من يوميات الرحالة البريطانية غيرترود بيل قبل قرن من الزمان (الحلقة 1)
من دمشق إلى حائل على ظهور الإبل في 16 ديسمبر 1913، انطلقت رحلة غيرترود بيل من دمشق، ميممة حائل بقافلة مكونة من 17 بعيراً محملة بالمؤن والخيام، وثلاثة جمّالين، وطباخ، ومرشد، وقد تلقت
تحذيرات عن المخاطر المحتملة، وبالرغم من أخذها الحيطة والحذر في ترحالها، فإن المخاطر واكبت رحلتها: حين هاجم قافلتها بعض الفرسان وسلبوا أسلحتها وذخيرتها عنوة، وانتظرت أسبوعاً حتى أعاد أحد شيوخهم ما سُلب، ثم اعترض طريقها مسؤول عثماني لمنعها من السفر؛ وبعد 10 أيام من المفاوضات المضنية، تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر. وعند مرورها بأراضي إحدى القبائل اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور، بحجة أنها «نصرانية»، واقترح سراً على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها، وفي حائل ظلت غيرترود بيل حبيسة في قصر برزان قرابة 11 يوماً، وقد سجلت معاناتها في يومياتها يوماً يوماً. وكانت، مع كل تلك المصاعب، مفعمة بالحيوية والحماسة، وقد شدها جمال الطبيعة في صحراء النفود، وكثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر، وأنها تعيش أجواء «ألف ليلة وليلة» الحقيقية.
الرحلة إلى حائل على ظهور الإبل
في 13 نوفمبر 1913 غادرت غيرترود إنكلترا ميممة دمشق، راغبة في القيام برحلة تخترق شمال شبه الجزيرة العربية، وقد بحثت عن رفيق يصحبها خلال الرحلة، فاتجهت في اللحظة الأخيرة إلى دوغلاس كاروثرز، السكرتير الفخري للجمعية الملكية الجغرافية والخبير في الخرائط، الذي عمل على نحو واسع في قسم الخرائط بالاستخبارات العسكرية في مقر الحكومة البريطانية (الوايتهول) وقد قام برحلة إلى تلك المناطق قبل 4 سنوات؛ إلا أن الظروف لم تكن مواتية لكاروثرز، فقررت القيام برحلتها منفردة.
عندما وصلت بيل إلى دمشق شرعت بالتخطيط للقيام برحلتها الاستكشافية عبر صحراء بادية الشام، ومن ثم الدخول إلى «جزيرة العرب» والوصول إلى حائل- لتكون ثاني امرأة إنكليزية تزور حائل بعد السيدة النبيلة آن بلونت- التي زارتها قبلها بثلاثة عقود تقريبا.
ولتمويل هذه الرحلة طلبت من والدها مبلغ 400 جنيه إسترليني كسلفة، ووعدته بأنها ستسددها عند عودتها، وكان معها أدوات المسح الجغرافي مثل جهاز قياس الزوايا، وقياس خطوط الطول والعرض، وخرائط أولية لمنطقة شمال الجزيرة العربية، حصلت عليها من الجمعية الجغرافية الملكية. وقامت غيرترود بيل بالاتصال بالتاجر القصيمي محمد البسام، من أهل عنيزة والمقيم بدمشق، وهو ممن تثق بهم وتزوره كلما أقامت بدمشق، وتسترشد بنصائحه وآرائه، وتحدثت إليه عن رغبتها في القيام بهذه الرحلة، فأجابها بأن الطريق إلى حائل سالكة هذه السنة، وأشار عليها بأن تصرف مبالغ كبيرة لشراء الهدايا لتقديمها إلى أمراء القبائل وأمراء حائل، وطلبت منه أن يشتري لها رواحل من الإبل الأصيلة التي تتحمل مشاق رحلة طويلة تستغرق قرابة ثلاثة أشهر، وأن يختار لها المرافقين والخدم والأدلاء المناسبين، وقام بتنفيذ طلبها.
ووجدت غيرترود بيل مرشداً ذا خبرة، هو محمد المعراوي، الذي رافق كاروثرز في إحدى رحلاته في الجزيرة العربية قبل 4 سنوات، وهو ضليع في معرفة طرق الجزيرة العربية، وحمل معه توصيات من رجال مرموقين لتسهيل مهمة الرحلة، وهو في نفس الوقت على معرفة تامة بابن رشيد الذي كانت غيرترود بيل تأمل أن تلتقيه، وأصبح المعراوي الذراع القوية في القافلة، وقادها بنجاح منقطع النظير على دروب الصحراء الرملية وأراضي الحماد في بادية الشام وصحراء النفوذ الكبير التي لم توضع لها أي خرائط، وشق طريقه خلال الحواجز الجبلية والكثبان (الطعوس) الرملية الذهبية العالية والأراضي الصخرية التي يصعب المرور عبرها.
وكان تنظيم القافلة جيداً، حيث قامت بشراء 17 بعيراً، وكانت تكلفة البعير الواحد 16 جنيها إسترلينيا، بالإضافة إلى الطعام الذي خصصت له 50 جنيها إسترلينيا، و50 جنيها للهدايا مثل العباءات (البشوت) والكوفيات (الشمغ) والملابس القطنية (الأثواب)، وحملت معها مستند ﺣواﻟﺔ ﻣﺎﻟﯾﺔ ﺑﻣﺑﻠﻎ ﻣﺋﺗﻲ ﺟﻧيه إﺳﺗرﻟﯾﻧﻲ تتسلمها في ﺣﺎﺋل، حيث دﻓﻌت ﻗﯾﻣتها إﻟﻰ وﻛﯾل اﺑن رﺷﯾد ﻓﻲ دﻣﺷق.
وكانت القافلة صغيرة نسبيا بالمقارنة مع القوافل التقليدية كقوافل الحجاج أو قوافل تجار العقيلات، وحزمت بيل أيضا ضمن أغراض السفر أطقما من الصحون والمشغولات الفضية والأقمشة الكتانية، وأعمال شكسبير الكاملة، وكتبا ومجلات وروايات أخرى.
وحملت معها أيضا خيمة ومغطسا للاستحمام، وكاميرا تصوير وعدستين ومناظير مكبّرة (درابيل) وأدوية ومراهم للحالات الصحية الطارئة، وحملت معها سريرا وكرسيا يمكن طيهما، ومسدسات وأجهزة مسح جغرافي مثل أدوات قياس العرض والطول وقياس الزوايا التي زودتها بها الجمعية الجغرافية الملكية بلندن.
الشروع في الرحلة
وفي 16 ديسمبر 1913 شرعت في رحلتها الصعبة والخطيرة، منطلقة من دمشق لاختراق الجزيرة العربية ميممة حائل، بقافلة مكونة من 17 بعيرا محملة بالمؤن والخيام، وثلاثة جمَالين «مكارية» لقيادتها، وطباخ، ورجل كمرشد ودليل، ورغم التحذيرات التي تلقتها بأن سكان البادية هناك يشككون في الأوروبيين، فإنها لم تخبر السلطات العثمانية أو البريطانية عن رحلتها؛ لأنها كانت تخشى منعها إذا ما علمت السلطات بالقيام بهذه الرحلة؛ لما يكتنفها من مخاطر جمة.
وكان أول المخاطر التي واجهتها بعد أيام من بدء الرحلة هجوم كوكبة من الفرسان على قافلتها– وقد انطلق أحد الفرسان شاهرا سيفه، مطلقا طلقات نارية فوق رؤوس رجال قافلتها، وكأن فيه مساً من الجنون- وقاموا بسلب أسلحة رجالها وحاجياتهم عنوة، وانتظرت أسبوعا حتى أعاد أحد شيوخهم ما سلب، بعد وساطة أحد مرافقيها.
واكبت رحلتها المشاق حين أوقفها مسؤول عثماني لمنعها من السفر، وأخّر رحلتها لفترة 10 أيام تقريبا؛ وبعد جهد مضن تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر، مقابل أن تتعهد له خطيا بتحملها مسؤولية ما سيحدث لها خلال الرحلة، وإعفاء السلطات العثمانية من أي مسؤولية تترتب على سفرها... وكتبت تقول إنها شعرت بالراحة لأنها أصبحت الآن خارج نطاق القانون في صحراء شاسعة لا يحكمها سوى قانون أهل البادية الخاص.
من مخاطر الرحلة
وأثناء رحلتها في الصحراء تحاشت أن ترد موارد البادية المعروفة، خشية أن تتعرض لغزو وسلب القبائل، واعتمدت على غدران المياه التي تتكون إثر سقوط الأمطار (الخباري)، وبالرغم من أخذها الحيطة والحذر في ترحالها فإن المخاطر اكتنفتها، وعند مرورها بأراضي قبيلة أخرى اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور- بحجة أنها نصرانية- إلا بعد مفاوضات شاقة وتقديم الهدايا له (مثل المسدس والمنظار)، واقترح سراً على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها؛ ولكن رجالها كانوا أوفياء لها ولم يغدروا بها.
ومع كل هذه المصاعب التي واجهتها إلا أنها كانت مفعمة بالحيوية والحماسة، وقد شدتها الطبيعة الغريبة للمنطقة والجمال الأخاذ لضوء القمر في صحراء النفود، وقد كتبت في يومياتها ورسائلها أنها كثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر، وأنها تعيش أجواء ألف ليلة وليلة الحقيقية:
«في الصحراء يلتف حولك حجاب منيع من السكون والعزلة، وليس هنالك من حقيقة تضاهي تلك الساعات التي يقضيها المرء في امتطاء ظهور الإبل، حيث ترتجف أوصاله في الصباح من البرودة ويشعر بالنعاس في الظهيرة ثم يدب نشاط صاخب في بناء الخيام [عند المساء]، وبعدها نتناول العشاء ونتجاذب أطراف الحديث، حول موقد نار قهوة محمد [الدليل محمد المعراوي]، ثم نخلد إلى نوم عميق لا يمكن لأي متمدن أوروبي أن يستمتع بمثله».
الشعور بالكآبة
وبعد أن قطعت مسافة ثلاثة أرباع الطريق مقتربة من حائل خبت شعلة حماسها واعتراها شعور بالكآبة، وأخذت تقلل من جدوى هذه المغامرة وأهميتها، فكتبت في يومياتها تقول: «اليوم أعاني نوبة شديدة من الاكتئاب– وكيف أضع هذا الشعور في كلمات معبرة؟ هل أكون أفضل حالا أم سيزداد اكتئابي أكثر من أي وقت مضى؟ تساورني الشكوك العميقة فيما إذا كانت مغامرتي بعد كل تلك المشاق تستحق كل هذا العناء. أنا لن آبه بالمخاطر التي تكتنف مغامرتي، فقد جُبِلت على ذلك؛ ولكنني بدأت أتساءل: ما الفائدة المرجوة من هذه المغامرة برمتها؟ أخشى عندما أصل إلى النهاية أن أنظر إلى الوراء هل أقول: إن «ما قمت به كان مستحقاً»، أم أنني من المرجح عندما أنظر إلى الوراء سأقول: «ما قمت به كان مضيعة للوقت»؟! ومع ذلك فمن المؤكد أن ما قمت به لا يمكن التراجع عنه الآن، لقد سبق السيف العذل. أعتقد أنني حمقاء عندما دخلت في معمعة هذا الضياع، عندما أقحمت نفسي بأمور أنا في غنى عنها، إذ لم يكن لي مطلق الحرية لممارسة أعمال هي من صميم اهتماماتي الخاصة، هذا أدى إلى تثبيط هممي. لأنها أتت بعد فوات الأوان، مثل معظم أفكارنا الحكيمة، هذه هي الأفكار التي تختلج مخيلتي هذه الليلة، ومع خشيتي من خطورتها إلا أنها تقترب من الحقيقة.
الوصول إلى حائل
وواصلت غيرترود رحلتها، وبينما كانت القافلة على مشارف جبل أجا جاءها رسول من وكيل أمير حائل إبراهيم السبهان، وبعد الترحيب بها أخبرها بانشغال الأمير سعود بن عبدالعزيز بن متعب الرشيد أمير حائل آنذاك، لقيامه بغزوات خارجية في الجوف ضد ابن شعلان، وأنه لن يسمح لها بمغادرة حائل حتى يتمكن الأمير من العودة.
وسمح لها بالإقامة في قصر الضيافة خارج أسوار حائل، وزارها السبهان في دار الضيافة، وعند مغادرته القصر أسرّ إلى محمد المعراوي مرافقها، قائلا له: بما أن الأمير خارج المدينة، وهناك حديث يدور بين الناس يستغرب مجيء هذه الأجنبية فإنه لا يسمح لها بمغادرة دار الضيافة إلا بإذن، وظلت حبيسة القصر قرابة أحد عشر يوماً، وقد سجلت معاناتها في يومياتها يوماً يوماً.
وفي نهاية المطاف وبعد الإقامة الجبرية سمح لها ﺑﺎﻟﺗﺟول في المدينة، وسمح لها أيضا بالتقاط الصور بكل حرية، وتحوﻟت بيل إﻟﻰ ظﺎهرة ﯾﺗﺟمهر ﺣولها اﻟﺳﻛﺎن في اﻟﻣدﯾﻧﺔ، وﻗد وﺛﱠﻘت أﺣوال اﻟﻣدﯾﻧﺔ واﻟطﺑﯾﻌﺔ اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﯾﺔ ﻷهلها وﻋﺎداتهم اﻟﯾوﻣﯾﺔ، وﻛﺗﺑت ﻋن ﺣﺎﺋل ﻣﺎ يلي: «... ﺑﺎﻟرﻏم ﻣن أن ﺣﺎﺋل ﻻ ﺗﺧﺗﻠف ﻋن أي ﻣدﯾﻧﺔ أﺧرى ﻓﺈنها ﺗﺗﻣﺗﻊ ﺑﻧوع ﻣن اﻟﺑداوة... طرقها ﺗﻛﺳوها رﻣﺎل اﻟﺻﺣراء، وﺗﺧﻠو ﻣن دوران ﻋﺟﻼت اﻟﻣرﻛﺑﺎت وﺻرﯾرها، وﻛل ما يسمع ﻣن ﺿوﺿﺎء اﻟﻣرور هو ﺻوت ﺧﻔﺎف اﻹﺑل اﻟﺗﻲ تسير على هذه اﻟطرﻗﺎت...».
وأصبحت الصور الفوتوغرافية النادرة التي التقطتها بيل مرجعا مهما، وعلى نحو خاص تلك المتعلقة بالمواقع الاثرية التي طرأت عليها منذ قرن بعض التغييرات، وبعضها اختفى إلى الأبد (كقصر برزان مثلا)، فالصور تدعم اليوميات وتوثقها، ولأن الرحّالة امرأة، فقد أتيحت لها فرصة الاطلاع على أحوال المجتمع النسائي القبلي– قبيلة الحويطات- حين دونت بعض الأحاديث مع نساء القبيلة ومعاناتهن في ظل حياة الترحال والجوع والعطش والأعباء المنزلية من طبخ ونصب بيوت الشعر وما إلى ذلك، وكذلك مجتمع النساء الأرستقراطي– نساء آل رشيد- حين دونت حياة الترف في القصور، ونوعية الملابس والجواهر والخدم والحدائق والفواكه، ووثقت بعضها بالكاميرا أيضا.
وتعد «يوميات بيل» مصدراً مهماً من مصادر تاريخ الجزيرة العربية، علاوة على ما تضمنته من ذكر للأحداث التاريخية في المنطقة- وإن كانت مختصرة جداً- وفقاً للحوليات التي رواها وكيل أمير حائل إبراهيم السبهان المسماة «دفتر إبراهيم».
مَن هي الرحالة غيرترود بيل؟
(الآنسة) غيرترود لوثيان بيل هي الكاتبة، والشاعرة، وعالمة الآثار، والرحالة، والمُحلّلة السياسية، والجاسوسة، والدبلوماسية البريطانية الاستثنائية التي لعبت دورا سياسيا في البلاد العربية، وأطلقت عليها ألقاب كثيرة منها: ملكة العراق غير المتوجة، وملكة الصحراء، وابنة الصحراء، والخاتون.
ولدت بيل في واشنطن هول، مقاطعة درم في إنكلترا في 14 يوليو 1868 من عائلة ثرية مرموقة، فهي حفيدة الصناعي إسحق بيل، تتسم شخصيتها منذ طفولتها بالجسارة والجرأة لدرجة التهور، وفي عُمر 16 عاما التحقت بجامعة أوكسفورد قسم التاريخ، وتخرجت خلال سنتين، وكانت أول فتاة تحصل على مرتبة الشرف الأولى في التاريخ.
في مايو 1892، وبعد تخرّجها مباشرة، سافرت إلى إيران، إذ وصفتْ تلك الرحلة في كتابِها «صور فارسية»، وأمضت مُعظم العقد التالي في التجوال حول العالم، وتسلّق جبال الألب في سويسرا، وكانت شغوفة بطلب العلم، ما دفعها الى التخصص في علم الآثار والشغف بتعلّم اللغات الأجنبية مثل اللغة العربية، بالإضافة إلى اللغات الأخرى كالفارسية والتركية والفرنسية والألمانية والإيطالية.
سافرت بيل إلى البلاد العربية، ودرست شؤونها على نحو واسع، واهتمت بدراسة الآثار المحلية، وتنقلت في إقامتها ما بين الدروز وقبيلة بني صخر، وقابلت العديد من الزعماء والأمراء العرب وشيوخ القبائل، ونَشرتْ ملاحظاتَها في كتابها «البادية والحاضرة»، وفيه كتبت معلومات رصينة إلى العالم الغربي عن الصحارى العربية.
وفي يناير عام 1909 تَوجّهتْ إلى العراق واكتشفت آثار الأخيضر، وخدمت بيل في الصليب الأحمر خلال الأشهر الأولى من الحرب العالمية الأولى، وكانت وظيفتها منوطة بالبحث عن الجنود المفقودين والجرحى.
وفي ديسمبر 1913، قامت برحلة من دمشق عبر الصحراء إلى حائل، وعادت إليها في مايو 1914، وقد انتخبت عضوا في الجمعية الجغرافية الملكية في يونيو 1913 بعد وقت قصير من فتح العضوية للمرأة، وحازت ميدالية ذهبية من الجمعية الجغرافية، بعد قيامها برحلتها من دمشق إلى حائل، لأنها كانت الأوروبية الوحيدة بين مجموعة من المرافقين العرب.
استدعيت بيل عام 1917 إلى بغداد، بعد استيلاء اﻟﻘوات البريطانية ﻋﻠيها لتشغل وظيفة ﺳﻛرتيرة اﻟحاكم البريطاني في العراق ﻟشؤون اﻟشرق، وﻗﺎمت بدور ﺣﻠﻘﺔ اﻟوﺻل ﺑﯾن اﻟﻘﯾﺎدات اﻟﻌرﺑﯾﺔ وﻣﻛﺗب اﻻﺳﺗﺧﺑﺎرات اﻟﺑرﯾطﺎﻧﯾﺔ اﻟﺧﺎص ﺑﺎﻟﻌﺎﻟم اﻟﻌرﺑﻲ الذي كان مقره ﻓﻲ اﻟﻘﺎهرة.
وأصبحت منذ عام 1921 المستشار الخاص للملك ﻓﯾﺻل ملك اﻟﻌراق لشؤون اﻟﻘﺑﺎﺋل، وأﺻﺑﺣت ﺑﯾل اﻟﺷﺧﺻﯾﺔ اﻟﻣؤﺛرة واﻟﻣﺗﻧﻔذة ﻓﻲ اﻟﺣﻛوﻣﺔ اﻟﻌراﻗﯾﺔ، فأطلق عليها ﻟﻘب «اﻟﻣﻠﻛﺔ ﻏﯾر اﻟﻣﺗوﺟﺔ»، وإﻟﻰ ﺟﺎﻧب ﻋﻣلها اﻟﺳﯾﺎﺳﻲ اهتمت ﺑﯾل ﺑﺎﻵثار اﻟﻌراﻗﯾﺔ واﻟﺗﻧﻘﯾب ﻋنها، وأﻧﺷأت ﻣﺗﺣفا ﻟﻶﺛﺎر ﻓﻲ ﺑﻐداد وأﺻﺑﺣت ﻣدﯾرة له.
وواجهت ﻏﯾرﺗرود ﺑﯾل ﻓﻲ أواﺧر ﺣﯾﺎﺗها ﺑﻌض اﻟﻣﺷﻛﻼت اﻟﺻﺣﯾﺔ والأسرية، واﺳﺗوﻟت ﻋﻠيها اﻟﻛﺂﺑﺔ، ﻣﺎ دفعها إﻟﻰ اﻹﻗدام ﻋﻠﻰ اﻻﻧﺗﺣﺎر ﺑﺗﻧﺎوﻟها ﺟرﻋﺔ زاﺋدة ﻣن دواء ﻣﻧوم في 12 يوليو 1926، ودﻓﻧت ﻓﻲ اﻟﻣﻘﺑرة اﻟﺑرﯾطﺎﻧﯾﺔ ﻓﻲ اﻟﺑﺎب اﻟﺷرﻗﻲ ﻓﻲ ﺑﻐداد.
وﻗﺎﻣت زوﺟﺔ أﺑيها- ﺑﻌد ﺳﻧﺔ ﻣن وﻓﺎتها- ﺑﻧﺷر رﺳﺎﺋلها ﻓﻲ ﻣﺟﻠدﯾن ﺿﺧﻣﯾن، وﻻﻗت رﺳﺎﺋلها رواﺟﺎ وإﻗﺑﺎﻻ ﻣﻧﻘطعي اﻟﻧظﯾر ﻣن اﻟﻘراء ﻓﻲ اﻟﺛﻼﺛﯾﻧﯾﺎت.
---------------------------------------------------------------------------------------
(الحلقة 2)
وتستعرض بيل في ما يلي يومياتها وإعداد الرحلة من 26 نوفمبر 1913 إلى 2 ديسمبر من العام نفسه.
الأربعاء 26 نوفمبر 1913
لم يتمكن فتوح (1) من اللحاق بالقطار القادم من حماة؛ لذا لن يصل الليلة إلى دمشق، فذهبت إلى البنك وفي طريقي عرّجت على سوق الحميدية الشعبي، ووجدته يخضع لعمليات الترميم، زارني محمد البسام (2) وتحدث معي عن الصحراء، وأبلغني أن أوضاعها مطمئنة.
سأشتري جمالاً جيدة للركوب من هنا وكل شيء على ما يرام، ويرى البسام أن الرحلة إلى نجد ووادي الدواسر ستكون ميسرة، لكنها ليست كذلك إلى عسير.
ما زال ابن رشيد قوياً وتتسم علاقاته مع ابن سعود بالسلام، أما ابن شعلان فيسيطر على الجوف، وتحدث البسام بفخر عن الطاسة الفضية التي أهداها إليه خليل، وذكر لي أنه أشترى أراضي في نصيبين، وذكر أنه تشاجر مع محمد النعمان الذي ما برح يثير الشقاق بينه وبين ابن شعلان، وسألني عن مستقبل تركيا، وذكر أن شعب البصرة يرغب في الحماية الانكليزية.
بعد تناول الغداء ذهبت لزيارة مير طاهر وهو بدوره شجعني على الرحلة الصحراوية، ومن المرجح أن ولْد علي في موقع قصي في الشرق لا على الطريق الذي سأسلكه، وأشار علي البسام بأن أذهب إلى فواز الفايز [شيخ بني صخر] عند مروري بديار بني صخر، وذكر مير طاهر أن سورية لم تشعر بالحرب ما عدا التقلص في تجارتها.
حدثني السيد برنتون عما تود الحكومة القيام به في لبنان من تشجير لأراضيه، ولكنها ستصطدم بكثير من العقبات لأن معظم الأراضي يملكها رجال الدين الكهنة، وكذلك يملكون قطعانا كبيرة من الماعز التي تتغذى على شجيرات خاصة، وأشار إلى أنه لا يوجد بيت قد بني في سورية دون التضحية بمعزة. ولحم الماعز غذاء رئيس للناس هنا.
الخميس 27 نوفمبر
وصل فتوح اليوم، وذهبنا لنرى محمد البسام وزوجته، وزوجة البسام امرأة نجدية جميلة، جاءت إلى دمشق عبر الطائف ومكة [المكرمة] والمدينة [المنورة] قبل 8 سنوات، ومن الصعب فهم حديثها، الذي يتخلله كثير من الدعاء إلى الله، لديها صبيان، وقد سافر الأكبر إلى بيروت للسياحة، بعد تناول الغداء الذي أعده فتوح ذهبت لزيارة الآباء اليسوعيين وقابلت بورغين- رجل إنكليزي- وقال لي إنه سيكرس نفسه لحوران، وقال إنه ينتظر حتى تنمو لحيته، والتي لا أعتقد أنها ستنمو بسرعة، ومن ثم عدت إلى المنزل جائلة بين الأسواق الشعبية ووصلت إليه الساعة 5 مساء. وبعد ذلك لعبت البريدج.
الجمعة 28 نوفمبر
مررت بالمسجد وأنا في طريقي إلى البنك، زارني اليوم في بيتي محمد النعمان وعبد الله الخلف، وذكر محمد النعمان أن هناك خلافا بين ابن شعلان وابن رشيد (سعود بن رشيد) والعلاقات بينهما سيئة، وأضاف قائلا إن عبدالعزيز بن سعود يسيطر على نجد وفي القريب العاجل سيستولي على حائل.
سأزور زوجة الوالي مدام عارف بيك، امرأة مثيرة للاهتمام للغاية، ابنة لمصري لكنها في الأصل من كافالا التركية. تقول إن الحكومة تلقي بظلال أجنحة شرورها على الأتراك، وإنه لا حديث عن الإصلاح في الأناضول، وشكت بمرارة من لجنة البلقان، وتمنت لو تم تعيين مفتش عام انكليزي للمناطق الأرمينية لبحث مظالمها، وأشارت إلى أن الحكومة تدرك مظالم الأكراد، وحصل الأرمن على الأراضي التي اشتروها، وعارف بيك هو عربي من ماردين؛ وكان واليا على البصرة وأحبت زوجته البصرة وناسها وبشكل خاص المرأة، وذكرت أن النساء هناك كأي امرأة مسلمة- في الكتب الأجنبية- لا يقمن بأي عمل على الإطلاق، ولا حتى تمسك الإبرة في خياطة ملابسها، ومعظمهن أميات لا يستطعن القراءة، ومدام عارف لديها مربية انكليزية هي الآنسة غرين.
وبعد تناول الغداء أخذنا نجول حول أسوار المدينة بصحبة السيدة برونتون واحتسينا فناجين القهوة في مقهى بالقرب من باب السلام، ثم أكملنا جولتنا حتى العصر عندما حان وقت تناول الشاي وجاءنا شكري بيك العسلي، وهو مدير باب عبدالوهاب، وتجاذبنا أطراف الحديث مع علي أفندي، وناقش شكري في شعورهما نحو الوحدة العربية ودور الشيوخ الكبار في هذا الصدد.
وتطرقا إلى نواف بن نوري الشعلان بأنه متعلم جيدا وسياسي ماهر، وذكرا أيضا أن مباركاً [حاكم الكويت] قد دعا سعود بن رشيد وعبدالعزيز بن سعود لمؤتمر عربي يعقد في الأحساء أو الكويت لمعالجة القضايا العالقة بين العرب حسب القانون، وقال شكري إنه لا توجد حرية في ظل حزب الاتحاد والترقي، في هذه الأثناء جاءنا مير طاهر ولم أكشف له عن خططي وحاولت خداعه، وفي المساء تناولت العشاء مع عائلة مكينون.
السبت 29 نوفمبر
ذهبت إلى محمد البسام، ومن حسن الحظ التقيت محمد المعراوي في منزله، وفي غضون ذلك قابل علي الساعي محمد النعمان في المقهى القريب من الفندق، وجلس معه في الشمس، وأقسم أنه كان يحبني أكثر من حبه لأطفاله، وقال: «وحياة النبي محمد والنبي عيسى» وهو يناشدني بأن آخذ محمد المعراوي معي في رحلتي. انضم إلينا وكيل عبدالرحمن وتحدثنا عن رحلتنا في الثلج- سنة الثلج. بعد الغداء خلدت إلى النوم (قيلولة) وكتبت على بطاقة موجهة إلى السيدة دفي بأنني قمت بشراء 12 بعيرا.
الأحد 30 نوفمبر 1913
خرجنا في طقس ممطر مع عائلة برنتون إلى المسجد، وبقينا هناك حتى الظهر، وفي وقت العصر زارني محمد البسام وأمضينا وقتا طويلا ونحن نتجاذب أطراف الحديث ثم تحدثت إلى السيد براي.
الاثنين 1 ديسمبر 1913
قمت بالتسوق في الصباح وقمت بزيارة محمد باشا آدم الذي لم يكن وديا على الاطلاق، رجل مسن ذو أفكار رجعية يستهين بالحركة القومية العربية، وبعد تناول الغداء دار نقاش طويل بين الدكتور عبدالرحمن، وجورج أفندي، وعبدالوهاب عن التحرك القومي العربي: فقد دعا السيد طالب النقيب (3) من البصرة إلى اجتماع لشيوخ العرب وهم: الشيخ مبارك (حاكم الكويت)، والشيخ ابن شعلان [شيخ الرولة] والشيخ [ابن سعدون] شيخ المنتفق، والسلطان عبدالعزيز بن سعود [سلطان نجد]، و[الشيخ خزعل] شيخ المحمرة. وسيجتمعون في غضون شهرين في الكويت.
أما إمام اليمن فليس له أهمية أو غاية، وأما ابن رشيد فقد أعلن أنه سيرسل من يمثله ولكنه أبدى فتوره، وقد ضاعفت الحكومة التركية دعمها له، كما أنها زودت شريف مكة [المكرمة] بالمدافع والهدايا، وذكر أن أحد أبنائه سيمثله في مؤتمر الكويت، وذكر أن مشهور بن فواز الفايز شيخ بني صخر من الوحدويين العرب الأشداء، وقال عبد الرحمن: «لأول مرة أصبحت الصحراء موحدة منذ زمن النبي محمد»، وأضاف أن جميع الأسر القيادية هي وحدوية هنا، أو على الأقل جميع الشباب مثل عائلة عطا بيك الكيلاني.
الثلاثاء 2 ديسمبر 1913
قمت بزيارة زوجة محمد البسام، التي قالت لي إنها لم تغادر المنزل منذ أن أتت إلى دمشق الشام سوى مرتين، حين زارت المسجد «الأموي» الكبير، وأشار محمد البسام إلى اجتماع الشيوخ المزمع عقده، بقوله لا طائل من ورائه، لأنهم لن يتفقوا، ثم تناولتُ الغداء في السوق الشعبي مع عائلتي برونتون وبراي والسيد برايس.
وذهبت لزيارة عائلة عطا بيك الكيلاني الودودة، ووقت المساء زارني السيد لويتفيد Loytved لتناول العشاء، وقال إن إنكلترا متمثلة بكل شيء هنا، فالمثال المصري موجود، وليست لدينا الخدمة العسكرية، وحرية التجارة، ويلعب كمبرباتش دورا كبيرا، ويشهد له ذلك بإصراره على فتح ناد وحدوي في بيروت، وشجع ديفي الاتجار بالأسلحة مع الدروز، ويرى أن وجود فرنسا يشكل خطرا علينا، وخاصة على نفوذنا في مصر.
الهوامش
(1)- فتوح من أهل حلب عربي مسيحي كان قد رافق بيل في إحدى رحلاتها السابقة، وكان طباخها الخاص. أصيب بحمى ولم يستطع مرافقتها في بداية رحلتها، وعندما كانت في دمشق أدخلته المستشفى، واتفقت معه عندما يشفى أن يقابلها في زيزيا بعد ثلاثة أسابيع، بالقرب من سكة الحديد، وفعلا التقاها ورافقها في رحلتها إلى حائل. [المترجم]
(2)- اشتهر الشيخ محمد بن عبدالله البسام – من أمراء العقيلات – بكرمه، وسعة اطلاعه، ومعرفته بتاريخ الجزيرة العربية وقبائلها، وذكر محمد السيف أن البسام «يُعد واحداً من أشهر وأكبر تجار العقيلات في أواخر القرن الـ 19 والعقود الأولى من القرن الذي تلاه، وقد اتخذ من دمشق موطناً ومستقراً ومركزاً لتجارته الواسعة، الممتدة من بغداد شرقاً إلى القاهرة غرباً، وإلى القصيم جنوبا».
وعدّه أوبنهايم- الدبلوماسي والباحث الألماني- المعاصر له بأنه من أكثر تجار العالم العربي في القرن التاسع عشر أهمية، وذكر أن مؤسساته التجارية قد توزعت بين مكة وجدة ودمشق وبغداد والقاهرة وطرابلس وبومباي (في الهند). ويُعزى الفضل للشيخ محمد بن عبدالله البسام في اكتشاف طريق دمشق- بغداد وتمهيده للسيارات.
وأشار خبر صحافي نشر في صحيفة «الأهرام» بتاريخ 14 أكتوبر 1925م إلى «توقف الشيخ النجدي المعروف محمد عبدالله البسام عن تأمين طرق السيارات بين دمشق وبغداد، لتوقف الاشتراكات التي تمنحها الشركات والمؤسسات التي تستخدم الطريق المهم لوكالته...». [المترجم]
(3)- السيد طالب باشا النقيب (1871 - 1929م) هو زعيم عراقي عروبي، كانت أسرته تتولى نقابة أشراف البصرة، درس القرآن والعلوم واللغة العربية على أيدي معلمين خصوصيين، ثم تعلّم اللغات: التركية والفارسية والإنكليزية وشيئا من اللغة الهندية.
عرف عنه إنفاقه المال بسخاء على الفقراء، عيّن عام 1901 متصرفا [محافظا] للواء الإحساء، واستقال من المتصرفية بعد سنتين، ثم عاد إلى الأستانة [إسطنبول]، انتخب عام 1908 عضوا في مجلس «المبعوثان» العثماني [البرلمان] وأعيد انتخابه عام 1912 وعام 1914. وفي عام 1909 أسس الحزب الحر، وبعد فوزه بستة مقاعد في مجلس المبعوثان عام 1914، طالب بحقوق العرب في الحكم، والمساهمة في الوظائف العامة.
وعند دخول القوات البريطانية إلى البصرة عام 1914، اعتقل النقيب ونفي إلى بومباي، نظرا لمعارضته الاحتلال الإنكليزي، وأمضى في منفاه خمس سنوات، عاد بعدها إلى البصرة، وأصبح أول وزير للداخلية في تاريخ العراق في أول حكومة عراقية انتقالية برئاسة عبدالرحمن النقيب (1920 -1921)، وكان مرشحا قويا لتولي عرش العراق؛ إلا أن بريطانيا أدركت أنه ليس رجلها المناسب، بل يشكل خطرا عليها، لأنه قوي الشخصية وعروبي الانتماء؛ فقامت بإنهاء دوره السياسي بنفيه مرة أخرى خارج العراق لإبعاده عن منافسة الملك فيصل، ولم يرجع إلى العراق إلا عام 1925 (بعد أن أمضى 4 سنوات في المنفى)، وتوفي في مستشفى بألمانيا عام 1929م، ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير. [المترجم]
(الحلقة 3)
ملخص رحلة غيرترود بيل
16 ديسمبر 1913 غادرت دمشق إلى بادية الشام باتجاه الشرق.
20 ديسمبر 1913 وصلت جبل سَيْس، وأقامت هناك للتزود بالماء والعلف للرواحل، ورحلت باتجاه الجنوب.
24 ديسمبر 1913 وصلت إلى منطقة قصر برقع، بعد محاولات سلب من بعض البدو، وقامت بنسخ آثار قديمة في القصر.
28 ديسمبر 1913 خيّمت في ديار قبيلة الرولة بالقرب من جبل الدروز.
31 ديسمبر 1913 وصلت إلى قصر الأزرق بالقرب من مصادر المياه.
2-7 يناير 1914 أقامت بالقرب من قصر الحرّانة ودرست آثاره هو وقصر عمرة.
7 يناير 1914 التقت خادمها فتوح في منطقة زيزيا، ومنعها المسؤولون الأتراك من السفر، فأقامت لمدة 10 أيام هناك.
17 يناير 1914 تم السماح لها بالمغادرة وذهبت إلى قصر الطوبة ودرست آثاره.
19-25 يناير 1914 اجتازت وادي باير، بحثا عن مصادر المياه المجهولة، مرورا بديار القبائل البدوية.
25 يناير 1914 وصلت إلى مضارب قبيلة الحويطات ومكثت في مضارب القبيلة مدة 9 أيام تتنقل بين عدة عائلات وأفخاذ منها، والتقطت مجموعة من الصور لرجال ونساء من القبيلة.
2 فبراير 1914 غادرت بصحبة رجل (رفيق درب) لضمان حمايتها من القبائل التي تمر في ديارها، وهي في طريقها إلى صحراء النفود الكبير.
9 فبراير 1914 واجهت تهديد بالغزو.
10 فبراير 1914 دخلت صحراء النفود الكبير.
19 فبراير 1914 عبرت الطرف الجنوب الشرقي لصحراء النفود – وتعد أول أوروبية سلكت هذا الطريق- ورسمت خرائط لموارد المياه في السهول الجرداء.
22 فبراير 1914 شاهدت أول قرية مأهولة منذ شهر.
25 فبراير 1914 وصلت إلى حائل تحت حكم ابن رشيد، وظلت تحت الإقامة الجبرية لمدة 12 يوما، وخلال إقامتها تعرفت على بعض نساء آل رشيد.
7 مارس 1914 سمح لها بمغادرة حائل، واتجهت شمال شرق عن طريق الحيانية إلى النجف فبغداد.
17 مارس 1914 وصلت إلى ديار قبائل رعاة الأغنام غرب الفرات.
