مع التغيير الذي طرأ على الجو الدولي بعد الهدنة، لم يعد ضم العراق الى الهند مقبولا دوليا، وكان على بريطانيا ان تبحث عن صيغ اخرى للابقاء على سيطرتها، ولذلك كان لابد من اعادة تخطيط السياسة البريطانية بحيث لا تقتصر على تحقيق اهداف بريطانية فقط، بل تطمئن في الوقت نفسه مطامح الرئيس الامريكي وود رو ويلسن التي عبّر عنها بمبدأ تقرير المصير وتكافؤ الفرص الاقتصادية لجميع الدول، ضمن بنوده الاربعة عشر. ولم يكن نظام الانتداب الذي ابتدع الا محاولة للتوفيق بين مصالح الشركاء المتناحرين، على الرغم من ان تطبيق الانتداب عمليا كان سيضمن اعطاء الاولوية لاهداف بريطانية الاستراتيجية والتجارية.
وقد وجد كثير من البريطانيين صعوبة كبيرة في قبول هذا التغيير، وما ارتاحوا له، وخاصة السير آرنولد ويلسن الذين كان مطلق اليدين في ادارة البلاد بين سنتي 1918 ـ 1920 ولا شك ان اصراره على تجاهل تطورات الوضع الدولي، والجو الجديد الذي ساد في لندن، ادى الي نتائج وخيمة جدا وربما كانت الاضرار التي عادت بها سياسته على مصالح بريطانية اكبر مما عادت به على العراق.
كان ويلسن استعماريا بنشأته وثقافته وآرائه السابقة. وكان من اولئك المؤمنين بـ رسالة الرجل الابيض وبأن من الواجبات التي القاها التاريخ على عاتق بريطانيا هو حمل مشعل المدنية بين شعوب الشرق المتأخرة، كما كتب في ما بعد قائلا:
ان دور بريطانيا في رعاية بني الانسان هو بث المباديء المسيحية في حكمهم. لقد كان ايماننا بالعراق، مثل ايمان هربرت ادوارد بالهند، انه كان امانة بيد الحكومة البريطانية، وانه بحاجة الى ما هو اكثر من ميزات المدنية المادية. ان سياستنا يجب ان تكون اعداد العراق للحرية اولا، ومن ثم اطلاقه حرا. وكنا نؤمن بأن العراق لن يكون اهلا لممارسة الحرية قبل ان يختمر بمبادئ المسيحية .
ان اصرار ويلسون على ضرورة بقاء العراق تحت حكم دولة اجنبية الى ان يصبح قادرا على حكم نفسه، فضلا عن تجاهله لرغبات سكان البلاد، ومبادئ تقرير المصير، كان اشبه بمنطق من يقول للطفل لا تدخل الماء حتى تتعلم السباحة .
القدرة على التكيف مع الظروف
اما مس بيل، فانها على الرغم من كونها على قدر كبير من الصلابة في آرائها ومواقفها، فان احد اسرار قوتها كان يمكن في قدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة.
ويبدو ان إقامتها الطويلة المتواصلة في بغداد قد جعلتها اكثر تفهما للامور، واحدثت تغييرا كبيرا في آرائها عن القومية العربية ومستقبل العراق السياسي. ولو قارنا بين كتاباتها المبكرة ومواقفها الاخيرة، لوجدنا التطور في آرائها واضحا. فهي حتى سنة 1919 كانت تعتقد ان ليست هنالك في الشرق الاوسط عقائد وطنية، ولا روابط قومية. فقد كتبت مثلا في كتابها الصحراء والمعمورة الذي نشر في سنة 1907 تقول ان الجمعيات التي تدعو الى الوحدة العربية، ومنشوراتها الحماسية، لا قيمة لها مطلقا، لانه ليست هنالك امة عربية.. فالتجار السوريون يفصلهم عن البدو برزخ اوسع من ذلك الذي يفصلهم عن العثمانيين. والبلاد السورية تقطنها اقوام تتكلم العربية، ولكن هم كل منها هو ان تمسك بخناق الاخرى .
ولما زارت الشرق للمرة الثانية بعد اعلان الدستور العثماني، وتولي حزب الاتحاد والترقي زمام الحكم في الدولة العثمانية، دونت ملاحظاتها في كتابها من مراد الى مراد الذي صدر في سنة 1911 فأشارت الى مرورها بالموصل، ووصفت الاضطرابات التي حدثت فيها خلال الثورة التي جاءت بالاتحاديين الى الحكم، قائلة ان الحكم العثماني هو افضل حكم بالنسبة للطوائف المختلفة والمتناحرة في المنطقة.
وفي احدى رسائلها الى ابيها في سنة 1918 كتبت تقول ان العراقيين يريدون الانكليز ولا يريدون غيرهم لانهم يعلمون اننا سنحكم حسب عادات البلاد، ويدركون ان نصب امير عربي امر مستحيل .
وفي مؤتمر الصلح في باريس، حينما استدعيت مع الكرنل ويلسن الى باريس لتقديم المشورة للوفد البريطاني الى المؤتمر، نصحت الامير فيصل ـ الذي كان مندوبا عن الحجاز في المؤتمر ـ ان يتفق مع الفرنسيين بشأن سورية، وان يتقرب اليهم لان الامريكيين لا يمكنهم ان يعاونوهم والانكليز لا يريدون ان يتدخلوا في شؤون سورية.