23 مارس 1914 وصلت إلى النجف، وبعد 5 أيام، وعبر كربلاء وصلت إلى بغداد.
12 أبريل 1914 غادرت بغداد إلى بابل، حيث التقت علماء آثار ألمان.
23 أبريل 1914 في طريقها إلى دمشق عبر الرمادي وقابلت الشيخ فهد بيك الهذال شيخ عنزة.
1 مايو 1914 وصلت إلى دمشق بعد رحلة مرهقة على ظهور الإبل دامت أربعة أشهر ونصف الشهر.
الثلاثاء 16 ديسمبر 1913
حمّلنا رواحلنا إيذانا ببداية الرحلة، وسارت قافلتنا في مروج خضراء بين أوراق شجر المشمش الذهبية اللون، وحقول القمح التي تتماوج تحت أشجار الزيتون الوارفة الظلال، بينما الفلاحون يقطفون الزيتون، وجمالنا ترعى شجر النبك. وفي عذرا تتفرع الطرق، وكان محمد يرغب في أن نضع الرحال ونخيم فيها لكنني رفضت. في هذه الأثناء قمنا بملء أربع قرب بالماء واشترينا ثلاث دجاجات، ومضينا في طريقنا. وعند الساعة 11:15 ترجلنا من رواحلنا ولحسن الحظ فإن الأرض منبسطة وأقمنا مخيمنا في مكان يبعد عن ضمير نحو أربعة أميال جنوبا، حسب تقديري، لم نرَ جنودا في هذا المكان وقبيلة الغياث في القيشله.
ذهب علي للبحث عن رفيق طريق يلتحق بنا، وانشغل بقية المرافقين في تجهيز المخيم والبحث عن الأشياء المتعلقة بالطبخ وبدا إبراهيم وسالم أكثر نشاطا وحيوية، والمرافقون الذين يقودون جملي هم علي وعبدالله وفرج (والأخير أسود البشرة، عبد). وباغتني محمد المعراوي وعلي بضم فلاح وكنت رافضة انضمام رجل رابع، والجمّالون الثلاثة هم من العقيلات (1)، لحسن الحظ أن الأمطار لم تهطل حتى الساعة 6 مساء، وكنا قد نصبنا خيامنا وطبخنا عشاءنا المكون من اللحم الذي جلبناه من دمشق.
الأربعاء 17 ديسمبر 1913
هبت الرياح وهطلت أمطار غزيرة ليلة البارحة واستمرت طوال اليوم، لهذا السبب لم نستطع الرحيل، وقمت بخياطة الحقائب بعد العشاء، وكنت طوال اليوم جالسة في خيمة الرجال الكبيرة أقرأ العدد الأخير من المجلة الاسبوعية تايم Time.
الخميس 18 ديسمبر 1913
الجو بارد والثلج يغطي التلال، واستغرق تحميل رواحلنا نحو ساعتين وثلث، غادرنا الساعة 8:35 وأثناء مسيرنا كان الطريق وعرا مغطى بالطين في المناطق الزراعية، وبين الفينة والأخرى تنزلق الجمال وتسقط على الأرض، عندما كنا جنوب مخيم الرومان التحق بنا حمد اللافي من الغياث كرفيق طريق، والأخير يبدو أنه على عداء (قوماني) مع كل القبائل ما عدا الزياد والجملان، وهم من القبائل الفلاحية، ولكن بما أنه يرافقنا فلا يخشى من بني حسن، وهم أعداؤه (قوم). والذين نفكر في أن يرافقنا واحد منهم، وقد رافقنا مقابل أن ندفع له مجيديا في اليوم، سعد ومحمد الملحم يُمنحان راتبا (معاشا) من الحكومة.
وبنو حسن مجموعة مستقلة ويقال إنهم من الغياث، في الساعة 11:30 وصلنا إلى أرض بركانية وأكملنا مسيرتنا عبر أرض صخرية إلى أن وصلنا إلى تل العبد نحو الساعة 2:30 وبالقرب منه وجدنا خبراء ماء ملأنا قربنا منها. ووجدنا الأعشاب التي تنمو بين الصخور وقاع الخبراء خالية من الصخور، وتحرك نحونا رجل ممتط بعيرا وكان من الجملان يستكشف من نحن؟ وجماعته يخيمون إلى الجنوب منا. كان منظر غروب الشمس جميلا، رأينا فلاحا يحرث أرضه وقد استغرب حين رأني، تناولنا وجبة شهية من الفطر.
الجمعة 19 ديسمبر 1913
استيقظت عدة مرات من شدة البرد حيث انخفضت درجة الحرارة إلى 2 تحت الصفر، كانت الأرض مغطاة بالثلج والضباب الكثيف يلتف حولنا، وقوضنا خيامنا وحمّلنا إبلنا الأحمال بعد 11 ساعة و20 دقيقة والضباب مرهق جدا لا أحتمله. وخف قليلا وأصبح مستوى الرؤية 8 أمتار، واستطعنا مشاهدة الجبل الشرقي وكنا نسير عبر أرض زراعية منبسطة ذات صخور بركانية ويتخللها بعض التلال (إلى الشرق من تل أوبنهايم) ومررنا بمحاذاة تل ملحة القرنفل إلى يساره، وكان الضباب يغطي نصفه وبالقرب منه كومة من الصخور السوداء، ولا أعتقد أنها موغلة في القدم. وينتشر الكثير من الشيح. نصبنا خيامنا في الساعة 2:15 بالقرب من جبل المكحول. الجو دافئ بعد ظهر اليوم. جلبنا الماء من الخبراء التي لا تبعد كثيرا عن خيامنا، لم نشاهد أحدا فالقبائل الكبرى رحلت إلى الحماد.
السبت 20 ديسمبر 1913
الجو قارس ليلة البارحة، حيث انخفضت درجة الحرارة إلى 7 تحت الصفر، استيقظنا الساعة السابعة وكانت خيمة الرجال تكاد تتكسر من الصقيع، فأخذت منا وقتا لطيها وتحميلها، لم نَنْتَهِ منها حتى الثامنة. تناولتُ إفطاري مع شروق الشمس وأخذ الضباب ينقشع تدريجيا، شققنا طريقنا في أراض منخفضة نحو خبراء المكحول، التي تخلو من الماء، ويكثر بها العشب والشيح، ونحن نسير شاهدنا جبل سَيْس الذي وصلناه الساعة 12 ظهرا.
مررنا بمضارب ولد علي، فانزعج محمد عندما رأى رجلين يعتقد أنهما راعيا أغنام من الزياد، وبعد أن غادرنا خبراء سيس الجافة وصلنا إلى خبراء مليئة بالماء تبعد عنها مسافة ميلين. وكذلك هناك خبراء صغيرة شمال شرق سيس لاتزال بها بقايا مياه. وإلى الغرب والجنوب من التلال البركانية توجد مياه في تجويفات (كهوف) داخل الأرض [دحول] تنتهي ببحيرة مياه كبيرة في الجنوب الشرقي.
في الساعة 12:30 ظهرا وصلنا إلى مكان فيه أنقاض مبان قديمة وأقمنا خيامنا هناك، ويغطي الأرض الكثير من الشيح والرمث، وتتكون المباني من مسجد صغير، وقصر له أبراج عدة، ويبرز برج أكبر من الأبراج الاخرى، ويبلغ ارتفاع القصر طابقين، ومشيد في جزء منه حمام من الطابوق وجزء من الحجر. والمسجد هو أفضل بناء تم بناؤه بطريقة منظمة من الحجارة، وأساسيات البناء من الحجارة المقطعة ولكن غرف الطابقين السفلي والعلوي مكونة من الحجارة الصغيرة وتم تمليسه بشكل منظم.
تسلقت قمة الجبل البركاني، وهو مكان مثالي لمشاهدة ما حوله وأخذت بعض الصور الفوتوغرافية، ورأيت خباري الماء الكثيرة في الشرق والجنوب، ولم أرَ أحدا من العرب وشاهدت عن بُعد جبل الدروز وجبل الصفا، ثم نزلت من الجبل وتناولت الشاي.
الأحد 21 ديسمبر 1913
أنهيت توثيق القياسات صباح اليوم، وشرعنا في الرحيل نحو الساعة 9:30 والآن أشاهد من بعيد دخانا يتصاعد من المضارب وبعض قطعان الإبل، وصعدت كومة من الصخور للتحقق مما رأينا ومن خلال المنظار المكبر [الدربيل] شاهدتهم، دون شك انهم عرب جبل الدروز، وبعد ساعة ونصف انطلق نحونا فارس يعدو بحصانه، وعند اقترابه أخذ يطلق نيران بندقيته في الهواء وأخذ يصرخ بوجه حمد عندما ذهب لمقابلته وصوب بندقيته نحوه، وذهب محمد المعراوي إليه وقال له: «يا ابن الحلال اهدأ نحن شوام وعقيل وقناصل، وكّل الله».
ودار حولنا كالمجنون وهو يصرخ « أنتم (قوم) أعداء! أنتم (عنزة)» وطلب من علي بندقيته وفروته فرماهما له، ثم جاءت مجموعة من الفرسان الآخرين لا يضعون كوفيات على رؤوسهم وأحدهم عار، وأمسك أحدهم بجمل محمد وسحب السيف المتدلي على الشداد وبدأ يرفعه بوجهينا (أنا ومحمد)، واقترب من جملي حتى أناخه، وسرق صبيان أشياء من خرجي، وبدؤوا بسلب رجالي مسدساتهم وحزام الطلقات، وكنت جالسة أراقب الوضع لا حيلة لي، ورأيت جملي ينهض من مبركه.
في هذه الأثناء أخذ فلاح يصرخ بوجوههم قائلا أنا أعرفكم وأنتم تعرفونني، لقد كان في مخيمهم قبل سنة حيث اشترى منهم إبلا، توقف الهرج والمرج وأعيد كل ما سلب منا وأشيائي الخاصة، وجاءنا شيخان وقد رحبا بنا وعادت الابتسامات ترتسم على محيانا، والقبائل العربية تخاف من أعدائها، وذهبنا إلى مضاربهم وخيّمنا بالقرب من هؤلاء نحو الساعة الواحدة بعد الظهر لكي نتجنب المخاطر المحتملة، وقد طلبنا منهم تزويدنا برفيق طريق وقد سألونا باهتمام فيما إذا رأينا عربا على طريقنا.
وجلس في مخيمنا الشيوخ، وقد أكرمت كل واحد منهم بـ5 مجيديات، وفي المساء عادوا إلى مخيمنا واستمعنا إلى أغانيهم وجلبوا لنا رفيق طريق اسمه عويش ابو علي، تحلقنا حول موقد نار القهوة، وحدثونا عن طريق قديم من قصر برقع إلى قصر الأزرق، وانجلى الصقيع. سألني عواد لماذا أرتحل إلى هنا؟ فأجبته: إنني أحب الصحراء أكثر من المدن، فأجابني: هذا صحيح، وأضاف قائلا: «لقد مكثت في دمشق الشام 14 يوما وكأنها 14 شهرا شعرت أنني سجين خلالها».
الاثنين 22 ديسمبر 1913
استمر هطول الأمطار الغزيرة حتى الثامنة صباحا، وكانت الصحراء مبللة لزجة؛ لكن هبوب الرياح قد تساعد في تجفيفها، استيقظت الساعة 9:40 والأمور أصبحت على ما يرام، وسرنا بمحاذاة الحافة الشرقية للحرة، جثم مرشدنا عويش على جمله أثناء مسيرتنا دون أن يقول كلمة واحدة، لقبه «أبوعلي»، إلا أنني أطلقت عليه لقب «أبو نعوم». نحو الساعة 2:25 خيّمنا بمقربة بأم الدو وهي أرض بركانية سوداء يكثر بها الرمث، ومقابل خيمتي توجد خبراء مليئة بالماء، والسماء ملبدة بالغيوم الكثيفة، والتلال الصخرية ممتدة أمامنا كأنها جدران بوابة خالية.
نعيش في عزلة عن العالم، نفترش الأرض ونلتحف السماء في طقس بارد، حدثنا علي عن زوجته التي تعيش في بغداد وقال إن وضعها غير (زين)، وإن أمها (كَلْبة هي اللّي خرّبَتْها). قال محمد المعراوي: هناك امرأة تتزوج بين 30 و40 زوجا وهذا غير مقبول، ورأى علي أن الأفضل زوجة واحدة فقط، ورأى محمد أنه إذا لم تنجب المرأة فمن الأفضل أن يتزوج امرأة أخرى، وإذا طلقت المرأة فيجب أن تنتظر قرابة ثلاثة أشهر، ومن بعدها تتزوج ولكن المرأة عند العرب تطلق بالصباح وتتزوج في المساء، وحدثني محمد عن مقتل هوبر على أيدي أفراد من قبيلة حرب.
وجاء الرجل الحربي إلى حائل مرتديا ملابس هوبر(2) فأمر محمد بن رشيد القبض عليه وأرسله إلى اسطنبول، ولكن لم تتخذ ضده أي إجراءات، وتم إرسال صندوقي هوبر اللذين يحتويان على أوراقه الخاصة، لكن الرجل قام بسرقة نقوده.
الثلاثاء 23 ديسمبر 1913
شرعنا بالرحيل الساعة السادسة، كان الجو باردا جدا، وبمجرد شروق الشمس طوقنا ضباب كثيف. رافقت القافلة مشيا على الأقدام حتى الساعة 9:30 وكان الثلج الأبيض يغطي ملابسنا، غادرنا أم الدو نسير في أرض منبسطة من الساعة 8.30 إلى 9:15، إنها أرض جرداء قاحلة لا نبات فيها، أعتقد أنها وادي مقاط الذي ينحدر إلى الرحبة. نحو الساعة 10:30 انقشع الضباب وشاهدنا الحَرّة إلى اليمين منا وهي تنحدر نحو الشمال الغربي على ضفاف وادي مقاط، كنا في وادٍ ومكثنا فيه حتى الساعة 12:15 ومررنا بتل فرداس الذي يقع قبالته قبر ابن ماضي أحد شيوخ العيسى الذي قتله بعيره منذ 20 عاما. تحت تل فرداس حدثنا عويش أبو علي كيف أن قبيلته غزت قبيلة عنزه وقتلت رجلا وفرسا وسلبت 40 بعيرا؛ ومنذ ذلك الحين أصبحوا «قوما» [أعداء]، وقال علي في هذا الوادي الذي نقيم فيه تعرضت قافلة محمد البسام المكونة من 200 بعير وهو في طريقه إلى نجد إلى هجوم من جانب المساعيد وصد هجومهم.
سرنا بالقرب من مكان يقال له الغدير وهذا الغدير كان مليئا بالمياه سابقا، وجمعنا كمية كبيرة من الفطر الذي ينمو بين الشجيرات، وفي الوادي هناك مُرْح [أثر] ولْد علي والمناطق التي تقع شرقي الحرة هي الحماد. وبينما كنت وعلي نتجول بحثا عن أرض لنخيم بها قال علي: يا ست دعينا ننتظر رواحلنا، كما تعرفين ليس لدينا سلاح.
الاريعاء 24 ديسمبر 1913
اكتشفت ليلة البارحة أنني قد نسيت مسدسي في المكان الذي ارتحلنا منه، وطلبت من علي أن يذهب لجلبه إلا أنه رفض وذهب بدلا منه حمد وعبدالله في الصباح الباكر.
شرعنا بالرحيل في الساعة السابعة، وصلنا قصر برقع نحو الساعة الواحدة بعد الظهر، مررنا بواديي مقاط والصواب من مناطق قبيلة عنزة وتبعد مسير 3 أيام جنوب القارة، وتبعد القارة مسير ليلة ويوم من قصر برقع. وتجلب عنزة التمور من شثاثة التي تبعد مسير أربعة أو خمسة أيام، لا آثار أو مباني قديمة عدا القلعة التي يوجد بالقرب منها قبور- وبعض عظام الموتى ظاهرة للعيان-، وآبار، وأرضها صخرية بركانية، وجدت كتابة كوفية على الجدران يبدو أنها تعود إلى عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك.
وبعد أن تناولتُ أكوابا من الشاي قمت مباشرة بتصويرها ورسمها، كان الطقس دافئا ولأول مرة وصلت درجة الحرارة إلى 13 مئوية، استخدمت منظاري للاستكشاف عندما وصلنا قصر برقع ولم أرَ أحدا من العرب ففرحنا، كان بالقرب من مخيمنا بقايا لجثة استخرجها ضبع بحفره القبر، ما يحيط بنا ظلام دامس بينما النجوم الزاهرة تزين السماء وشدني منظرها وأنا أنعم البصر إلى الشعرى اليمانية والجوزاء وهي تتلألأ في كبد السماء.
الخميس 25 ديسمبر 1913
كان الطقس باردا في الصباح انخفضت الحرارة إلى 2 تحت الصفر، وكان الماء متجمدا لم أستطع الاغتسال، تفحصت الكتابة الكوفية ووجدت أيضا أن هناك كتابة يونانية وأصبح من المؤكد أن القلعة رومانية. وصلنا عبدالله وحمد بأمان صباحا جالبين معهما مسدسي. وبالقرب من مخيمنا هناك بركة صخرية عليها كتابات صفائية تصعب قراءتها، لا أستطيع دراسة هذه الكتابات بدقة قبل غروب الشمس، وقبرا والد عويش وجده بالقرب من القصر، وارتفاع القصر بحدود ثلاثة طوابق. أشعل إبراهيم النار من الشيح الأخضر في القصر هذا الصباح وكان الدخان مقيتا فلام علي إبراهيم بشدة وقال: «إن الدخان والصوت يذهب بعيدا وقت الصباح»، ولهذا السبب عندما نشعل النار نستخدم النبات الجاف.
الأربعاء 31 ديسمبر 1913
ارتحلنا مع شروق الشمس نغذ الخطى وسط منطقة مرتفعة من الحرة على شريط السبخة متجهين (أنا وعلي) نحو قصر الأزرق، وصلناه الساعة الثامنة، يقع القصر في طبقة بارزة صخرية في بستان من النخيل والقصب وتحيط به الينابيع، تركت علي مع الرواحل في بستان النخيل، وذهبت إلى القلعة أو القصر دخلت من باب خلفي تحيط به صخور ثقيلة، عندما دخلت الغرفة وجدت شخصا من الدروز، استقبلني بود واحترام، وقدم لي القهوة وقال: «تفضلي يا سيدتي»؛ ثم شرعت في رسم مخطط القلعة ونسخ النقوش، في هذه الأثناء أحاط بي مجموعة من العرب ومن ضمنهم الجوفي، وهم يهتفون جميعا لن نسمح لك بعمل أي شيء دون أن تدفعي لنا بخشيشا- وإذا كتبت سطرا في دفترك فسنحرقه، طلبت من علي أن يتحدث إليهم لمعالجة الأمر.
وقاموا باغلاق البوابة الرئيسة ولم يفتحوها لنا لنخرج، فحاولت الخروج من البوابة الجنوبية الغربية. وقام علي بمحاولة تهدئة الأمور بالحديث معهم، فعدت إلى داخل القلعة، ولكن تكرر المشهد وبدأت من جديد المفاوضات، وأكد العرب أن ناصر الجوفي هو وحده سيد القلعة، وأخذني جانبا رجل عجوز هو خال ناصر، وأوضح لي أن ناصر ومن معه هم المسؤولون عن القلعة قبل ولادتي.
وعاد علي الذي ذهب بنفسه مرة أخرى إلى القلعة، وانتظرته تحت الأشجار، وأخيرا عاد العرب جميعا إلي معلنين أنهم في خدمتي، ثم عدنا مرة ثانية إلى القلعة، وجلبوا لي نقوشا اعتقد أنها جديدة، بدأت في الرسم والنسخ ووضع خطة بأن أنتهي منها قبل فترة الغداء. كانت الغرفة قذرة يعيش بها الإنسان والحيوان، وبعد الغداء أكملت القياسات وأنهيت عملي وبعد تناول الشاي ألقيت نظري على المنظر العام، الجو حار جدا في فترة ما بعد الظهر.
جاءنا رجل من كاف ذو شعر كث وعينان زرقاوان، وقال إنه يرغب بمرافقتنا إلى نجد. يقول إنه من رجال نوري الشعلان وعمل سابقا مع عبدالعزيز بن رشيد، والرجل الدرزي في القلعة اسمه فارس، وخارج عن القانون شارك مع سليم الأطرش ابن شقيق يحيى عندما قتل الأخير بالرصاص في معركة مع 14 من رفاقه ضد فصيل من الجنود الاتراك، وقتل ثلاثة أتراك وقتل منهم ثلاثة.
أصاب الرصاص عنق وصدر سليم، وعلق محمد قائلا: هل «مات هوا» [على الفور] أما مات بعد مدة؟ أجابه فارس: مات بعد 13 شهرا من إصابته، ولا يستطيع فارس العودة الآن إلى الجبل بسبب وجود الجنود في كل مكان.
تذكرت الأسماك والبط البري والخنازير البرية في الأهوار. ونحن نودع العام 1913 بين العرب والدروز، وفي ظلال الأباطرة الرومان والمماليك، ليمنحنا الله القوة وتغسل المحبة قلوبنا!
حدثنا فارس عن حي في اسطنبول يسكنه الدروز وإن لديهم مسجدا تحت الأرض يدخل إليه من باب سري، يقول فارس إن الدروز هاجروا إلى (حمص)، وجبل لبنان وجبل الدروز وجاء والده إلى جبل الدروز عندما كان طفلا في سن الثالثة، ووُلِدَ فارس هناك.
الهوامش
(1) العقيلات: مجموعات من الأفراد من قبائل عربية متحضرة، أغلبهم من أهل القصيم، ومعهم أحياناً أعداد قليلة من القبائل المتنقلة يعملون بالتجارة بمختلف السلع، ويقومون أيضاً بنقل البضائع والمسافرين والحجاج بقوافل على ظهور الإبل من الجزيرة العربية إلى مصر والشام وفلسطين والعراق والعكس. وكان سلوك العقيلات يتسم بالأمانة والشجاعة والصبر والتعاون والمروءة والإخلاص والصدق. وكان المستشرقون والرحالة الغربيون يستعينون بهم أثناء ترحالهم لما يتصفون به من سجايا نبيلة.
تجدر الإشارة إلى أن أحد شباب العقيلات (خليل الرواف) -القادم من بريدة- شارك عام 1937 في أحد الأفلام السينمائية مع الممثل الشهير جون واين في فيلم «المراسل الحربي» (I cover the war) ومثل في الفيلم دور حارس بدوي لشيخ قبيلة، ويعد الرواف أول عربي مثل في هوليوود. [المترجم]
(2) الرحالة والمستكشف الفرنسي شارل هوبرCharles Huber، ابتعث من الجمعية الجغرافية الفرنسية لاستكشاف جزيرة العرب، مرتين: الأولى (من 1878 إلى 1882)، والثانية (من 1883 حتى 1884)، ولهوبر مساهمات رائدة في مجال جغرافيا الجزيرة العربية: كرسم الخرائط وتحديد الأماكن وإحصاء السكان، وكذلك في مجال الآثار، التي تحمّل في سبيلها مشاق السفر وضحى بحياته ثمنا لاستكشافاته، نقب عن الآثار في أماكن متفرقة من الجزيرة فاستنسخ رسوماً وكتابات أثرية عديدة في وثائقه، وعثر على «مسلة أو حجر تيماء»، التي تحوي رسوماً ونصاً بالآرامية، وقد نقله هوبر قبل مقتله بفترة قصيرة إلى فرنسا ويُعرض الآن بمتحف اللوفر. [المترجم]
-----------------------------------------------------------------------------------------
(الحلقة 4)
الجمعة 2 يناير 1914
كان صباحنا دافئا، فاستيقظنا الساعة السابعة وأخذت أبحث مع علي وأربعة من الرجال في القصر في بعض الحجارة، ثبت أن القصر مشيد على أعمدة قوية، وهذه الأخيرة محاطة بحجارة شكلت المحراب، وأسفله ما يشبه السلة كانت تستخدم للقبور، حيث كان يقطن الرولة بأعداد كبيرة بالقرب من القصر. إنهم يأتون إلى هنا عندما كانوا في قوة كبيرة، وقبل أن يذهبوا إلى الشرق، عندما سقطت الامطار في الحماد، فكان بنو صخر لا يجرؤون على الهجوم عليهم.
معظم القريبين من موقع القصر هم الشرارات، ويقوم الأخيرون بتربية خيول الدروز في مراعيهم مقابل أن يقايضهم الدروز بالدقيق والبُن، وإذا ما وجد البدوي بعيرا شاردا في الصحراء قام بنحره وأكله، فحياتهم بائسة جدا.
امتطينا ظهور رواحلنا بالقرب من المقبرة وحمّلناها بـ11 قربة ماء، وهذا كل ما لدينا من القرب، شرعنا بالرحيل وبعد مسافة شاهدنا قصر عمرة، كان طريقنا طويلا عبر أرض مستوية، وكان نمران يردد بصوته الناعم الأنثوي عندما يُسأل: «قريب... قريب»، في هذه المنطقة هاجم رجال السردية بني خالد، وقتلوا امرأتين وطفلا وأضاف نمران: «وشبّتْ النار بين العرب».
لقد بدّلْتُ بعيري ببعير إبراهيم ورافقتُ علي، وكان وصولنا الى قصر عمرة نحو الساعة الثانية بعد الظهر، منظره مبهج يقع في فم واد عريض، هو وادي البطم، وانهمكت بأخذ الصور الفوتوغرافية حتى الساعة الرابعة، وبعدها شعرت بالارهاق.
القبة ترتكز الى مثلثات ركنية، والأسقف محمولة على عقدين يستندان على دعائم جدارية قليلة الارتفاع شيدت على غرار قصر الأخيضر [في العراق]، جميع القباب بناؤها من الطوب الرقيق تشبه الحجارة.
كان غروب الشمس رائعا، وكان هذا أول يوم دافئ طوال رحلتنا، وظلت الشمس متوهجة حتى الساعة 5:45 مساء.
السبت 3 يناير 1914
وصلنا إلى قصر الحرّانة نحو الساعة 11 قبل الظهر بعد توقفنا لمدة نصف ساعة جمعنا خلاله الحطب من شجر البطم وشجيرات برية أخرى في وادي البطم.
الأربعاء 7 يناير 1914
أسرني الجو الجميل المنعش، ومنظر السهوب والتلال الصغيرة، وصعدنا التلال المحيطة بنا، وقابلنا أحد الرعاة بالترحيب، وقال انه كان يرغب بالمجيء إلينا لولا خشيته أننا أعداء، ودعانا لتناول الغداء في بيته. إنه منظر جميل وأنت ترى السهل الممتد وسطه زيزيا وعلى جانبه الآخر قصر المشتى. أخذت أكتب رسائلي، وذهب علي وسالم ومحمد إلى مأدبا، ونصبنا خيامنا وأقمنا حتى بقية اليوم.
الخميس 8 يناير 1914
جو صحو صباح اليوم، وهبت الرياح في وقت لاحق. ذهب عبدالله لمعرفة مصير الآخرين وماذا فعلوا، وعاد عبدالله وعلي ومعهما فتوح! وغمرتنا فرحة هائلة بمجيء فتوح، مازال يبدو شاحب الوجه وآثار المرض بادية عليه. جلب لي آخر الرسائل: واحدة من ديك مؤرخة في 23 ديسمبر. بعد تناول الغداء امتطيت بعيرا وذهبت مع علي إلى قصر المشتى أو شبحه.
الأبواب مائلة إلى الخلف، ومقبضها والكتابة على الجدران لا تدل على أنها قديمة، وأثناء عودتنا إلى مخيمنا شاهدنا 3 فرسان ذاهبين إلى مخيمنا وعندما وصلنا إلى هناك وجدنا 3 جنود جالسين حول موقد النار، وتلاهم بعد لحظات مجموعة جنود آخرين يتراوح عددهم بين 10 و12 وكلهم غاضبون جدا ومعهم الشاويش يوسف، ويبدو أنهم بحثوا عني في كل مكان وأن لديهم برقيات من اسطنبول، هنا أدركتُ المأزق الذي يواجهني.
بعد غروب الشمس، تم إلقاء القبض على فتوح لاحتجاجه على ملاحقتهم إياي الدائمة وغير المقبولة من هذه المجموعة، وقاموا بسجنه في قلعة زيزيا، كذلك اعترضوا طريق عبدالله الذي كنت قد أرسلته إلى مأدبا مع البرقيات التي كنت أود ارسالها وجرى نقله إلى القلعة، وقاموا بتوزيع الرجال حول مخيمنا وسلبوا أسلحتنا.
الاثنين 12 يناير 1914
لم يصلني أي رد حتى الآن، فقمت بعمل رسومات أخرى لقصر الحرانة وبعد الظهر التقطت صورا فوتوغرافية للقصر، وزارني المدير محمد الشركسي، كما زارني مسيحي، خادم للخوري في مأدبا وأشار إلى أن شركسيا سلب منه زبيبا بقيمة 300 مجيدي، وتعهدت بالتدخل بالأمر.
الثلاثاء 13 يناير 1914
تناولت الإفطار مع المدير واليوزباشي، تحدثنا مطولا عن الشكاوى ضد الحكومة من الجميع، وقالا إن قرار هجرة الشركس من روسيا قرار خاطئ، وروى اسحق حكاية طويلة مفادها أن الإنكليز كانوا يرغبون في استقلال الشركس في مملكة خاصة بهم، لا تخضع لروسيا، وأضاف: جميع القبائل تتشاجر معا دون أن تقرر من هو رئيسها ومن هنا انفردت روسيا بحكمها. ثم ترسل القبائل الوفود ورؤساءها، ويقيمون في فندق وتسأل عنهم الملكة فيكتوريا من يكون هؤلاء الشركس، ثم ترسل إليهم من يطلب منهم «نقلهم من الفندق»، لكنها أوضحت أن روسيا قد استولت على أرض الشركس، وأصبح بعضهم بكوات، والبعض جنودا، وجنرالات والبعض مسؤولين حكوميين في روسيا، وبريطانيا لن تتدخل في هذه الأحوال.
قلت ما تريده تركيا لم يكن الجيش أو الأسطول ولكن الجندرمة [الشرطة] والتجارة، أرسلت لي زوجة اسحق باقة من الورود: الزهور المخملية الداكنة والقرنفل الحمراء، وفي المساء وجهت لي الدعوة لزيارة المعلم البروتستانتي من مدينة السلط، ليلة رائعة والقمر يضيء نصف المسرح.
السبت 17 يناير 1914
استيقظنا قبل الساعة الخامسة، وشرعنا بالرحيل في الساعة السادسة وسبب تأخيرنا كان فقداننا دجاجتين عثرنا عليهما في خيمة الرجال! كذلك فقدنا بعيرا وكان لا بد من البحث عنه، ولأول مرة في حياتي رأيت عقربا، يوم جميل، رياح خفيفة هبت من الشرق ثم نشطت في وقت لاحق، ونحن في مسيرة نقطع المسافات الممتدة على أرض منبسطة تغطيها الشجيرات القصيرة نسبيا.
انضم إلينا طالب بن زبن مع عبده من شمر وهو في طريقه إلى قبيلته، وأمضى ليلته معنا، يتحدث صياح بلغة عربية واضحة جدا، وناقشنا لهجات القبائل العربية وقلد محمد بصوت حاد لهجة قبيلة قحطان، وقال إنه لم يسمع أي سوء منهم، وذكر أن حربا يقطنون بالقرب من الحجاز.
لاحظ صياح أن أهل الشمال يجدون صعوبة في فهم لهجات أهل الجنوب، مصطفى هو فلاح من أبو غوش، وقال إنه جاء مع عائلته إلى زيزيا منذ سبع سنوات، وكان يبحث عن عمل في أم الكندم حيث أعجب في خدمتنا، وقال لزوجته إنه ذاهب منها إلى زيزيا، والفلاحون في تزايد اليوم.
في الصباح مررنا على مضارب المسيحيين في مأدبا ورأينا قطعان أغنامهم، وفي وقت لاحق شاهدنا بعض قطعان الإبل والأغنام لبني صخر، ارتوينا وملأنا قربنا بالماء من رجيمات علي، التي يكثر حولها الكثير من الحمامات، قال صياح: إن مسيرتنا تتجه نحو وادي السرحان، بعد فترة وجيزة نصبنا خيامنا، في هذه النجود نشاهد قليلا من الأشجار. قمت بتصحيح الأسماء التي ذكرها اسكندر في خريطته بمساعدة محمد، كان اسكندر هنا عام 1909، وهو العام الذي أمحلت فيه الأرض ولم تنزل فيه الأمطار «عام منحوس... هلك فيه الحلال».
قبل أن نصل إلى مورد الماء كان هناك عمود حجري في وسط الوادي الذي يظهر عليه وسم حمد، ابن عم فواز، قال صياح: هنا سقط قتيلا بعد مناوشات بين الرولة ومتعب بن كنج، أما الآن فإن عنزة وبني صخر أصحاب، وأشار علي إلى حكاية ليتشمان (1) وتوقفه في الكويت، وقال صياح إنه رافق موسى وكان من المهتمين في الخريطة التي رسمها.
الدمشقيون علاقاتهم راسخة مع الصحراء: كان سعيد بن فارس في الخريف الماضي في جنوب الجوف لشراء الإبل من الشرارات، وفي الربيع الماضي في الطبيق يتاجر هناك مع العرب.
سألت فلاح الشمري فيما إذا كان والده على قيد الحياة، فأجابني قائلا: «وَيْن، راح بعد ما أخذ العبدة» لكن أعمامه في نجد، مر أمامنا القطار وقت الصباح عندما شرعنا في الرحيل.
يحافظ صياح على أداء كل صلاة في وقتها، وخاصة إذا لم نكن راحلين، نهض الليلة الماضية وصلى في الخيمة في الساعة 8، وكان يسبح ويهلل حيث ترتفع إصبعه وتهبط، وهو يدعو ويقول: «الله أكبر» بينما كانت أحاديثنا تتطرق إلى بغداد وبلاد فارس.
الأحد 18 يناير 1914
صباح رائع وسماء صافية ودرجة الحرارة 6 تقريبا استيقظنا الساعة 6:15، كان طالب حريصا جدا على أن يتشرف باستضافتي «تشرفينا عند أهلنا»، ووعدته بزيارة بيته في طريق عودتي من الرحلة الطويلة، وبعد نحو ساعة افترقنا. عبرنا البوليات وسرنا في وادي يؤدي إلى طابا، حيث تنتشر الزهور المخملية الصغيرة، هناك بعض الآثار القليلة موجودة عند نهاية الوادي، الشمس لاهبة ودرجة الحرارة 17 في الساعة 3 عصراً.
قال صياح إن بني صخر يقطنون في فترة الصيف من 3 بيوت إلى 400 بيت شعر في باير والباقون يرحلون إلى وادي السرحان وإلى الغرب من زيزيا، وسألني عما إذا كنا نطلق على هذه الصحراء اسم صحراء بادية الشام، فقلت له: لا، إنها صحراء الجزيرة العربية، وقال لي: إنها تدعى صحراء بادية الشام، لأنها كانت تابعة لدمشق وتحت إطارها الحكومي.
وأضاف إن البدو الرحل يأتون في الصيف والخريف إلى دمشق طلبا للكلأ والماء، ولكنهم ينطلقون في الشتاء والربيع في فضاءات هذه الصحراء الشاسعة. وذكر صياح تعداد قبيلته بني صخر كما يلي: نحو 500 بيت شعر من الفايز، و300 بيت من العثمان، و200 بيت من حديثة، هناك أيضا الخرصان والهقيش نحو 200 بيت.
في الصباح الباكر مررنا بمجموعة كبيرة من الجبور راحلين وإبلهم، ولكن مصدر ثروتهم الرئيسة من الأغنام. أحجار الصوّان تغطي الأرض، وتبدو لامعة تحت أشعة الشمس، وتنتشر أشجار التنوب التي لا تحبها الإبل كثيرا، وتحتنا غدير ماء نقي صالح للشرب، مرض صاحبنا سالم، ووصلت درجة حرارة جسمه إلى 40 درجة مئوية.
وصلنا إلى قصر الطوبة نحو الساعة الواحدة وقمت بالتقاط صور فوتوغرافية حتى الساعة الثالثة عصرا، قصر الطوبة الجزء الذي يعلو الأبواب يشبه تماما ما هو موجود بقصر المشتى، ولكن المبنى عمل متسرع غير بارع في الصحراء، ولا شك أنه مشيد في العصر الأموي، يغطينا غيم خفيف ومنظر الشمس وهي تميل للغروب رائع خلاب، بالقرب من القصر عدد قليل من القبور التي تعود لبني صخر ومبين عليها وسم الدبوس الخاص بهم.
تحيط بالقصر وبمقربة منه كتل من الحجر الرملي تظهر بين الصوان، وكان موضع مخيمنا رائعا، ولكن يبدو أن الرجال قلقون من أن نتعرض لغزو، فالصحراء وراءنا «فاضية» [خالية من القبائل] وقصر الطوبة هو البوابة لغزو متوقع من عنزة أعداء بني صخر: وخاصة الفدعان والسبعة عدا العيسى والسردية.
الاثنين 19 يناير 1914
سرنا في وادي الغدف حتى الساعة 6:45 وهناك في نهاية الوادي وجدنا خبراء مليئة بالماء النظيف فملأنا قربنا. ثم واصلنا مسيرنا من خلال أحد روافد الوادي وعبرنا إلى المحيور، شاهدنا فيه رأسا صخريا مرتفعا على بعد سبعة كيلومترات. تابعنا المسير فيه حتى الساعة 11.45 وعندما خرجنا منه أصبحنا نسير على أرض مستوية تتناثر بها صخور صوانية، وشاهدنا ثليثوات وإلى الشرق شاهدنا جبل وقف الصوان.
عبرنا وادي القشة الذي يصب في المخروق فوادي السرحان، شاهدنا إلى اليمين منا صخرة ضخمة منتصبة تدعى الهادي، ثم انحدرنا إلى وادي الذروة ونصبنا خيامنا فيه. كانت درجة الحرارة قد ارتفعت من 1 حتى 21 مئوية. ينمو نبات الغضا في وادي الغدف وفي جميع الوديان، كما شاهدنا الكثير من العجرم والشداد [القتاد] وهو من النباتات الشائكة، والشيح وبعض الشنان والرمث.
كان بنو صخر ينطلقون بغزواتهم من ديارهم إلى مناطق نهر الفرات حتى مشارف منطقة عانة لغزو الرولة والعمارات في مضاربهم هناك، وروى محمد حكاية مقتل عبدالعزيز بن رشيد، قال: إنه قتل في غارة ضد ابن سعود وأضاف «إي نعم» قطعوا رأسه ووضعوه فوق رأس رمح وألقى صبي الحجارة عليه فسقط من الرمح على رأس حاملة وكسر جمجمته مما أدى إلى وفاته. وقال ابن سعود: يا عبدالعزيز إنك تقتل من جماعتي وأنت ميت وكذلك عندما كنت على قيد الحياة. وأضاف محمد: لو كان قد عاش في قديم الزمان لأصبح عنترة زمانه، وبعد أن تولى إمارة حائل قام بغزوات لمدة سبع سنوات من دون الدخول إلى حائل، ولم يدخلها إلا في السنة الثامنة، وفي إحدى غزواته كسب 9000 بعير و20000 رأس غنم.
قال محمد المعراوي: لقد كسبت 14 بعيرا في تلك الغزوات، وعندما كسرت عصاي أهداني ابن رشيد عصاه الخاصة وهي التي أستخدمها الآن، شدني الفضول للاستماع إلى ثرثرة الرجال، فلا يتحدث العرب سوى عن الغارات والغزوات وعمليات القتل، وعندما نصبنا خيامنا كانت ظهورنا باتجاه الرياح لكنها سرعان ما انحرفت على الفور وأصبحت تهب على وجوهنا. صخر الصوان أنهك خفاف رواحلنا، روى محمد أنه ذهب إلى بئر ماء على تخوم الجوف، ووجد بداخلها جثة رجل وكان عطشا يكاد أن يموت من الظمأ «متنا من العطش» فشرب منها إلا أن بعيره لم يستسغه ولم يشرب.
هناك خوف من الغزاة لذا أخذنا الحيطة والحذر وظللنا متنبهين، إن هؤلاء اللصوص إن وجدونا متيقظين انقلبوا إلى ضيوف، وإن وجدونا نائمين فسيسرقوننا. قال صياح جميع الغزوات تأتي على هذا النحو في الصيف والخريف للقبائل القاطنة حول زيزيا.
لم تكن مأهولة ولن تكون كذلك، وعندما انتهيت من حديثي نزع عباءته المصنوعة من الفرو وألقى بها على الرمل، وقال حان وقت الصلاة. قلت له: صل يحفظك الله، وقال صياح: كل رجل يجب أن يصلي؛ وصياح يصلي كل صلاة مع أقصى قدر من المثابرة.
من المعالم الغريبة في منطقتنا ثلاثة تلال مدببة حجرية تبدو بارزة وسط السهل المغطى بالأحجار الصوانية تسمى ثليثوات، وأنا أتساءل كيف شكلتها الطبيعة إلى حيز الوجود.
التقينا مجموعة من بني صخر وهم راحلون، وأخبرونا بأخبار سيئة عن مصادر المياه والرعي أمامنا، حيث قالوا إن مصادر المياه شحيحة وسيواجهون مصاعب هم وأنعامهم، قلنا لهم ستصلون إلى مصادر المياه، لكن ليست هذه الليلة، وبعد الظهر رأينا راكبي بعيرين يلحقان بنا من الخلف، وعرفنا أنهما الشيخ جدعان من الهقيش من بني صخر وأحد رجاله، وقد شاهدانا عندما عبرنا ثليثوات، وتوقعا أننا غزاة، قلت لهما: «نحن خشينا أن تكونا أنتما أعداء»، فقال لي: «لا، لا، نحن أصدقاء ولله الحمد،، كان الخوف يسيطر على الجميع ما عداي إنني الوحيدة التي ليس لديها ما تخشاه من الأمور. ودلفنا إلى وادي الباير الكبير الذي تكثر به شجيرات الطرفاء وهي أشجار رفيعة الأغصان، وعبره وصلنا إلى بئر باير الشهيرة، المكان الوحيد الذي يقطنه بنو صخر في الصيف فقط، وتصل بيوت الشعر حوله إلى 500 بيت، وبالقرب منه آثار قصر الباير آخر القلاع في الصحراء.
ولم يزر قصر باير أي أوروبي من قبل سوى كاروثرز، ولم تلتقط له صور فوتوغرافية على الإطلاق، وليس هناك سمة معمارية تميزه وهو قديم جدا، وقد يكون تشييده في القرن الثامن الميلادي، والآن سوف أذهب إلى المخيم لأستمتع لمدة ساعة بحكايات رجالي حول موقد النار.
الهوامش
(1) هو اللفتينانت كولونيل جيرارد ايفلين ليتشمان 1920-1880 (Gerard Evelyn Leachman) رحالة وضابط مخابرات بريطاني، قام برحلات على نطاق واسع في الجزيرة العربية. خدم في الهند وفي حرب البوير. أول رحلة قام بها في شبه الجزيرة العربية عام 1909، وشهد معركة شرسة بين قبيلتي عنزة وشمر قرب حائل، وزار الرياض عام 1912 لكي يقوم برحلة ثانية لعبور الربع الخالي، ولكن السلطان عبدالعزيز بن سعود رفض السماح له بذلك.
قضى معظم حياته المهنية كضابط سياسي في العراق، يسميه العرب «نجيمان» أو لجمن، كان قائدا لمنطقة البادية الغربية أثناء الاحتلال البريطاني للعراق-وكان مقربا لغيرترود بيل- وزمن ثورة العشرين (1920) التي شارك فيها العراقيون شيعتهم وسنتهم ضد الاحتلال. وكان ليتشمان متعجرفاً يعامل العراقيين بقسوة وجلافة، نشب خلاف بينه وبين الشيخ ضاري المحمود شيخ عشيرة زوبع الشمرية، فأطلق أقرباء الشيخ النار عليه ثم أجهز عليه الشيخ ضاري بسيفه، وقيل إن الشيخ ضاري كان يردد قبيل قتله بيت الشعر التالي: «يا ربعنا حيفٍ عليكم كيف العدو ما تذبحونه». ووقعت الحادثة في خان النقطة بالقرب من الفلوجة، وأثار مقتل ليتشمان اندلاع الانتفاضات القبلية على الفرات بين الفلوجة وهيت. [المترجم]
-------------------------------------------------------------------------------------
(الحلقة 5)
الأربعاء 28 يناير1914
أود أن أؤكد معلومة مهمة وهي أن الخصلة الملحة والمطلوبة عند السفر بين العرب ليست (كما يعتقد البعض خطأً) هي الشجاعة بل الصبر، وجدير بالذكر أن الطبيعة لم تهبني هذه الخصلة، فإن صبري سرعان ما ينفد، ولكن ربما تمنحني هذه الرحلة الفرصة عن كيفية ممارسة هذه الخصلة، لكنني أخشى ألا تتاح لي فرصة لممارستها.
كنت أنوي اليوم التوجه جنوبا لزيارة ابن جازي، ولكن حرب الدراوشة وشقيقيه عواد وعودة قالوا لي: إن ابن جازي قد رحل غربا ورحل معه الحويطات عن ديرتهم، ونسمع أن ابن جازي في الطور.
وأصبحت الصحراء خالية وهدفاً لغزوات كل من: هتيم، والفقرا، وبني عطية، وحرب، والعواجية (من ولد سليمان من عنزة) وغيرهم. ولا أعرف مَنْ منهم بالقرب منا ليغزونا، وبينما كنا مجتمعين في خيمة الرجال حذروني من أن أسلك الطريق الجنوبي لأنه محفوف بالمخاطر، قال حرب: «وحياة هذا الفجر»، أنصحك أن تسلكي طريق وادي السرحان.
على أي حال هم نصحوني بقوة بعدم اتخاذ هذا الطريق؛ بل يجب أن نذهب إلى الشرق إلى وادي السرحان ثم جنوبا كما كانت رغبتي، وإذا وافقت على ذلك فسيكون عواد شقيق حرب مرتاحا، حيث أسلك طريقا آمنا. وعلاوة على ذلك كان رجالي كلهم خائفين من الطريق الجنوبي دون استثناء، حتى علي الذي لا ينزعج بسهولة. وعليه لن أتجاهل هذه النصيحة ولا أستطيع أن أفعل شيئا إلا أن أوافقهم الرأي وإلا فسيعد هذا ضرباً من الجنون، ولاسيما أن الطريق من هنا إلى وادي سرحان ليس لدي خرائط له، علاوة على ذلك، يجب أن أرى بارتياح التقدم في إنجاز سكة حديد الحجاز والى أين وصلت، وعلى الرغم من أن تيماء تشكل خطورة لوجودها بالقرب منها، وكما أشار علي وكيل بن رشيد إذا وجدتُ صعوبة في الصمود أثناء رحلتي فمن السهل جداً أن يصبح ركوب القطار إلى دمشق أفضل من ركوب الجمال.
سيرافقنا عواد، ولكن بعيره غير جاهز اليوم، وبما أننا سنغادر غدا فلابد من ملء قربنا بالماء هذه الليلة، إذن عندما نذهب شرقا مع عواد غدا نكون قد «قصرنا يوما اخر هنا»... ثمة ثرثرة بأن ابن رشيد، سيسلمني للدولة حال وصولي إلى تيماء، لكن هذه الأخبار غير مؤكدة.
صعدت أحد التلال الحجرية بعد ظهر هذا اليوم، وتجولت بنفسي على طول ممر صخري مرتفع حيث اكتشفت من بين الصخور ربيع الصحراء: الأرض ترتدي حلة قشيبة من الزهور تتباين ألوانها ما بين الأبيض، والأحمر، والأرجواني، حتى الأشواك بيضاء مغطاة بالأخضر... الناس هنا فقراء لكنهم كمن يملك أغلى الكنوز.
عبارة حرب المفضلة: «لا أبو قليلٍ هَلَكْ ولا أبو كَثِيرٍ مَلَك“، الآن أشهد انتصار القمر الجديد على غروب الشمس، القمر في ليلته الثالثة- بدا الليلة الماضية ضئيلا جدا غاب بسرعة- وسأصطحب النجوم في الحال لتضيء مائدة طعام عشائي.
وقفت مع سالم وهو يرفع يديه إلى السماء قائلا: «الحمد لله» الذي ما خلقنا بدوا، وأيده فتوح، وقال: من الذي خلق الأتراك؟! قال: «الله».
قلت لهم سنتجه إلى وادي السرحان إلى «جهنم»؟ قال محمد إنه يستطيع قراءة الحظ من خلال الضرب على الرمال، وقام بشرح لكيفية قراءة الحظ.
الخميس 29 يناير 1914
شرعنا في الرحيل بصحبة عواد شقيق الشيخ حرب الدراوشة، وأثناء مسيرتنا رأينا بيوت شعر للشرارات وقطعان إبلهم، توقفنا لتناول القهوة في بيت شعر كبير وهو بيت عوده أبو تايه وقيل لنا إنه كالعادة خرج لغزو شمر. التقطت صورا لشقيقته علياء، وزوجتيه الشمريتين، وقيل إن أحد شيوخ شمر تشاجر مع ابن رشيد، ولجأ إلى مضارب الحويطات وأصبح جارا لعودة أبو تايه ثم شاركه في غزواته على نجد، وبالتالي فهذه الزيجات غير عادية. إن لدى عودة زوجة من الحويطات وأخرى من الرولة. (تزوج حرب مؤخرا من فتاة صغيرة وقد التقطت لها صورة مع ابنه قاسم من زوجته الأولى وقال لي قاسم: «هذي عمتي»).
قيل لنا إن الرولة يقطنون وادي السرحان، وإن عواد لا يستطيع الذهاب إلى هناك لأنهم سيقتلونه، وكان قد سبق أن قال لنا إنه لا يستطيع الذهاب إلى الجوف. أرسلنا عواد إلى بيت محمد وطلبنا منه البحث عن مرافق شراري يجلبه دون تأخير، وعاد محمد، وعواد، وعودة، وحجاج (الذي قد التقطت له صورة في بيت شعر عودة أبو تايه الكبير). لقد أحضروا لي جلد نعامة وخروفا وسيتناولون العشاء معنا وينامون في خيامنا. انضم إلينا الرفيق الشراري، سمعت أن هناك آثارا بالقرب من خبراء «كِلْوَة»، وقررت على مضض مشاهدتها.
قال محمد: «يا مستمعين» إنني أؤدي واجبا حكوميا حيث أجمع الضريبة للحكومة «ميري» نصف مجيدي، وأضاف: «انا شيخ دولة». هناك شيخ دولة آخر هو ابن جازي، عندما يحدث خلاف بين الحكومة والحويطي يذهب إلى مصر. أثناء الحرب حاول محمد الذهاب إلى مصر لكن الحكومة لم تسمح له.
الجمعة 30 يناير 1914
شددنا رحالنا إلى مضرب محمد أبو تايه ونزلنا بالقرب منه، يا له من منظر جميل جدا! وأنت ترى بيوت الشعر والإبل متناثرة في الوادي في أرض بكر ترعى بها قطعان كثيرة من إبل الشرارات، والشرارات ليست لهم ديرة محددة، وهم خصوم للحويطات، وبني صخر، وبني عطية، يقطنون في فصل الصيف حول الآبار على تخوم النفود، في المجهرية وفجر. قال محمد أبو تايه: «إننا نعيش مثل الحيوانات البرية».
يقوم بحراسة طريق الحج كل من: الحويطات من الكرك إلى تبوك، وبنو صخر في الشمال، وحرب في الجنوب. وقالت هيلة إحدى زوجات محمد: «لا نستريح ساعة». إنها في بؤس وحالة يرثى لها، وفي بيت شعر محمد هناك غزال المها مربوط، منظر جميل للرجال وهم يتحلقون حول موقد نار القهوة وتصطف حوله دلال القهوة الكبيرة، غمغم رجل عجوز قائلا: «الله يا الدنيا!». وجاء رجال من الشرارات وقُدّمتْ لهم القهوة، وأخيرا جاء عم محمد وهو طاعن في السن، وقال إن الجد الأول لكل الحويطات أحد أشراف مكة، تم ارساله عندما كان طفلا إلى العقبة، تزوج هناك وأصبح هو أب الجميع.
لا يُقْدِمون على بيع بعير من إبلهم أبدا، المال للميري كانوا يكسبونه من خلال العمل في الأماكن المزروعة في زيزيا- أو الجيزة كما ينطقونها- والكرك، وبطّـل [تخلّى عن] محمد الغزو منذ سجنه في دمشق الشام، يقول محمد: «شِفْتْ الموت وْبطّـلْت».
واحتج سعود – القهوجي- بسخط قائلا: «لا، وحياتك وحياة الله»، كانوا يؤمنون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واعترف بأن الصخور [بني صخر] عندما جاؤوا في وادي باير ذبحوا أضحية، لكن «الضّحيّة»– كما قال سعود- لم تكن للرجل الميت بل لله الذي يحميهم من الشرور، وأضاف: «يا حجاج مساك الله بالخير، سَمّعْنا ما عندك!»، وقام حجاج بغناء قصيدة على الربابة.
ثم قص علينا محمد حكاية محمد بن رشيد وقتله أقاربه حيث قتل اثنين وألقى بهما في بئر، وقال: «أشُبّ النار»؟ قال الأول: اي بالله يا شيخ محمد. وجرت العادة أنه بعد صلاة الجمعة يقوم الأمير باستقبال جميع الناس، يجلسون في أربعة صفوف أمامه، وكان حمود يجلس دائما على المنصة بجانب محمد الرشيد، قال حجاج الذي يعرف حائل «أنا أشهد بالله».
التفت محمد نحوي قائلا: إنه وعلى مدى أربع سنوات من ارتقائه سدة الإمارة كان محمد يذهب ليلا عبر شوارع حائل مصطحبا اثنين من العبيد، وكان الأخيران يتسلقان جدران البيوت للاقتراب من نوافذها، يسترقان السمع لما يقال. وأضاف «وإذا سمع مثلا محمد الضلعاني أو محمد المعراوي أو الست [يقصد غيرترود بيل] تتحدث ضده، يقوم صباح اليوم التالي إما بسجنه أو قطع رقبته».
مشهد رائع داخل خيمة محمد، حيث النار المتوهجة محاطة بحلقة من الحجارة، وخارجها هناك صخرتان كبيرتان تدعمان الخيمة لتثبيتها كأنهما معا تمثال منحوت، ودلال القهوة الكبيرة والناس يجلسون حولها، وصبية صغار ما بين الست أو السبع سنوات من العمر جالسون بوقار مثل الرجال البالغين، وزار خيامنا أحد الصبية ليلة البارحة ممتطيا صهوة مهرة جامحة، ورأيت صبيا صغيرا ممتطيا ظهر جمل قابعا خلف سنامه، وعندما يركب الصبي الصغير الفرس يتصرف كرجل بالغ.
يجلس بجانبي محمد، وهو ذو جسم ضخم، بثوبه الأبيض وكوفيته [شماغه] بحاجبيه السوداوين، يسحب نفسا قويا من الشيشة بين شفتيه الكبيرتين، أحضر العبد عباءة فرو [فروة] ذات أكمام طويلة ووضعها على كتفيه، وفي الخارج هناك فرس مربوطة بحبل طويل، وعندما عادت الإبل من الفلاة إلى المضرب أحضروا لنا طاسات كبيرة من الحليب. ورأيت الخَلْفات وحيرانها تبرك على الرمال أمام خيامنا.
عدتُ مشيا إلى خيمتي والطقس بارد قارس والهلال مرتفع كقارب في نهر، ونجما الشِّعْرَى اليَمَانِيَّة الساطعان يتلألآن في كبد السماء، وأنا جالسة في خيمتي رأيت نيازك هائلة تتساقط من السماء وقد سقطت من منتصف السماء، هناك بعض الندى في الطبيق، وعندما استيقظت في الصباح الباكر وجدت الصقيع يغطي الأرض وحبال خيمتي مبتلة.
السبت 31 يناير 1914
شرعنا في الرحيل قبل شروق الشمس مع علي، وعواد، وأحد رجال محمد يدعى «عودة» إلى كلوة، وسرنا عبر سلسلة طويلة من التلال والوديان الصغيرة التي لا نهاية لها، وفي الوادي بالقرب من خيامنا هطلت أمطار غزيرة في وقت مبكر من فصل الشتاء مكونة غدرانا وسط رمال الصحراء بخلاف السنة الماضية حيث شحّتْ الأمطار.
وحدثنا عواد عن غزوة كبيرة عبر الفرات في العام الماضي، وكان الغزاة يمتطون ما يقرب من 1200 بعير للحصول على الأسلاب، واستغرقت رحلة الغزو ثلاثة أشهر، ولم يقتل خلالها أي فرد، عبروا الصحراء وأقاموا ثلاثة أيام في وادي حوران ثم اتجهوا إلى قبيسة ومن ثم هاجموا الشيخ فهد بيك الهذال في الرزازة ولم يستولوا إلا على 200 بعير، لأن الإبل كانت ترعى في مكان بعيد في مراعيها، كان «عودة أبو تايه» مصمما على توسيع نطاق العمليات، وقسم رجاله إلى ثلاث مجموعات، أعاد الثلثين إلى موطنهم، واصطحب 400 غازٍ مرتحلاً شمالاً إلى حلب للإغارة على الفدعان والسبعة من قبيلة عنزة.
قال لي محمد ونحن نجلس في الخيمة الكبيرة: إن قبيلة عنزة لم ترفع شكوى إلى الحكومة لتسترد ما سلب منها، لذا فإن ما كسبه أبو تايه يعد غنائم حرب، وكانت الغزوة بأكملها لا طائل من ورائها، إذ لم يحصل أبو تايه على أسلاب ذات قيمة.
عبرنا وادياً كبيراً نسبياً يؤدي إلى وادي السرحان من جهة، ويفضي إلى خبراء أم رقبة من جهة أخرى، وقابلنا شخصا حويطيا ذكر لنا أن هناك قصرا على تلة يدعى الزوايدة فذهبنا لرؤيته. كان القصر ذا اطلالة جميلة على الوادي، في مكان عال، والقصر عبارة عن مبنى مستدير مشيد من الحجارة غير المصقولة، فيه قبو كخلية النحل، ويحيط بالقصر جدار دائري؛ ولا يتوسط الجدار تماما، وحوله صف من الحجارة يمتد إلى كفاف التل.
ويغطي الأرض التي نسير عليها حجر رملي أحمر حتى وصلنا إلى كلوة، وتوجد خبراء داخل البركة الكبيرة، وهناك آثار واضحة تدل على سد في الجانب السفلي. المبنى الأول هو خزان مياه (بركة) وفيه ثقب يساعد على تدفق المياه من الخبراء، لا زخرفة داخل القصر؛ وعلى سطحه ألواح حجرية وبقايا مدفع مورتر وحجارة صغيرة، وكتابات كوفية على الخزان، وهناك خدش في الباب، ولا زخرفة عليه، وفوق أحد الأبواب شكل من نمط الهرم من الجص والحصى. ويخلو القصر من الأقواس، وهناك عدد قليل من الحروف العربية مكتوبة على قطعة من حجر الخزان.
إن رؤية النوق وصغارها [حيرانها] في الصباح الباكر وهي بقرب بيت الشعر لمنظر جميل أخاذ، وقد ارسلنا رواحلنا إلى الخبراء لترتوي، ولم تعد إلينا إلا بعد التاسعة صباحا وذكر مرافقونا أن ذلولا واحدة بركت وحرنت رافضة النهوض فتركوها، وهي تبعد مسيرة ست ساعات.
لذلك وجب علينا عدم الرحيل غدا بانتظار عودة ذلولنا! جلست في خيمة محمد أستمع إلى حجاج وهو يصدح بصوته بمصاحبة الربابة يردد قصائد عن غزوات عودة أبو تايه وفخره بأخته علياء (الندى هنا والرمال البلورية هناك). وقبل مجيء رواحلنا كان قد نفد ما لدينا من ماء، والعرب الآخرون ليس لديهم ماء أيضا، وجاءت امرأة عجوز تشكو إلى محمد حال زوجها المريض وتطلب مساعدته في علاجه.
الأحد 1 فبراير 1914
ذهب أحد رجالنا ليلاً لجلب الذلول التي حرنت بالقرب من الخبراء، وعاد عند غروب الشمس واستغرقت مسيرته ثلاث ساعات، في غضون ذلك أمضينا بعض الوقت في التحدث إلى «عقيلي» من شمر من نجد، وقد وعدنا أن يرافقنا في رحلتنا، ولكن عندما عزمنا على الرحيل في اليوم التالي أخلف وعده ولم يصاحبنا، ويبدو أنه مجرد تمنٍّ لا أكثر، واسمه حسين من فخذ سنجارة من شمر.
جلست مع حريم محمد إلى وقت متأخر بعد الظهر، كنّ يخطن ثيابه القطنية البيضاء، أخته حمدة فتاة رشيقة القوام وجميلة جدا، وهي غير متزوجة، وله أربع شقيقات أخريات، وهن متزوجات، لقد تحدثت إلى واحدة من زوجاته رزقت طفلاً، إلا أنه توفي، ويلاقي مصطفى إزعاجات من علي العقيلي باستمرار، واشتكى مصطفى إلى محمد بأنه قد يضطر إلى تركنا إذا استمر علي في تكرار ازعاجه، وعليه اتخذت قرارا باستبعاده، إنه رفيق سوء.
في هذه الأثناء قررت أن أتخلى عن سيف ليعود إلى أهله إلا أنه أخذ يبكي، وقال: إنه كان في بيت الجوابري منذ كان طفلا وإنه لا يعرف طريقه بين هؤلاء الناس، فتراجعت عن قراري وأبقيته معنا، ولقد استأجر رفيق الطريق مساعد الشراري بعيرا بعشر ليرات مجيدية، فذهبت وقت الغسق إلى محمد وسلمته العشرة مجيديات، ودعا عشرة من الرجال ليشهدوا أنه استلم النقود، ونادى: «يا عودة، يا عواد، ويا حجاج، ويا... اشهدوا»، ثم إنهم شهدوا على أنه إذا عاد مساعد دون رسالة تحمل ختم محمد وختمي، كان عليه دفع 20 ريالا لنا، لأنه شرطنا حتى نصل إلى الجوف، وكان محمد يخشى ألا يكون نواف [الشعلان] هناك، وبالتالي يحتجزنا العبد إلى أن يأذن له نواف.
وعلاوة على ذلك لدينا الإبل التي تم شراؤها من مرعي وعليها وسم الرولة، حتى الآن نتجه جنوب شرق وهي الجهة المنشودة أصلا، وأقسم مساعد بأن طريقنا التي سلكناها تجعل غزو عودة ابوتايه إلى اليسار وتجعل الآخرين إلى اليمين، وحدثنا محمد بأن ديرة الحويطات اعتادت ان تكون آمنة قدر الامكان، وبمقدور المرء أن يضع كيسا من الذهب فوق رأسه والتجوال في الديرة في سلام وطمأنينة، ولكن في الخريف الماضي هوجمت قافلة من التجار من غزة مع رفيق حويطي من ابن عم الرفيق، الذي قتل ابن عمه والتجار وأخذ الغنيمة، وقد دمر هذا الفعل ديرة الحويطات بعد هذه الحادثة وسال دم بين رجال القبيلة، ويقول سعيد إن عودة أبو تايه طيب المعشر ومتواضع يتحدث إلى الجميع في بيت الشعر الخاص به، وهو عادل بين الجميع، ولكن عندما يستفزه الآخرون يغضب بجنون.
في العام الماضي قتل شراري شراريا من أفراد قبيلته، وكان القاتل من جماعة محمد، فما كان من محمد إلا أن ألقى القبض على الرجل، وقطع يديه وقدميه وتركه في الصحراء ليموت، كسب محمد في إحدى غزواته أعدادا هائلة من الإبل، ووضع وسمه عليها وائتمنها لدى أناس مختلفين تحسبا فيما إذا داهمهم غزو على حين غرة لا تكون جميع الإبل متجمعة أمام بيته، وعندما يبيع بعض إبله فإنه يأتمن أثمانها لدى االتجار في معان أو الكرك.
جاءت حمدة إلى خيمتي ودخّنَتْ سيجارة، فجاء سعيد وقال لها: خذي حذرك خشية أن يراك محمد وأنت تدخنين السيجارة، وتساءلت حمدة هل هو «مأمون»؟ وقالت إن لدينا قليلاً من «التتن» [التبغ]، والتتن يقدم للضيوف.
--=------------------------------------------------------------------------------
الحلقة (6)
الاثنين 2 فبراير 1914
وأخيرا شرعنا في الرحيل مغادرين مضرب محمد، وقد أعطانا محمد نصف كيس من القمح حملناه على أحد رواحلنا، مقابل ذلك أعطيته منظار زايس، وطلب وساطة علي لمنحه المزيد من الهدايا وأخيرا رضي بما أهديته، وكان الجميع يسأل عن التتن (التبغ). كان الطقس غائما وباردا جدا اختفت معه الشمس، ويرتحل العرب على الدوام وتقوم النساء بأعمال التجهيز للرحيل، لذا يشتكين بمرارة من التنقل المستمر، وقد عبرنا واديا ودخلنا في وادٍ آخر سرنا وسطه، وهذا الأخير يفضي إلى الحوصا، ثم دلفنا إلى حافة التلال.
وعلى نحو مفاجئ رأينا كتلا من الحجارة الكبيرة متناثرة هنا وهناك إلى الأسفل، وفي الوادي الرملي وجدت نباتات غريبة، وكأنها بلا جذور وبلا أوراق تشبه نبات الهليون الكبير، واللافت للنظر أن هذه النباتات كلها خضراء، تشكيل ملون واضح للتلال في أسفله: أحجار رملية حمراء وفي أعلاه صخور بركانية رمادية.
هذه الأحجار الرملية تعصف بها الرياح فتتناثر ولا سيول تجرفها إلى التلال، وجدنا ذلولنا (مطيتنا) هنا وأقمنا مخيمنا بالقرب من أشجار السدر.
أخذت أقرأ رواية «محنة تشارلز فيفرل»، وقمت بجولة مشيا على الأقدام فوق التلال المحيطة بنا والتي تغطيها رمال ناعمة وتتناثر فيها أحجار فيما يشبه فضلات الإبل (الدمن)، نحن على حافة قعرة الطبيق، وخلف كتلة التلال الحمراء الصغيرة يقبع عالم الرمال الجرداء يترك أثرا في الروح البشرية.
الطقس غائم وعاصف، والإبل ترعى في الوادي وقد نزعنا أشدتها، وهناك ناقة ترك الشداد جرحا غائرا على ظهرها فأغرى ذلك الغربان التي هاجمتها ونقرت الجرح مما زاده اتساعا، ولعلاج ذلك قام الرجال بعملية كي خلف الأذنين، وعلى الأنف، وعلى الذيل بعصا محروقة، قلت للرجال: إن السماء ملبدة بالغيوم «يجي مطر؟» فقالوا: الله هو الذي يرسل الخير، ولكن من المرجح أن الأمطار إلى الجنوب منّا.
الثلاثاء 3 فبراير 1914
افترقنا مع عواد اليوم وأعطيته كوفية (شماغ) من الجوخ، وخشيت أنه يعتقد أن ما أعطيته قليل جدا بحقه، واجتزنا قعرة الطبيق (الفيه) إلى خبراء غضي التي تقع في وادي غضي، وتبدأ هذه الأخيرة من خبراء الفيه إلى خبراء المسعود، وتبعد مسيرة ساعة تقريبا عن المكان الذي خيمنا فيه.
وسرنا في هذا الوادي بعد أن كنا قد ملأنا قرب الماء (السقاء) لدينا، وكنت أسير على أقدامي لمدة 25 دقيقة منذ رحيلنا إلى أن وصلنا جبل وعلة، ورأيت ثنيّة الريلان التي يبدو أنها امتداد للطبيق من جهة الشرق، ويطلق على الجانب الغربي من الطبيق العفر (الأعفر) والجانب الشمالي الشرقي الحمر (الأحمر) أو الأسود، وفي الوسط طور الذي يقع في وادي العسرة حيث لا أحد يقوم بقطع الأشجار لجمع الحطب أو كسر فرع من الشجر ليتخذه عصا. ولكنه يظل مرعى للإبل والأغنام. هناك خبراء كبيرة، وإلى يسار طريقنا من الفيه إلى مغيرا توجد خبراء كبيرة في وادي حصيدة تكون مملوءة بالمياه عند هطول المطر في فصل الشتاء وهي مملوءة تماما الآن، والمخاطر لمن يرتادها ليست كبيرة. هناك أسطورة مشهورة تتناقلها الأفواه حول تل في وسط طور يدعى «تل جدعان»، عندما تهب الرياح تفوح منه رائحة العنبر، وهذه الأساطير مشهورة بين الشرارات، وهذه المنطقة هي ديرتهم الأصلية وكانوا تحت حكم محمد بن رشيد الذي حماهم، ولم يعانوا انقضاض أي أحد على ديرتهم، ولكن بعد وفاته، قد تأتي إليها قبائل الحويطات وقبائل أهل الشمال. وهؤلاء الأخيرون خاضوا معركة حامية الوطيس قبل نحو 4 سنوات بالقرب من تل مقيح قتل خلالها نحو 300 رجل.
ومنذ ذلك الحين تمت المصالحة بينهم وأصبحوا أصدقاء، ويحكي مساعد نوعا من القصص حول الحيوانات مثل: الأسد والنمر وأبو الحصين (الثعلب) وكيف تتشاجر هذه الحيوانات للحصول على قطع من جسم الأرنب.
بدأنا نشاهد «العشب» والأشجار الخضراء اليوم، بعد الخبراء انضم إلينا غادي بن رمال وكان قد مكث مع الحويطات خمس سنوات، والآن يرغب في العودة بقطيع إبله ووالدته وشقيقه وشقيقته إلى قبيلته، وكان بمثابة رفيق وصحبته ذات فائدة مشتركة له ولنا، فهو لحسن حظه، أن الطريق تكتنفه المخاطر ولن يجرؤ أحد أن يسلكه بمفرده.
اليوم كان ماطرا والرياح تهب باردة. قلت لعلي: الناس في بلدي تخشى طقس هذا الصباح. قال: نعم، «عندنا هذا ماكو مثله». تحدثت إلى فتوح عن الإسلام والمسيحية وقال فتوح: إن المسيحية أفضل من الإسلام، لأن المسلمين أعيادهم قليلة، لديهم عيدان فقط، ولا يعرفون توقيتهما بالضبط بل يعتمدون على رؤية هلال الشهر لتحديد ذلك؛ إنهم ليسوا مثلنا حيث لدينا أعياد عديدة ونعرف توقيتها بدقة.
قال لي فلاح: طوبى للرحماء، وكان قد تشاجر مع فتوح الليلة الماضية لأنه أقسم بالله أنه التقط كيسا- كان فتوح اشتراه من دمشق الشام- لينام فيه في الصحراء. قال فتوح: ولماذا القسم بالله؟ ألم يعرف الله ذلك؟ نعم إنه يعرف فلا داعي للقسم، ورأى كل من سعيد وسالم أن القسم لم يكن مستحبا أو ضروريا.
الأربعاء 4 فبراير 1914
هل السرور الذي غمرنا يعود إلى أخذنا الطريق المباشر نحو نجد، أم أن هذه الصحراء القاحلة بلاد مرافقي من الرجال هي التي بعثت السرور في نفوسهم، وبقدر ما بعثته في نفسي أنا أيضا؟ لا أعرف! ولكننا مرتحلون بروح معنوية عالية واطمئنان، وأعتقد أن هذا الشعور يسود في ظل الأمن، وكان من حسن طالعنا أن التقينا في مكان التخييم يوم الاثنين أفرادا من عائلة شمرية مكثوا خمس سنوات في ديرة الحويطات والآن يريدون العودة الى ديرتهم، وقد نما إلى مسامعهم أننا في طريقنا إلى هناك لذا أبدوا لنا رغبتهم في الانضمام إلينا ووافقنا في الحال على ذلك، وكانت الفائدة متبادلة بين الطرفين، فمن ناحية بالنسبة إليهم لن يجرؤوا على اتخاذ هذا الطريق لوحدهم، ومن ناحية أخرى بالنسبة إلينا إذا ما تعرضنا لغزو من شمر فهم الضمانة لنا. نحن في الواقع نمثل قافلة كبيرة: بيتين من الشعر من الشرارات هم وحيواناتهم: (6 رؤوس من الأغنام والماعز) وقطيع من الإبل، ولا أعرف إلى أي مدى سيذهبون.
كان الجو ماطرا يوم أمس إذ كانت تهطل زخات قوية من الأمطار من وقت لآخر خلال معظم ساعات النهار. ارتحلنا جنوبا مباشرة من مخيمنا نحو الخبراء التي تكونت مياهها إثر سقوط الأمطار، حيث ملأنا قربنا من مياه الخبراء، وبعد ذلك تحولنا إلى الشرق إلى وادٍ جاف قليل الانخفاض وفي نهاية المطاف خيّمنا فيه، ولكن الوادي لم يكن خاليا من النبات ففيه: القتاد والنفل والشجيرات الخضراء التي انبثقت من وسط الرمال لتتغذى عليها حيواناتنا، وأخذت الإبل تأكل بشراهة.
أفرح قلوبنا صاحبنا الشمري عندما أخبرنا أن مناطق الرعي التي أمامنا ستكون أفضل وأفضل ونحن نمضي قدما، كانت كلماته لها صدى في نفوسنا، وقد رعت الإبل طوال اليوم ونحن مرتحلون واستمرت في الأكل ليلا حتى التخمة. أعتقد انه لن يكون هناك مجال للجوع على الإطلاق، وكانت أمطار نوفمبر الوفيرة هي التي أحيت الأرض الصحراوية فأهميتها واضحة هنا، والخباري مليئة تماما بالماء- مررنا بخبراء أخرى هذا الصباح وملأنا قربنا– والشجيرات منتشرة على أديم هذه الصحراء. شعرنا براحة واطمئنان كبيرين؛ كان ما لدينا من عليق (علف) لا يكفينا سوى لمدة خمسة أيام فقط، وإذا نفد ما لدينا من عليق ولم نجد للإبل ما تأكله فسنجد أنفسنا نحن والموت جوعا وجها لوجه! وماذا بعد؟ فكرت جديا ليلة البارحة- ونحن في الطبيق- لتفادي تلك المشكلة يجب أن نسلك طريق الجوف لكي نحصل على الطعام للإبل فيه، ومن ثم قررت أن جميع الاحتمالات مفادها عدم الوصول إلى نجد على الإطلاق، وألا مناص من اتخاذ قراري وإن كان محفوفا بالمخاطر، ووقف الحظ إلى جانبي.
هذه هي الصحراء الحقيقية كما تراها في الكتب المصورة، إنها مصنوعة من الحجر الرملي الأحمر حيث ينجم عنه أن تتداخل ألوانها بين الأحمر والذهبي لا شيء غير ذلك، ولكن لا شيء أحيانا تلال رملية نفسها في سلسلة طويلة من تلال معتدلة الارتفاع تذروها الرياح. وفي المنخفض بين هذه التلال توجد ما يطلق عليها النقرة، وتتناثر على سطحها الأحجار، وبفعل عوامل التعرية من الرياح والشمس تتحول هذه الأحجار إلى أشكال غريبة.