ويروي رستم حيدر الذي كان المندوب الثاني للحجاز في المؤتمر بمعية فيصل، والذي حضر اجتماعاتها به، في مذكراته التي حققتها ونشرتها في سنة 1989 انه استغرب قولها هذا، واستفسر من الدكتور احمد قدري الذي كان معهم: هل مس بيل يهودية؟ قال: لا، قلت اذن هي مشتراة من الفرنسويين، او انها عشقت احد ظرفائهم، وهي تميل الى الاستعمار المطلق في الشرق. كما ان الكولونيل الذي يحكم في بغداد، مليكة الشرق، لا يريد للجنة كينغ ـ كراين ان تذهب لترى اعماله فيها، وهو لا يريد ان يجعل للاهالي صوتا مرتفعا بل يريدها كالاغنام، لان هذا لا يوافق افكاره الاستعمارية. ولنعلم ان الحزب الاستعماري المستبد الذي يتألف من امثال هؤلاء الملوك في المستعمرات، الصعاليك في بلادهم، هو حزب كبير لا يستهان بمطامعه يريد الاستبداد لانه هو الحاكم. ومس بيل معاونته، لا ترى رأيا غير رأيه .
ويذكر رستم حيدر في مذكراته ايضا انه اجتمع مساء اليوم نفسه بلورنس ونقل له آراء غيرترود بيل، فقال له لورنس: ان مس بيل عقلها صغير، وليس لقولها اهمية تذكر، واما الكولونيل (ويلسن) فليس من رأيها تماما، على انه حاكم في بغداد، ويريد ان يحتفظ بموقعه .
ان ما ذكرناه من قدرة مس بيل على التكييف السريع مع الظروف المتغيرة، جعلها تغير كثيرا من آرائها بسرعة. وفي حين ان ويلسن بقي مصرا على عدم الاعتراف بأن الشعور الوطني في العراق قوة يجب ان يحسب حسابها، ويجب التعاون معها بدلا من محاولة كبتها، فان مس بيل ادركت في النهاية انه يجب، على الاقل، الاعتراف بحقيقة واحدة، وهي ان الناس يفضلون ان يحكموا أنفسهم بأنفسهم، ولو بدون كفاءة، على ان يحكمهم غيرهم بكفاءة عالية .
وكتبت في احدى رسائلها من بغداد فيما بعد:
ان ما اتمنى ان يقوم به السير بيرسي كوكس هو ان يعطي مواطني هذا البلد مسؤولية واسعة، فهي الطريق الوحيدة لجعلهم يعرفون اية مهمة صعبة هي الحكم.
اننا اذ نشجع هذا الكائن الحي على النمو، ونجس نبضاته في ايدينا، لا نستطيع ان نحول دون نموه وارتفاعه.. .
وفي رسالة كتبتها الى المستر بومان الذي كان مديرا للمعارف في العراق في عهد الاحتلال، ثم انتقل الى عمل مماثل في القدس، قارنت بين سياسة بريطانيا في فلسطين (بادارة هربرت صموئيل) وسياستها في العراق قائلة:
انني لن اقبل، ولو اعطيت الدنيا كلها، ان اعمل في تلك السكرتارية (تريد سكرتارية حكومة فلسطين) اذ ان مهمتنا في العراق مهما كانت عسيرة، فاننا على الاقل نسبح مع التيار الموجود، وهو التيار الوطني، والذي هو، على اي حال، الحركة الوحيدة الظاهرة، في حين انكم (في فلسطين) كما يبدو لي، مضطرون الى السير في عكس التيار .
ولم تكن افكار غيرترود بيل حول ضرورة الاعتراف بواقع الشعور الوطني قاصرة على العراق وحده، وانما كانت آراؤها في مستقبل فلسطين لا تقل عنها وضوحا، جاء في رسالة كتبتها من بغداد في مطلع سنة 1918 وبعد اعلان تصريح بلفور تقول:
.. وبالمناسبة، فانني اكره التصريح الصهيوني للمستر بلفور حول سورية (وهي تريد سورية بالمعنى الجغرافي الذي كان يشمل سورية ولبنان وفلسطين) واؤمن بأنه لا يمكن تحقيقه... فالبلاد بصورة عامة لا تصلح للاهداف التي يفكر فيها اليهود. انها ارض فقيرة، غير قابلة لتنمية كبيرة، وثلثا سكانها على الاقل هم من العرب المسلمين الذين ينظرون الى اليهود باحتقار. وهو في رأيي مشروع مصطنع كليا، بعيد عن اية علاقة بالواقع، وانني اتمنى له الفشل الذي يستحقه، والذي سيناله فيما اتصور.. .
وفي مناسبة لاحقة كتبت الى ابيها (في 1920/10/10) تقول:
.. لننتقل الآن الى منطقة اخرى من مناطق الانتداب: فلسطين. ان نفس المباديء العامة يجب ان تنطبق عليها. ومع ذلك فان هربرت صموئيل خلال الشهرين الماضيين، أسس في فلسطين حكومة بريطانية ذات مستشارين عرب. وهو يفعل ذلك لأن تأسيس اي نوع من المنشآت الوطنية ذات الطابع المستقل سيؤدي الى رفض الصهيونية ــ ولكن اليس هذا شجبا كافيا للصيهونية؟ انني شخصيا اعتقد ذلك، وأؤمن انه في وقت ما، وربما بمساعدة مصر، ستنفض فلسطين عنها نير الصهيونية. وستكون الغلطة غلطتنا، لانه اذا كان هنالك درس اتاح لنا العراق فرصة تعلمه، فهو انك لا تستطيع ان تدافع عن امر، وتفعل غيره .
عملت غيرترود مع ويلسن بانسجام في البداية، ولما صدر التصريح البريطاني ـ الفرنسي حول مستقبل البلاد العربية، عارضه ويلسن بشدة وابرق الى الحكومة البــــــريطانية قائلا:
ان تعيين امير (عربي) في الوقت الحاضر ليس عمليا، وامر غير مرغوب فيه. ولا اعلم فيما اذا كان مثل هذا التعيين يعد التزاما ضروريا بالنسبة الى التصريح الصادر في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1918 فاذا كان الامر كذلك فانني اتوقع ان يكون النهج الذي اختارته حكومة جلالته لهذا البلد شائكا.. .