وهنا، فعزيزي فصل الربيع أعتقد أنه لا يمانع من قدومه، فالأرض اكتست بحلة قشيبة فالنباتات الشائكة الخضراء تشكل تباينا مقابل ألوان الرمال الذهبية والحمراء، بل إن بعض النباتات ظهرت أزهارها الملونة الجميلة.
وعلى الرغم من أنها شاسعة مترامية الأطراف وخالية تقريبا فإنها مفعمة بالجمال؛ هل أن من أسباب جمالها هو هذا الفضاء والهدوء؟ على أي حال أنا أحب ذلك، وعلى الرغم من أن الإبل تسير بوتيرة بطيئة، وتتناول طعامها حيث ما تذهب، فإنني لا أشعر بنفاد الصبر ولست في عجلة من أمري ولا تحدوني رغبة شديدة للوصول إلى المكان المراد، فلايزال الطقس باردا.
اليوم، وللمرة الأولى منذ صباحات عديدة، كان ميزان الحرارة فوق درجة التجمد عندما تناولت الإفطار- مجرد فوق درجة التجمد قليلا– وكانت تهب رياح عاتية طوال اليوم فتخفف من أشعة الشمس، والنباتات الصحراوية تنثر عطرها مع الرياح، قال علي: «رائحة الريح من العنبر» اليوم، عندما وصلنا إلى المخيم في أرض منبسطة رملية تتناثر بها أكوام من الصخور المكسورة، وجلب لنا مرافقونا المرتحلون من الشرارات حليب الماعز وقت المساء.
وبما أنني قد شربت كثيرا من حليب النوق الذي كان يقدم لي بطاسة خشبية كبيرة في بيت محمد أبو تايه، لذا لم أستسغ حليب الماعز وبدا لي خاليا من النكهة، جاءت إبلنا وقت غروب الشمس فذهبت لاستقبالها وتفقدها.
الخميس 5 فبراير 1914
كان الصقيع يغطي جميع التلال الرملية هذا الصباح، وهذه التلال تكون مرتفعة بشكل واضح من جهة الشرق وفيها نتوءات من الثلوج وتنخفض بشكل حاد من جهة الغرب، عبرنا طعوس النقرة، وهي سلسلة طويلة من الكثبان الرملية، وتتصل على ما يبدو في طعوس السويوينة.
في الساعة 8:15 نرى أمامنا تلال الهاوي التي تفصل بين السويوينة، كنا نسير عبر أرض منبسطة جرداء تماما، وصلنا إلى التلال الساعة 9:30 وظهر أمامنا مباشرة قليب السويوينة فالتقطت له صورة، هنا وجدنا تجمعات مياه الأمطار (خباري) في فيضة كبيرة أرضها منخفضة وصلبة.
في الساعة 11:32 خرجنا من هذه الأرض المنخفضة ورأينا مليح في الجهة الجنوبية الشرقية، وهو يتألف من مجموعة تلال، واستخدمت جهاز الاتجاهات وكان قياسي هنا 135 درجة، وأنا في هذا المكان أخذت جميع القياسات السابقة لمليح، وفي جهة الشرق تمتد سلسلة طويلة من التلال أخذت قياسها من منتصفها فكانت 126، وأخيرا هناك تل يدعى بارود الملح (119)، وفي وسط هذه التلال يوجد بئر وكذلك هناك بئر أخرى في بارود الملح.
الاثنين 9 فبراير 1914
كان يوم السبت الماضي يوما رائعا مبهجا، أمضيناه عبر أرض معشوشبة كالحدائق الغناء تنتشر فيها الأزهار مختلفة الألوان والشجيرات الخضراء، وفي الليل حين ذهبت إلى خيمتي واضطجعت على سريري، جاء إلينا ضيف من الحويطات، وأفادنا أنه كان خارجا لصيد المها، ويبعد مضرب جماعته مسيرة ساعة أو نحو ذلك، وقد التقينا بهم في اليوم التالي وهم ظاعنون، وشيخهم شاب يدعى محمد وهو حريص جدا على أن نخيم بالقرب من جماعته.
وكان قد أمضى الشتاء مع عرب ولد سليمان من قبيلة عنزة الشهيرة، وأبلغنا أن الشيخ يبعد على مسيرة 5 ساعات إلى الشرق، ونظرا لأنه ربما قد يسمع عن وجودنا أو قد سمع بالفعل، قررنا أنه لا مناص من الذهاب إليه واتخاذ رفيق طريق من قومه؛ ووفقا لذلك لجأنا إلى تغيير مسارنا نحو الشرق، ووصلنا مضربه الساعة الواحدة بعد الظهر تقريبا.
لم يُظْهر نوعا من الود تجاهنا، وبعد احتسائنا أول فنجان من القهوة بدأ باستجوابي: سألني عن مدى معرفتي بهذه البلاد وعن الهدف من قدومي إلى هنا، وبعد أن تناولت التمر في ضيافته ذهبت إلى خيمتي فنهض من مجلسه وتبعني، وشرع في تفحص كل ما عندي من ممتلكات، ومن سوء الحظ أن وقعت عينه على منظار الزايس وأبدى شغفه به على الفور، وطلب أخذ كل شيء شاهده فرفضت طلبه، وبحلول الليل وبعد مشاورات مع مرافقي وافقت على أن أعطيه مسدسا مقابل أن يرسل ابن أخيه معنا كرفيق، ولكنه عاد في صباح اليوم مرة أخرى يطلب المنظار وهددنا إذا لم ننفذ طلبه أنه سيتركنا نذهب دون مرافق من قبيلته وسنكون عرضة لمخاطر الطريق، ولم يقل لي ذلك شخصيا بل أسرّ إلى مرافقيّ فتوح وسعيد، وأضاف أنه لم يحدث أن ارتحلت امرأة مسيحية في هذه البلاد ومن غير المسموح لها الآن أن تقوم بذلك، وأنا لا أعلم ما إذا سيتم وضع هذه التهديدات حيز التنفيذ أم لا، ستظل نوعا من الشكوك لا أحد يجزم بما ستؤول إليه الأمور ولكن يجب أن نبدد هذه الشكوك ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، إن مرافقي سعيد يعرف عادات العرب جيدا ويعرف هذا الرجل أيضا، همس بأذن فتوح بأنه من الأفضل أن نعطيه المنظار لئلا يصيبنا الأسوأ، وفي نهاية المطاف تم تجريدنا من المنظار والمسدس.
ولم يكن أصحابنا الشمامرة المرتحلون معنا أفضل حظا منا، فقد تم الطلب منهم دفع ضريبة (خاوة) مرور مقدارها 3 مجيديات، وأثناء المفاوضات التي قام بها رجالي كنت جالسة أراقبهم من بُعدٍ وأنا أرتجف من البرد القارس، وأخيرا أصبحنا أحرارا وأذن لنا في الرحيل، وجدنا أنفسنا مع ثلاثة رفقاء هم: صيّاح ابن أخ زايد، ورجلان من الفقير هما: حامد شقيق الشيخ، وظاهر، ويقال إن الفقير أشد وحشية من ولد سليمان وكنا نخشى أن نعبر ديرتهم دون ضامن يرافقنا من رجالهم، ونخشى أن يُرسل الشيخ أحداً ليسلبنا بعد أن شاهدنا في بيت صياح، ويبدو أننا الآن آمنون تماما– «إن شاء الله!»- ولكن لايزال هناك أسبوع بيننا وبين الوصول إلى نجد وتقلباته البرّية الكثيرة، «خير إن شاء الله!» كانت رحلة اليوم مملّة جدا، لا نشاهد سوى التلال الرملية والصخور اللامعة، إنها أرض خالية من المعالم الأخرى، بدّد رتابتها قليلا مشاهدتنا لآثار مجموعة نعام، ولكن لا يمكن نسيان ذكريات هذا الصباح المثيرة التي عبرت بسلام مما بث السعادة في نفوسنا.
سألت الشيخ محمد بن فندي من الفقير (الفقرا) فيما إذا كان يتذكر خليل الذي حلّ ضيفا على والده، فأجاب: نعم، والله إنه كان رجلا طيبا.
الهوامش
خليل هو Charles Doughty (تشارلز داوتي 1843- 1926) رحالة ومستكشف إنكليزي قام برحلة إلى الجزيرة العربية عام 1876 وأطلق على نفسه اسم خليل، زار حائل عامي 1877 و1878 إبان حكم الأمير محمد بن رشيد، كان متعاليا فظا ومع ذلك حظي بحماية الأمير محمد.
[المترجم]
----------------------------
(الحلقة 7)
من دمشق إلى حائل على ظهور الإبل في 16 ديسمبر 1913، انطلقت رحلة غيرترود بيل من دمشق، ميممة حائل بقافلة مكونة من 17 بعيراً محملة بالمؤن والخيام، وثلاثة جمّالين، وطباخ، ومرشد، وقد تلقت تحذيرات عن المخاطر المحتملة، وبالرغم من أخذها الحيطة والحذر في ترحالها، فإن المخاطر واكبت رحلتها: حين هاجم قافلتها بعض الفرسان وسلبوا أسلحتها وذخيرتها عنوة، وانتظرت أسبوعاً حتى أعاد أحد شيوخهم ما سُلب، ثم اعترض طريقها مسؤول عثماني لمنعها من السفر؛ وبعد 10 أيام من المفاوضات المضنية، تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر. وعند مرورها بأراضي إحدى القبائل اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور، بحجة أنها "نصرانية"، واقترح سراً على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها، وفي حائل ظلت غيرترود بيل حبيسة في قصر برزان قرابة 11 يوماً، وقد سجلت معاناتها في يومياتها يوماً يوماً. وكانت، مع كل تلك المصاعب، مفعمة بالحيوية والحماسة، وقد شدها جمال الطبيعة في صحراء النفود، وكثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر، وأنها تعيش أجواء "ألف ليلة وليلة" الحقيقية. وتستعرض بي
الثلاثاء 10 فبراير 1914
شرعنا في الرحيل الساعة 6.15 وسرنا عبر أرض مغطاة بالحصى تتخللها تلال رملية مثل تلك التي عبرناها يوم أمس، وفي الساعة 8.5 أخذت القياسات على تلة «بيضات البيت؟»، وقد لا يكون ذلك الاسم الصحيح. وفي الساعة 8:35 شاهدنا حلوان والخنفة وعند الساعة 9.46 حصلت على سلسلة من القياسات من حلوان، وسنام، وذويبان، ومشيديه (ولكنني لست متأكدة تماما من صحة الاثنين الأخيرين، لم تكن لهما أهمية من ناحية المسافة) وإلى اليمين باتجاه الطعوس التي هي في نهاية الطرف الجنوب الغربي من النفود، وتيماء تبعد عنا مسافة مسيرة يوم للذلول، ويقع طريقنا إلى اليسار منها.
وفي الساعة 10.55 كانت تلال ثليثوات الصخرية إلى يسارنا وقمت بأخذ قياس الاتجاهات والمسافات من مكان ربما هو مشيدية، ثم عبرنا خبراء أم الطرفة الجافة، وأخذت قياسات من فوق ثليثوات في الساعة 11.45، ومرة أخرى في الساعة 12.30 قمت بنفس الشيء في حلوان وسنام. ومنذ مرورنا بالخبراء ونحن نسير فوق أرض منبسطة مغطاة بالحصباء السوداء، وفي الساعة 12:50 ودّعنا ثليثوات ووصلنا إلى تلال العسافية التي تقع في الجانب الجنوبي من وادي نيّال.
وفي الوادي أكثر من 100 قليب (بئر) ولكن لا تتوافر فيها المياه إلا في حالة أن تسقط الأمطار بغزارة ويسيل الوادي (فقط السيل)، وهذه المرة أعتقد أن قياساتي صحيحة لكل من: حلوان، وسنام، وذويبان.
وصلنا إلى مضارب الفقير في الساعة 1.30 في وادي نيال، التي تبعد مسيرة نحو 3 ساعات من العسافية، وهناك خبراء تسمى عروس تتدفق إليها المياه من الغِمَار عند سقوط الأمطار، وبيّن لي مساعد كيف أن الشرارات يحتمون بصدوع أكوام الحجر الرملي عندما تمطر لتفادي البلل من الغيث، ولفت انتباهي إلى واحدة منها، وأضاف أنها أيضا مأوى جيد للحماية من حرارة الشمس.
والفقير ليس لهم أعداء في هذه اللحظة ما عدا هتيم، وقال حامد وزايد: نحن الفقير نخاف من شمر، لأنهم يعرفون غارة عودة أبو تايه القادمة ولم يحذروا أصدقاءهم شمر، وكذلك أبدى مساعد شعوره بالخوف أيضا، وجدير بالذكر أن ظاهر من فخذ سرحان من الفقير.
كانت الرياح تهب علينا باردة طوال اليوم ولكن الشمس كانت حارقة عندما خيمنا، والأرض مغطاة بعشب وفير، ونشب خلاف كبير حول أي طريق نسلك، فعلي وغادي يريدان أن نسلك طريق مورد العسافية- لأنه أقصر حسب اعتقادهما- حيث نسقي رواحلنا ونواصل مسيرتنا من هناك، عبر ثمايل الشبكة في النفود، ثم إلى بير حيزان وهو نفسه من الخبراء إلى حيزان، وهذا الخلاف إما أن يكون بسبب الخوف من شمر (حيث كان فخذ السويد من شمر يقطنون في الشبكة عندما غزاهم عودة أبو تايه والآن قد ارتحلوا شرقا) أو لأنه، كما يقولون، لوعورة الطريق نتيجة كثرة الطعوس على امتداده، أما الآخرون فيحبذون اتخاذ طريق الخبراء، وأنا لا أعتقد أن هناك فرقا كبيرا في الوقت الذي يستغرقه أي الطريقين.
وعلمت أن الأمير ليس في حائل الآن إنما هو قرب الحيانية، وأعتقد أن هذا أمر مؤسف بالنسبة إلي، ويقال إنه قد أخطر جميع رجاله عن قدومي إلى حائل، ولكن لا أعلم فيما إذا قد يسمح لي بذلك أو يحيلني إلى جهة أخرى، وكذلك لا أعرف مدى صحة هذه الأخبار، وبدا غروب الشمس وطلوع القمر معا تقريباً.
الأربعاء 11 فبراير 1914
شرعنا في الرحيل في الساعة 6 صباحا، وكان الجو غائما، وصعدت ركابنا الضفة المقابلة من الوادي، ومن الساعة 6.20 حتى تقريبا الساعة 10 ونحن نقطع أرض «جَلَد» مفروشة بالحصى، أرض قفراء تخلو تماما من الكلأ، حتى الساعة 10 تقريبا ونحن نسير إلى الشرق من الطعوس وبقربها، ثم اتجهنا أكثر غربا فوق تلال رملية، وأصبحت الأرض رملية غير حصوية.
وفي الساعة 11.30 وصلنا الى خبراء الفصفص الواسعة، أرضها منخفضة تحيط بها تلال رملية وقاعها صلبة، توقفنا في هذه الخبراء الطيبة، وسقينا رواحلنا وملأنا قربنا (السقاء) واستغرق ذلك نصف ساعة.
إنه مكان مهجور وبائس ولكنه غمرني بالفرحة والسعادة لرؤيتي الماء فيه؛ لأنه إذا لم نعثر على الماء فيه فسنضطر أن نتجه جنوب غرب إلى البيد، وهو قريب جدا من تيماء وسيكون مضيعة للوقت.
كان زايد حريصا على أن نخيّم لمدة ثلاثة أرباع الساعة بالقرب من الماء، حيث تكثر هناك الأشجار، ولكنني أصررت على مواصلة رحلتنا، وعندما صعدنا أول طعس كبير من طعوس النفود الرملية، في الساعة 1.30 قمت بأخذ قياس الاتجاهات.
وجدنا وفرة من الكلأ إلى اليسار منا، فالعشب وفير وتكثر شجيرات الحماط والعلندا والرمث وكلها طرية والقتاد (الكداد أو التسداد) وهي ذات أشواك، وقال لي محمد المعراوي إنه يسميها خرفش، وهناك أشجار الغضا والأرطى التي لا تأكلها الإبل، ونبات العلقا الأخضر الذي لا يوجد إلا في النفود.
وصلنا إلى المضرب الساعة 2.45، وكان يومنا رائعا، قال حامد حارسنا- الذي ينتمي إلى الفقير- إن أفراد قبيلته يحرسون طريق الحج من دار الحمراء إلى المدائن (مدائن صالح) وإنه كان يحصل على صُرّة من المعاش والزهاب والملابس والمال سنويا عندما يعبر الحجاج في موسم الحج.
وقد اعتاد عبدالرحمن على جلب حزم كبيرة من العشب ويبيعها على الحجاج علفا لركابهم، أما الآن فقد كسدت هذه التجارة لأن الحجاج يستخدمون القطار، خيمنا في أرض ذات رمال صفراء، ها هي مناظر النفود المبهجة، وجدير بالذكر أن حراسة طريق قوافل الحج منوطة ببني صخر، والحويطات، وبني عطية، والفقير، والأيدا، وبيلي، وجهينة، وحرب، وولد سليمان من قبيلة عنزة من معاز بن وائل، وتعد تميم وقحطان من القبائل القديمة.
وعرض علي الرفقاء الثلاثة ختم المصنع لبنادقهم التي تظهر علامة التاج VR قلت لهم: لو كنت شيخا ذا شأن لمنعت كل أنواع الأسلحة من دخول الجزيرة العربية، ووافقني زايد الرأي قائلا: والله أفضل بكثير! سيعود الناس لسلاح الرمح والحجارة إذا لا توجد بنادق، حتى الخيول الأصيلة أصبحت نادرة الآن، وسلاح المدفع لا يوجد إلا لدى ابن رشيد، ولدى ابن شعلان مدفع واحد في الجوف في حالة جيدة.
يؤدي كل مرافقي الصلاة بانتظام إلا أنهم لا ينزعون عباءاتهم (بشوتهم) أثناء أدائها.
الخميس 12 فبراير 1914
كان رحيلنا في تمام الساعة 6 باتجاه طعس يدعى الصبي، وقمت بأخذ قياس الاتجاهات لذويبان والشبكة وعرنان وأيضا لتلال غنيم، والتي تبعد مسافة ساعة واحدة فقط من تيماء، وسهل المحيمرية بالقرب من تيماء، بالإضافة إلى التلال الرملية في بداية النفود التي تركناها خلفنا وإلى بير حيزان أمامنا.
والطعوس بلونها الأصفر هي كثبان رملية ينعدم الكلأ فيها تحيط النفود بما يشبه الخندق من ثلاثة جوانب أما الجانب الرابع فيفضي إلى شعيب عميق.
هذه الضفاف الرملية تنحدر من الشرق إلى الغرب بوجه عام، وتنحدر الوديان بينها فجأة إلى تجويف عميق جدا يسمى قعرة وأرض حواف النفود جَلَد (حصوية).
والطعوس مخروطية الشكل مدببة تقع في الشرق وتمتد منها ظهرة باتجاه الغرب، ولاحظت أن الأرض تنحدر انحدارا شديدا نحو الشمال، وبينما كنت أتسلق «طعس الصبي» جاءني فتوح وأخبرني أن إحدى نوقنا قد بَرَكَت ولم تنهض. وذهبت أنا ومحمد المعراوي، وفلاح ومعنا «عليق» (علف) ووجدناها ملقاة على جانبها، وقد هلكت إنها جثة هامدة. وقال محمد: «راحت هذي، لها الله؟»، قلت: «أحسن»، وقام محمد بنحرها، واستخدم سكينا حادا لقطع الوريد الوداجي، مع عبارة «بسم الله، الله أكبر»، كان سبب هلاكها مرض يسمى «الطير»، ولحسن الحظ أنها كانت واحدة من الإبل الضعيفة.
رأينا الكثير من آثار غزال المها، ورأى رفاقنا ثلاثا من المها لكنهم فشلوا في صيد أي منها، وكذلك رأينا آثار أقدام جديدة لعرب، وعندما نصبنا خيامنا شاهدت إبلا من بعد.
ذهب أحد رفاقنا لمعرفة مَنْ هُم– ودعوت الله- ألا يعود إلينا بأخبار سيئة! إن الرمال رغم نعومتها تشكل عائقا كبيرا للجمال أثناء مسيرتها، إذ تغوص خفافها فيها وبشكل خاص في القعور... أشعة الشمس حارقة في منتصف النهار، ولكن يهب نسيم عليل بارد مباشرة بعد غروب الشمس.
حدثني محمد المعراوي أنه في إحدى المرات كلف من الوالي محمد سعيد باشا لنقل رسائل مهمة من الوالي من دمشق الشام إلى معان، وكان الوالي عائدا من الحج منذ 3 أيام، وقال لي محمد: غادرتُ وقت الفجر وفي الفجر التالي كان في أم الجمل التي يقطنها عنزة ونحو الساعة 8.00 كنت في معان، وأضاف التقيت محمد بن جازي و8 هجانة (من راكبي الجمال) وكوكبة من الفرسان كانوا أعداء له (قومانيين) بسبب خلاف على بعض الإبل، التقيتهم ما بين وادي الحساء ومعان.
وكان ذلك قبل امتلاك الناس للبنادق، وكان مع ابن جازي بندقية مصرية جيدة، استوقفني محمد بن جازي وسألني من أنا؟ وكان ابن جازي قد عقل راحلته ووقف بجانبها ومعه بندقيته، صرخت: «أنا محمد المعراوي وأنت ابن جازي»، وقال لي: إن رميت رمحك فسأطلق النار عليك من بندقيتي، عندها سنموت معا، صرخ ابن جازي ورمى الرمح وقال: «أدبوا الكلب»، فقذف ثلاثة رجال رماحهم نحوي من الخلف، وخدشني أحدها ولكنه لم يصبني بأذى.
ثم أمسك محمد بن جازي بندقية الحويطي وأطلق الأخير رصاصة من البندقية مرت تحت ذراع محمد من خلال ملابسه، وكان يهدف من إطلاق النار ساقي محمد بن جازي والرصاصة مرت بينهما.
وركب بن جازي راحلته ورافقه جماعته وذهبوا بعيدا بعد مرور ساعة عصيبة هددت حياتي، وقال سعيد باشا: «سلّمك الله من أذى الحويطات». وقال محمد لقد حصلت على ذلول كهدية من الهقيش والخريشان، والتقى بأحد شيوخ الجبل من عنزة في معان وكان في طريقه للانضمام الى سعيد باشا وأهداه ذلولا أخرى.
الجمعة 13 فبراير 1914
الطقس بارد جدا وصل الى درجة التجمد ليلا، وطوال اليوم كان غائما، عاد مرافقي الثلاثة بصحبة عواد بن حبرون العواجي، وأخبروني أنهم لن يستمروا بمرافقتي في رحلتي، خوفا من شمر لأنهم لم يحصلوا على أخبار عن غارة عودة أبو تايه، ويخشى مساعد أن يُتَّهم بأنه سرب معلومات عن موضع مضرب شمر عندما كان في مضرب الحويطات. أجرة عواد مجيدي في اليوم مقابل مرافقته لنا، ودفعت أجرة الآخرين الذين سيتركوننا- وهم مساعد وزايد وحامد- مجيدي واحد في اليوم و8 مجيديات بدل ملابس، كانوا معنا 5 أيام بشروط مناسبة جدا.
كنا نرتحل على أرض مرتفعة جدا، وكان القياس في الساعة الثامنة 26 .5 وانخفض إلى 26.45 في الساعة 9.15.
شاهدنا حلوان في الساعة 9.30 وحصلت على قياسات كل من: عرنان وحيزا وحلوان والبير، وصعدت طعسا وأخذت قياسا لبير حيزان؛ يطلق عليه زبران، وقبل أن نخيم مررنا بقعرة على شكل حذوة حصان، أكثر انخفاضا في أحد جوانبها من الآخر، خيمنا في قعرة متكونة من مرحلتين من الانخفاض واحدة فوق الأخرى أيضا على شكل حذوة حصان واسعة.
وذكر أن ابن رشيد قد أرسل قافلة كبيرة لجلب البضائع (قد تكون أسلحة؟) قادمة من الحكومة العثمانية إلى المدائن (مدائن صالح)، ويقال إنها قد تتوقف للسقاية اليوم في حيزان، وبالتالي قد يكون هذا سبب خوف مرافقي الذين تركونا ويعتقد أن من نقل لهم تلك الأخبار هو عبدالله بن جلول.
عاد أحد مرافقينا هذا الصباح وهو يرتدي ملابس جديدة قد اشتراها من تاجر وجده في مضرب العواجية، يعرفه محمد المعراوي، وأنه يأتي في الأصل من مشهد علي (النجف) واسمه «صادق أبو العجينة»، كان هناك قدر كبير من نبات النصي اليوم، إلى جانب الحماط والرمث والعلقا، والعلندا. قال علي... الله. فتوح أبو ليلى تحت أمرك يا أبو قاسم! استغفر الله! «العمر حيلة ما في عصر غير ليلة».
السبت 14 فبراير 1914
رحلنا في الساعة 5.50، قبل شروق الشمس، منظر رائع جدا أن ترى النور يأتي على النفود، يلامس الجزء العلوي من الطعوس حول زبران ويتسلل إلى أسفل جنباته، والنوازي في القعر يغطيها الظلال. مررنا إلى الشرق من مجموعة طعوس زبران، وتسلقت طعسا في الجهة الجنوبية الشرقية وبذلت جهدا أثناء عملية التسلق، وقمت بتجهيز أدواتي لأخذ قياس الاتجاهات: جبل برد، بير حيزان، حلوان، اللقحة، نقطتين (أخذت في الوسط) ظلما، حيزاء، والأرض ظهرة متصلة مرتفعة على حافة النفود؛ وبعدها أرض جَلَد (حصوية)، ثم عرنان ويؤدي إلى جبل المسمى، وطعس فبران الكبير إلى الغرب من حيث وقفت، وإلى الخلف بالعودة إلى الصبي.
عندما نصبنا خيامنا كانت الساعة 9.10 في موضع يبعد نحو نصف ميل أو أقل عن زبران والذي كانت قياساته 306، في حين العودة إلى الطعس كانت 180.
ذهبت مع الإبل إلى حيزان الذي وصلناه في الساعة 10.25، وهو عبارة عن بئر تقع في منخفض عميق جدا، حتى إن البرومتر انخفض درجتين مع نزولنا، هناك بئر واحدة فقط جيدة للاستخدام هي «حيزان»، وكان الحبل (الرشاء) المستخدم لسحب الماء من البئر طوله بحدود 48 خطوة (37 متراً). وتقع إلى الجنوب قليلا بئر أخرى تسمى حيزاء وهي ميتة (مسدودة)، وفي أيام محمد بن رشيد تولت قبيلة الرولة حيازة هذه الآبار في هذه المنطقة وقطعت الطريق على شمر، لكن محمد بن رشيد طرد الرولة وردم بئرا واحدة، هي الحيزاء، وهذه الأخيرة ماؤها أقل جودة من حيزان، ولم تستخدم منذ ذلك الحين، وكلتا البئرين مطوية بالحجارة المشذبة المربعة تقريبا، والجزء السفلي منهما مغلف بقطع من الصخور الصلبة، وجلبنا معنا عمودين (مقام)، وبكرة (محالة) من الحديد، والحبل (الرشاء) لسحب الماء من البئر لأنه يوجد على أعماق سحيقة. وكان العرب يستخدمون ترتيبا مماثلا مع بكرة خشبية، كان مضرب العواجية قد شهدناه من فوق الطعس، وكان هناك بعض الاعتراض في البداية على قيامي بالتصوير إلا أن مرافقي الشمري شجعني على الاستمرار في أخذ الصور.
وبالقرب من البئر يوجد قبر الشيخ مشعان العواجي والد الشيخ الحالي، ودفن بعد مقتله في إحدى معاركه القبلية وليس هناك كتابة أو وسم على شاهد القبر، ركبنا ظهور رواحلنا برفقة غادي وشقيقه عائدين إلى مخيمنا، واستفدنا من بقية اليوم لعمليات الغسيل والنظافة. كانت درجة الحرارة 20 مئوية، تهب علينا رياح خفيفة غير مثيرة للغبار. تنتشر أعشاب وشجيرات خضراء تشكل وجبة ثمينة لإبلنا، فنحن الآن على الحدود بين عنزة وشمر، ومن القلبان أمامنا فصاعدا كل هؤلاء شمر، والفنده من عنزة الذين يشربون من حيزاء جميعهم أصدقاء لشمر، وليس للعواجية خصومة مع شمر ولكن خصومتهم مع هتيم، حيث نشبت مشاجرة معهم قبل 3 سنوات حول مناطق الرعي، إذ دارت رحى معركة كبيرة ومن تداعياتها أن فقدت عنزة 40 رجلاً (من جميع عنزة بمختلف أفخاذها) في حين خسرت هتيم 30 رجلاً.
ويقطن الشيخ العواجي في الصيف في بيضاء نثيل، وسألني أحد الرجال فيما إذا كنت نصرانية فأجبته أنني إنكليزية، والشيخ الذي يخيم هنا هو سليمان بن خلف العواجي، وهو ابن عم الشيخ الكبير مشعان، وقد أرسل الشيخ إلينا صبيا لمعرفة ما إذا كنا نريد أي شيء، وأثناء مسيرنا أشاد غادي بابن رشيد، وقال إنه بالنسبة إلى جماعته أفضل من عودة أبو تايه لجماعته الحويطات. كانوا يعرفون عن غارة عودة ولكن لم يقوموا بتحذير شمر، ومع ذلك أيضا أشاد بعودة أبو تايه قائلا: «كان مليح»، وعندما مرض مجند شقيق غادي في إحدى المرات أدخل مستشفى فيكتوريا في دمشق الشام، ويعرف مجند جيدا اللهجات.
عندما شاهدنا بيوت الشعر صباح اليوم أبدى عواد نفاد صبره وتلهفه للذهاب إلى البيوت والحصول على «العلوم» (الأخبار)، جلسنا أمام الخيمة نرسم الوسم على الرمال.
------------------
(الحلقة 8)
وتستعرض بيل في ما يلي يوميات الرحلة من 16 فبراير إلى 25 فبراير 1914.
الاثنين 16 فبراير 1914
أعاني نوبة شديدة من الاكتئاب اليوم، وكيف أضع هذا الشعور بكلمات معبرة، وماذا يترتب على ذلك إذا ما صغت عبارتي يا ترى؟ هل أكون أفضل حالا أم سيزداد اكتئابي أكثر من أي وقت مضى؟ تساورني الشكوك العميقة بشأن ما إذا كانت مغامرتي بعد كل تلك المشاق تستحق كل هذا العناء.
لن آبه بالمخاطر التي تكتنف مغامرتي فأنا لا أمانع ذلك؛ ولكنني بدأت أتساءل ما الفائدة المرجوة من هذه المغامرة برمتها. إن البوصلة تشير إلى بلاد معروفة إلى حد ما، هناك عدد قليل من الأسماء التي يمكن أن تضاف إلى الخريطة؛ أسماء الجبال الصخرية والسهول الجرداء واثنين من الآبار الصحراوية العميقة (الطوال) التي استقينا من إحداها اليوم، وربما تكون هذه جميع الإضافات.
ولا أعرف ما هو العرض الذي سيقدمه آل رشيد لي عندما أصل، حتى لو كان مستوحى من أفضل إرادة في العالم، فتساورني الشكوك فيما إذا كان بمقدورهم أن يفعلوا أكثر من أن يسمحوا لي بحرية المرور إلى بغداد، لقد تضاءلت سلطة آل رشيد ونفوذهم في الوقت الحاضر، ولم تعد قوية كما كانت فيما مضى. والطريق إلى بغداد كانت مطروقة مرات عديدة من قبل، ولا أرى إن كانت الرحلة إلى نجد ذات قيمة حقيقية، أو أنها إضافة حقيقية للمعرفة، إنها لم تضف الشيء الكثير المميز. لقد توصلت وبوضوح إلى حقيقة مفادها أن كل ما يمكنني القيام به أن أختار بين طريقتين أثناء مهمتي هذه في الجزيرة العربية.
الأولى طريقة حياة الصحراء Arabia Deserta (كما عاشها داوتي): وهي الانغماس في حياة ناس الصحراء هنا والعيش مثلهم لشهور وسنوات، وبهذه الطريقة يمكنني أن أتعلم شيئا ما هنا، إلا أنه من الواضح لا يمكنني أن آخذ بهذه الطريقة؛ لأن هناك أمورا محظورة علي لكوني امرأة، (لا كما فعل داوتي).
والطريقة الأخرى (كما عاشها ليتشمان Leachman)– أن تركب ظهر بعير أو تمتطي صهوة حصان وتتجول في البرية وبيدك بوصلة لترسم الخرائط فقط لا لشيء آخر غير ذلك، وهناك بعض الفائدة من ذلك أيضا وقد أكون قادرة على القيام به على مساحة محدودة بالزمن، ولكن لست متأكدة، على أي حال لا أقوم بذلك الآن.
والنتيجة النهائية هي أنني أكون أكثر نفعا عندما أعمل بوظيفة في بلدان متحضرة (مدنية) حيث أعرف ما الذي أبحث عنه وكيف أدونه، ولو كان هناك أي شيء يستحق التدوين فلن تجده أو تصل إليه، والواقع أن المشاهدات على الطريق قد يعوقها أن تقابل قبيلة معادية تقطع طريقك، أو أن يكون الطريق خاليا من الماء، أو أي شيء من هذا القبيل، إنها لا تستحق كل هذا العناء والذكر، وما علق في ذاكرتي وصادفته على طريقي خلال الأيام العشرة الأخيرة لا يستحق الذكر كما أشرت: تحدثنا عن بئرين مررنا بهما، وفي الحقيقة لا أستطيع التفكير بأي شيء آخر. لذا هل يا ترى أن ذلك سبب اكتئابي، أخشى عندما أصل إلى النهاية أن أنظر إلى الوراء هل أقول، إن «ما قمت به كان مستحقا»، أم أنني من المرجح عندما أنظر إلى الوراء سأقول: «ما قمت به كان مضيعة للوقت؟!» ومع ذلك فمن المؤكد أن ما قمت به لا يمكن التراجع عنه الآن، لقد سبق السيف العذل.
أعتقد أنني حمقاء عندما دخلت في معمعة هذا الضياع، عندما أقحمت نفسي بأمور أنا في غنى عنها، إذ لم يكن لي مطلق الحرية لممارسة أعمال هي من صميم اهتماماتي الخاصة، هذا أدى إلى تثبيط هممي؛ لأنها أتت بعد فوات الأوان، مثل معظم أفكارنا الحكيمة. هذه هي الأفكار التي تختلج مخيلتي هذه الليلة، ومع خشيتي من خطورتها إلا أنها تقترب من الحقيقة.
أتمنى أن يحدث أمر ما: شيء مثير، غارة، أو معركة مثلا! شيء ليس من اختصاصي، ما دور اختصاصي بالآثار غير مبال للمعارك؟ كأن دوره ما هو إلا لتزجية الوقت ومنافعه ضئيلة، لا أشعر على الإطلاق أنني مثل ابنة الملوك، والتي من المفترض أن تقوم بهذا الدور هنا، إنه دور النساء المضجر في الجزيرة العربية.
الخميس 19 فبراير 1914
بَطّل (تخلّى) لهيلم– الليلة الماضية-عن فكرة مرافقتنا خلال ترحالنا؛ ولكن تم إقناعه بأن ذلك يعد نقضاً لعهده وتخليا عن شرف كلمته فوافق على مرافقتنا، دفعت لعواد نصف مجيدي، ولغادي ريالا فرنسيا أبو شوشة لكونهما رافقانا أثناء عبورنا ديرة عنزة، لم يأت الشمامرة إلى مخيمنا لوداعنا، تركونا لحالنا وذهبوا إلى بيوتهم.
كان الجو غائما باردا مع رياح شمالية غربية عاتية، ولم تنقشع الغيوم إلا في فترة ما بعد الظهر، وقررت أن أسلك الطريق من خلال الجلد وإن كان هناك بعض الخطر من هتيم، ولكنني لا أستطيع مكابدة مشاق طريق النفود، ونهاية النفود تسمى السطيحة، ومع ذلك فإن محمد المعراوي ولهيلم يأخذان على الدوام اتجاها آخر فأضطر إلى تنبيههما لتعديل وجهتهما وتصحيح المسار مرة أخرى.
حاول لهيلم- من الساعة 10 فصاعدا- حثي على أن نحط رحالنا ونخيّم قائلا: إنه لا توجد مراع أمامنا، لا يوجد عرفج أو أي شيء آخر، وبينما كنت أسير مشيا على الأقدام للحصول على الدفء التقيت أحد الرعاة من شمر، وكان يلوح بيده اليمنى فاقتربت منه ولوحت له بيدي أقدم له التحية، وأمطرني بالأسئلة:
- إلى أين أنا ذاهبة؟
• قدّام.
- من هم الذين معي؟
• من شمر من السويد من السند.
- من أين ِأنا آتية؟
• من دمشق الشام يا ولد!
هذا وقد أخذت قياس الاتجاهات منذ الصباح وركزت على الرديفة، وشمال الضلعان في جبل المسمى التي مررنا بالقرب منها في الساعة 12.30 ومن هنا شاهدت نجد، يا له من منظر فظيع وموحش يوحي بالعدم، أنقاض من الحجر الرملي الأسود، وجروف جبل المسمى في الأفق الشرقي؛ نسير في البرية القفراء: ها هي الضلعان والغراميل منزرعة في أرض رملية عارية، والأرض المنبسطة تفصلها عن تلال الفردات المرتفعة في الجنوب، وخلفهما في الشمال سلسلة حبران المتقطعة... لا تزال الرياح تهب باردة شديدة، وعبر طريقنا لا تفارقنا المشاهد الرائعة للضلعان والغراميل.
الثلاثاء 24 فبراير 1914
في الساعة السادسة ركب محمد المعراوي وعلي راحلتيهما متجهين إلى حائل، وبعد 10 دقائق شرعنا بالرحيل، وهطلت أمطار غزيرة ليلة البارحة وكان صباحنا جميلا منعشا، وسرعان ما قادنا الطريق من خلال التلال إلى ضلعان غرانيتية من النهايد إلى طوال الصبروه وتل خلف والجاعد في الساعة 8.45.
أثناء عبورنا من خلال الضلعان اجتزنا مكانا قد حددت قياسه سابقا قد يكون أو لا يكون «مديرية» (أعتقد أن الاسم ليس دقيقا؟). توقفنا لملء القرب من الساعة 8.55 حتى 9.30 في غدير ماء خبراء كبيرة بين الصخور، شعور مفعم بالحيوية في هذه المنطقة الغرانيتية حيث اكتست الأرض بالشجيرات الخضراء والزهور الملونة الصغيرة. وانتشرت أشجار الطلح الكبيرة في كل مكان، وتفوح من السهل رائحة عطرة من البعيثران بأز هاره الصفراء.
مررنا بقصر ابن رشيد في الساعة 11.45 حيث اعتاد ابن رشيد أن يخرج لتفقد خيله هنا، ويقع القصر في بستان نخيل كبير، وفي الساعة 12.35 رأيت قرية لقيطة التي تبعد عنا نحو 3 كيلومترات، وفي الساعة 12.45 وصلنا عبر التلال إلى سميراء، وبيننا وبين حائل أرض منبسطة من الغرانيت والبازلت الحصوي، وفي الطرف الشمالي الشرقي يقبع جبل أجا الذي أصبح الآن إلى يميننا.
وأقمنا على مسافة 2 كيلو متر من حائل، حيث بمقدورنا أن نراها، لاتزال رحلتنا ممتعة للغاية، حدثني سعيد عن مجازفاته في عمليات التجارة منذ كان عمره 15 سنة والآن عمره 40 سنة، وكان يتقاسم مع من يشاركه التجارة، أيا كان، أرباح النصف مقابل «التعب» في الشراء، وإذا قبل في أرباح النصف فإنه أيضا يتحمل الخسارة الممكنة، وإذا كان يأخذ الثلث فقط فإنه لن يعاني أي خسارة.
إن تجارة الإبل والأغنام والسمن قد ارتفعت أسعارها على ما كانت عليه في نجد بسبب المنافسة القوية بين المشترين من العقيلات الذين يعملون فقط للتأجير، وإذا كانت السوق المصري جيدة يكسب التجار ما بين 200 جنيه إسترليني إلى 300 جنيه إسترليني من كل بيعة 1000.
والربح من رَعيّة (قطيع) الغنم والإبل هي ما بين 71 إلى 81 جنيها لكل 500 رعية أغنام، لكل رعية إبل تحتاج إلى اثنين من الرعاة من العرب، وهناك رعاة قطيع إبل من شمر كسبوا ما بين 20 و30 مجيديا من خلال سفرهم إلى دمشق الشام، لكن تجارة الأغنام يكتنفها الكثير من المتاعب والقلق فمخاطر تعرضها للفقدان أو الهلاك محتملة. في إحدى المرات بالقرب من الموصل خسر سعيد قطيعا كاملا من الأغنام، وقال: إنه على إثر هذه الحادثة «خارت قواه ولم يستطع السير»، ولكن بعد البحث لمدة يومين عثر على القطيع، وقال إنه لم يجلب في المرة الواحدة أكثر من 100 أو 150 من الإبل وذلك خشية إغراق السوق.
ولكن محمد البسام كان يجلب 150 رعية (قطيع) في وقت واحد، وكان المعراوي هو الأشهر والأكثر ثقة في هذه التجارة، وفي إحدى المرات اشترى 500 رأس غنم وباعها في سوق دمشق الشام لرجل لم يرها - مجرد ثقة به– قال له: «أعطني يدك فقط» وتمت الصفقة... بعد الاتفاق على السعر.
سئل مرة أحد الرولة: «عندما يأتي إلى قبرك الملكان ويسألانك عن أعمالك بماذا تجيب؟» قال: «سأقول أنا رْويلي ميّتْ، القَوْل والحَكِي عند ابن الشعلان، هو شيخنا، اذهبا واسألاه».
الأربعاء 25 فبراير 1914
شرعنا بالرحيل نحو الساعة 6.30 متجهين نحو حائل، وكان رجالي متلهفين للوصول إلى هناك، وبعد ثلاثة أرباع الساعة شاهدنا ثلاثة رجال قادمين كان أحدهم رفيقنا علي يمتطي بعيرا جاء مسرعا، وقال لنا: «كل شي على كيفنا» وأضاف قابلنا إبراهيم السبهان وكان كريما وأبدى ترحيبه بكِ.
وكان برفقة علي فارسان يمتطيان صهوتي حصانيهما، تقدما نحونا، أحدهما كان ممسكا برمحه، إنهما من عَبِيد ابن رشيد، واستقبلانا بكثير من الود ورحبا بي بشكل خاص، وفي وقت لاحق انضم إليهما فارس آخر هو حسن الضايفي، وأثناء مسيرنا أشاهد تلال السمراء النائية، وحين صعدنا احدى التلال رأينا حائل أمامنا، يحيط بها سور منخفض من الطين، ويبدو أنه شيد في الآونة الأخيرة، مع مجموعة أبراج مصقولة، أبراج شاهقة الارتفاع تظهر من بين بيوت البلدة.
أشجار النخيل الخضراء تعانق السور، وتمتد أرض منبسطة يغطيها حصى الغرانيت الأحمر، وفي جنوب المدينة أرض فضاء، التففنا حول السور ودلفنا إلى بوابة قفار أو المدينة، ويمتد أمام البوابة شارع واسع خال، وعلى الفور إلى اليسار وجدت محمد المعراوي واقفا ينتظرنا أمام باب المنزل. ترجلت من راحلتي وسرت في ممر طويل منحدر يؤدي إلى ساحة ثم إلى قاعة كبيرة مسقوفة، سقفها من سعف النخيل يقوم على جذوع نخيل بيضاء، والجدران مطلية باللون الأبيض وزُيّنت بأقوال وحكم كتبت بخطوط حمراء وزرقاء وفرشت الأرضية بالسجاد والوسائد، ورسمت الزخرفة التشجيرية على الجدران، وهناك نوافذ صغيرة جدا، في صفين الواحد فوق الآخر.
هنا جلست على الوسائد في الزاوية، هذا هو القصر الخارجي لمحمد بن رشيد، حيث اعتاد أن يأتي إليه لمشاهدة قوافل الحجاج التي تتجمع في الساحة المقابلة له، وقد استقبل هذا القصر شخصيات هامة زائرة، عندما ذهب الرجال لمعرفة المكان الذي سينصبون فيه خيامنا، صعدت فوق سلم خشبي إلى سطح القصر لمشاهدة مناظر حائل.
ناداني الصبي عطا الله (الرقيق-العبد) للنزول وجاءتني امرأة عجوز في الروشن (1) (صالة/ مجلس الضيوف)، مرتدية رداء قطنيا أحمر وفوقه عباءة سوداء وضعتها على رأسها، وتبعتها امرأة أخرى، ترتدي رداء قطنيا خفيفا لونه أحمر وأرجواني وفوقه الجلباب وتضع وشاحا مصريا ذهبيا مطرزا على رأسها، وسلاسل من اللؤلؤ الخالص مع حبات من الزمرد والياقوت يطوق رقبتها، وقلائد طويلة تمتد من الرقبة إلى الصدر، وسوار حول معصمي يديها وخواتم في أصابعها من الذهب الخالص الثقيل مرصع بها الألماس.
إنها تركية الشركسية، ربما نسبة لأصلها التركي، عاشت في إسطنبول في طفولتها، وتم إرسالها إلى الشريف وعاشت في مكة المكرمة لمدة سنتين، ولا تعرف لماذا تم إرسالها، ربما لتعلم اللغة العربية، وهكذا جاءت إلى هنا الى عبدالعزيز بن رشيد، وبعد مجيئها نسيت اللغة التركية.
وقالت لي تركية: إن إبراهيم أرسلها لترحب بي في حال لم أكن أعرف اللغة العربية، وقامت بتعريفي بأجزاء البيت، وكانت تجلس النساء في الصالة وفيها مكانان لعمل القهوة: داخلي وخارجي، وكانت الصالة تستخدم سابقا لاستقبال كبار الشيوخ العرب. وهناك جناح آخر ذو غرف صغيرة تستخدم لإقامة نساء محمد بن رشيد عندما يأتي إلى هنا، كل زوجة في غرفة خاصة بها، وبعدها ساحة مفتوحة أخرى صغيرة، وحوش يزرع فيه الليمون، والسفرجل، وتوجد أشجار التفاح، وللروشن الكبير شرفات، في إحداها يوجد تلسكوب، وفي الأخرى مصحف كبير قديم.
الممر مغطى من جانب ومفتوح من الجانب الآخر، والسقف من سعف النخيل محمول على أعمدة من جذوع النخيل، أخذت تركية تحدثني عن إسطنبول كثيراً وعن وسائل النقل مثل الترمفاي والعربات وعن المواد الغذائية، ثم قالت ومع ذلك هنا الحمد لله اللحوم والتمور جيدة ورخيصة! ما ينقص إسطنبول إلا تمور حائل! والسمن رخيص هنا، ترعرعت تركية بين العرب لذا تسلك سلوكهم، ترتدي ملابس مثلهم، وتمشي عارية القدمين مثلهم، وتسرح شعرها الطويل مثلهم حيث تترك فرقا في منتصفه، وقالت إنها تأكل لقيمات الأرز واللحم بكفها وبين أصابعها (أي لا تستخدم الملعقة والشوكة)، وتشرب اللبن! وترى تركية أن هذا وطنها وبيتها تود أن تموت هنا ولا تود أن تبارحه قيد أنملة، لا ترغب في العودة إلى إسطنبول على الإطلاق.
وفي وقت لاحق طلبت مني أن آخذها معي إلى إسطنبول وإنها ستقوم بتدبير أمورها هناك، أرسل السلطان العثماني عبدالحميد أربع شركسيات إلى محمد بن رشيد، اثنتان عادتا بعد وفاته، وواحدة إلى جانب تركية لاتزال تعيش هنا ومتزوجة شخصا يعيش في السماوة.
وحالما خلت الساحة من رجال حائل، جاء سالم وطلب مني ومن تركية ولولوة أن ننزل إلى أسفل لرؤية خيامي، وتبعنا كثير من الفتيات العبدات الجميلات، وعرضت تركية لهن كل الأغراض، الطاولة والكراسي وأواني الطبخ، وشرحت استخداماتها، مشيرة إلى كل إناء بإصبعها وطريقة استخدامه بدقة. لديها لسان معسول وإن كانت غير صادقة في بعض الأحايين. قالت:
«جئت هنا على طول الطريق من إسطنبول لإيجاد رجل»، وأضافت: «وأنتِ لا شيء لديك». وتقوم لولوة بوظيفة وكيلة للبيت بتصريف الأعمال- وهي وزوجها مقيمان هنا منذ زمن محمد بن رشيد، وقتل زوجها مع عبدالعزيز بن رشيد. وتقوم على خدمتها امرأة عبدة وابنها الصبي «عطا الله»، ويحرس الباب عبد اسمه «سعيد» اقتيد ككسب من قبيلة عتيبة، حيث جرت العادة عندما تقوم معارك قبلية يؤخذ العبيد كغنائم حرب مثل الأفراس والإبل، ويقوم العبيد ضعاف البنية في مهمة جمع الحطب وسحب الماء من البئر، أما الأقوياء فيسلحون ويقومون بمهام قتالية، وهناك أيضا فئة الخصيان الذين يجلبونهم من إسطنبول أو مكة المكرمة- الطواشي، وهناك أيضا مواطن من حائل، اسمه صالح، يعمل كرقيب على القصر، بعد تناول وجبة الغداء طلبتني تركية فذهبت وجلست معها، والحريم لا تذهب خارج القصر على الإطلاق.
قالت تركية: كنت هنا عندما قتل عبدالعزيز وتحدثت عن النحيب والعويل الذي أعقب ذلك، جاءتنا العبدة وجلست معنا. وقالت «أنا لم أصلِّ الظهر»، وقالت لها تركية: «يجب أن تذهبي وتصلي، يجب أن تذهبي وتصلي»، لقد انقضت أكثر من ساعة بعد الظهر، وبعد ذلك أعلن إبراهيم انه غير مسموح لي بالذهاب إليه بسبب التذمر من قبل علماء الدين. ذهبت إلى الروشن وجلست، وجاء عبد طويل القامة يسير أمام إبراهيم ووقف في الباب، ثم دخل إبراهيم وهو يرتدي على رأسه الكوفية (الشماغ) الأرجواني والأحمر وفوقه عقال مذهّب، ويلتف حول جسمه عباءة مطرزة بالذهب ويمتشق سيفا مطليا بالفضة. وتفوح منه رائحة عطر الورود الزكية، وجهه طويل ورقيق مع لحية ملكية ضئيلة؛ وأسنان تغيّر لونها، وعيناه سوداوان مكحولتان.
وتحدثنا عن الرحالة الذين زاروا حائل مثل: الليدي آن بلونت (2)، ويوليوس أوتينغ (3)، وتشارلز داوتي، ثم تناول حديثنا شؤون منطقة بريدة التي تخضع الآن لحكم ابن سعود؛ أما عنيزة فهي تحت حكم أميرها المستقل ولا تدفع الزكاة لابن رشيد، وقبيلة عتيبة قسم منها مع ابن رشيد، وقسم آخر مع ابن سعود، ولكن بعض أفرادها «قوماني» لكلا الطرفين على حد سواء.
جاءتني تركية ولولوة حينما كنت أحتسي أكوابا من الشاي، وتجاذبت معهما أطراف الحديث، وتركية تحب الثرثرة كثيرا، وتصف الأمير بـ«السلطان الله يسعدو». أرسل لنا كل من: علي وسعود، أبناء حمود وصالح بن سبهان، أربعة خراف نجدية سوداء وكيسا من الأرز، وعند الغسق عادت تركية برفقة عبدتها إلى القصر، وكانت الفتاة العبدة تجيب تركية على الدوام عند أي طلب منها بـِ»لبيكي». قالت تركية إنها لم تمشِ منذ سنوات وإنها تشعر بألم في ساقيها، وقالت إنها عندما تمشي وقت الغسق يحد من حركتها السياج الطويل والأسوار الطينية الواحد بعد الآخر وهناك أيضا آبار في الطريق يخشى الفرد أن يسقط فيها وإن كان بعضها «مدفونا».
الهوامش
(1) جاء ذكر الروشن في شعر عبدالعزيز بن إبراهيم الحامد:
ياملّ قلبٍ من الهوى متعوب = لاهوب طربٍ ولا سالي
غاية هواه جادل الرعبوب =في وسط بيتٍ نايفٍ عالي
في روشنٍ مالسّه اللاهوب = وِمْنَادمٍ دلّه وفنجالي
ياليت خلّي ينجلب بالسوق =أشريه أنا في الحال بالمالي
(المترجم)
(2) الليدي آن بلنت (Lady Anne Blunt (1837 -1917 رحالة إنكليزية مهتمة بالخيول العربية الأصيلة، وقد أنشأت إسطبلاً في إنكلترا للخيول العربية، قامت عام 1878 برحلة - برفقة زوجها- إلى بادية الشام والعراق، واشترت خيولاً من القبائل البدوية هناك وتم إرسالها إلى إنكلترا، وألفت كتاباً عن هذه الرحلة بعنوان «قبائل الفرات البدوية Bedouin Tribes of the Euphrates» وقام الزوجان برحلة أخرى إلى حائل بنفس العام، ووثقت تلك الرحلة بكتاب عنوانه «رحلة إلى نجدA Pilgrimage to Nejd». (المترجم)
(3) يوليوس أويتنغ (Julius Euting (1839 – 1913 مستشرق ومستكشف ألماني، كان مديراً في مكتبة جامعة ستراسبورغ، لعدة سنوات، ثم في مركز الأبحاث الشرقية. قام برحلة برفقة المستكشف شارل هوبر إلى الجزيرة العربية حيث اكتشف آلاف النقوش الآرامية والنبطية والسبئية وزار منطقة حائل عام 1883م. (المترجم)
-----------
(الحلقة 9)
وتستعرض بيل في ما يلي يوميات الرحلة من 26 فبراير إلى 2 مارس 1914 من العام نفسه.
الخميس 26 فبراير 1914
بعنا 6 من الإبل بمبلغ 36 جنيها، بخسارة قدرها 15 جنيها إسترلينيا مقارنة بتكلفتها، ونفق لنا بعير كلفنا 8.5 جنيهات، ومن هنا فإن خسارتنا الإجمالية بحدود 23.5 جنيها، وبقية رواحلنا الـ13 بعيرا أرسلناها إلى النفود للمرعى، ورعاتها عودة وسيف واثنان من الرجال، وطلبت منهم إبقاءها حتى تشفى من الجرب.
قمت بكتابة رسائلي وأنا في الروشن حين زارتني لولوة والعبدة الصغيرة، جلستا بقربي وأخذتا تتحدثان، وقبل الظهر جاء الأمير الصبي عبدالله بن طلال الرشيد مع العبد، إنه فتى وسيم، عيناه سوداوان مكحولتان، ويضع على رأسه عقالا مطرزا بالذهب، ونظرته حزينة. وفي فترة بعد الظهر جاء شقيقه الأصغر محمد، أيضا نظرته حزينة وخجولة، متأبطا يد صبي صغير آخر من بيت الجبر (الذين قتل محمد كثيرا منهم بدعوى تآمرهم على حياته) أخذتهم إلى خيمتي وعرضت لهم كل شيء في الخيمة. جلسوا وأكلوا بسكويتا وتفاحا حتى حضر صالح، وجلسنا مرة أخرى في خيمة الرجال. سألت محمدا إذا كان يجيد القراءة والكتابة، فأجابني: نعم، أذهب إلى المدرسة.
وكان عبدالله قد أنهى تعليمه. وأضاف «إنه يعرف كيفية القراءة والكتابة، يعرف كل شي» ويعرف تسلق النخل، وكان لديهما عبدان صغيران يرافقانهما، وقال صالح: رفع الآن آذان العصر «ألا تنهض لتأدية الصلاة يا محمد؟» ونهضوا من المجلس ومشوا جنبا إلى جنب بطريقة رسمية حتى ابتعدوا عنا، وبدوا مثل رجال قصار القامة وهم في ثيابهم الطويلة، ولمحمد ضفائر طويلة جدا تتدلى على جانبي رأسه.
هذان الفتيان من أبناء طلال وسعود وابناه الاثنان (لديه أربع زوجات على الرغم من أن عمره نحو 20 عاما) والابن الصغير لمتعب بن عبدالعزيز: هو كل ما تبقى من أحفاد عبدالله بن رشيد.
بعد تناول الشاي ذهبت مع سالم وسعيد العبد خارج المدينة وجلست على صخرة أمعن النظر في الكتابة على الجدران الحديثة، إنها خطوط: عبدالله بن صالح وما إلى ذلك...، داخل السور تشع حقول الذرة الخضراء كالمجوهرات، ويسمى القسم الأوسط لبُّة بوابتها إلى جنوب الشرقي (بوابة لبة)، وهناك خمس بوابات للسور بأكمله.
هناك بعض المساحات الفارغة داخل الأسوار لكن أغلبها حدائق. إلى الجنوب هناك حدائق أو بساتين كبيرة منفصلة ذات أسوار وأبراج، وتشمل هذه البساتين اللوز الوردي المزهر، أو الخوخ، وفي الوسط يظهر برج برزان الطويل الشاهق.
خرج سعود بمهمة غزو منذ شهرين، في بداية هطول الأمطار المبكرة الجيدة؛ إنها غزوة المطر، وقال إنه ربما يعود في غضون شهر، وكان قوام فرقته الغازية 800 رجل، ولم يضم القرويين لقواته لكنه تقاضى تعويضا ماديا مقابل إعفائهم من الخدمة. عندما يخرج ابن رشيد في مثل هذه الحملات يأخذ معه رعية أو اثنتين إضافيتين من الإبل وكذلك بعض الأفراس للاستعمال الاحتياطي.
وكان يمنح المؤن والأسلحة لكل رجل وفقا لعدد الرجال الذين دعاهم للانضمام إلى قواته، ووافقوا على المشاركة، يقوم الآن بغزو الرولة، وفي العام الماضي غزا بني صخر، ولا يقوم بالغزو في فصل الصيف إلا لأماكن قريبة للغاية تكون في متناول اليد، وقد قام صالح بتحديد مصلى بجوار الخيام للرجال وشكل المحراب بصف عدد قليل من الحجارة في المقدمة للإمام وحدد صفين بخط على الأرض لاصطفاف المصلين.
أرسل إبراهيم عبده للاستفسار عن صحتي، وفي الليل جلست في خيمة الرجال، وأخذ محمد المعراوي هدايا لتقديمها إلى إبراهيم وهي: كوفية (شماغ)، وعباءة (بشت) من الحرير وعلبتان من الحلويات. وأيضا قدمت كوفيتين وحلويات إلى من أرسل لنا الخراف والأرز، وتحدث صالح عن مآسي الرشيد، وعندما عاد سعود من المدينة المنورة وجد جميع أطفال عائلة الرشيد فرع العُبَيد قد نُفّذ فيهم حكم الإعدام، وكان حمود قد أقنع – على ما أظن- ماجدا ابن أخيه بالعدول عن ذلك قائلا إنه ينبغي ألا يلوث يديه بالدم، فأجابه أنه ينبغي ألا يكون هناك دم وقام بقتلهم خنقا، قال صالح: كان «فارس وغزّاي». قتل متعب على يد سلطان بالقرب من قفار؛ وجلبت جثته ودفن في بئر في برزان. نجل عبدالعزيز الصغير، محمد، قتل بيديه، وقد توسلهم للرحمة به، وأنقذ حمود حياة سعود، وموضي هي أخت حمود وزوجة محمد، وعندما توفي تزوجها عبدالعزيز، وكان السبهان وزيرا لمحمد.
الجمعة 27 فبراير 1914
كتبت في مذكراتي: استيقظت هذا الصباح وأخذت قياس خط العرض، وأمضيتُ وقتا قليلا في الحديث مع لولوة العجوز وقمت بالتقاط صور فوتوغرافية للمنزل، وفي المساء بعد أن حل الظلام أرسل إليّ إبراهيم فرسا واثنين من العبيد هما: حسن وعيد. امتطيت صهوة الفرس وسرت في شوارع مظلمة، نظيفة جدا وخالية تقريبا، في بعض الأحايين أرى نساء يلبس أردية سوداء تتحرك على طول السور.
كان أحد مرافقي يحمل بيده فانوسا، مررنا عبر بوابة خشبية كبيرة تؤدي إلى السوق، وكانت أبواب المحال التجارية مغلقة أمامنا، وهناك مسجد في السوق تؤدي بوابته إلى القصر.
من المسجد إلى البوابة الخشبية للقصر، هناك المقاعد أو الكراسي مصنوعة من الطين وموضوعة على جانب السور الخارجي للقصر. مررت عبر طريق ضيق بين سورين يؤدي إلى بوابة ثانية والتي قام بفتحها لنا عبد آخر.
ترجّلتُ من فرسي وذهبتُ من خلال صالة انتظار كبيرة يفصلها عن الروشن جدار طيني وهناك متاريس في أعلى السور. إن الروشن صالة فسيحة جدا وأنيقة، ويدعم سقفها أعمدة حجرية كبيرة مغطاة بالجص تنتهي بتيجان مربعة. والأرضية من جص خاص تقريبا مثل الرخام، مغطاة بسجاد، ووسائد على مدار الحائط. جلس إبراهيم أمام موقد النار، فنهض الجميع وجلست بجانبه، وتطرق حديثه حول المسارات الآمنة في التاريخ، وتناول من تحت الوسائد الدفتر الذي دوّنت به الأحداث الرئيسة بتواريخها عاما بعد عام حول تاريخ الرشيد، وقد بدأ تشييد القصر من قبل ابن علي وكانت بداية «الشيخة» المتنازع عليها بين الرشيد وتم الانتهاء من بناء السور الخارجي في عهد عبدالله والد محمد. ومن ثم بنيت الأقسام الداخلية شيئا فشيئا، وشمر ليسوا من جد واحد؛ ولكن الجعفَر الذين ينتمي إليهم الرشيد ينتسبون إلى قحطان بالقرب من اليمن، واستولوا هم على ديرة نجد «كَسْب».
ونتيجة لاهتماماتي بالآثار تحدث إبراهيم عن مسلّة قديمة حولها مجموعة من التلال تبعد نحو 4 ساعات من البلدة، وكذلك تطرق إلى وجود حجارة صغيرة مستديرة «منقّشة» (مطرّزة) تبعد نحو 4 أيام من هنا على «درب زبيدة» وصفت بأنها سليمة وعليها كتابة مسمارية.
في غضون ذلك، جلب لنا صبيان عبدان أكوابا من الشاي يعصر عليها الليمون، ثم ناولانا فناجين من القهوة الممتازة، قال إبراهيم إن بندر لم يعقب أولادا بل لديه سبع بنات، ولنايف ابن واحد فقط.
السبت 28 فبراير 1914
جاءت تركية مرة أخرى، جلست معها في الصباح، وروت لي كل تاريخها: فهي ابنة لجندي شركسي وقد تم طلاق والدتها فعادت هي وأمها إلى بلادها الأصلية، ولكن جدتها- قالت لي تركية: «الله يدخل جدتي نار جهنم»- كانت تكره أمها، مما دعاها للخروج من بيتها وعاشتا (الأم وابنتها) حياة بائسة. ضلت تركية الطريق في إحدى المرات وهي تحمل أخاها الصغير على كتفها والتقطها بعض الناس ولا تعرف مَنْ هُم وقاموا بنقلها إلى «بورصة» وبيعها هناك. وقالت إنها لم ترَ شقيقها مرة أخرى، كان اسمه مصطفى وعلامته أن أحد أصابع قدمه اليمنى ملتوٍ على الآخر– وقامت بلي أصابع قدمها الجميلة لتبين لي حالة قدم شقيقها- وكانت على الدوام تبحث عن واحد يدعى مصطفى أصابع قدمه من هذا القبيل.
وقالت إنه تم بيعها إلى ناس من أهل إسطنبول واستغرقت رحلتها 6 أيام للوصول إلى هناك، وإنها وضعت على ظهر بغل ووصلت هناك ليلا، واقتيدت إلى بيت امرأة عجوز، وبقيت هناك حتى قاربت سن الزواج وتم بيعها مرة أخرى، فاقتيدت إلى سفينة وقيل لها إنها ذاهبة لمجرد أن تشاهد منظر البحر، ومن ثم تركت هناك لأنها بيعت لرجال من العرب والذين لا تفهم كلامهم، نامت على سطح السفينة – «شفت العذاب يا غالية»- لا تعرف أحدا، واحتجزت هي ومن معها مدة 25 يوما بمحطة الحجر الصحي (الكرنتينا)، وألقوا بجثث الناس الذين لقوا حتفهم على متن السفينة في البحر، وعندما وصلوا إلى جدة اقتيدت ليلا إلى أحد المنازل، ومن ثم أرسلت إلى المدينة المنورة، ومكثت هناك مدة سنتين في بيت الشريف كخادمة لإحدى بناته- كانت والدة البنت شركسية، وجميع الخادمات العاملات في البيت شركسيات باعتبارهن أكثر جدارة بالثقة، لم تخرج من البيت إطلاقا ولم تَزُر بيت الرسول صلى الله عليه وسلم (المسجد النبوي) في المدينة المنورة، ولكنهم يصطافون بالطائف، ثم انتقلت من بيت الشريف إلى بيت عجوز اسمها هدية، امرأة مرموقة وغنية جدا تسكن مكة المكرمة.
وأعربت لها «هدية» عن رغبتها في أن تزوجها لابن لها بالتبني، وهو صبي فارسي يعيش معها، وسوف تحملها بالمجوهرات، وكانت دائما تتناول الطعام مع هدية، ووقعت في شباك حب الصبي الفارسي من النظرة الأولى- قالت تركية و«كيّفتْ» (فَرَحْتُ) بزوج المستقبل، ثم سافروا جميعا إلى نجد، وعندما وصلوا هناك أقاموا في بيت بطرف البلدة. في هذه الأثناء جاء وكيل الأمير لرؤية هدية، لا يعرف الصبي الفارسي فيما إذا كان هناك ترتيب مسبق بينهما، ولكن تركية عندما رأت الرجل بدأت تساورها الشكوك في أن هناك أمرا ما، وسرعان ما انتُزعتْ من البيت واقتيدت بعيداً، وكانت تصرخ وتنوح على طول الطريق إلى أن وصلت إلى السوق «أوه واه واه هؤلاء العرب! هؤلاء العرب بضفائر «قرون» شعورهم المتدلية وأقدامهم الحافية، واه واه»، وركض الولد الفارسي خلف تركية وهو ينتحب، وعندما وصل إلى القصر رفضوا السماح له بالدخول، وخلال الأيام القليلة الأولى رفضتْ تناول الطعام، وقالت إنها ستمكث أسبوعا.
ثم قيل لها إن الأمير يرغب فيها لتبقى بالقصر «محشومة» وبإمكانها أن تخرج إلى الحدائق وتأكل أفضل الوجبات، وأخيرا جاء الأمير محمد بن رشيد وقال لها إنها ستكون بمثابة ابنته وسيعتني بها، وأحبته كثيرا وقالت إنه رجل لا مثيل له، ولا أحد يقترب منها، وقالت: في عهده عمّت الراحة والاطمئنان الجميع، أما الآن ما إن يخرج الأمير في مهمة غزو حتى يخشى الجميع من هجوم متوقع. كل امرأة من العامة لديها جارية، ولكن الشيخات لديهن جوار يتراوح عددهن ما بين 10 و15 ولديهن كميات كثيرة من المجوهرات، ومن ضمن مجوهرات تركية القلادة التي ارتدتها عندما قابلتني أول مرة.
فاطمة هي حاكمتهن جميعا، فهي ذكية جدا وتجيد القراءة والكتابة، أما موضي فهي «غشيمة تحت أمها». ولا تقوم الشيخات بعمل أي شيء على الإطلاق طوال اليوم، أصبحت تركية وهابية، إنها تجيد القراءة والكتابة، وتؤدي الصلوات الخمس بخشوع، وفي رمضان تبدأ صلاة التراويح في رمضان من الساعة 5 حتى الساعة 10 في الصيف، وفي فصل الشتاء حتى الساعة 11، وخلال شهر الصيام قد تشعر بأوجاع في الرأس والجسم والساقين، وأداء الصلاة واجب على كل مسلم ومسلمة. وخلال الصوم تمتنع أو تمسك عن الأكل والشرب قبيل أذان الفجر إلى أذان المغرب. في فترة ما بعد الظهر قمت بالتقاط صور لتركية وللروشن، وحدثتها عن الحياة الأوروبية التي كررتها بفارغ الصبر للولوة، وسألتني ما الفرق بين المسيحيين والمسلمين، قلت: في النصف الثاني من الجهر بالإيمان the second half of the confession of faith. طلبن مني وبإلحاح أن أنطق به وقلت النصف الأول، لن أقول الثاني؟ قلت لهن يمكن أن تقول أي شيء بلسانك ولكن قد لا يخرج من قلبك، وأثناء خروجي للنزهة قيل لي إن بعض نساء السبهان قادمات لرؤيتي، فانتظرتهن لكنهن لم يجئن. تم إرسالهن إلي ليخبرنني بأن سليمان قد قال «غربت الشمس». أرسل إبراهيم عبدا لرؤيتي في المساء مع بعض الهدايا، قالت تركية إن الناس هنا يعتقدون أن النساء مثل الكلاب وهكذا يعاملوهن. ليسوا مثل الإنكليز أو الأتراك، وفي اليوم الذي سقط فيه عبدالعزيز كان غازيا ابن سعود بالقرب من ديرته، وعندما خيم بقواته حذره رجاله وأشاروا عليه أن يشدد الحراسة على مخيمه وألّا ينام أو يشعل النيران وكان يرفض الاستماع لنصائحهم قائلا إن ابن سعود لا يجرؤ على مهاجمته.
وفي منتصف الليلة باغتهم العدو، حتى وهم يرون ابن سعود لم يتجرأ أحد على إيقاظ الأمير، وفي نهاية المطاف ذهب أحد رجاله محاولا إيقاظه بلمس قدمه، وقال: إنه استيقظ ومازال يرفض تصديق ذلك، وعندما داهمهم العدو نهض مسرعا متجها نحو حصانه، وعلى عجل امتطى صهوة الحصان معتقدا أن من حوله جماعته ولكنهم كانوا جماعة ابن سعود، وعرفه العدو حين سمع صوته فقتل.
الأحد 1 مارس 1914
أرسل إبراهيم لي فرسا اليوم، وفي الوقت نفسه أعاد الهدايا التي قد أهديتها له ولزامل، وبعث الخازندار متسائلا عما إذا كانت مني أو من محمد المعراوي، وبعد لحظات قليلة ظهرت امرأة ومعها سلة، ركبت الفرس وذهبت إلى حديقته التي كانت مليئة بالخوخ المثمر واللوز والتفاح، ومن ثم قمت بجولة على أسوار المدينة.
ساحتا لبدة وسماح هما فقط المسورتان، عندما جئت لمناقشة الوضع مع المعراوي على مائدة طعام الغداء جلست فترة مع لولوة، ووجه علي دعوة لكل الرجال لتناول العشاء بعد موافقة خاصة من إبراهيم!
عادوا نحو الساعة 5.30، كان الجو حارا جدا وخانقا، فشعرت بصداع وقت العشاء فذهبت إلى الفراش في وقت مبكر، ولكن ليس للنوم، أرسلت تركية مع العبدة بعضا من النارنج والليمون، في فترة ما بعد الظهر قرأت كل «سفر أعمال الرسل Acts» وشعرت وكأنني في بيتي بمواجهة متكافئة بين الرومان وبولص (1) وغمرني إحساس بالراحة معه أيضا.
الاثنين 2 مارس 1914
طقس اليوم رياح مثيرة للغبار وزخات مطر خفيفة، ناقشت الخطط مع رجالي ثم ذهبت إلى الروشن وكتبت خريطة طريقي، جاءتني الجواري فرادى وأزواجا وأخذن يثرثرن بهدوء، وأخيرا طلبت منهن المغادرة، ذهبن مرددات «يا بَعَد حيّي»! تحوم طيور الغربان فوق سماح وكذلك طيور الرخمة الكبيرة التي لها صوت (نقيق) كصوت طائر الحدأة. وفي الليل سمعت نعيق بومة صغيرة تنعق بهدوء، أيقظني صياح ديك بالقرب من خيمتنا صباح أمس– واشترينا ديكا صغيرا وطهوناه، وتناولته وكان لحمه قاسيا جدا وكبده كانت أفضل جزء منه– وأصبحت في جو عائلي حميم في هذا المكان الموحش.
قبل شروق الشمس (صلاة الفجر) وفي الليل (صلاتا المغرب والعشاء) أسمع صالح يرتل القرآن أثناء أداء الصلوات- بصوت ناعم رخيم وجميل جدا، وتساءل سالم عن طريقة الخشوع في الصلاة وقال إن كثيرا من الرجال في دمشق الشام قد يقطعون صلاتهم للرد على سؤال ما، ثم يمضون قدما في تكملتها قائلين: «بسم الله الرحمن...» يجب التأكيد على أنه إذا قمت بالكثير من الإيماءات والحركات التي في غير محلها أثناء تأدية الصلاة أصبحت صلاتك باطلة برمتها.
جاءني أبو قاسم (محمد المعراوي) بعد أن قابل إبراهيم وتحدث إلى فاطمة (وهي منقبة)، كلاهما أبدى عدم علمه بمصير الحوالة المالية التي من المفترض أن يتم صرفها لي.
هنا، ومن الواضح أنهما لن يصرفاها لي، وأنا الآن لا أملك سوى 40 جنيها، وهو قد يكفي لمصاريف الرحلة إذا سمح لنا إبراهيم بالذهاب، وسأقابل إبراهيم هذه الليلة، إنه يوم مشوب بالحذر والقلق «خير إن شاء الله! ما يصير إلا خير».
يرى سالم أن عادات الزواج لدينا قاسية وصعبة لأنها لا تسمح بالزواج من أكثر من واحدة، ويتساءل إذا كانت المرأة لا تنجب أطفالا فكيف لا يسمح للرجل بألا يتزوج من زوجة أخرى، لكنه ينظر إلى نجد بأنها تعيش في عزلة وهمجية ويعتقد أن الموت أفضل من العيش بها، وعلق فتوح حول مسألة الزواج موجها كلامه إلى سالم: «أنت تنظر للمسألة من جانب الرجل فقط، الطلاق أمر صعب على المرأة». وقال سالم: «إيه والله».
يبدو أن فاطمة هي الشخصية القوية والقوة الدافعة وراء العرش هنا، لكنني لا أتوقع أن تسنح لي الفرصة لمقابلتها، في الساعة 5.30 جاء علي بأخبار مهمة تساعدني، حيث أخبرني بوصول أعمامه إلى حائل قادمين من عنيزة، وأن الرشيد في حاجة ماسة إلى مساعدتهم، لأن ابن سعود قد تحدث عن نيته للقيام بحملة غزو- ولم يذكر متى وأين- ويطلب مساعدة كل من أهل بريدة وأهل عنيزة.