ويقول ويلسن ان مس بيل طلبت اليه ان يبلغ وزير المستعمرات انها تتفق في الرأي مع ما جاء في هذه البرقية وجميع البرقيات التي ارسلت حتي ذلك الوقت حول هذا الموضوع.
في سورية
ولكن على الرغم من هذا الانسجام المبدئي بدأت بوادر الخلاف تظهر في رسائل مس بيل الى والديها.
وكانت قد مرت سنة كاملة تقريبا بين توقيع معاهدة فرساي وتوزيع الانتدابات في مؤتمر سان ريمو في نيسان (ابريل) 1920، ولم تصدر عن المقيمية البريطانية خلال سنة 1919 اية تصريحات واضحة عن السياسة التي تعتزم بريطانيا انتهاجها في العراق. وظهرت بوادر عدم ارتياح شديد فيه بسبب استمرار الاحتلال العسكري من جهة، وقيام دولة عربية مستقلة في سورية، من جهة اخرى. اذ لم يرتح العراقيون حين رأوا ان السوريين اعتبروا قادرين على حكم انفسهم، بينما كانوا هم ـ في نظر الحلفاء ـ غير اهل لذلك.
وفي اواخر سنة 1919 قامت مس بيل بزيارة الى سورية، وقابلت هناك عددا من العراقيين الذين يشغلون مناصب مهمة في حكومتها، ابرزهم ياسين الهاشمي. ويبدو انها تعرفت هناك للمرة الاولى على نوع الحكومة التي يريدها العراقيون الذين يعملون مع فيصل في دمشق. وقدمت لدى عودتها تقريرا من اهم تقاريرها بعنوان سورية في تشرين الاول (اكتوبر) 1919 غطى مقابلاتها ومباحثاتها خلال زيارتها. وقد ختمته بوصف الفوضى وسوء الادارة السائدين في سورية خلال حكم فيصل. ولكنها مع ذلك لم تشجب قيام حكم وطني قبل أوانه، بل بررت ذلك الوضع بأنه كان ضرورة تاريخية لا بد لبريطانيا من مواجهة مثله وقبوله في العراق ايضا وقالت: حينما نؤسس ادارة مدنية في هذه البلاد (أي في العراق) فان وجود حكومة وطنية في سورية منذ سنة أمر لن ينساه الوطنيون العراقيون .
وقد اعتبر ويلسن ان سكرتيرته الشرقية، بتقريرها هذا، الذي جاء خلافا لآرائه، قد خانته وخذلته.
وفي رسالة كتبتها مس بيل في 12 شباط (فبراير) 1920 اشارت الى الوضع في العراق، قائلة: وفيما عدا ذلك، فان الأمور ليست سهلة. اعتقد ان ويلسن يعالج الوضع بصورة ممتازة .
وهنا كانت مس بيل مخطئة. فالواقع ان ويلسن لم يكن ليعالج الوضع بصورة ممتازة. اذ حدثت في الرميثة بعد كتابة هذه الرسالة بمدة قصيرة، الواقعة التي كانت فاتحة ثورة عارمة انتشرت في سائر انحاء الفرات الاوسط والأسفل، ثم امتدت الي بغداد وغربها وشمالها حتى بعقوبة وشهربان وسامراء.
تلك هي ثورة العشرين، او الثورة العراقية التي اجبرت الحكومة البريطانية على تغيير سياستها العراقية، والاقلاع نهائيا عن فكرة الحكم المباشر، وتطبيق سياسة الانتداب تحت قناع معاهدة بريطانية ـ عراقية.
ويبدو ان احداث الثورة قد زادت في توتر اعصاب ويلسن وخشونته مع موظفيه وكل من يتصل به. فقد كتبت مس بيل في 9 ايار (مايو) 1920 تقول: ان تناول الغداء في المكتب امر مزعج نوعا ما. ويلسن يترأس اجتماعات الغداء، وهو كثيرا ما يكون غاضبا كالدب. ولذلك فان الطريقة الوحيدة هي اهماله وعدم التحدث اليه. وهـــــو لا يرتاح الى ذلك ايضا. ولكن ما العمل؟ .
وحيـــــنما منح ويلسن وسام فارس الامبراطورية الهندية (K.C.I.E) الذي اصبح بموجبه يحمل لقب سير ، كتبت غيرترود في احدى وسائلها (في 23 ايار/مايو 1920):
لقد منح ويلسن وسام (فارس الامبراطورية الهندية) وانني مسرورة جدا، فـــــهو جدير به كل الجدارة. اعترف أنني اتمنى انهم وقد منحوه رتبة فارس، لو استطاعوا ايضا ان يمنحوه شيئا من الصفات الخلقية التي تنسب الى الفرسان عادة .
واستمرت العلاقات بين مس بيل والسير آرنولد ويلسن بين مد وجزر، وفي تموز (يوليو) 1920 بلغ الخلاف بينهما ذروته في فصل عاصف وصفته قائلة: كنا حتى الآن نقضي ضربا من (شهر العسل)، ثم حدث لسوء الحظ ان افضيت الى احد اصدقائنا العرب هنا بنتفة من المعلومات التي لم يكن (من حيث المبدأ) ينبغي اعطاؤها. وهي لم تكن ذات اهمية كبيرة، ولم يتبادر الى ذهني انني اخطأت حتى ذكرت الأمر لويلسن عرضا. وكان في ذلك الصباح في سورة من الغضب، فصب جامه علي. قال ان عدم تبصري في الأمور لا يحتمل، وانني يجب ان لا اطلع على اية ورقة في المكتب بعد الآن. وقد اعتذرت عن تلك الهفوة المعينة لكنه استمر قائلا: لقد اسأت اكثر من اي شخص آخر هنا، وانني لو لم اكن على وشك المغادرة لطلبت فصلك منذ شهور
الخاتون: مس بيل في العراق (3 ــ 3)
نجدة فتحي صفوة
الجنرال مود أخطأ في اعتراضه على تعيين امرأة.. والملك فيصل كان يدعوها بـ أختي ويستشيرها دائما
أحبت وطنها إنكلترا.. وعاشت بعاطفتها مع العراق... والجواسيس الحقيقيون هم من أمدوها بالمعلومات والتقارير
تغير السياسة
ولما قررت الحكومة البريطانية تغيير سياستها في العراق، ارتأت اعادة السير بيرسي كوكس بصفة مندوب سام لتنفيذ هذه السياسة الجديدة، وتأسيس حكومة ذات واجهة عربية، تدار ـ حسب قول مس بيل ـ بأيد عراقية وأدمغة بريطانية. وعلى أثر عودة السير بيرسي كوكس الى العراق، غادره آرنولد ويلسن في ايلول (سبتمبر) 1921، وكتبت مس بيل: .. كان الاسبوع الماضي مزدحما بحفلات التوديع لآرنولد ويلسن، وفي الليلة السابقة لمغادرته جاء لتوديعي، وقلت له انني أشعر بخيبة لا استطيع وصفها، وانني آسفة في الواقع لأننا لم نتمكن من جعل علاقاتنا افضل. اجاب انه جاء ليعتذر، فقاطعته قائلة: انني واثقة ان الذنب كان ذنبي بقدر ما كان ذنبه، وانني اتمنى ان لا يغادر حاملا في صدره ضغينة نحوي، فأجابني مبادلا عاطفتي التي ابديتها بالمثل. اما ما كان يدور في فكره عن الأمر كله فعلم ذلك عند الله وحده . ويبدو ان ما كان يدور في فكر ويلسن حقيقة هو نفس ما قاله لها، وانه كان صادقا فيما ابداه لها من عواطف. فقد كانت غيرترود بيل تكتب رسائلها وهي ما تزال تحت تأثير احداث الساعة، وما تتركه من غضب وتأثر، فتعكس بذلك حالتها النفسية الآنية، وقبل ان تبتعد عن الاحداث بدرجة تسمح لها باعادة التفكير في الامور بصورة عقلية هادئة. اما آرنولد ويلسن فقد كتب رأيه في غيرترود بيل بعد ذلك بسنوات، وفي وقت كانت فيه غرترود بيل قد غادرت هذه الدنيا، وذلك في كتابه بلاد ما بين النهرين: بين ولاءين ، فأشاد بمواهبها وخدماتها، وختم ما كتبه عنها بقوله: هل كان ذلك بين أهلها في انكلترا، ام في رياض طهران التي احبتها كثيرا، ان مست شفتيها احلام المسيح للمرة الاولى بنداء حي صادر عن هيكله؟ ذلك ما لا اعلمه، ولكنني مؤمن بأنها كانت موهوبة حقا لتخدم علي حد سواء البلد الذي ولدت فيه، وذلك الذي اتخذته موطنا، بقدرة وحماسة نادرتين بقدر ما هما ثمينتان .
وكتبت مس بيل بعد مغادرة ويلسن، مرة اخرى الى ابيها قائلة: أشعر منذ مغادرة ويلسن كأنني خرجت من كابوس وأشارت في رسائلها التالية الى اخطاء ويلسن في مسؤوليته التاريخية التي أساءت الى مصالح بريطانيا، وأثارت الشعب العراقي ضدها: انني اشعر، بصورة اعمق فأعمق، كم كان ويلسن مخفقا بصورة مفجعة في فهم الوضع، وكم اساء بقصر نظره الى فرص النجاح. انني اعرفه من تجربتي الشخصية بأنه لا ذمة له، وكسياسي اعتقد انه عاد بأكبر ضرر يمكن ان يعود به فرد من الافراد .
وقالت في رسالة اخرى: انه أثار الشعور القومي، واستخف بقوته، واساء فهمه تماما. ان ويلسن مسؤول عن واحد من اكبر الاخطاء السياسية التي ارتكبناها في آسيا.. . وعلى الرغم من ان كلا من غيرترود بيل وويلسن تحدث احدهما عن الآخر في كتبه، وسجل رأيه فيه بصراحة، فمن الطريف ملاحظة انهما لم يطلعا على رأي بعضهما في بعض.
فقد نشرت رسائل مس بيل في سنة 1927، وكان ويلسن على قيد الحياة، ولكن تلك الطبعة من رسائلها كانت منقحة ولم ينشر فيها شيء من تعليقاتها على الاشخاص الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة، وبضمنهم ويلسن.
ولما نشر ويلسن كتابه بلاد ما بين النهرين: بين ولاءين في سنة 1930، ودون فيه رأيه في غيرترود بيل، كانت هي قد توفيت قبل ذلك بسنوات. فلم تطلع على ما كتبه ويلسن عنها. ولما صدرت الطبعة الجديدة من رسائل مس بيل في سنة 1961 التي تضمنت ما سبق ان حذف من الطبعة الاولى، كان ارنولد ويلسن ميتا. فقد انتهى الأمر بآرنولد ويلسن بعد مغادرته العراق ان عين مديرا لشركة النفط الايرانية، ثم عاد الى انكلترا فانتخب نائبا في مجلس العموم. ولما نشبت الحرب العالمية الثانية تطوع للخدمة في القوة الجوية وهو يقارب الخمسين من عمره، وقتل في سنة 1945 وهو يقــــاتل بطائرته فوق برلين، فمات دون ان يطلع على ما جاء في رسائل غرترود بيل عنه.