وعهدت أسلحة إسطنبول إلى أعمام علي الذين سيقودون حملة للانقضاض على عنيزة والفرصة سانحة أمامهم لقتل أميرها عبدالعزيز آل سليم، وأبدى أعمام علي استياءهم وسخطهم من الطريقة التي عوملت بها هنا وسبق أن تحدثوا إلى إبراهيم بهذا الصدد.
كل شيء- حسب قولهم- بيد «الكلبة» فاطمة، وأشار علي إلى أن واحدا من أعمامه أو أكثر سيأتون هذه الليلة إلى قصر برزان، وهذا يتزامن مع موعد مقابلتي لإبراهيم، فاقتنصتها فرصة ثمينة، عَمّا علي هما صالح اليحيى وحمد من عنيزة، لم أرهما ولم يتجرآ على زيارتي لكنهما أعربا عن احتجاجهما ضد المعاملة التي تعرضت لها.
إلا أن إبراهيم متحضر جدا، ذهبنا عبر المسحب– يجلس الرجال تحت رواق المسجد صباحا وفي ظل السور عصرا- وبعد أن مررنا من خلال الباب الداخلي ذهبنا إلى الطابق العلوي إلى روشن صغير قائم على عمودين لهما تيجان مربعة. جلسنا هنا وجاءنا إبراهيم، تحدثنا أولا عن شائعات حول الأمير بأنه يخيم شرق الجوف، ثم ثانيا ناقشت مسألة الهدايا - التي جلبناها معنا مرة أخرى– وعن الحوالة المالية، وفيما يتعلق بتساؤلاتي قال إنه ليس لديه أي معلومات، وعندما قلت له إنني أنوي مغادرة حائل، قال: إن الرفيق جاهز. ثم تطرقنا في حديثنا إلى مسائل أخرى، وقال: إن شمر هنا منذ مدة تزيد على 200 سنة وتقل عن 500 سنة، ولم يعثر على آبار قديمة محيطة بحائل، قبل نشأة شمر هنا لم يكن هناك أي نوع لحكومة.
أعطيت إكرامية (بخشيش) للبوابين الذين على البوابة الخارجية وبوابة السوق، وجدير بالذكر أنه يتم جلب حجر البناء من سمراء.
الهوامش
(1) بولص الطرسوسي أو القديس بولص، يعرف عند المسيحيين برسول الأمم حيث يعتبرونه من أبرز من بشر بهذه الديانة في آسيا الصغرى وأوروبا، وكان له كثير من المريدين والخصوم على حد سواء. مكث بولص فترة من الزمن في شمال الجزيرة العربية (ربما بادية الشام) ثم عاد إلى دمشق، وهناك تآمر عليه اليهود ليقتلوه وأبلغوا عنه الحاكم فقام رفاقه بتسهيل هروبه من المدينة.
(المترجم)
------------------------------------------------------------------------------------------
(الحلقة الأخيرة)
05-11-2014 | 00:02
كتب عطية بن كريم الظفيري
وتستعرض بيل في ما يلي يوميات الرحلة من 3 مارس إلى 8 مارس 1914.
الثلاثاء 3 مارس 1914
ذهب علي في وقت مبكر إلى المدينة، وذكر أن عمه قد رأى إبراهيم صباح هذا اليوم وأرسله الأخير إلى فاطمة، ولقد بعثت كلا من علي وفتوح ومحمد المعراوي إلى المدينة حول إمكانية جلب رواحلنا، جلست مع الرجال، وطلبت من صالح أن يحكي لي قصة هزيمة عبدالعزيز بن رشيد.
قال صالح: كان عبدالعزيز في مكان ما وراء القصيم يبعد عن حائل 8 أيام سيرا على الأقدام، وخمسة أيام على الذلول، وهاجم مطير وهزمهم، فأرسل المطران رسولا إلى الرياض يقترحون على ابن سعود انضمام قواتهم إلى قواته ومهاجمة ابن رشيد، ووفقا لذلك خرج ابن سعود مع مطير، ولم يتبادر إلى ذهن ابن رشيد أن ابن سعود سيقوم بذلك.
فنصبوا خيامهم في الجَلَد بالقرب من النفود، كما قلت من قبل، وأصر أن يستريح في تلك الليلة، ولم يستمع لأي رأي مخالف ذلك، ونحروا الخراف وأكلوا وناموا، وفي الليل سمعوا صوت الناس والخيول فنهضوا مسرعين وأخبروا عبدالعزيز لكنه رفض تصديق ذلك، وقال: «كذب... كذب... شبّوا النار»، وتم إشعال النيران، وهذا يعد بمنزلة تراجع أمام العدو، فرآهم وأطلق النار عليهم.
قفز عبدالعزيز على صهوة حصانه ومعه حفنة من العبيد، وانطلق إلى الأمام نحو العدو وعزوته «أنا أخو نورة»- وهذه هي صرخة الحرب لابن رشيد وأيضا يستخدمها العبيد. (وصرخة الحرب لقبيلة شمر خيال الرحمن سناعيس، وللطوالة: خيال الهدلا طوالي) سمع صوته الأعداء وعرفوه، فقذفوه برمح اخترق جسمه وسقط من حصانه.
وسرعان ما وصلت الأخبار إلى ابن سعود الذي كان هو نفسه متأخرا عن المهاجمين لبضع ساعات، ولم يصدق ابن سعود ذلك حتى جلبوا له خاتم عبدالعزيز بن رشيد، وقام القصمان بفصل رأسه عن جسده وحملوه على راحلة دارت في أنحاء القصيم ليثبتوا أنه تم قتله حقا، وتم التعرف على وجهه: فها هي لحيته الطويلة وشارباه الطويلان. وأمر ابن سعود بدفن جثمانه.
وحوصر جماعة ابن رشيد وأخذوا على حين غرة، كانت مداهمة جماعة ابن سعود وقت الظلام، وقال صالح كانت تلك إرادة الله، وحالما سمع العرب [جماعة عبدالعزيز بن رشيد] عن مقتله وهزيمة قواته تفرق رجال حائل وتركوا كل شيء، وهرب معظمهم سيرا على الأقدام.
كان الطقس اليوم ماطرا مصحوبا بعواصف رعدية. جاءت زوجة سعيد -عبد محمد بن رشيد- لرؤيتي، وكانت هذه الزنجية رشيقة وجميلة ذات صوت جميل ناعم، وكانت هي وسعيد مع سعود في المدينة المنورة، قال البعض إنهما كانا في خدمته مدة 6 سنوات، وقال آخرون مدة 7 سنوات، وكانت ترتدي الملابس الأوروبية آنذاك، هنا عادت إلى الرداء الخارجي ذي اللون الأخضر الأرجواني الداكن والثوب [الفستان] البرتقالي الداخلي.
وطلب عبدالله بن الجلول جلب أغراض لحمولة 1000 بعير من مدائن صالح، وحصل على 400 بعير فقط، والبعير الواحد يستطيع حمل 50 بندقية من دون ذخيرة، لكن من المرجح أن تكون كل الـ1000 بعير حمولتها ليست أسلحة. يقولون إنه ذاهب لحمل الأشياء إلى تيماء من خلال التبديلات وبعد ذلك في الصيف، عندما يكون العرب في أماكن مصيافهم، تجلب إلى حائل.
الأربعاء 4 مارس 1914
وردت أنباء من العرب مفادها أن ابن شعلان تراجع شرقا أمام ابن رشيد، وأخذ هذا الأخير الجوف دون أن يطلق رصاصة واحدة، وقال علي إن الرولة لا يرغبون في استيلاء ابن الشعلان على الجوف لأنه مصدر دائم للنزاع. في الساعة 11 جاءني سعيد المحمد (العبد) ومحمد وقال لي: لن يسمح لي بالمغادرة حتى تأتي أخبار من الأمير. أجبته بأنني أشعر بالضجر والملل من حائل وأرغب في الرحيل، ولم أطلب من إبراهيم أي شيء سوى رفيق. قال سعيد: «ما يصير»، ثم ذهبت وتناقشت مع محمد المعراوي، وتكررت المناقشة مع علي، وكررت طلبي بتزويدي برفيق ورفض طلبي، ثم غادر سعيد ومحمد.
في هذه الأثناء طلبت من علي أن يذهب إلى أعمامه لمعرفة ما يدور في أذهانهم، عاد مع ابن عمه عبدالله بن محمد (والذي قتل والده على يد جماعة ابن سعود في عنيزة). دخل علي خيمة فتوح، وقال لنا: إن رأي أعمامه بأن الحديث لا يعني شيئا، ولكن نوعا من المداراة أو اللباقة، آمل أنه قد يكون كذلك، ثم ذهبت وتحدثت مع عبدالله وقال: تأسست عنيزة في عهد جده، حيث كان بعض الرعاة يرعون قطعانهم هناك وحرثت «عنز» [عنزة أو معزة] التربة فانبثق الماء؛ لذا يطلق على البلدة عنيزة، في الساعة 6 مساء جاء رجل وأخبرني عن دعوة لي من الحريم.
تناولت العشاء وتجولت في الشوارع تحت ضوء القمر، وانحرفنا إلى اليسار من بوابة القصر، وكانت تركية في استقبالي، فصحبتني إلى الروشن الكبير حيث وجدت موضي أم سعود، والتي كانت زوجة لمحمد قبل أن تتزوج عبدالعزيز. امرأة جميلة جدا، في ثوب من الديباج الهندي، وتضع وشاحا أسود على رأسها، جاء لرؤيتي اثنان من الفتيان هما ابنا سعود، بملابس مبهرجة، يرتدون الأقمشة المطرزة الهندية، وعيونهم السود الكحيلة.
وأيضا جاءت أختهم الصغيرة بثوب مزركش، ومن على رأسها يتدلى اللؤلؤ، وفتاة أخرى جميلة جدا، وخجولة جدا، هي إحدى زوجات سعود، ترتدي الأقمشة المطرزة الرائعة مع وشاح مطرز بالذهب فوق رأسها، والشقيقة الكبرى لعبدالعزيز، وشركسية أخرى، أصغر سنا وأكثر جمالا من تركية، الكثير من النساء الأخريات، إحداهن ترتدي ثوبا أنيقا جدا مرصعا بالجواهر ربما كانت زوجة أخرى لسعود، جلست تركية أمامي كـ«ترجمان»، قدم لنا الشاي والقهوة والحلويات- تلك التي أهديتها لهن!- مع الليمون الحلو والرمان والأترنج.
ثم احتسينا المزيد من القهوة وطلبن مني أن أقرأ شيئا من الإنجيل باللغة الإنكليزية، وتلوت «طوبى لأنقياء القلب» وترجمتها، ثم أخذتني تركية إلى حديقة داخلية صغيرة فيها الأترنج والليمون معلق فوق بركة، ثم انتقلت إلى روشن سعود، حيث وجدت محمد المعراوي وسعيد الخصي.
هناك قباب مطرزة بالتشجير ونقوش على الجدران مصنوعة من الجص ومطلية باللون البني والأبيض، وفي الساحة هناك 4 مدافع صغيرة، كان المشهد بأكمله مثل ألف ليلة وليلة.
الخميس 5 مارس 1914
لاتزال المناقشات تدور حول رحيلي، ذهب محمد المعراوي صباح هذا اليوم إلى حمود وسيقابل إبراهيم، وفي هذه الأثناء لم تصل إبلنا بعد، أرسلت موضي جريوبا معبرة عن أسفها واعتذارها، وتأمل أنه عندما يعود الأمير-ربما بعد يوم- أن أقوم بزيارتهم، أجبته بتبليغها سلامي وأن يخبرها بأنني عازمة على الرحيل.
اقترح فلاح أن أبيعه هو نفسه لحل مشكلة الضائقة المالية التي تواجهنا! وتجارة العبيد أصبحت غير رائجة في الوقت الحاضر، يجلب العبيد من مكة [المكرمة] وجدة.
بعد العشاء جاءتني تركية وتحدثت إليها عما أواجهه من مشكلات، وتركية متزوجة من عبيد الغريميل، وهو شقيق حامل لواء الحج، وقد منحها محمد الرشيد منزلا وزوّجها إلى عبيد قبل سنتين من وفاته، وقالت إنها متزوجة منذ 19 سنة وتفتخر كون زواجها استمر فترة طويلة.
الجمعة 6 مارس 1914
في صبيحة يوم 3 مارس جاءني العبد الخصي «سعيد»، وهو شخصية مهمة جدا ومعه آخر، وأبلغني أنه غير مسموح لي بالسفر، وفي الوقت نفسه لم أحصل على مبلغ الحوالة المالية التي قد سلمتهم وصلها، وأبلغني أيضا أنه يجب عليّ الانتظار حتى يصل رسول الأمير [البشير].
وأرسلت رسائل فورية إلى أعمام علي، واستؤنفت المفاوضات من جديد بقوة وحيوية، وفي اليوم التالي جاءتني دعوة من والدة الأمير -موضي- لزيارتها مساء، وذهبت هناك وأمضيت ساعتين مع نساء القصر كأنني اقتطعتهما مباشرة من حياة ألف ليلة وليلة، أتصور أنه لاتزال هناك أماكن قليلة من خلالها يمكنك رؤية الشرق الحقيقي متشبثا بعاداته كما ورثها منذ قرون وقرون، وإن حائل تعد من تلك الأماكن القلة.
رأيت النساء وهن يلبسن أردية من الأقمشة المطرزة الهندية، ويتزينّ بالمجوهرات، ويطوف لخدمتهن العبيد [القيان]، وليس هناك شيء واحد له صلة بأوروبا أو الأوروبيين في هذه البيئة سواي، كنت أمثل الاستثناء ووصمة العار! بعض النساء من عائلة الشيوخ كن فائقات الجمال.
إن سطوة القوة والمجد يترتب عليها أن يفرض المنتصر نفوذه الجائر ويؤدي ذلك إلى أن تنتقل المرأة من يد رجل إلى يد رجل آخر، وكيف أن يدي هذا الرجل الجديد قد تكون ملطخة بدماء زوجها السابق وأطفالها، أمر يستحق التفكير والتأمل! فعلى سبيل المثال نجد أن موضي نفسها -لا تزال شابة وفاتنة جدا– على الرغم من أنها قد تزوجت ثلاثة أمراء، حسنا، أحاول أجد تفسيرا، ولكن حقا ما زلت أشعر بالحيرة والارتباك تجاه هذه المسألة.
أصبحت في حبس انفرادي، إنني سجينة وحدتي في هذا البيت الفسيح الذي قدموه لي، أرسلت موضي إلي عبدتها في الصباح مع هدية إناء من اللبن، وتحذير بعدم التحدث كثيرا عن مغادرتي، وقالت لي تركية: إن علي الحمود وجه لي دعوة لقضاء ساعة في الحديقة بعد الظهر.
ذهبت بعد صلاة الظهر ومكثت حتى العصر، مرة أخرى عشت أجواء تجمع بين الشرقية والعصور الوسطى، وجدت علي الحمود وشقيقه الاكبر محمد، أو بالأحرى وجدت في البداية عددا من الصبية الصغار- أبناء السبهان وأبناء متعب- وجميعهم يرتدون الأقمشة الهندية المطرزة: حيث يوضع (الزبون) فوق الثوب، وهو من الجوخ الأصلي المزركش بخيطان الحرير والذهب (الفرملية) والكوفية البيضاء مطرزة بالعديد من الألوان.
ثم أعربت عن رغبتي فيما يتعلق بالمال ورحيلي لكنني قوبلت برفض مهذب حتى وصول «البشير» [رسول الأمير]، وبعد ذلك قمت بجولة في الحديقة، ورافقني الأطفال الصغار بجولتي وهم يمشون الهوينى بثيابهم الطويلة المطرزة بالذهب، يخيم عليهم الوقار والصمت، يحدقون في وجهي بعيونهم الجميلة، وعمر من استضافني ما بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة، كانت ملامح وجه أحدهم تدل على البشاشة مثل أي صبي طبيعي، وآخر ملامحه تدل على الغموض والرصانة، ولكنّ كليهما يتميز بكرم الضيافة الزائدة.
ومرة أخرى عبرت لسعيد الخصي، وكان من ضمن المجموعة، عن رغبتي في الرحيل من حائل، وجاء الرد سلبيا: لن أبرح حائل حتى يأتي رسول الأمير، لا أنا ولا أحد يعرف متى يأتي الرسول، ولم أكن أعرف ما الذي تخفيه الإجابة.
جاءنا سعيد المحمد ومحمد بن شومر بعد صلاة العصر وتحدثت إليهما حديثا شديد اللهجة، معربة عن استيائي لعدم تنفيذ رغباتي للمرة الثانية وأنهيت المقابلة على نحو مفاجئ عندما نهضت غاضبة وتركتهما جالسين، اعتقدت فعلا أنني كنت متسرعة بذلك التصرف، ولكن حقيقة الأمر كنت منزعجة ومستفزة، وعندما غادرا قالا لمحمد المعراوي إنني لن أغادر حتى يصل البشير.
بعد ساعة وصلت إبلنا بعد أن كانت ترعى بالفلاة مع الراعيين سيف وعبدالله العجوز، وبعد أن حل الظلام جاءني سعيد ومحمد، ومع سعيد كيس من الذهب، وإذن صريح بأن أذهب إلى أي مكان أحببت ومتى شئت، وهكذا انتهت المشكلة على نحو جيد! ويبقى التساؤل: لماذا سمحوا لي بالرحيل ولماذا لم يسمحوا لي بذلك من قبل؟ لست أدري، ولا أستطيع أن أخمن الأسباب، ولكن على أي حال أنا الآن حرة وأشعر براحة تامة.
السبت 7 مارس 1914
جرت الاستعدادات للرحيل، وفي الساعة 11 جاءنا رجل وأذن لنا برؤية القصر، وبعد تناولي الغداء ذهبت مع كل من: فتوح، ومحمد المعراوي، وسالم، وفلاح، ومصطفى. أشعر بالكثير من الإثارة في الشوارع ولكن حتى الآن وأنا لا أرى أي سوء نية، في السوق الصغير تقوم المرأة البدوية ببيع اللبن والزبدة والسمن، كان في استقبالي في القصر «سعيد» الذي يبدو أنه غير سعيد، ورجل آخر شاحب الوجه مع عينين غائرتين لا أعرف اسمه.
اصطحبني في جولة داخل المضيف وسمح لي (بل شجعني على) التقاط الصور، ودخلنا من خلال بوابة كبيرة إلى فناء أو ساحة فيها نقوش وزخارف، توجد أعمدة على ثلاثة جوانب، والأسوار من الجص، وهناك أربع أو خمس قطع مدفعية قديمة جدا (وقيل لي إنها قبل عهد محمد بن رشيد)، وهناك جناح على هيئة أعمدة يحتضن أكبر دلال قهوة لم أرَ لها مثيلا على الإطلاق. والقهوجي لديه مكان صغير مغلق خاص به، مقابل السور، حيث قدم لنا القهوة، وجلس بالقرب من موقد كبير.
ثم انحدرنا إلى ممر طويل على يسار البوابة، بين جدران عالية لساحة غير مسقوفة إلى ساحة أخرى فيها ثلاثة أو أربعة مدافع، وفي الساحة يوجد المضيف، في كلا الطابقين والاعمدة تحيط بها، وتوجد غرف للضيوف في كلا الطابقين، وأطباق كبيرة معلقة على الجدران توضع فيها اللحوم والأرز. وعود إلى الحديث عن فناء المضيف الذي قمت بتصويره في الطابق العلوي حيث تناولنا التمور والزبدة الطازجة. إنه مزخرف على الدرابزين، وسقفه جميل تحيط بسوره فتحات معتادة، هنا كان يتم استقبال شيوخ العرب، ثم مرة أخرى دلفنا إلى البوابة، إن الجمال الاستثنائي لمدخل البوابة منظر العبيد وهم يرتدون ثيابهم القطنية الملونة.
التقطت صورا لمناظر خارجية مثل: سوق المسحب وأعمدة المسجد، وبعد أن تجولت لمدة طويلة عدت إلى بيتي وذهبت خارج المدينة لتصوير صخرة عليها بعض النقوش احتشد جمع من الصبية الصغار حولي وكانوا ودودين للغاية.
بدا جمال حائل المتفرد يظهر جليا بعد الظهر، إن هذه المدينة تقع وسط سهل منبسط تربته حصوية نظيفة، تحيط بها الحدائق وبساتين النخيل وخلفها تشمخ قمة جبل أجا الصخرية.
وعندما أرخى الليل سدوله، استدعيت رجالي وسددتهم أجورهم، ثم جلست مع مبروكة ولولوة وعطا الله واحتسينا أكواب الشاي وتناولنا فناجين القهوة على ضوء خافت، حتى انني لم أستطع رؤية الأعمدة في هذا الظلام الدامس.
الأحد 8 مارس 1914
في الساعة التاسعة صباحا شرعنا بالرحيل ذهبت لأودع رجالي وداعا حارا مستحقا وهم كل من: محمد المعراوي، وسالم، وسعيد، ومصطفى، وكانوا قد توسلوني هذا الصباح للحصول على مسدس لكنني سبق أن أعطيته لسالم.
كان صباحنا اليوم مشرقا، من بُعْدٍ نرى منظر السراب الذي يطوق بساتين النخيل ومضيق جبل أجا عند عقده، وتهب علينا نسمات عليلة، وعلى الرغم من سجني فإنني أحمل انطباعا عميقا عن جمال وسحر حائل: بطرقاتها الخالية من الغبار، وصمتها الرهيب، وخلوها من المركبات ذات العجلات، فقط آثار خفاف الإبل والحمير على الحصى الناعم. وأمس جاءت قافلة من المدينة [المنورة] ورأيت الإبل وهي تتدافع عبر بوابة البلدة.
شرعنا في الرحيل أنا مع فتوح، وفلاح، وسيف، وكانت قافلتنا تتكون من ثماني رواحل، فسرنا بموازاة سور المدينة، على طول ممر ضيق بين حائل وجبل السمراء، وهنا كانت البساتين غير مسورة، ومررنا بالسويفلة وهي غير مأهولة، تتناثر فيها أنقاض وآثار، ولا شيء سوى أشجار الأثل، وشمال الآثار هناك «قليبان» [بئران] جديدتان مسورتان، وقد منحهما الأمير لمشهدي [من أهل «مشهد علي»- النجف] لكن لا زراعة قربهما، وكنا قبل السويفلة قد سلكنا جانبا من طريق بقعاء وهو طريقي الصحيح، ومن السويفلة رجع عثمان إلى حائل، وأخذنا نغذ الخطى وسط سهل منبسط.
لم يأتنا علي، وفي الساعة الثانية عشرة بدأ ينتابني القلق، وعبّر مشهور أيضا عن قلقه بأنه لا يعرف الطريق، وكذلك لم نتفق على مكان معين نلاقي علي فيه، وسرنا عائدين حتى رأينا النخيل، وبعد ذلك بحثت عنه من حولنا من خلال المنظار المكبّر، وعلى سفح جبل أجا من الصعوبة بمكان أن نرى بوضوح لوجود السراب.
وأخيرا ركب مشهور على ظهر بعير فتوح وعاد إلى حائل! صعد فتوح إلى رأس تل ومن هناك رأى علي فأطلق رصاصة من بندقيته في الهواء، ونحن ما زلنا نجلس ننتظر المفقودين، وبعد طول انتظار تسلقتُ تلاً فرأيت فتوح في ثوبه الأبيض ذاهبا سيرا على الأقدام إلى قرية، وهناك وجد علي فجاء الاثنان إلينا، ونصبنا خيامنا على بعد ميل من القرية، وبعد ساعتين عاد إلينا مشهور من الشيوخ، وهو من أهل القرية فذهب لرؤية عائلته، وعاد بعد حلول الظلام مع ابنته الصغيرة والتي يعانقها كثيرا، وجلب معه خروفا وبعض الزبدة واللبن. وجلب لنا العبد أيضا بعض العلف لبعير منهك، ومشهور هو ابن خالة لهيلم السند ويحبه كثيرا، وكانت ليلتنا ممتعة.
خاتمة
من هنا بدأت رحلة العودة إلى دمشق بتاريخ 8 مارس 1914 من حائل إلى الحيانية فالنجف فكربلاء فبغداد فالرمادي فتدمر فالضمير، والوصول إلى دمشق في 1 مايو 1914.
واكتفى المترجم بهذا القدر من ترجمة يوميات غيرترود بيل لأهميتها، وعدم ترجمة يومياتها أثناء العودة لخلوها من الإثارة والتشويق.
المصدر
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
من دمشق إلى حائل على ظهور الإبل في 16 ديسمبر 1913، انطلقت رحلة غيرترود بيل من دمشق، ميممة حائل بقافلة مكونة من 17 بعيراً محملة بالمؤن والخيام، وثلاثة جمّالين، وطباخ، ومرشد، وقد تلقت
تحذيرات عن المخاطر المحتملة، وبالرغم من أخذها الحيطة والحذر في ترحالها، فإن المخاطر واكبت رحلتها: حين هاجم قافلتها بعض الفرسان وسلبوا أسلحتها وذخيرتها عنوة، وانتظرت أسبوعاً حتى أعاد أحد شيوخهم ما سُلب، ثم اعترض طريقها مسؤول عثماني لمنعها من السفر؛ وبعد 10 أيام من المفاوضات المضنية، تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر. وعند مرورها بأراضي إحدى القبائل اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور، بحجة أنها «نصرانية»، واقترح سراً على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها، وفي حائل ظلت غيرترود بيل حبيسة في قصر برزان قرابة 11 يوماً، وقد سجلت معاناتها في يومياتها يوماً يوماً. وكانت، مع كل تلك المصاعب، مفعمة بالحيوية والحماسة، وقد شدها جمال الطبيعة في صحراء النفود، وكثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر، وأنها تعيش أجواء «ألف ليلة وليلة» الحقيقية.
في 13 نوفمبر 1913 غادرت غيرترود إنكلترا ميممة دمشق، راغبة في القيام برحلة تخترق شمال شبه الجزيرة العربية، وقد بحثت عن رفيق يصحبها خلال الرحلة، فاتجهت في اللحظة الأخيرة إلى دوغلاس كاروثرز، السكرتير الفخري للجمعية الملكية الجغرافية والخبير في الخرائط، الذي عمل على نحو واسع في قسم الخرائط بالاستخبارات العسكرية في مقر الحكومة البريطانية (الوايتهول) وقد قام برحلة إلى تلك المناطق قبل 4 سنوات؛ إلا أن الظروف لم تكن مواتية لكاروثرز، فقررت القيام برحلتها منفردة.
عندما وصلت بيل إلى دمشق شرعت بالتخطيط للقيام برحلتها الاستكشافية عبر صحراء بادية الشام، ومن ثم الدخول إلى «جزيرة العرب» والوصول إلى حائل- لتكون ثاني امرأة إنكليزية تزور حائل بعد السيدة النبيلة آن بلونت- التي زارتها قبلها بثلاثة عقود تقريبا.
ولتمويل هذه الرحلة طلبت من والدها مبلغ 400 جنيه إسترليني كسلفة، ووعدته بأنها ستسددها عند عودتها، وكان معها أدوات المسح الجغرافي مثل جهاز قياس الزوايا، وقياس خطوط الطول والعرض، وخرائط أولية لمنطقة شمال الجزيرة العربية، حصلت عليها من الجمعية الجغرافية الملكية. وقامت غيرترود بيل بالاتصال بالتاجر القصيمي محمد البسام، من أهل عنيزة والمقيم بدمشق، وهو ممن تثق بهم وتزوره كلما أقامت بدمشق، وتسترشد بنصائحه وآرائه، وتحدثت إليه عن رغبتها في القيام بهذه الرحلة، فأجابها بأن الطريق إلى حائل سالكة هذه السنة، وأشار عليها بأن تصرف مبالغ كبيرة لشراء الهدايا لتقديمها إلى أمراء القبائل وأمراء حائل، وطلبت منه أن يشتري لها رواحل من الإبل الأصيلة التي تتحمل مشاق رحلة طويلة تستغرق قرابة ثلاثة أشهر، وأن يختار لها المرافقين والخدم والأدلاء المناسبين، وقام بتنفيذ طلبها.
ووجدت غيرترود بيل مرشداً ذا خبرة، هو محمد المعراوي، الذي رافق كاروثرز في إحدى رحلاته في الجزيرة العربية قبل 4 سنوات، وهو ضليع في معرفة طرق الجزيرة العربية، وحمل معه توصيات من رجال مرموقين لتسهيل مهمة الرحلة، وهو في نفس الوقت على معرفة تامة بابن رشيد الذي كانت غيرترود بيل تأمل أن تلتقيه، وأصبح المعراوي الذراع القوية في القافلة، وقادها بنجاح منقطع النظير على دروب الصحراء الرملية وأراضي الحماد في بادية الشام وصحراء النفوذ الكبير التي لم توضع لها أي خرائط، وشق طريقه خلال الحواجز الجبلية والكثبان (الطعوس) الرملية الذهبية العالية والأراضي الصخرية التي يصعب المرور عبرها.
وكان تنظيم القافلة جيداً، حيث قامت بشراء 17 بعيراً، وكانت تكلفة البعير الواحد 16 جنيها إسترلينيا، بالإضافة إلى الطعام الذي خصصت له 50 جنيها إسترلينيا، و50 جنيها للهدايا مثل العباءات (البشوت) والكوفيات (الشمغ) والملابس القطنية (الأثواب)، وحملت معها مستند ﺣواﻟﺔ ﻣﺎﻟﯾﺔ ﺑﻣﺑﻠﻎ ﻣﺋﺗﻲ ﺟﻧيه إﺳﺗرﻟﯾﻧﻲ تتسلمها في ﺣﺎﺋل، حيث دﻓﻌت ﻗﯾﻣتها إﻟﻰ وﻛﯾل اﺑن رﺷﯾد ﻓﻲ دﻣﺷق.
وكانت القافلة صغيرة نسبيا بالمقارنة مع القوافل التقليدية كقوافل الحجاج أو قوافل تجار العقيلات، وحزمت بيل أيضا ضمن أغراض السفر أطقما من الصحون والمشغولات الفضية والأقمشة الكتانية، وأعمال شكسبير الكاملة، وكتبا ومجلات وروايات أخرى.
وحملت معها أيضا خيمة ومغطسا للاستحمام، وكاميرا تصوير وعدستين ومناظير مكبّرة (درابيل) وأدوية ومراهم للحالات الصحية الطارئة، وحملت معها سريرا وكرسيا يمكن طيهما، ومسدسات وأجهزة مسح جغرافي مثل أدوات قياس العرض والطول وقياس الزوايا التي زودتها بها الجمعية الجغرافية الملكية بلندن.
الشروع في الرحلة
وفي 16 ديسمبر 1913 شرعت في رحلتها الصعبة والخطيرة، منطلقة من دمشق لاختراق الجزيرة العربية ميممة حائل، بقافلة مكونة من 17 بعيرا محملة بالمؤن والخيام، وثلاثة جمَالين «مكارية» لقيادتها، وطباخ، ورجل كمرشد ودليل، ورغم التحذيرات التي تلقتها بأن سكان البادية هناك يشككون في الأوروبيين، فإنها لم تخبر السلطات العثمانية أو البريطانية عن رحلتها؛ لأنها كانت تخشى منعها إذا ما علمت السلطات بالقيام بهذه الرحلة؛ لما يكتنفها من مخاطر جمة.
وكان أول المخاطر التي واجهتها بعد أيام من بدء الرحلة هجوم كوكبة من الفرسان على قافلتها– وقد انطلق أحد الفرسان شاهرا سيفه، مطلقا طلقات نارية فوق رؤوس رجال قافلتها، وكأن فيه مساً من الجنون- وقاموا بسلب أسلحة رجالها وحاجياتهم عنوة، وانتظرت أسبوعا حتى أعاد أحد شيوخهم ما سلب، بعد وساطة أحد مرافقيها.
واكبت رحلتها المشاق حين أوقفها مسؤول عثماني لمنعها من السفر، وأخّر رحلتها لفترة 10 أيام تقريبا؛ وبعد جهد مضن تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر، مقابل أن تتعهد له خطيا بتحملها مسؤولية ما سيحدث لها خلال الرحلة، وإعفاء السلطات العثمانية من أي مسؤولية تترتب على سفرها... وكتبت تقول إنها شعرت بالراحة لأنها أصبحت الآن خارج نطاق القانون في صحراء شاسعة لا يحكمها سوى قانون أهل البادية الخاص.
من مخاطر الرحلة
وأثناء رحلتها في الصحراء تحاشت أن ترد موارد البادية المعروفة، خشية أن تتعرض لغزو وسلب القبائل، واعتمدت على غدران المياه التي تتكون إثر سقوط الأمطار (الخباري)، وبالرغم من أخذها الحيطة والحذر في ترحالها فإن المخاطر اكتنفتها، وعند مرورها بأراضي قبيلة أخرى اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور- بحجة أنها نصرانية- إلا بعد مفاوضات شاقة وتقديم الهدايا له (مثل المسدس والمنظار)، واقترح سراً على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها؛ ولكن رجالها كانوا أوفياء لها ولم يغدروا بها.
ومع كل هذه المصاعب التي واجهتها إلا أنها كانت مفعمة بالحيوية والحماسة، وقد شدتها الطبيعة الغريبة للمنطقة والجمال الأخاذ لضوء القمر في صحراء النفود، وقد كتبت في يومياتها ورسائلها أنها كثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر، وأنها تعيش أجواء ألف ليلة وليلة الحقيقية:
«في الصحراء يلتف حولك حجاب منيع من السكون والعزلة، وليس هنالك من حقيقة تضاهي تلك الساعات التي يقضيها المرء في امتطاء ظهور الإبل، حيث ترتجف أوصاله في الصباح من البرودة ويشعر بالنعاس في الظهيرة ثم يدب نشاط صاخب في بناء الخيام [عند المساء]، وبعدها نتناول العشاء ونتجاذب أطراف الحديث، حول موقد نار قهوة محمد [الدليل محمد المعراوي]، ثم نخلد إلى نوم عميق لا يمكن لأي متمدن أوروبي أن يستمتع بمثله».
الشعور بالكآبة
وبعد أن قطعت مسافة ثلاثة أرباع الطريق مقتربة من حائل خبت شعلة حماسها واعتراها شعور بالكآبة، وأخذت تقلل من جدوى هذه المغامرة وأهميتها، فكتبت في يومياتها تقول: «اليوم أعاني نوبة شديدة من الاكتئاب– وكيف أضع هذا الشعور في كلمات معبرة؟ هل أكون أفضل حالا أم سيزداد اكتئابي أكثر من أي وقت مضى؟ تساورني الشكوك العميقة فيما إذا كانت مغامرتي بعد كل تلك المشاق تستحق كل هذا العناء. أنا لن آبه بالمخاطر التي تكتنف مغامرتي، فقد جُبِلت على ذلك؛ ولكنني بدأت أتساءل: ما الفائدة المرجوة من هذه المغامرة برمتها؟ أخشى عندما أصل إلى النهاية أن أنظر إلى الوراء هل أقول: إن «ما قمت به كان مستحقاً»، أم أنني من المرجح عندما أنظر إلى الوراء سأقول: «ما قمت به كان مضيعة للوقت»؟! ومع ذلك فمن المؤكد أن ما قمت به لا يمكن التراجع عنه الآن، لقد سبق السيف العذل. أعتقد أنني حمقاء عندما دخلت في معمعة هذا الضياع، عندما أقحمت نفسي بأمور أنا في غنى عنها، إذ لم يكن لي مطلق الحرية لممارسة أعمال هي من صميم اهتماماتي الخاصة، هذا أدى إلى تثبيط هممي. لأنها أتت بعد فوات الأوان، مثل معظم أفكارنا الحكيمة، هذه هي الأفكار التي تختلج مخيلتي هذه الليلة، ومع خشيتي من خطورتها إلا أنها تقترب من الحقيقة.
الوصول إلى حائل
وواصلت غيرترود رحلتها، وبينما كانت القافلة على مشارف جبل أجا جاءها رسول من وكيل أمير حائل إبراهيم السبهان، وبعد الترحيب بها أخبرها بانشغال الأمير سعود بن عبدالعزيز بن متعب الرشيد أمير حائل آنذاك، لقيامه بغزوات خارجية في الجوف ضد ابن شعلان، وأنه لن يسمح لها بمغادرة حائل حتى يتمكن الأمير من العودة.
وسمح لها بالإقامة في قصر الضيافة خارج أسوار حائل، وزارها السبهان في دار الضيافة، وعند مغادرته القصر أسرّ إلى محمد المعراوي مرافقها، قائلا له: بما أن الأمير خارج المدينة، وهناك حديث يدور بين الناس يستغرب مجيء هذه الأجنبية فإنه لا يسمح لها بمغادرة دار الضيافة إلا بإذن، وظلت حبيسة القصر قرابة أحد عشر يوماً، وقد سجلت معاناتها في يومياتها يوماً يوماً.
وفي نهاية المطاف وبعد الإقامة الجبرية سمح لها ﺑﺎﻟﺗﺟول في المدينة، وسمح لها أيضا بالتقاط الصور بكل حرية، وتحوﻟت بيل إﻟﻰ ظﺎهرة ﯾﺗﺟمهر ﺣولها اﻟﺳﻛﺎن في اﻟﻣدﯾﻧﺔ، وﻗد وﺛﱠﻘت أﺣوال اﻟﻣدﯾﻧﺔ واﻟطﺑﯾﻌﺔ اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﯾﺔ ﻷهلها وﻋﺎداتهم اﻟﯾوﻣﯾﺔ، وﻛﺗﺑت ﻋن ﺣﺎﺋل ﻣﺎ يلي: «... ﺑﺎﻟرﻏم ﻣن أن ﺣﺎﺋل ﻻ ﺗﺧﺗﻠف ﻋن أي ﻣدﯾﻧﺔ أﺧرى ﻓﺈنها ﺗﺗﻣﺗﻊ ﺑﻧوع ﻣن اﻟﺑداوة... طرقها ﺗﻛﺳوها رﻣﺎل اﻟﺻﺣراء، وﺗﺧﻠو ﻣن دوران ﻋﺟﻼت اﻟﻣرﻛﺑﺎت وﺻرﯾرها، وﻛل ما يسمع ﻣن ﺿوﺿﺎء اﻟﻣرور هو ﺻوت ﺧﻔﺎف اﻹﺑل اﻟﺗﻲ تسير على هذه اﻟطرﻗﺎت...».