وكان ارنولد ويلسن قد عهد الى المس بيل خلال عملها معه بوضع تقرير شامل عن الوضع العام في العراق وما وقع فيه من احداث منذ الاحتلال البريطاني، فأعدت تقريرا مفصلا بعنوان عرض للادارة المدنية في العراق فلقي هذا التقرير اهتماما زائدا، واحدث ضجة كبيرة، وقدم الى كلا مجلسي العموم واللوردات، ونشر ككتاب ابيض رسمي، وقابلته الصحافة البريطانية بثناء واستحسان، وعلقت عليه احدى الجرائد بقولها:
واخيرا اصبح بوســــع امــرأة ان تدبج كتابا ابيض كهذا.. .
واشارت غيرترود الى هذا التعليق في احدى رسائلها الى أبيها قائلة: تسلمت الان رسالة الوالدة التي تقول فيها ان هناك ضجة كبرى حول تقريري، ويبدو ان الخط العام الذي اتخذته الصحافة هو انه لامر جدير بالاهتمام والتقدير ان يستطيع كلب الوقوف على ساقيه الخلفيتين ـ اي ان تستطيع امرأة تحرير (كتاب أبيض). ليتهم ادركوا مصدر الاستغراب هذا، واهتموا بالتقرير نفسه اذا كان فيه ما يساعدهم على فهم العراق .
وفي 11 تشرين الاول (اكتوبر) 1920 عاد السير بيرسي كوكس الى بغداد بعد ان فشلت سياسة ويلسن فشلا ذريعا، وقررت الحكومة البريطانية تغيير سياستها في العراق وتأسيس حكومة ذات واجهة عربية، واصبح الحاكم المدني العام السابق يسمى المندوب السامي ، وبذلك كان اول ممثل سياسي بريطاني في العراق. واستقبل السير بيرسي كوكس استقبالا حافلا واشترك في الاحتفال بقدومه الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي وألقى في الترحيب بها كلمة استهلها بهذين البيتين:
عد للعراق واصلح منه ما فسدا وابثث به العدل وامنح اهله الرغدا
الشعب فيه عليك اليوم معتمد فيما يكون، كما قد كان معتمدا
ثم حمل الزهاوي على الثورة العراقية وعلى القائمين بها حملة شعواء وذمها ذما شديدا. وعلق المرحوم عبد الرزاق الحسني على ذلك مستشهدا بالآية الكريمة: والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر انهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون .
واستبشرت مس بيل بعودة السير بيرسي كوكس بطبيعة الحال، واصبحت يده اليمني في كل اعماله، واسهمت مساهمة فعالة في تأسيس الحكومة المؤقتة واقناع السيد عبد الرحمن النقيب بقبول رئاستها، وفي اختيار وزرائها، بهمة لا تعرف الكلل، وحيوية نادرة.
تشرشل في وزارة المستعمرات
وفي شباط (فبراير) 1921 نقل المستر وينستون تشرشل من وزارة الحرب وأصبح وزيرا للمستعمرات، فقرر عقد مؤتمر في القاهرة دعا اليه الممثلين العسكريين والسياسيين البريطانيين في الشرق الادنى لاعادة النظر في سياسة بريطانية في المنطقة ودراسة امكانات خفض النفقات البريطانية فيها، وتقرير علاقات الدولة الجديدة المقبلة في العراق ببريطانيا العظمى من حيث النفقات، وشكل الدولة المقبلة، وشخص رئيسها، ونوعية قوات الدفاع فيها، وغير ذلك. فلما ذهب السير بيرسي كوكس لحضور هذا المؤتمر كان من جملة من اصطحبهم معه سكرتيرته الشرقية غيرترود بيل التي كانت المرأة الوحيدة في المؤتمر. ومن المعروف ان فكرة ترشيح فيصل الاول لعرش العراق كانت قد تقررت بصورة نهائية هناك.
ومنذ نصب فيصل الاول على عرش العراق، وهو قرار كان للمس بيل دور كبير في تبنيه، لم يتمتع احد بثقته مثل تلك المرأة الانكليزية التي كان يدعوها: (أختي). وفي كثير من ساعات الازمات كانت هي الوسيطة المقبولة في تسهيل الاتصالات السرية بين دائرة المندوب السامي والبلاط الملكي. اما في الاوقات الاعتيادية فكان عملها بصورة رئيسية متصلا بشؤون العشائر. على انه لم تكن هنالك اية قضية ادارية لم يستعن فيها فيصل الاول ورجاله، والمندوب السامي واعوانه، بمعونتها، وكانت معرفتها بالبلد وسكانه تفوق معرفتهم دائما.
وقد اظهرت الايام كم كان الجنرال مود مخطئا في اعتراضه على تعيين امرأة في هيئة موظفي المفوض المدني، لأن كون مس بيل امرأة كان على العكس مما توقعه، من اهم اسباب نجاحها في عملها سواء أكان ذلك في تأثيرها على فيصل الاول ورجاله، ام في اتصالاتها بالأسر العراقية، وتعرفها على زوجات الساسة والزعماء، ودخولها بيوتهم، مما لم يكن في امكان أي رجل القيام به.
وكان من جملة واجبات مس بيل، بوصفها الكسرتيرة الشرقية لدار الاعتماد، اعداد تقرير استخبارات نصف شهري تضمنه كل احداث البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يدور على ألســــنة الناس من اشاعات، وما يتحدث به الناس في المقاهي والاســـواق، او تردده النسوة في مجالسهن، وتحاول اعطاء صورة واضحة لاتجاهات الرأي العام العراقي وانطباعاته خلال اسبوعين. وهذه التقارير محفوظة جميعا في مركز الوثائق العامة بلندن وفي مكتبة المتحف البريطاني، وبامكان الباحثين والمؤرخين الاطلاع عليها بسهولة.
حوارات مع الخادم
وكانت مس بيل تضمّن رسائلها الى والديها كثيرا من المعلومات التي تذكرها في تقاريرها الرسمية وما لا تذكره فيها احيانا، وخاصة ما هو طريف او غريب منها، او ما له صفة شخصية. وكان يتساوي لديها ـ في رسائلها ـ اهتمامها بحديث لها مع الملك، او حدوث ازمة وزارية خطيرة، او حديث مع طباخها صباحا قبل ذهابها الى عملها.
وانقل ـ على سبيل المثال ـ فقرة من رسالة لها الى أبيها مؤرخة في 7 كانون الاول (ديسمبر) 1919:
.. وكذلك طباخي الجديد ـ آه يا أبتي كم ستعجبك رؤيته وهو يتجول مزهوا بعباءته. وهو على الرغم من اجادته الطبخ الى حد بعيد، وصنعه كيكات ممتازة، فانه لا يستطيع ان يقرأ او يكتب، وذاكرته معطوبة.
ان حسابات الصباح مثال على ذلك، فهي تجري كالاتي:
غيرترود: يلله مهدي، الحساب، لازم اروح للدائرة.
مهدي: خادمج، خاتون، اشتريت.. شسمه
غيرترود: زين، شسمه؟
مهدي: تّمن، قرانين
غيرترود: ثمان آنات. وبعد؟
مهدي: بعد اشتريت شسمه
غيرترود: شنو؟ يلله
مهدي: خبز، ست آنات
غيرترود: زين، داوم
مهدي: بعدين اشتريت شسمه
غيرترود: يا فاطر السماوات ـ شنو؟
مهدي: شكر.. روبيتين
غيرترود: روبيتين؟ زين
مهدي: بعدين خاتون، نسيت البيض مال البارحة
غيرترود: زين، بعد؟
مهدي: بعدين اشتريت لحم. روبية
غيرترود: وبعد؟
مهدي: والله اشتريت ـ خاتون احضّر لجنابج لحم للعشاء؟
غيرترود: كيفك.. خلّص الحساب مهدي: على راسي، وبعد اشتريت شسمه وهكذا دواليك حتى اصل الى حالة بين الهستيريا والضحك..
وبعد ان تطلب الى أبيها ارسال بعض الحاجيات تقول:
هل تعلم يا أبي ماذا يسمونني هنا؟ أم المؤمنين. وآخر من كان يلقب بهذا اللقب عائشة زوجة الرسول. وهكذا ترى لماذا لا استطيع ان اترك هذا البلد.. .
المتحف العراقي
هنالك ناحية مهمة اخرى في حياة غيرترود بيل في العراق تستحق اشارة خاصة، وهي اهتمامها بالآثار القديمة وتأسيسها المتحف العراقي.
كانت غيرترود بيل بحكم خبرتها الطويلة السابقة في شؤون الاثار، وولعها بالتنقيبات الآركيلوجية، كبير الاهتمام بآثار العراق القديمة، ولكن انشغالها الكثيرة خلال السنوات الاولى من قيام الادارة الجديدة في العراق لم تسمح لها باعارة هذه الناحية ما تستحقه من وقتها وعنايتها. فلما انتهت المفاوضات الطويلة والصعبة لعقد المعاهدة العراقية ـ البريطانية في سنة 1925، تمكنت مس بيل، على الرغم من بقائها في منصبها سكرتيرة شرقية لدار الاعتماد، ان تخصص مزيدا من الوقت لشؤون الآثار، فعملت على تأسيس ادارة للآثار القديمة وعُيّنت مديرة فخرية لها وبقيت تشغل هذه المديرية حتى وفاتها.
وقد مشت مس بيل في تشجيع البعثات الأثرية على القدوم الى العراق واجراء الحفريات والتنقيبات في مواقعه الأثرية الغنية بالاثار، وخاصة في (اور)، وعملت على تحقيق مشروع انشاء متحف وطني، واتخذت له مكانا دائما في بغداد، في البناية التي شغلها المتحف العراقي حوالي أربعين عاما، في شارع الامين ببغداد.
الرحلة الأخيرة
قضت غيرترود بيل في العراق عشر سنوات كاملات لم تقطعها سوى ثلاث اجازات قصيرة في اوروبا وانكلترا، وبلغت الثامنة والخمسين من عمرها وهي في عمل دائب، وحركة لا تنقطع، مما استنفد رصيدها من القوة الجسمية، وكان الأطباء قد نصحوها بعدم قضاء صيف آخر في بغداد، ولكنها رفضت مغادرة العراق حتى تنتهي من تأسيس المتحف.
وفي مساء الاحد، 11 تموز (يوليو) اوت الى فراشها وطلبت الى خادمتها (ماري) ان توقظها في السادسة صباحا. وكانت (ماري)، كسائر المحيطين بغيرترود، قلقة على صحتها، فتسللت الى غرفتها ليلا لتطمئن عليها فوجدتها على ما يرام. ولكنها حين دخلت لايقاظها في السادسة صباحا كانت غيرترود في رقدة ابدية. وعلم فيما بعد انها تناولت جرعة كبيرة من حبوب منومة تدعي Dial حسبما كتب الدكتور دنلوب مدير المستشفى الملكي في بغداد، في تقريره عن وفاتها. وكانت وفاتها قبل يومين من عيد ميلادها الثامن والخمسين.
وهكذا انتهت حياة حافلة بالمغامرات والمنجزات وانطوت صفحة ملونة طريفة من تاريخ العراق الحديث، كما فقد الاستعمار البريطاني ركنا مهما من اركانه.
جرى للمس بي في اليوم التالي تشييع رسمي حضره الملك علي مندوبا عن اخيه الملك فيصل الاول، والمعتمد السامي البريطاني، ورئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، والوزراء، ورئيس المجلس النيابي، وعدد كبير من الاعيان والنواب والوجهاء والمستشارين البريطانيين، ودفنت في مقبرة المسيحيين في الباب الشرقي (قرب ساحة الطيران).