وأصبحت الصور الفوتوغرافية النادرة التي التقطتها بيل مرجعا مهما، وعلى نحو خاص تلك المتعلقة بالمواقع الاثرية التي طرأت عليها منذ قرن بعض التغييرات، وبعضها اختفى إلى الأبد (كقصر برزان مثلا)، فالصور تدعم اليوميات وتوثقها، ولأن الرحّالة امرأة، فقد أتيحت لها فرصة الاطلاع على أحوال المجتمع النسائي القبلي– قبيلة الحويطات- حين دونت بعض الأحاديث مع نساء القبيلة ومعاناتهن في ظل حياة الترحال والجوع والعطش والأعباء المنزلية من طبخ ونصب بيوت الشعر وما إلى ذلك، وكذلك مجتمع النساء الأرستقراطي– نساء آل رشيد- حين دونت حياة الترف في القصور، ونوعية الملابس والجواهر والخدم والحدائق والفواكه، ووثقت بعضها بالكاميرا أيضا.
وتعد «يوميات بيل» مصدراً مهماً من مصادر تاريخ الجزيرة العربية، علاوة على ما تضمنته من ذكر للأحداث التاريخية في المنطقة- وإن كانت مختصرة جداً- وفقاً للحوليات التي رواها وكيل أمير حائل إبراهيم السبهان المسماة «دفتر إبراهيم».
مَن هي الرحالة غيرترود بيل؟
(الآنسة) غيرترود لوثيان بيل هي الكاتبة، والشاعرة، وعالمة الآثار، والرحالة، والمُحلّلة السياسية، والجاسوسة، والدبلوماسية البريطانية الاستثنائية التي لعبت دورا سياسيا في البلاد العربية، وأطلقت عليها ألقاب كثيرة منها: ملكة العراق غير المتوجة، وملكة الصحراء، وابنة الصحراء، والخاتون.
ولدت بيل في واشنطن هول، مقاطعة درم في إنكلترا في 14 يوليو 1868 من عائلة ثرية مرموقة، فهي حفيدة الصناعي إسحق بيل، تتسم شخصيتها منذ طفولتها بالجسارة والجرأة لدرجة التهور، وفي عُمر 16 عاما التحقت بجامعة أوكسفورد قسم التاريخ، وتخرجت خلال سنتين، وكانت أول فتاة تحصل على مرتبة الشرف الأولى في التاريخ.
في مايو 1892، وبعد تخرّجها مباشرة، سافرت إلى إيران، إذ وصفتْ تلك الرحلة في كتابِها «صور فارسية»، وأمضت مُعظم العقد التالي في التجوال حول العالم، وتسلّق جبال الألب في سويسرا، وكانت شغوفة بطلب العلم، ما دفعها الى التخصص في علم الآثار والشغف بتعلّم اللغات الأجنبية مثل اللغة العربية، بالإضافة إلى اللغات الأخرى كالفارسية والتركية والفرنسية والألمانية والإيطالية.
سافرت بيل إلى البلاد العربية، ودرست شؤونها على نحو واسع، واهتمت بدراسة الآثار المحلية، وتنقلت في إقامتها ما بين الدروز وقبيلة بني صخر، وقابلت العديد من الزعماء والأمراء العرب وشيوخ القبائل، ونَشرتْ ملاحظاتَها في كتابها «البادية والحاضرة»، وفيه كتبت معلومات رصينة إلى العالم الغربي عن الصحارى العربية.
وفي يناير عام 1909 تَوجّهتْ إلى العراق واكتشفت آثار الأخيضر، وخدمت بيل في الصليب الأحمر خلال الأشهر الأولى من الحرب العالمية الأولى، وكانت وظيفتها منوطة بالبحث عن الجنود المفقودين والجرحى.
وفي ديسمبر 1913، قامت برحلة من دمشق عبر الصحراء إلى حائل، وعادت إليها في مايو 1914، وقد انتخبت عضوا في الجمعية الجغرافية الملكية في يونيو 1913 بعد وقت قصير من فتح العضوية للمرأة، وحازت ميدالية ذهبية من الجمعية الجغرافية، بعد قيامها برحلتها من دمشق إلى حائل، لأنها كانت الأوروبية الوحيدة بين مجموعة من المرافقين العرب.
استدعيت بيل عام 1917 إلى بغداد، بعد استيلاء اﻟﻘوات البريطانية ﻋﻠيها لتشغل وظيفة ﺳﻛرتيرة اﻟحاكم البريطاني في العراق ﻟشؤون اﻟشرق، وﻗﺎمت بدور ﺣﻠﻘﺔ اﻟوﺻل ﺑﯾن اﻟﻘﯾﺎدات اﻟﻌرﺑﯾﺔ وﻣﻛﺗب اﻻﺳﺗﺧﺑﺎرات اﻟﺑرﯾطﺎﻧﯾﺔ اﻟﺧﺎص ﺑﺎﻟﻌﺎﻟم اﻟﻌرﺑﻲ الذي كان مقره ﻓﻲ اﻟﻘﺎهرة.
وأصبحت منذ عام 1921 المستشار الخاص للملك ﻓﯾﺻل ملك اﻟﻌراق لشؤون اﻟﻘﺑﺎﺋل، وأﺻﺑﺣت ﺑﯾل اﻟﺷﺧﺻﯾﺔ اﻟﻣؤﺛرة واﻟﻣﺗﻧﻔذة ﻓﻲ اﻟﺣﻛوﻣﺔ اﻟﻌراﻗﯾﺔ، فأطلق عليها ﻟﻘب «اﻟﻣﻠﻛﺔ ﻏﯾر اﻟﻣﺗوﺟﺔ»، وإﻟﻰ ﺟﺎﻧب ﻋﻣلها اﻟﺳﯾﺎﺳﻲ اهتمت ﺑﯾل ﺑﺎﻵثار اﻟﻌراﻗﯾﺔ واﻟﺗﻧﻘﯾب ﻋنها، وأﻧﺷأت ﻣﺗﺣفا ﻟﻶﺛﺎر ﻓﻲ ﺑﻐداد وأﺻﺑﺣت ﻣدﯾرة له.
وواجهت ﻏﯾرﺗرود ﺑﯾل ﻓﻲ أواﺧر ﺣﯾﺎﺗها ﺑﻌض اﻟﻣﺷﻛﻼت اﻟﺻﺣﯾﺔ والأسرية، واﺳﺗوﻟت ﻋﻠيها اﻟﻛﺂﺑﺔ، ﻣﺎ دفعها إﻟﻰ اﻹﻗدام ﻋﻠﻰ اﻻﻧﺗﺣﺎر ﺑﺗﻧﺎوﻟها ﺟرﻋﺔ زاﺋدة ﻣن دواء ﻣﻧوم في 12 يوليو 1926، ودﻓﻧت ﻓﻲ اﻟﻣﻘﺑرة اﻟﺑرﯾطﺎﻧﯾﺔ ﻓﻲ اﻟﺑﺎب اﻟﺷرﻗﻲ ﻓﻲ ﺑﻐداد.
وﻗﺎﻣت زوﺟﺔ أﺑيها- ﺑﻌد ﺳﻧﺔ ﻣن وﻓﺎتها- ﺑﻧﺷر رﺳﺎﺋلها ﻓﻲ ﻣﺟﻠدﯾن ﺿﺧﻣﯾن، وﻻﻗت رﺳﺎﺋلها رواﺟﺎ وإﻗﺑﺎﻻ ﻣﻧﻘطعي اﻟﻧظﯾر ﻣن اﻟﻘراء ﻓﻲ اﻟﺛﻼﺛﯾﻧﯾﺎت.
---------------------------------------------------------------------------------------
(الحلقة 2)
وتستعرض بيل في ما يلي يومياتها وإعداد الرحلة من 26 نوفمبر 1913 إلى 2 ديسمبر من العام نفسه.
الأربعاء 26 نوفمبر 1913
لم يتمكن فتوح (1) من اللحاق بالقطار القادم من حماة؛ لذا لن يصل الليلة إلى دمشق، فذهبت إلى البنك وفي طريقي عرّجت على سوق الحميدية الشعبي، ووجدته يخضع لعمليات الترميم، زارني محمد البسام (2) وتحدث معي عن الصحراء، وأبلغني أن أوضاعها مطمئنة.
سأشتري جمالاً جيدة للركوب من هنا وكل شيء على ما يرام، ويرى البسام أن الرحلة إلى نجد ووادي الدواسر ستكون ميسرة، لكنها ليست كذلك إلى عسير.
ما زال ابن رشيد قوياً وتتسم علاقاته مع ابن سعود بالسلام، أما ابن شعلان فيسيطر على الجوف، وتحدث البسام بفخر عن الطاسة الفضية التي أهداها إليه خليل، وذكر لي أنه أشترى أراضي في نصيبين، وذكر أنه تشاجر مع محمد النعمان الذي ما برح يثير الشقاق بينه وبين ابن شعلان، وسألني عن مستقبل تركيا، وذكر أن شعب البصرة يرغب في الحماية الانكليزية.
بعد تناول الغداء ذهبت لزيارة مير طاهر وهو بدوره شجعني على الرحلة الصحراوية، ومن المرجح أن ولْد علي في موقع قصي في الشرق لا على الطريق الذي سأسلكه، وأشار علي البسام بأن أذهب إلى فواز الفايز [شيخ بني صخر] عند مروري بديار بني صخر، وذكر مير طاهر أن سورية لم تشعر بالحرب ما عدا التقلص في تجارتها.
حدثني السيد برنتون عما تود الحكومة القيام به في لبنان من تشجير لأراضيه، ولكنها ستصطدم بكثير من العقبات لأن معظم الأراضي يملكها رجال الدين الكهنة، وكذلك يملكون قطعانا كبيرة من الماعز التي تتغذى على شجيرات خاصة، وأشار إلى أنه لا يوجد بيت قد بني في سورية دون التضحية بمعزة. ولحم الماعز غذاء رئيس للناس هنا.
الخميس 27 نوفمبر
وصل فتوح اليوم، وذهبنا لنرى محمد البسام وزوجته، وزوجة البسام امرأة نجدية جميلة، جاءت إلى دمشق عبر الطائف ومكة [المكرمة] والمدينة [المنورة] قبل 8 سنوات، ومن الصعب فهم حديثها، الذي يتخلله كثير من الدعاء إلى الله، لديها صبيان، وقد سافر الأكبر إلى بيروت للسياحة، بعد تناول الغداء الذي أعده فتوح ذهبت لزيارة الآباء اليسوعيين وقابلت بورغين- رجل إنكليزي- وقال لي إنه سيكرس نفسه لحوران، وقال إنه ينتظر حتى تنمو لحيته، والتي لا أعتقد أنها ستنمو بسرعة، ومن ثم عدت إلى المنزل جائلة بين الأسواق الشعبية ووصلت إليه الساعة 5 مساء. وبعد ذلك لعبت البريدج.
الجمعة 28 نوفمبر
مررت بالمسجد وأنا في طريقي إلى البنك، زارني اليوم في بيتي محمد النعمان وعبد الله الخلف، وذكر محمد النعمان أن هناك خلافا بين ابن شعلان وابن رشيد (سعود بن رشيد) والعلاقات بينهما سيئة، وأضاف قائلا إن عبدالعزيز بن سعود يسيطر على نجد وفي القريب العاجل سيستولي على حائل.
سأزور زوجة الوالي مدام عارف بيك، امرأة مثيرة للاهتمام للغاية، ابنة لمصري لكنها في الأصل من كافالا التركية. تقول إن الحكومة تلقي بظلال أجنحة شرورها على الأتراك، وإنه لا حديث عن الإصلاح في الأناضول، وشكت بمرارة من لجنة البلقان، وتمنت لو تم تعيين مفتش عام انكليزي للمناطق الأرمينية لبحث مظالمها، وأشارت إلى أن الحكومة تدرك مظالم الأكراد، وحصل الأرمن على الأراضي التي اشتروها، وعارف بيك هو عربي من ماردين؛ وكان واليا على البصرة وأحبت زوجته البصرة وناسها وبشكل خاص المرأة، وذكرت أن النساء هناك كأي امرأة مسلمة- في الكتب الأجنبية- لا يقمن بأي عمل على الإطلاق، ولا حتى تمسك الإبرة في خياطة ملابسها، ومعظمهن أميات لا يستطعن القراءة، ومدام عارف لديها مربية انكليزية هي الآنسة غرين.
وبعد تناول الغداء أخذنا نجول حول أسوار المدينة بصحبة السيدة برونتون واحتسينا فناجين القهوة في مقهى بالقرب من باب السلام، ثم أكملنا جولتنا حتى العصر عندما حان وقت تناول الشاي وجاءنا شكري بيك العسلي، وهو مدير باب عبدالوهاب، وتجاذبنا أطراف الحديث مع علي أفندي، وناقش شكري في شعورهما نحو الوحدة العربية ودور الشيوخ الكبار في هذا الصدد.
وتطرقا إلى نواف بن نوري الشعلان بأنه متعلم جيدا وسياسي ماهر، وذكرا أيضا أن مباركاً [حاكم الكويت] قد دعا سعود بن رشيد وعبدالعزيز بن سعود لمؤتمر عربي يعقد في الأحساء أو الكويت لمعالجة القضايا العالقة بين العرب حسب القانون، وقال شكري إنه لا توجد حرية في ظل حزب الاتحاد والترقي، في هذه الأثناء جاءنا مير طاهر ولم أكشف له عن خططي وحاولت خداعه، وفي المساء تناولت العشاء مع عائلة مكينون.
السبت 29 نوفمبر
ذهبت إلى محمد البسام، ومن حسن الحظ التقيت محمد المعراوي في منزله، وفي غضون ذلك قابل علي الساعي محمد النعمان في المقهى القريب من الفندق، وجلس معه في الشمس، وأقسم أنه كان يحبني أكثر من حبه لأطفاله، وقال: «وحياة النبي محمد والنبي عيسى» وهو يناشدني بأن آخذ محمد المعراوي معي في رحلتي. انضم إلينا وكيل عبدالرحمن وتحدثنا عن رحلتنا في الثلج- سنة الثلج. بعد الغداء خلدت إلى النوم (قيلولة) وكتبت على بطاقة موجهة إلى السيدة دفي بأنني قمت بشراء 12 بعيرا.
الأحد 30 نوفمبر 1913
خرجنا في طقس ممطر مع عائلة برنتون إلى المسجد، وبقينا هناك حتى الظهر، وفي وقت العصر زارني محمد البسام وأمضينا وقتا طويلا ونحن نتجاذب أطراف الحديث ثم تحدثت إلى السيد براي.
الاثنين 1 ديسمبر 1913
قمت بالتسوق في الصباح وقمت بزيارة محمد باشا آدم الذي لم يكن وديا على الاطلاق، رجل مسن ذو أفكار رجعية يستهين بالحركة القومية العربية، وبعد تناول الغداء دار نقاش طويل بين الدكتور عبدالرحمن، وجورج أفندي، وعبدالوهاب عن التحرك القومي العربي: فقد دعا السيد طالب النقيب (3) من البصرة إلى اجتماع لشيوخ العرب وهم: الشيخ مبارك (حاكم الكويت)، والشيخ ابن شعلان [شيخ الرولة] والشيخ [ابن سعدون] شيخ المنتفق، والسلطان عبدالعزيز بن سعود [سلطان نجد]، و[الشيخ خزعل] شيخ المحمرة. وسيجتمعون في غضون شهرين في الكويت.
أما إمام اليمن فليس له أهمية أو غاية، وأما ابن رشيد فقد أعلن أنه سيرسل من يمثله ولكنه أبدى فتوره، وقد ضاعفت الحكومة التركية دعمها له، كما أنها زودت شريف مكة [المكرمة] بالمدافع والهدايا، وذكر أن أحد أبنائه سيمثله في مؤتمر الكويت، وذكر أن مشهور بن فواز الفايز شيخ بني صخر من الوحدويين العرب الأشداء، وقال عبد الرحمن: «لأول مرة أصبحت الصحراء موحدة منذ زمن النبي محمد»، وأضاف أن جميع الأسر القيادية هي وحدوية هنا، أو على الأقل جميع الشباب مثل عائلة عطا بيك الكيلاني.
الثلاثاء 2 ديسمبر 1913
قمت بزيارة زوجة محمد البسام، التي قالت لي إنها لم تغادر المنزل منذ أن أتت إلى دمشق الشام سوى مرتين، حين زارت المسجد «الأموي» الكبير، وأشار محمد البسام إلى اجتماع الشيوخ المزمع عقده، بقوله لا طائل من ورائه، لأنهم لن يتفقوا، ثم تناولتُ الغداء في السوق الشعبي مع عائلتي برونتون وبراي والسيد برايس.
وذهبت لزيارة عائلة عطا بيك الكيلاني الودودة، ووقت المساء زارني السيد لويتفيد Loytved لتناول العشاء، وقال إن إنكلترا متمثلة بكل شيء هنا، فالمثال المصري موجود، وليست لدينا الخدمة العسكرية، وحرية التجارة، ويلعب كمبرباتش دورا كبيرا، ويشهد له ذلك بإصراره على فتح ناد وحدوي في بيروت، وشجع ديفي الاتجار بالأسلحة مع الدروز، ويرى أن وجود فرنسا يشكل خطرا علينا، وخاصة على نفوذنا في مصر.
الهوامش
(1)- فتوح من أهل حلب عربي مسيحي كان قد رافق بيل في إحدى رحلاتها السابقة، وكان طباخها الخاص. أصيب بحمى ولم يستطع مرافقتها في بداية رحلتها، وعندما كانت في دمشق أدخلته المستشفى، واتفقت معه عندما يشفى أن يقابلها في زيزيا بعد ثلاثة أسابيع، بالقرب من سكة الحديد، وفعلا التقاها ورافقها في رحلتها إلى حائل. [المترجم]
(2)- اشتهر الشيخ محمد بن عبدالله البسام – من أمراء العقيلات – بكرمه، وسعة اطلاعه، ومعرفته بتاريخ الجزيرة العربية وقبائلها، وذكر محمد السيف أن البسام «يُعد واحداً من أشهر وأكبر تجار العقيلات في أواخر القرن الـ 19 والعقود الأولى من القرن الذي تلاه، وقد اتخذ من دمشق موطناً ومستقراً ومركزاً لتجارته الواسعة، الممتدة من بغداد شرقاً إلى القاهرة غرباً، وإلى القصيم جنوبا».
وعدّه أوبنهايم- الدبلوماسي والباحث الألماني- المعاصر له بأنه من أكثر تجار العالم العربي في القرن التاسع عشر أهمية، وذكر أن مؤسساته التجارية قد توزعت بين مكة وجدة ودمشق وبغداد والقاهرة وطرابلس وبومباي (في الهند). ويُعزى الفضل للشيخ محمد بن عبدالله البسام في اكتشاف طريق دمشق- بغداد وتمهيده للسيارات.
وأشار خبر صحافي نشر في صحيفة «الأهرام» بتاريخ 14 أكتوبر 1925م إلى «توقف الشيخ النجدي المعروف محمد عبدالله البسام عن تأمين طرق السيارات بين دمشق وبغداد، لتوقف الاشتراكات التي تمنحها الشركات والمؤسسات التي تستخدم الطريق المهم لوكالته...». [المترجم]
(3)- السيد طالب باشا النقيب (1871 - 1929م) هو زعيم عراقي عروبي، كانت أسرته تتولى نقابة أشراف البصرة، درس القرآن والعلوم واللغة العربية على أيدي معلمين خصوصيين، ثم تعلّم اللغات: التركية والفارسية والإنكليزية وشيئا من اللغة الهندية.
عرف عنه إنفاقه المال بسخاء على الفقراء، عيّن عام 1901 متصرفا [محافظا] للواء الإحساء، واستقال من المتصرفية بعد سنتين، ثم عاد إلى الأستانة [إسطنبول]، انتخب عام 1908 عضوا في مجلس «المبعوثان» العثماني [البرلمان] وأعيد انتخابه عام 1912 وعام 1914. وفي عام 1909 أسس الحزب الحر، وبعد فوزه بستة مقاعد في مجلس المبعوثان عام 1914، طالب بحقوق العرب في الحكم، والمساهمة في الوظائف العامة.
وعند دخول القوات البريطانية إلى البصرة عام 1914، اعتقل النقيب ونفي إلى بومباي، نظرا لمعارضته الاحتلال الإنكليزي، وأمضى في منفاه خمس سنوات، عاد بعدها إلى البصرة، وأصبح أول وزير للداخلية في تاريخ العراق في أول حكومة عراقية انتقالية برئاسة عبدالرحمن النقيب (1920 -1921)، وكان مرشحا قويا لتولي عرش العراق؛ إلا أن بريطانيا أدركت أنه ليس رجلها المناسب، بل يشكل خطرا عليها، لأنه قوي الشخصية وعروبي الانتماء؛ فقامت بإنهاء دوره السياسي بنفيه مرة أخرى خارج العراق لإبعاده عن منافسة الملك فيصل، ولم يرجع إلى العراق إلا عام 1925 (بعد أن أمضى 4 سنوات في المنفى)، وتوفي في مستشفى بألمانيا عام 1929م، ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير. [المترجم]
(الحلقة 3)
ملخص رحلة غيرترود بيل
16 ديسمبر 1913 غادرت دمشق إلى بادية الشام باتجاه الشرق.
20 ديسمبر 1913 وصلت جبل سَيْس، وأقامت هناك للتزود بالماء والعلف للرواحل، ورحلت باتجاه الجنوب.
24 ديسمبر 1913 وصلت إلى منطقة قصر برقع، بعد محاولات سلب من بعض البدو، وقامت بنسخ آثار قديمة في القصر.
28 ديسمبر 1913 خيّمت في ديار قبيلة الرولة بالقرب من جبل الدروز.
31 ديسمبر 1913 وصلت إلى قصر الأزرق بالقرب من مصادر المياه.
2-7 يناير 1914 أقامت بالقرب من قصر الحرّانة ودرست آثاره هو وقصر عمرة.
7 يناير 1914 التقت خادمها فتوح في منطقة زيزيا، ومنعها المسؤولون الأتراك من السفر، فأقامت لمدة 10 أيام هناك.
17 يناير 1914 تم السماح لها بالمغادرة وذهبت إلى قصر الطوبة ودرست آثاره.
19-25 يناير 1914 اجتازت وادي باير، بحثا عن مصادر المياه المجهولة، مرورا بديار القبائل البدوية.
25 يناير 1914 وصلت إلى مضارب قبيلة الحويطات ومكثت في مضارب القبيلة مدة 9 أيام تتنقل بين عدة عائلات وأفخاذ منها، والتقطت مجموعة من الصور لرجال ونساء من القبيلة.
2 فبراير 1914 غادرت بصحبة رجل (رفيق درب) لضمان حمايتها من القبائل التي تمر في ديارها، وهي في طريقها إلى صحراء النفود الكبير.
9 فبراير 1914 واجهت تهديد بالغزو.
10 فبراير 1914 دخلت صحراء النفود الكبير.
19 فبراير 1914 عبرت الطرف الجنوب الشرقي لصحراء النفود – وتعد أول أوروبية سلكت هذا الطريق- ورسمت خرائط لموارد المياه في السهول الجرداء.
22 فبراير 1914 شاهدت أول قرية مأهولة منذ شهر.
25 فبراير 1914 وصلت إلى حائل تحت حكم ابن رشيد، وظلت تحت الإقامة الجبرية لمدة 12 يوما، وخلال إقامتها تعرفت على بعض نساء آل رشيد.
7 مارس 1914 سمح لها بمغادرة حائل، واتجهت شمال شرق عن طريق الحيانية إلى النجف فبغداد.
17 مارس 1914 وصلت إلى ديار قبائل رعاة الأغنام غرب الفرات.
23 مارس 1914 وصلت إلى النجف، وبعد 5 أيام، وعبر كربلاء وصلت إلى بغداد.
12 أبريل 1914 غادرت بغداد إلى بابل، حيث التقت علماء آثار ألمان.
23 أبريل 1914 في طريقها إلى دمشق عبر الرمادي وقابلت الشيخ فهد بيك الهذال شيخ عنزة.
1 مايو 1914 وصلت إلى دمشق بعد رحلة مرهقة على ظهور الإبل دامت أربعة أشهر ونصف الشهر.
الثلاثاء 16 ديسمبر 1913
حمّلنا رواحلنا إيذانا ببداية الرحلة، وسارت قافلتنا في مروج خضراء بين أوراق شجر المشمش الذهبية اللون، وحقول القمح التي تتماوج تحت أشجار الزيتون الوارفة الظلال، بينما الفلاحون يقطفون الزيتون، وجمالنا ترعى شجر النبك. وفي عذرا تتفرع الطرق، وكان محمد يرغب في أن نضع الرحال ونخيم فيها لكنني رفضت. في هذه الأثناء قمنا بملء أربع قرب بالماء واشترينا ثلاث دجاجات، ومضينا في طريقنا. وعند الساعة 11:15 ترجلنا من رواحلنا ولحسن الحظ فإن الأرض منبسطة وأقمنا مخيمنا في مكان يبعد عن ضمير نحو أربعة أميال جنوبا، حسب تقديري، لم نرَ جنودا في هذا المكان وقبيلة الغياث في القيشله.
ذهب علي للبحث عن رفيق طريق يلتحق بنا، وانشغل بقية المرافقين في تجهيز المخيم والبحث عن الأشياء المتعلقة بالطبخ وبدا إبراهيم وسالم أكثر نشاطا وحيوية، والمرافقون الذين يقودون جملي هم علي وعبدالله وفرج (والأخير أسود البشرة، عبد). وباغتني محمد المعراوي وعلي بضم فلاح وكنت رافضة انضمام رجل رابع، والجمّالون الثلاثة هم من العقيلات (1)، لحسن الحظ أن الأمطار لم تهطل حتى الساعة 6 مساء، وكنا قد نصبنا خيامنا وطبخنا عشاءنا المكون من اللحم الذي جلبناه من دمشق.
الأربعاء 17 ديسمبر 1913
هبت الرياح وهطلت أمطار غزيرة ليلة البارحة واستمرت طوال اليوم، لهذا السبب لم نستطع الرحيل، وقمت بخياطة الحقائب بعد العشاء، وكنت طوال اليوم جالسة في خيمة الرجال الكبيرة أقرأ العدد الأخير من المجلة الاسبوعية تايم Time.
الخميس 18 ديسمبر 1913
الجو بارد والثلج يغطي التلال، واستغرق تحميل رواحلنا نحو ساعتين وثلث، غادرنا الساعة 8:35 وأثناء مسيرنا كان الطريق وعرا مغطى بالطين في المناطق الزراعية، وبين الفينة والأخرى تنزلق الجمال وتسقط على الأرض، عندما كنا جنوب مخيم الرومان التحق بنا حمد اللافي من الغياث كرفيق طريق، والأخير يبدو أنه على عداء (قوماني) مع كل القبائل ما عدا الزياد والجملان، وهم من القبائل الفلاحية، ولكن بما أنه يرافقنا فلا يخشى من بني حسن، وهم أعداؤه (قوم). والذين نفكر في أن يرافقنا واحد منهم، وقد رافقنا مقابل أن ندفع له مجيديا في اليوم، سعد ومحمد الملحم يُمنحان راتبا (معاشا) من الحكومة.
وبنو حسن مجموعة مستقلة ويقال إنهم من الغياث، في الساعة 11:30 وصلنا إلى أرض بركانية وأكملنا مسيرتنا عبر أرض صخرية إلى أن وصلنا إلى تل العبد نحو الساعة 2:30 وبالقرب منه وجدنا خبراء ماء ملأنا قربنا منها. ووجدنا الأعشاب التي تنمو بين الصخور وقاع الخبراء خالية من الصخور، وتحرك نحونا رجل ممتط بعيرا وكان من الجملان يستكشف من نحن؟ وجماعته يخيمون إلى الجنوب منا. كان منظر غروب الشمس جميلا، رأينا فلاحا يحرث أرضه وقد استغرب حين رأني، تناولنا وجبة شهية من الفطر.
الجمعة 19 ديسمبر 1913
استيقظت عدة مرات من شدة البرد حيث انخفضت درجة الحرارة إلى 2 تحت الصفر، كانت الأرض مغطاة بالثلج والضباب الكثيف يلتف حولنا، وقوضنا خيامنا وحمّلنا إبلنا الأحمال بعد 11 ساعة و20 دقيقة والضباب مرهق جدا لا أحتمله. وخف قليلا وأصبح مستوى الرؤية 8 أمتار، واستطعنا مشاهدة الجبل الشرقي وكنا نسير عبر أرض زراعية منبسطة ذات صخور بركانية ويتخللها بعض التلال (إلى الشرق من تل أوبنهايم) ومررنا بمحاذاة تل ملحة القرنفل إلى يساره، وكان الضباب يغطي نصفه وبالقرب منه كومة من الصخور السوداء، ولا أعتقد أنها موغلة في القدم. وينتشر الكثير من الشيح. نصبنا خيامنا في الساعة 2:15 بالقرب من جبل المكحول. الجو دافئ بعد ظهر اليوم. جلبنا الماء من الخبراء التي لا تبعد كثيرا عن خيامنا، لم نشاهد أحدا فالقبائل الكبرى رحلت إلى الحماد.
السبت 20 ديسمبر 1913
الجو قارس ليلة البارحة، حيث انخفضت درجة الحرارة إلى 7 تحت الصفر، استيقظنا الساعة السابعة وكانت خيمة الرجال تكاد تتكسر من الصقيع، فأخذت منا وقتا لطيها وتحميلها، لم نَنْتَهِ منها حتى الثامنة. تناولتُ إفطاري مع شروق الشمس وأخذ الضباب ينقشع تدريجيا، شققنا طريقنا في أراض منخفضة نحو خبراء المكحول، التي تخلو من الماء، ويكثر بها العشب والشيح، ونحن نسير شاهدنا جبل سَيْس الذي وصلناه الساعة 12 ظهرا.
مررنا بمضارب ولد علي، فانزعج محمد عندما رأى رجلين يعتقد أنهما راعيا أغنام من الزياد، وبعد أن غادرنا خبراء سيس الجافة وصلنا إلى خبراء مليئة بالماء تبعد عنها مسافة ميلين. وكذلك هناك خبراء صغيرة شمال شرق سيس لاتزال بها بقايا مياه. وإلى الغرب والجنوب من التلال البركانية توجد مياه في تجويفات (كهوف) داخل الأرض [دحول] تنتهي ببحيرة مياه كبيرة في الجنوب الشرقي.
في الساعة 12:30 ظهرا وصلنا إلى مكان فيه أنقاض مبان قديمة وأقمنا خيامنا هناك، ويغطي الأرض الكثير من الشيح والرمث، وتتكون المباني من مسجد صغير، وقصر له أبراج عدة، ويبرز برج أكبر من الأبراج الاخرى، ويبلغ ارتفاع القصر طابقين، ومشيد في جزء منه حمام من الطابوق وجزء من الحجر. والمسجد هو أفضل بناء تم بناؤه بطريقة منظمة من الحجارة، وأساسيات البناء من الحجارة المقطعة ولكن غرف الطابقين السفلي والعلوي مكونة من الحجارة الصغيرة وتم تمليسه بشكل منظم.
تسلقت قمة الجبل البركاني، وهو مكان مثالي لمشاهدة ما حوله وأخذت بعض الصور الفوتوغرافية، ورأيت خباري الماء الكثيرة في الشرق والجنوب، ولم أرَ أحدا من العرب وشاهدت عن بُعد جبل الدروز وجبل الصفا، ثم نزلت من الجبل وتناولت الشاي.
الأحد 21 ديسمبر 1913
أنهيت توثيق القياسات صباح اليوم، وشرعنا في الرحيل نحو الساعة 9:30 والآن أشاهد من بعيد دخانا يتصاعد من المضارب وبعض قطعان الإبل، وصعدت كومة من الصخور للتحقق مما رأينا ومن خلال المنظار المكبر [الدربيل] شاهدتهم، دون شك انهم عرب جبل الدروز، وبعد ساعة ونصف انطلق نحونا فارس يعدو بحصانه، وعند اقترابه أخذ يطلق نيران بندقيته في الهواء وأخذ يصرخ بوجه حمد عندما ذهب لمقابلته وصوب بندقيته نحوه، وذهب محمد المعراوي إليه وقال له: «يا ابن الحلال اهدأ نحن شوام وعقيل وقناصل، وكّل الله».
ودار حولنا كالمجنون وهو يصرخ « أنتم (قوم) أعداء! أنتم (عنزة)» وطلب من علي بندقيته وفروته فرماهما له، ثم جاءت مجموعة من الفرسان الآخرين لا يضعون كوفيات على رؤوسهم وأحدهم عار، وأمسك أحدهم بجمل محمد وسحب السيف المتدلي على الشداد وبدأ يرفعه بوجهينا (أنا ومحمد)، واقترب من جملي حتى أناخه، وسرق صبيان أشياء من خرجي، وبدؤوا بسلب رجالي مسدساتهم وحزام الطلقات، وكنت جالسة أراقب الوضع لا حيلة لي، ورأيت جملي ينهض من مبركه.
في هذه الأثناء أخذ فلاح يصرخ بوجوههم قائلا أنا أعرفكم وأنتم تعرفونني، لقد كان في مخيمهم قبل سنة حيث اشترى منهم إبلا، توقف الهرج والمرج وأعيد كل ما سلب منا وأشيائي الخاصة، وجاءنا شيخان وقد رحبا بنا وعادت الابتسامات ترتسم على محيانا، والقبائل العربية تخاف من أعدائها، وذهبنا إلى مضاربهم وخيّمنا بالقرب من هؤلاء نحو الساعة الواحدة بعد الظهر لكي نتجنب المخاطر المحتملة، وقد طلبنا منهم تزويدنا برفيق طريق وقد سألونا باهتمام فيما إذا رأينا عربا على طريقنا.
وجلس في مخيمنا الشيوخ، وقد أكرمت كل واحد منهم بـ5 مجيديات، وفي المساء عادوا إلى مخيمنا واستمعنا إلى أغانيهم وجلبوا لنا رفيق طريق اسمه عويش ابو علي، تحلقنا حول موقد نار القهوة، وحدثونا عن طريق قديم من قصر برقع إلى قصر الأزرق، وانجلى الصقيع. سألني عواد لماذا أرتحل إلى هنا؟ فأجبته: إنني أحب الصحراء أكثر من المدن، فأجابني: هذا صحيح، وأضاف قائلا: «لقد مكثت في دمشق الشام 14 يوما وكأنها 14 شهرا شعرت أنني سجين خلالها».
الاثنين 22 ديسمبر 1913
استمر هطول الأمطار الغزيرة حتى الثامنة صباحا، وكانت الصحراء مبللة لزجة؛ لكن هبوب الرياح قد تساعد في تجفيفها، استيقظت الساعة 9:40 والأمور أصبحت على ما يرام، وسرنا بمحاذاة الحافة الشرقية للحرة، جثم مرشدنا عويش على جمله أثناء مسيرتنا دون أن يقول كلمة واحدة، لقبه «أبوعلي»، إلا أنني أطلقت عليه لقب «أبو نعوم». نحو الساعة 2:25 خيّمنا بمقربة بأم الدو وهي أرض بركانية سوداء يكثر بها الرمث، ومقابل خيمتي توجد خبراء مليئة بالماء، والسماء ملبدة بالغيوم الكثيفة، والتلال الصخرية ممتدة أمامنا كأنها جدران بوابة خالية.
نعيش في عزلة عن العالم، نفترش الأرض ونلتحف السماء في طقس بارد، حدثنا علي عن زوجته التي تعيش في بغداد وقال إن وضعها غير (زين)، وإن أمها (كَلْبة هي اللّي خرّبَتْها). قال محمد المعراوي: هناك امرأة تتزوج بين 30 و40 زوجا وهذا غير مقبول، ورأى علي أن الأفضل زوجة واحدة فقط، ورأى محمد أنه إذا لم تنجب المرأة فمن الأفضل أن يتزوج امرأة أخرى، وإذا طلقت المرأة فيجب أن تنتظر قرابة ثلاثة أشهر، ومن بعدها تتزوج ولكن المرأة عند العرب تطلق بالصباح وتتزوج في المساء، وحدثني محمد عن مقتل هوبر على أيدي أفراد من قبيلة حرب.
وجاء الرجل الحربي إلى حائل مرتديا ملابس هوبر(2) فأمر محمد بن رشيد القبض عليه وأرسله إلى اسطنبول، ولكن لم تتخذ ضده أي إجراءات، وتم إرسال صندوقي هوبر اللذين يحتويان على أوراقه الخاصة، لكن الرجل قام بسرقة نقوده.