يصف الذين كانوا على معرفة بالمس بيل شكلها ومظهرها بانها كانت ذات شعر نحاسي اللـــــون، وعينين عسليتين تميلان الى الخضرة. وبشرة براقة، وانف مدبب وطويل بشكل غريب. ويقال ان الرجال الاوروبيين ـ ومنهم لورانس ـ كانوا يجدونها جذابة. وعلى الرغم من انها كانت متوسطة الطول، منتصبة القامة، وتتمتع بكثير من الانـــوثة في مظهرها وملبسها، فان النسوة المحافظات ـ فيما يقال ـ كن، لأمر ما، لا يرتحن اليها.
وكانت كبيرة الاهتمام بملابسها، تخترق ازقة بغداد الضيقة، وغير المبلطة، وهي مرتدية اخر الازياء الباريسية. وفي رسائلها الى والديها نقرأ طلبات مستمرة لمختلف الملابس والقمصان وغيرها من مخازن لندن وباريس المشهورة.
وكانت غيرترود بيل يوم وصولها الى العراق في الثانية والخمسين من عمرها، وكانت امرأة نحيفة جدا، ولم تكن من النوع الذي يميل اليه الرجال العراقيون، وخاصة في ذلك العهد، لنحافتها المفرطة، ولكن اثرها فيهم كان مع ذلك كبيرا بسبب شخصيتها القوية ولباقتها وحركتها الدائبة، وكانوا يخاطبونها قائلين: خاتون، حتى اصبح ذلك لقبا لها تعرف به، فاذا تحدثوا عنها قالوا: الخاتون، وكانت ألف لام التعريف تغني عن ذكر اسمها.
وكان بيتها موئل كثير من الرؤساء والاعيان، كما زارها وتناول العشاء معها الملك فيصل الاول غير مرة. وكان من اكثر رؤساء العشائر ترددا عليها: فهد الهــــذال، شيخ مشايخ عنزة، وعلي السليمان، شيخ الدليم، وحسن السهيل، شيخ بني تميم.
وكان لها اصدقاء من الوجهاء المحليين، اقربهم الى قلبها الحاج ناجي في الجادرية، وجعفر عطيفة في الكاظمية، وفائق بك (والد المرحومين ماهر فائق وباهر فائق) في الفحامة. وكانت كلما ضاق صدرها، او رغبت في القيام بنزهة، قصدت احدهم في بستانه بسيارة او زورق بخاري او على صهوة جوادها الذي كانت تحتفظ به في اسطبل صغير في حديقة دارها. وكانت غيرترود تأنس اليهم بعيدا عن جو عملها اليومي والموضوعات التي تشغلها، وقد تردد ذكرهم كثيرا في رسائلها.
ولم يكن مجتمع بغداد في ذلك الوقت قد تعود اختلاط الجنسين، ولم يكن من المألوف لدي الناس ان تسلك امرأة مثل سلوكها، او تمارس مثل نفوذها، او تشغل مثل منصبها. ولذلك اصبحت (الخاتون) موضوع احاديث الناس في المقاهي والدواوين والبيوت. فهي تسير سافرة في الشوارع، وتحيي الرجال، وتزورهم في بيوتهم ومكاتبهم الرسمية، وتستقبلهم في بيتها. وعلى الرغم من كونها في العقد السادس من عمرها لم تنج من بعض اقاويل السوء التي نشرت عنها. وصار الناس يتحدثون عن علاقات لها مع هذا الرجل او ذاك من الشخصيات العراقية او البريطانية.
الزهاوي وذات العيون الزرق
وكان الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي في ايام الاحتلال البريطاني ينشر من حين لآخر، في احدى الصحف المحلية، رباعيات شعرية تضمنت غزلا في عيون زرقاء، فاستغل خصومه ـ وهم يعرفون تردده وقلقه ـ هذه المناسبة لاحراجه فاطلقوا في الاندية والمجالس اشاعة فحواها ان هذه الرباعيات تضمنت غزلا بعيون مس بيل، وما كادت هذه الشائعة تبلغ سمع الزهاوي حتى طار هلعا وامتلأ رعبا، واسرع يبعث الرسل اليها ويقسم اغلظ الايمان بين يديها ان ليس لتلك الرباعية اي صلة بعينيها.
ولكن الشيخ تقي الخاصي كان اشجع من الزهاوي حين نظم في مس بيل قصيدة تهكمية اشتهرت في حينها، وتناقلها الناس لطرافتها، ومن ابياتها:
وافت الينا مس بيل راكبة طرمبيل
تحكي البدور وجها وشعرها يحكي الليل
ترنو غزال نجد وتشرئب كالخيل
فما رأتها عين الا وقالت: كيل كيل
عرج علينا نقضي عشية في الاوتيل
وكان اول من فطن الى اهمية رسائل مس بيل في العراق هو الصحافي القدير رفائيل بطي بما أوتي من حس صحافي مرهف وثقافة عصرية ومتابعة لما ينشر في الغرب بصورة لم تتح لغيره من الصحافيين في عهده. فعني بنشر ترجمة لرسائل مس بيل في جريدته (البلاد) يوميا بصورة متسلسلة ابتداء من عددها الاول. وعلى الرغم من ان الجريدة لم تذكر اسم المترجم إلا أن رفائيل بطي أخبرني انه كان يونس السبعاوي.
على ان بعض ما جاء في تلك الرسائل من صراحة غير مألوفة في العراق في ذلك الوقت، وما احتواه بعضها من مساس برجال الدين، وخاصة من الشيعة، اثار استياء بعض القراء. وبادر الشيخ باقر الشبيبي الى كتابة مقالة في جريدة (البلاد) نفسها (في عددها الصادر في 20 كانون الثاني ـ يناير 1930) حمل فيها على مس بيل ورسائلها بشدة.
وكذلك انبري شاعر شاب، كان سيقدر له ان يكون من اكبر شعراء العراق فيما بعد، وهو محمد مهدي الجواهري، الى نظم قصيدة موجهة الى مس بيل، او الى روحها، قال فيها انها كانت ترمي الى التفرقة بين اهل العراق، جاء فيها:
قل للمس الموفورة العرض التي= لبست لحكم الناس خير لباس
لي قيلة تلقي عليك بمسمع= وبمحضر من زمرة السواس
ان كل سرك في العراق بان تري= ناسا له مضروبة باناس
فلك التعزي في سياستك التي = عادت عليك بصفقة الافلاس
خطط وقفت لها حياتك اصبحت = شؤما عليك وانت في الارماس
وقد فات منتقدي مس بيل على ما جاء في تلك الرسائل والذين اتهموها بمحاولة زرع الفرقة في صفوف العراقيين ـ كما ورد في المثالين السابقين ـ ان مس بيل لم تكتب رسائلها للنشر، لكي يقال انها كانت تحاول ذلك، بل انها كانت رسائل شخصية لم تتوقع نشرها، ولم تفكر فيه.
واخيرا لا بد لنا ان نتساءل، كما يتساءل الكثيرون، هل كانت مس بيل صديقة للعراق حقا، كما اشتهرت، تعد العراق وطنها الثاني وتسعى لاجل خيره وتقدمه؟ ام كانت مجرد اداة من ادوات الاستعمار لا تهمها غير مصالح بريطانية؟ ام كانت ـ كما وصفها البعض ـ جاسوسة تتظاهر بمحبة البلد الذي تعمل فيه ولا تهمها مصلحته، ولا تهدف الا الى خدمة بلادها؟
كانت مس بيل في البداية ضابطة استخبارات مع جيش الاحتلال، ثم اصبحت سكرتيرة شرقية للمعتمد البريطاني في عهد الانتداب. وهي لم تتظاهر بأية صفة اخرى، ولم تخف طبيعة عملها موظفة في حكومة بلادها بصورة رسمية لا يشوبها الكتمان تخدم بلدها بكل نشاط.
وليس هنالك شك في ان مس بيل كانت مخلصة لوطنها كل الاخلاص، ولو لم تكن كذلك لما استحقت الاحترام، ومن لا يكون مخلصا لوطنه لا يمكن ان يكون مخلصا لوطن آخر مهما تظاهر بمحبته وصداقته.
ولكنها الى جانب ذلك كانت امرأة عاطفية، عاشت في العراق سنوات طويلة، وكونت لنفسها فيه اصدقاء ومحبين، وكانت اذا وجدت الفرصة للقيام بخدمة للعراق واهله، بما لا يتعارض مع مصالح بلادها، وان تنجز بعض الاعمال الطيبة فيه، فلا شك انها كانت تبادر الى القيام بذلك.
والواقع ان الذين كانوا يتصلون بها من ابناء البلد، ويزودونها بالاخبار والمعلومات ـ مأجورين او متبرعين ـ وينفذون ما يكون مخالفا لمصلحة بلادهم من طلباتها، هم اقرب الى صفة الجاسوسية منها.
كتب المرحوم يوسف غنيمة، وزير المالية العراقي السابق، والبحاثة المعروف، مقالة عن مس بيل في مجلة (لغة العرب) الصادرة في ايلول (سبتمبر) 1926 (اي بعد وفاتها بشهرين) عبر فيها عن هذا المعنى بقدر ما تسمح به الظروف في تلك الفترة من الهيمنة البريطانية، قال فيها: اما الخطة التي انتهجتها في سياستها في العراق فهي انها تسعى السعي المتواصل للتوفيق بين السيادة القومية العراقية واستقلال البلاد، وبين مصالح بريطانيا العظمى في هذا القطر. فهي بريطانيا مخلصــــة لبلادها، وصديق حميم للعرب والعراقيين .
وكان امين الريحاني، اديب المهجر الكبير، قد زار العراق حينما كانت مس بيل على قيد الحياة وفي اوج نشاطها السياسي، وتحدث عنها بأسلوبه المعروف في فصل طريف من كتابه ملوك العرب ختمه بقوله: حدثني احد المستشارين قال: طريقة المس بيل السياسية قديمة، وهي مع ذلك لا تركن في الامور لا لعقلها دائما ولا لقلبها. وقال اخر: الناس يأبون التأديب سواء اكانوا عراقيين ام انكليزا.
ولكن المس بيل لا تجابه العراقيين دائما بالقاعدة والعصا كالمعلمة المرشدة، بل تجيئهم مرارا وهي تحمل هدية بدل العصا. هو ذا قلبها عربون اخلاصها ايها الزعيم الوطني، هي ام المؤمنين يقــــينا. واذا رفضت الهدية والمشورة، اذا ابيت النصح والامتثال، فهوذا الســـجل، وفيه سيرة حياتك منذ دببت ودرجت، الى يوم وقفت مستعطفا او محتجا في دار الانتداب .
لذلك لا يبادلها العراقيون الحب والوداد، ولكنهم يحترمونها ويعجبون بها، ويودون لها ما يوده المرء لعمته، او الفتاة لخالتها. لا تحبينا كثيرا، عافاك الله، ولا تتدخلي كثيرا في امورنا .
وبعد، فان مس بيل تمثل في تاريخ العراق عهدا مضى وانقضى، وسيرتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمرحلة من مراحل تاريخنا القريب. وان اهتمامنا بها، ودراستنا لسيرتها ورسائلها ينبعان بطبيعة الحال من اهتمامنا بدراسة تاريخنا بكل صفحاته المشرقة والمظلمة، والافادة من دراسة الماضي وتجاربه الحلوة والمرة، لبناء مستقبل افضل. فالتاريخ قبس من الماضي ينير الطريق الي المستقبل
نجدة فتحي صفوة
المصدر
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..