الثلاثاء 23 ديسمبر 1913
شرعنا بالرحيل الساعة السادسة، كان الجو باردا جدا، وبمجرد شروق الشمس طوقنا ضباب كثيف. رافقت القافلة مشيا على الأقدام حتى الساعة 9:30 وكان الثلج الأبيض يغطي ملابسنا، غادرنا أم الدو نسير في أرض منبسطة من الساعة 8.30 إلى 9:15، إنها أرض جرداء قاحلة لا نبات فيها، أعتقد أنها وادي مقاط الذي ينحدر إلى الرحبة. نحو الساعة 10:30 انقشع الضباب وشاهدنا الحَرّة إلى اليمين منا وهي تنحدر نحو الشمال الغربي على ضفاف وادي مقاط، كنا في وادٍ ومكثنا فيه حتى الساعة 12:15 ومررنا بتل فرداس الذي يقع قبالته قبر ابن ماضي أحد شيوخ العيسى الذي قتله بعيره منذ 20 عاما. تحت تل فرداس حدثنا عويش أبو علي كيف أن قبيلته غزت قبيلة عنزه وقتلت رجلا وفرسا وسلبت 40 بعيرا؛ ومنذ ذلك الحين أصبحوا «قوما» [أعداء]، وقال علي في هذا الوادي الذي نقيم فيه تعرضت قافلة محمد البسام المكونة من 200 بعير وهو في طريقه إلى نجد إلى هجوم من جانب المساعيد وصد هجومهم.
سرنا بالقرب من مكان يقال له الغدير وهذا الغدير كان مليئا بالمياه سابقا، وجمعنا كمية كبيرة من الفطر الذي ينمو بين الشجيرات، وفي الوادي هناك مُرْح [أثر] ولْد علي والمناطق التي تقع شرقي الحرة هي الحماد. وبينما كنت وعلي نتجول بحثا عن أرض لنخيم بها قال علي: يا ست دعينا ننتظر رواحلنا، كما تعرفين ليس لدينا سلاح.
الاريعاء 24 ديسمبر 1913
اكتشفت ليلة البارحة أنني قد نسيت مسدسي في المكان الذي ارتحلنا منه، وطلبت من علي أن يذهب لجلبه إلا أنه رفض وذهب بدلا منه حمد وعبدالله في الصباح الباكر.
شرعنا بالرحيل في الساعة السابعة، وصلنا قصر برقع نحو الساعة الواحدة بعد الظهر، مررنا بواديي مقاط والصواب من مناطق قبيلة عنزة وتبعد مسير 3 أيام جنوب القارة، وتبعد القارة مسير ليلة ويوم من قصر برقع. وتجلب عنزة التمور من شثاثة التي تبعد مسير أربعة أو خمسة أيام، لا آثار أو مباني قديمة عدا القلعة التي يوجد بالقرب منها قبور- وبعض عظام الموتى ظاهرة للعيان-، وآبار، وأرضها صخرية بركانية، وجدت كتابة كوفية على الجدران يبدو أنها تعود إلى عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك.
وبعد أن تناولتُ أكوابا من الشاي قمت مباشرة بتصويرها ورسمها، كان الطقس دافئا ولأول مرة وصلت درجة الحرارة إلى 13 مئوية، استخدمت منظاري للاستكشاف عندما وصلنا قصر برقع ولم أرَ أحدا من العرب ففرحنا، كان بالقرب من مخيمنا بقايا لجثة استخرجها ضبع بحفره القبر، ما يحيط بنا ظلام دامس بينما النجوم الزاهرة تزين السماء وشدني منظرها وأنا أنعم البصر إلى الشعرى اليمانية والجوزاء وهي تتلألأ في كبد السماء.
الخميس 25 ديسمبر 1913
كان الطقس باردا في الصباح انخفضت الحرارة إلى 2 تحت الصفر، وكان الماء متجمدا لم أستطع الاغتسال، تفحصت الكتابة الكوفية ووجدت أيضا أن هناك كتابة يونانية وأصبح من المؤكد أن القلعة رومانية. وصلنا عبدالله وحمد بأمان صباحا جالبين معهما مسدسي. وبالقرب من مخيمنا هناك بركة صخرية عليها كتابات صفائية تصعب قراءتها، لا أستطيع دراسة هذه الكتابات بدقة قبل غروب الشمس، وقبرا والد عويش وجده بالقرب من القصر، وارتفاع القصر بحدود ثلاثة طوابق. أشعل إبراهيم النار من الشيح الأخضر في القصر هذا الصباح وكان الدخان مقيتا فلام علي إبراهيم بشدة وقال: «إن الدخان والصوت يذهب بعيدا وقت الصباح»، ولهذا السبب عندما نشعل النار نستخدم النبات الجاف.
الأربعاء 31 ديسمبر 1913
ارتحلنا مع شروق الشمس نغذ الخطى وسط منطقة مرتفعة من الحرة على شريط السبخة متجهين (أنا وعلي) نحو قصر الأزرق، وصلناه الساعة الثامنة، يقع القصر في طبقة بارزة صخرية في بستان من النخيل والقصب وتحيط به الينابيع، تركت علي مع الرواحل في بستان النخيل، وذهبت إلى القلعة أو القصر دخلت من باب خلفي تحيط به صخور ثقيلة، عندما دخلت الغرفة وجدت شخصا من الدروز، استقبلني بود واحترام، وقدم لي القهوة وقال: «تفضلي يا سيدتي»؛ ثم شرعت في رسم مخطط القلعة ونسخ النقوش، في هذه الأثناء أحاط بي مجموعة من العرب ومن ضمنهم الجوفي، وهم يهتفون جميعا لن نسمح لك بعمل أي شيء دون أن تدفعي لنا بخشيشا- وإذا كتبت سطرا في دفترك فسنحرقه، طلبت من علي أن يتحدث إليهم لمعالجة الأمر.
وقاموا باغلاق البوابة الرئيسة ولم يفتحوها لنا لنخرج، فحاولت الخروج من البوابة الجنوبية الغربية. وقام علي بمحاولة تهدئة الأمور بالحديث معهم، فعدت إلى داخل القلعة، ولكن تكرر المشهد وبدأت من جديد المفاوضات، وأكد العرب أن ناصر الجوفي هو وحده سيد القلعة، وأخذني جانبا رجل عجوز هو خال ناصر، وأوضح لي أن ناصر ومن معه هم المسؤولون عن القلعة قبل ولادتي.
وعاد علي الذي ذهب بنفسه مرة أخرى إلى القلعة، وانتظرته تحت الأشجار، وأخيرا عاد العرب جميعا إلي معلنين أنهم في خدمتي، ثم عدنا مرة ثانية إلى القلعة، وجلبوا لي نقوشا اعتقد أنها جديدة، بدأت في الرسم والنسخ ووضع خطة بأن أنتهي منها قبل فترة الغداء. كانت الغرفة قذرة يعيش بها الإنسان والحيوان، وبعد الغداء أكملت القياسات وأنهيت عملي وبعد تناول الشاي ألقيت نظري على المنظر العام، الجو حار جدا في فترة ما بعد الظهر.
جاءنا رجل من كاف ذو شعر كث وعينان زرقاوان، وقال إنه يرغب بمرافقتنا إلى نجد. يقول إنه من رجال نوري الشعلان وعمل سابقا مع عبدالعزيز بن رشيد، والرجل الدرزي في القلعة اسمه فارس، وخارج عن القانون شارك مع سليم الأطرش ابن شقيق يحيى عندما قتل الأخير بالرصاص في معركة مع 14 من رفاقه ضد فصيل من الجنود الاتراك، وقتل ثلاثة أتراك وقتل منهم ثلاثة.
أصاب الرصاص عنق وصدر سليم، وعلق محمد قائلا: هل «مات هوا» [على الفور] أما مات بعد مدة؟ أجابه فارس: مات بعد 13 شهرا من إصابته، ولا يستطيع فارس العودة الآن إلى الجبل بسبب وجود الجنود في كل مكان.
تذكرت الأسماك والبط البري والخنازير البرية في الأهوار. ونحن نودع العام 1913 بين العرب والدروز، وفي ظلال الأباطرة الرومان والمماليك، ليمنحنا الله القوة وتغسل المحبة قلوبنا!
حدثنا فارس عن حي في اسطنبول يسكنه الدروز وإن لديهم مسجدا تحت الأرض يدخل إليه من باب سري، يقول فارس إن الدروز هاجروا إلى (حمص)، وجبل لبنان وجبل الدروز وجاء والده إلى جبل الدروز عندما كان طفلا في سن الثالثة، ووُلِدَ فارس هناك.
الهوامش
(1) العقيلات: مجموعات من الأفراد من قبائل عربية متحضرة، أغلبهم من أهل القصيم، ومعهم أحياناً أعداد قليلة من القبائل المتنقلة يعملون بالتجارة بمختلف السلع، ويقومون أيضاً بنقل البضائع والمسافرين والحجاج بقوافل على ظهور الإبل من الجزيرة العربية إلى مصر والشام وفلسطين والعراق والعكس. وكان سلوك العقيلات يتسم بالأمانة والشجاعة والصبر والتعاون والمروءة والإخلاص والصدق. وكان المستشرقون والرحالة الغربيون يستعينون بهم أثناء ترحالهم لما يتصفون به من سجايا نبيلة.
تجدر الإشارة إلى أن أحد شباب العقيلات (خليل الرواف) -القادم من بريدة- شارك عام 1937 في أحد الأفلام السينمائية مع الممثل الشهير جون واين في فيلم «المراسل الحربي» (I cover the war) ومثل في الفيلم دور حارس بدوي لشيخ قبيلة، ويعد الرواف أول عربي مثل في هوليوود. [المترجم]
(2) الرحالة والمستكشف الفرنسي شارل هوبرCharles Huber، ابتعث من الجمعية الجغرافية الفرنسية لاستكشاف جزيرة العرب، مرتين: الأولى (من 1878 إلى 1882)، والثانية (من 1883 حتى 1884)، ولهوبر مساهمات رائدة في مجال جغرافيا الجزيرة العربية: كرسم الخرائط وتحديد الأماكن وإحصاء السكان، وكذلك في مجال الآثار، التي تحمّل في سبيلها مشاق السفر وضحى بحياته ثمنا لاستكشافاته، نقب عن الآثار في أماكن متفرقة من الجزيرة فاستنسخ رسوماً وكتابات أثرية عديدة في وثائقه، وعثر على «مسلة أو حجر تيماء»، التي تحوي رسوماً ونصاً بالآرامية، وقد نقله هوبر قبل مقتله بفترة قصيرة إلى فرنسا ويُعرض الآن بمتحف اللوفر. [المترجم]
-----------------------------------------------------------------------------------------
(الحلقة 4)
الجمعة 2 يناير 1914
كان صباحنا دافئا، فاستيقظنا الساعة السابعة وأخذت أبحث مع علي وأربعة من الرجال في القصر في بعض الحجارة، ثبت أن القصر مشيد على أعمدة قوية، وهذه الأخيرة محاطة بحجارة شكلت المحراب، وأسفله ما يشبه السلة كانت تستخدم للقبور، حيث كان يقطن الرولة بأعداد كبيرة بالقرب من القصر. إنهم يأتون إلى هنا عندما كانوا في قوة كبيرة، وقبل أن يذهبوا إلى الشرق، عندما سقطت الامطار في الحماد، فكان بنو صخر لا يجرؤون على الهجوم عليهم.
معظم القريبين من موقع القصر هم الشرارات، ويقوم الأخيرون بتربية خيول الدروز في مراعيهم مقابل أن يقايضهم الدروز بالدقيق والبُن، وإذا ما وجد البدوي بعيرا شاردا في الصحراء قام بنحره وأكله، فحياتهم بائسة جدا.
امتطينا ظهور رواحلنا بالقرب من المقبرة وحمّلناها بـ11 قربة ماء، وهذا كل ما لدينا من القرب، شرعنا بالرحيل وبعد مسافة شاهدنا قصر عمرة، كان طريقنا طويلا عبر أرض مستوية، وكان نمران يردد بصوته الناعم الأنثوي عندما يُسأل: «قريب... قريب»، في هذه المنطقة هاجم رجال السردية بني خالد، وقتلوا امرأتين وطفلا وأضاف نمران: «وشبّتْ النار بين العرب».
لقد بدّلْتُ بعيري ببعير إبراهيم ورافقتُ علي، وكان وصولنا الى قصر عمرة نحو الساعة الثانية بعد الظهر، منظره مبهج يقع في فم واد عريض، هو وادي البطم، وانهمكت بأخذ الصور الفوتوغرافية حتى الساعة الرابعة، وبعدها شعرت بالارهاق.
القبة ترتكز الى مثلثات ركنية، والأسقف محمولة على عقدين يستندان على دعائم جدارية قليلة الارتفاع شيدت على غرار قصر الأخيضر [في العراق]، جميع القباب بناؤها من الطوب الرقيق تشبه الحجارة.
كان غروب الشمس رائعا، وكان هذا أول يوم دافئ طوال رحلتنا، وظلت الشمس متوهجة حتى الساعة 5:45 مساء.
السبت 3 يناير 1914
وصلنا إلى قصر الحرّانة نحو الساعة 11 قبل الظهر بعد توقفنا لمدة نصف ساعة جمعنا خلاله الحطب من شجر البطم وشجيرات برية أخرى في وادي البطم.
الأربعاء 7 يناير 1914
أسرني الجو الجميل المنعش، ومنظر السهوب والتلال الصغيرة، وصعدنا التلال المحيطة بنا، وقابلنا أحد الرعاة بالترحيب، وقال انه كان يرغب بالمجيء إلينا لولا خشيته أننا أعداء، ودعانا لتناول الغداء في بيته. إنه منظر جميل وأنت ترى السهل الممتد وسطه زيزيا وعلى جانبه الآخر قصر المشتى. أخذت أكتب رسائلي، وذهب علي وسالم ومحمد إلى مأدبا، ونصبنا خيامنا وأقمنا حتى بقية اليوم.
الخميس 8 يناير 1914
جو صحو صباح اليوم، وهبت الرياح في وقت لاحق. ذهب عبدالله لمعرفة مصير الآخرين وماذا فعلوا، وعاد عبدالله وعلي ومعهما فتوح! وغمرتنا فرحة هائلة بمجيء فتوح، مازال يبدو شاحب الوجه وآثار المرض بادية عليه. جلب لي آخر الرسائل: واحدة من ديك مؤرخة في 23 ديسمبر. بعد تناول الغداء امتطيت بعيرا وذهبت مع علي إلى قصر المشتى أو شبحه.
الأبواب مائلة إلى الخلف، ومقبضها والكتابة على الجدران لا تدل على أنها قديمة، وأثناء عودتنا إلى مخيمنا شاهدنا 3 فرسان ذاهبين إلى مخيمنا وعندما وصلنا إلى هناك وجدنا 3 جنود جالسين حول موقد النار، وتلاهم بعد لحظات مجموعة جنود آخرين يتراوح عددهم بين 10 و12 وكلهم غاضبون جدا ومعهم الشاويش يوسف، ويبدو أنهم بحثوا عني في كل مكان وأن لديهم برقيات من اسطنبول، هنا أدركتُ المأزق الذي يواجهني.
بعد غروب الشمس، تم إلقاء القبض على فتوح لاحتجاجه على ملاحقتهم إياي الدائمة وغير المقبولة من هذه المجموعة، وقاموا بسجنه في قلعة زيزيا، كذلك اعترضوا طريق عبدالله الذي كنت قد أرسلته إلى مأدبا مع البرقيات التي كنت أود ارسالها وجرى نقله إلى القلعة، وقاموا بتوزيع الرجال حول مخيمنا وسلبوا أسلحتنا.
الاثنين 12 يناير 1914
لم يصلني أي رد حتى الآن، فقمت بعمل رسومات أخرى لقصر الحرانة وبعد الظهر التقطت صورا فوتوغرافية للقصر، وزارني المدير محمد الشركسي، كما زارني مسيحي، خادم للخوري في مأدبا وأشار إلى أن شركسيا سلب منه زبيبا بقيمة 300 مجيدي، وتعهدت بالتدخل بالأمر.
الثلاثاء 13 يناير 1914
تناولت الإفطار مع المدير واليوزباشي، تحدثنا مطولا عن الشكاوى ضد الحكومة من الجميع، وقالا إن قرار هجرة الشركس من روسيا قرار خاطئ، وروى اسحق حكاية طويلة مفادها أن الإنكليز كانوا يرغبون في استقلال الشركس في مملكة خاصة بهم، لا تخضع لروسيا، وأضاف: جميع القبائل تتشاجر معا دون أن تقرر من هو رئيسها ومن هنا انفردت روسيا بحكمها. ثم ترسل القبائل الوفود ورؤساءها، ويقيمون في فندق وتسأل عنهم الملكة فيكتوريا من يكون هؤلاء الشركس، ثم ترسل إليهم من يطلب منهم «نقلهم من الفندق»، لكنها أوضحت أن روسيا قد استولت على أرض الشركس، وأصبح بعضهم بكوات، والبعض جنودا، وجنرالات والبعض مسؤولين حكوميين في روسيا، وبريطانيا لن تتدخل في هذه الأحوال.
قلت ما تريده تركيا لم يكن الجيش أو الأسطول ولكن الجندرمة [الشرطة] والتجارة، أرسلت لي زوجة اسحق باقة من الورود: الزهور المخملية الداكنة والقرنفل الحمراء، وفي المساء وجهت لي الدعوة لزيارة المعلم البروتستانتي من مدينة السلط، ليلة رائعة والقمر يضيء نصف المسرح.
السبت 17 يناير 1914
استيقظنا قبل الساعة الخامسة، وشرعنا بالرحيل في الساعة السادسة وسبب تأخيرنا كان فقداننا دجاجتين عثرنا عليهما في خيمة الرجال! كذلك فقدنا بعيرا وكان لا بد من البحث عنه، ولأول مرة في حياتي رأيت عقربا، يوم جميل، رياح خفيفة هبت من الشرق ثم نشطت في وقت لاحق، ونحن في مسيرة نقطع المسافات الممتدة على أرض منبسطة تغطيها الشجيرات القصيرة نسبيا.
انضم إلينا طالب بن زبن مع عبده من شمر وهو في طريقه إلى قبيلته، وأمضى ليلته معنا، يتحدث صياح بلغة عربية واضحة جدا، وناقشنا لهجات القبائل العربية وقلد محمد بصوت حاد لهجة قبيلة قحطان، وقال إنه لم يسمع أي سوء منهم، وذكر أن حربا يقطنون بالقرب من الحجاز.
لاحظ صياح أن أهل الشمال يجدون صعوبة في فهم لهجات أهل الجنوب، مصطفى هو فلاح من أبو غوش، وقال إنه جاء مع عائلته إلى زيزيا منذ سبع سنوات، وكان يبحث عن عمل في أم الكندم حيث أعجب في خدمتنا، وقال لزوجته إنه ذاهب منها إلى زيزيا، والفلاحون في تزايد اليوم.
في الصباح مررنا على مضارب المسيحيين في مأدبا ورأينا قطعان أغنامهم، وفي وقت لاحق شاهدنا بعض قطعان الإبل والأغنام لبني صخر، ارتوينا وملأنا قربنا بالماء من رجيمات علي، التي يكثر حولها الكثير من الحمامات، قال صياح: إن مسيرتنا تتجه نحو وادي السرحان، بعد فترة وجيزة نصبنا خيامنا، في هذه النجود نشاهد قليلا من الأشجار. قمت بتصحيح الأسماء التي ذكرها اسكندر في خريطته بمساعدة محمد، كان اسكندر هنا عام 1909، وهو العام الذي أمحلت فيه الأرض ولم تنزل فيه الأمطار «عام منحوس... هلك فيه الحلال».
قبل أن نصل إلى مورد الماء كان هناك عمود حجري في وسط الوادي الذي يظهر عليه وسم حمد، ابن عم فواز، قال صياح: هنا سقط قتيلا بعد مناوشات بين الرولة ومتعب بن كنج، أما الآن فإن عنزة وبني صخر أصحاب، وأشار علي إلى حكاية ليتشمان (1) وتوقفه في الكويت، وقال صياح إنه رافق موسى وكان من المهتمين في الخريطة التي رسمها.
الدمشقيون علاقاتهم راسخة مع الصحراء: كان سعيد بن فارس في الخريف الماضي في جنوب الجوف لشراء الإبل من الشرارات، وفي الربيع الماضي في الطبيق يتاجر هناك مع العرب.
سألت فلاح الشمري فيما إذا كان والده على قيد الحياة، فأجابني قائلا: «وَيْن، راح بعد ما أخذ العبدة» لكن أعمامه في نجد، مر أمامنا القطار وقت الصباح عندما شرعنا في الرحيل.
يحافظ صياح على أداء كل صلاة في وقتها، وخاصة إذا لم نكن راحلين، نهض الليلة الماضية وصلى في الخيمة في الساعة 8، وكان يسبح ويهلل حيث ترتفع إصبعه وتهبط، وهو يدعو ويقول: «الله أكبر» بينما كانت أحاديثنا تتطرق إلى بغداد وبلاد فارس.
الأحد 18 يناير 1914
صباح رائع وسماء صافية ودرجة الحرارة 6 تقريبا استيقظنا الساعة 6:15، كان طالب حريصا جدا على أن يتشرف باستضافتي «تشرفينا عند أهلنا»، ووعدته بزيارة بيته في طريق عودتي من الرحلة الطويلة، وبعد نحو ساعة افترقنا. عبرنا البوليات وسرنا في وادي يؤدي إلى طابا، حيث تنتشر الزهور المخملية الصغيرة، هناك بعض الآثار القليلة موجودة عند نهاية الوادي، الشمس لاهبة ودرجة الحرارة 17 في الساعة 3 عصراً.
قال صياح إن بني صخر يقطنون في فترة الصيف من 3 بيوت إلى 400 بيت شعر في باير والباقون يرحلون إلى وادي السرحان وإلى الغرب من زيزيا، وسألني عما إذا كنا نطلق على هذه الصحراء اسم صحراء بادية الشام، فقلت له: لا، إنها صحراء الجزيرة العربية، وقال لي: إنها تدعى صحراء بادية الشام، لأنها كانت تابعة لدمشق وتحت إطارها الحكومي.
وأضاف إن البدو الرحل يأتون في الصيف والخريف إلى دمشق طلبا للكلأ والماء، ولكنهم ينطلقون في الشتاء والربيع في فضاءات هذه الصحراء الشاسعة. وذكر صياح تعداد قبيلته بني صخر كما يلي: نحو 500 بيت شعر من الفايز، و300 بيت من العثمان، و200 بيت من حديثة، هناك أيضا الخرصان والهقيش نحو 200 بيت.
في الصباح الباكر مررنا بمجموعة كبيرة من الجبور راحلين وإبلهم، ولكن مصدر ثروتهم الرئيسة من الأغنام. أحجار الصوّان تغطي الأرض، وتبدو لامعة تحت أشعة الشمس، وتنتشر أشجار التنوب التي لا تحبها الإبل كثيرا، وتحتنا غدير ماء نقي صالح للشرب، مرض صاحبنا سالم، ووصلت درجة حرارة جسمه إلى 40 درجة مئوية.
وصلنا إلى قصر الطوبة نحو الساعة الواحدة وقمت بالتقاط صور فوتوغرافية حتى الساعة الثالثة عصرا، قصر الطوبة الجزء الذي يعلو الأبواب يشبه تماما ما هو موجود بقصر المشتى، ولكن المبنى عمل متسرع غير بارع في الصحراء، ولا شك أنه مشيد في العصر الأموي، يغطينا غيم خفيف ومنظر الشمس وهي تميل للغروب رائع خلاب، بالقرب من القصر عدد قليل من القبور التي تعود لبني صخر ومبين عليها وسم الدبوس الخاص بهم.
تحيط بالقصر وبمقربة منه كتل من الحجر الرملي تظهر بين الصوان، وكان موضع مخيمنا رائعا، ولكن يبدو أن الرجال قلقون من أن نتعرض لغزو، فالصحراء وراءنا «فاضية» [خالية من القبائل] وقصر الطوبة هو البوابة لغزو متوقع من عنزة أعداء بني صخر: وخاصة الفدعان والسبعة عدا العيسى والسردية.
الاثنين 19 يناير 1914
سرنا في وادي الغدف حتى الساعة 6:45 وهناك في نهاية الوادي وجدنا خبراء مليئة بالماء النظيف فملأنا قربنا. ثم واصلنا مسيرنا من خلال أحد روافد الوادي وعبرنا إلى المحيور، شاهدنا فيه رأسا صخريا مرتفعا على بعد سبعة كيلومترات. تابعنا المسير فيه حتى الساعة 11.45 وعندما خرجنا منه أصبحنا نسير على أرض مستوية تتناثر بها صخور صوانية، وشاهدنا ثليثوات وإلى الشرق شاهدنا جبل وقف الصوان.
عبرنا وادي القشة الذي يصب في المخروق فوادي السرحان، شاهدنا إلى اليمين منا صخرة ضخمة منتصبة تدعى الهادي، ثم انحدرنا إلى وادي الذروة ونصبنا خيامنا فيه. كانت درجة الحرارة قد ارتفعت من 1 حتى 21 مئوية. ينمو نبات الغضا في وادي الغدف وفي جميع الوديان، كما شاهدنا الكثير من العجرم والشداد [القتاد] وهو من النباتات الشائكة، والشيح وبعض الشنان والرمث.
كان بنو صخر ينطلقون بغزواتهم من ديارهم إلى مناطق نهر الفرات حتى مشارف منطقة عانة لغزو الرولة والعمارات في مضاربهم هناك، وروى محمد حكاية مقتل عبدالعزيز بن رشيد، قال: إنه قتل في غارة ضد ابن سعود وأضاف «إي نعم» قطعوا رأسه ووضعوه فوق رأس رمح وألقى صبي الحجارة عليه فسقط من الرمح على رأس حاملة وكسر جمجمته مما أدى إلى وفاته. وقال ابن سعود: يا عبدالعزيز إنك تقتل من جماعتي وأنت ميت وكذلك عندما كنت على قيد الحياة. وأضاف محمد: لو كان قد عاش في قديم الزمان لأصبح عنترة زمانه، وبعد أن تولى إمارة حائل قام بغزوات لمدة سبع سنوات من دون الدخول إلى حائل، ولم يدخلها إلا في السنة الثامنة، وفي إحدى غزواته كسب 9000 بعير و20000 رأس غنم.
قال محمد المعراوي: لقد كسبت 14 بعيرا في تلك الغزوات، وعندما كسرت عصاي أهداني ابن رشيد عصاه الخاصة وهي التي أستخدمها الآن، شدني الفضول للاستماع إلى ثرثرة الرجال، فلا يتحدث العرب سوى عن الغارات والغزوات وعمليات القتل، وعندما نصبنا خيامنا كانت ظهورنا باتجاه الرياح لكنها سرعان ما انحرفت على الفور وأصبحت تهب على وجوهنا. صخر الصوان أنهك خفاف رواحلنا، روى محمد أنه ذهب إلى بئر ماء على تخوم الجوف، ووجد بداخلها جثة رجل وكان عطشا يكاد أن يموت من الظمأ «متنا من العطش» فشرب منها إلا أن بعيره لم يستسغه ولم يشرب.
هناك خوف من الغزاة لذا أخذنا الحيطة والحذر وظللنا متنبهين، إن هؤلاء اللصوص إن وجدونا متيقظين انقلبوا إلى ضيوف، وإن وجدونا نائمين فسيسرقوننا. قال صياح جميع الغزوات تأتي على هذا النحو في الصيف والخريف للقبائل القاطنة حول زيزيا.
لم تكن مأهولة ولن تكون كذلك، وعندما انتهيت من حديثي نزع عباءته المصنوعة من الفرو وألقى بها على الرمل، وقال حان وقت الصلاة. قلت له: صل يحفظك الله، وقال صياح: كل رجل يجب أن يصلي؛ وصياح يصلي كل صلاة مع أقصى قدر من المثابرة.
من المعالم الغريبة في منطقتنا ثلاثة تلال مدببة حجرية تبدو بارزة وسط السهل المغطى بالأحجار الصوانية تسمى ثليثوات، وأنا أتساءل كيف شكلتها الطبيعة إلى حيز الوجود.
التقينا مجموعة من بني صخر وهم راحلون، وأخبرونا بأخبار سيئة عن مصادر المياه والرعي أمامنا، حيث قالوا إن مصادر المياه شحيحة وسيواجهون مصاعب هم وأنعامهم، قلنا لهم ستصلون إلى مصادر المياه، لكن ليست هذه الليلة، وبعد الظهر رأينا راكبي بعيرين يلحقان بنا من الخلف، وعرفنا أنهما الشيخ جدعان من الهقيش من بني صخر وأحد رجاله، وقد شاهدانا عندما عبرنا ثليثوات، وتوقعا أننا غزاة، قلت لهما: «نحن خشينا أن تكونا أنتما أعداء»، فقال لي: «لا، لا، نحن أصدقاء ولله الحمد،، كان الخوف يسيطر على الجميع ما عداي إنني الوحيدة التي ليس لديها ما تخشاه من الأمور. ودلفنا إلى وادي الباير الكبير الذي تكثر به شجيرات الطرفاء وهي أشجار رفيعة الأغصان، وعبره وصلنا إلى بئر باير الشهيرة، المكان الوحيد الذي يقطنه بنو صخر في الصيف فقط، وتصل بيوت الشعر حوله إلى 500 بيت، وبالقرب منه آثار قصر الباير آخر القلاع في الصحراء.
ولم يزر قصر باير أي أوروبي من قبل سوى كاروثرز، ولم تلتقط له صور فوتوغرافية على الإطلاق، وليس هناك سمة معمارية تميزه وهو قديم جدا، وقد يكون تشييده في القرن الثامن الميلادي، والآن سوف أذهب إلى المخيم لأستمتع لمدة ساعة بحكايات رجالي حول موقد النار.
الهوامش
(1) هو اللفتينانت كولونيل جيرارد ايفلين ليتشمان 1920-1880 (Gerard Evelyn Leachman) رحالة وضابط مخابرات بريطاني، قام برحلات على نطاق واسع في الجزيرة العربية. خدم في الهند وفي حرب البوير. أول رحلة قام بها في شبه الجزيرة العربية عام 1909، وشهد معركة شرسة بين قبيلتي عنزة وشمر قرب حائل، وزار الرياض عام 1912 لكي يقوم برحلة ثانية لعبور الربع الخالي، ولكن السلطان عبدالعزيز بن سعود رفض السماح له بذلك.
قضى معظم حياته المهنية كضابط سياسي في العراق، يسميه العرب «نجيمان» أو لجمن، كان قائدا لمنطقة البادية الغربية أثناء الاحتلال البريطاني للعراق-وكان مقربا لغيرترود بيل- وزمن ثورة العشرين (1920) التي شارك فيها العراقيون شيعتهم وسنتهم ضد الاحتلال. وكان ليتشمان متعجرفاً يعامل العراقيين بقسوة وجلافة، نشب خلاف بينه وبين الشيخ ضاري المحمود شيخ عشيرة زوبع الشمرية، فأطلق أقرباء الشيخ النار عليه ثم أجهز عليه الشيخ ضاري بسيفه، وقيل إن الشيخ ضاري كان يردد قبيل قتله بيت الشعر التالي: «يا ربعنا حيفٍ عليكم كيف العدو ما تذبحونه». ووقعت الحادثة في خان النقطة بالقرب من الفلوجة، وأثار مقتل ليتشمان اندلاع الانتفاضات القبلية على الفرات بين الفلوجة وهيت. [المترجم]
-------------------------------------------------------------------------------------
(الحلقة 5)
الأربعاء 28 يناير1914
أود أن أؤكد معلومة مهمة وهي أن الخصلة الملحة والمطلوبة عند السفر بين العرب ليست (كما يعتقد البعض خطأً) هي الشجاعة بل الصبر، وجدير بالذكر أن الطبيعة لم تهبني هذه الخصلة، فإن صبري سرعان ما ينفد، ولكن ربما تمنحني هذه الرحلة الفرصة عن كيفية ممارسة هذه الخصلة، لكنني أخشى ألا تتاح لي فرصة لممارستها.
كنت أنوي اليوم التوجه جنوبا لزيارة ابن جازي، ولكن حرب الدراوشة وشقيقيه عواد وعودة قالوا لي: إن ابن جازي قد رحل غربا ورحل معه الحويطات عن ديرتهم، ونسمع أن ابن جازي في الطور.
وأصبحت الصحراء خالية وهدفاً لغزوات كل من: هتيم، والفقرا، وبني عطية، وحرب، والعواجية (من ولد سليمان من عنزة) وغيرهم. ولا أعرف مَنْ منهم بالقرب منا ليغزونا، وبينما كنا مجتمعين في خيمة الرجال حذروني من أن أسلك الطريق الجنوبي لأنه محفوف بالمخاطر، قال حرب: «وحياة هذا الفجر»، أنصحك أن تسلكي طريق وادي السرحان.
على أي حال هم نصحوني بقوة بعدم اتخاذ هذا الطريق؛ بل يجب أن نذهب إلى الشرق إلى وادي السرحان ثم جنوبا كما كانت رغبتي، وإذا وافقت على ذلك فسيكون عواد شقيق حرب مرتاحا، حيث أسلك طريقا آمنا. وعلاوة على ذلك كان رجالي كلهم خائفين من الطريق الجنوبي دون استثناء، حتى علي الذي لا ينزعج بسهولة. وعليه لن أتجاهل هذه النصيحة ولا أستطيع أن أفعل شيئا إلا أن أوافقهم الرأي وإلا فسيعد هذا ضرباً من الجنون، ولاسيما أن الطريق من هنا إلى وادي سرحان ليس لدي خرائط له، علاوة على ذلك، يجب أن أرى بارتياح التقدم في إنجاز سكة حديد الحجاز والى أين وصلت، وعلى الرغم من أن تيماء تشكل خطورة لوجودها بالقرب منها، وكما أشار علي وكيل بن رشيد إذا وجدتُ صعوبة في الصمود أثناء رحلتي فمن السهل جداً أن يصبح ركوب القطار إلى دمشق أفضل من ركوب الجمال.
سيرافقنا عواد، ولكن بعيره غير جاهز اليوم، وبما أننا سنغادر غدا فلابد من ملء قربنا بالماء هذه الليلة، إذن عندما نذهب شرقا مع عواد غدا نكون قد «قصرنا يوما اخر هنا»... ثمة ثرثرة بأن ابن رشيد، سيسلمني للدولة حال وصولي إلى تيماء، لكن هذه الأخبار غير مؤكدة.
صعدت أحد التلال الحجرية بعد ظهر هذا اليوم، وتجولت بنفسي على طول ممر صخري مرتفع حيث اكتشفت من بين الصخور ربيع الصحراء: الأرض ترتدي حلة قشيبة من الزهور تتباين ألوانها ما بين الأبيض، والأحمر، والأرجواني، حتى الأشواك بيضاء مغطاة بالأخضر... الناس هنا فقراء لكنهم كمن يملك أغلى الكنوز.
عبارة حرب المفضلة: «لا أبو قليلٍ هَلَكْ ولا أبو كَثِيرٍ مَلَك“، الآن أشهد انتصار القمر الجديد على غروب الشمس، القمر في ليلته الثالثة- بدا الليلة الماضية ضئيلا جدا غاب بسرعة- وسأصطحب النجوم في الحال لتضيء مائدة طعام عشائي.
وقفت مع سالم وهو يرفع يديه إلى السماء قائلا: «الحمد لله» الذي ما خلقنا بدوا، وأيده فتوح، وقال: من الذي خلق الأتراك؟! قال: «الله».
قلت لهم سنتجه إلى وادي السرحان إلى «جهنم»؟ قال محمد إنه يستطيع قراءة الحظ من خلال الضرب على الرمال، وقام بشرح لكيفية قراءة الحظ.
الخميس 29 يناير 1914
شرعنا في الرحيل بصحبة عواد شقيق الشيخ حرب الدراوشة، وأثناء مسيرتنا رأينا بيوت شعر للشرارات وقطعان إبلهم، توقفنا لتناول القهوة في بيت شعر كبير وهو بيت عوده أبو تايه وقيل لنا إنه كالعادة خرج لغزو شمر. التقطت صورا لشقيقته علياء، وزوجتيه الشمريتين، وقيل إن أحد شيوخ شمر تشاجر مع ابن رشيد، ولجأ إلى مضارب الحويطات وأصبح جارا لعودة أبو تايه ثم شاركه في غزواته على نجد، وبالتالي فهذه الزيجات غير عادية. إن لدى عودة زوجة من الحويطات وأخرى من الرولة. (تزوج حرب مؤخرا من فتاة صغيرة وقد التقطت لها صورة مع ابنه قاسم من زوجته الأولى وقال لي قاسم: «هذي عمتي»).
قيل لنا إن الرولة يقطنون وادي السرحان، وإن عواد لا يستطيع الذهاب إلى هناك لأنهم سيقتلونه، وكان قد سبق أن قال لنا إنه لا يستطيع الذهاب إلى الجوف. أرسلنا عواد إلى بيت محمد وطلبنا منه البحث عن مرافق شراري يجلبه دون تأخير، وعاد محمد، وعواد، وعودة، وحجاج (الذي قد التقطت له صورة في بيت شعر عودة أبو تايه الكبير). لقد أحضروا لي جلد نعامة وخروفا وسيتناولون العشاء معنا وينامون في خيامنا. انضم إلينا الرفيق الشراري، سمعت أن هناك آثارا بالقرب من خبراء «كِلْوَة»، وقررت على مضض مشاهدتها.
قال محمد: «يا مستمعين» إنني أؤدي واجبا حكوميا حيث أجمع الضريبة للحكومة «ميري» نصف مجيدي، وأضاف: «انا شيخ دولة». هناك شيخ دولة آخر هو ابن جازي، عندما يحدث خلاف بين الحكومة والحويطي يذهب إلى مصر. أثناء الحرب حاول محمد الذهاب إلى مصر لكن الحكومة لم تسمح له.
الجمعة 30 يناير 1914
شددنا رحالنا إلى مضرب محمد أبو تايه ونزلنا بالقرب منه، يا له من منظر جميل جدا! وأنت ترى بيوت الشعر والإبل متناثرة في الوادي في أرض بكر ترعى بها قطعان كثيرة من إبل الشرارات، والشرارات ليست لهم ديرة محددة، وهم خصوم للحويطات، وبني صخر، وبني عطية، يقطنون في فصل الصيف حول الآبار على تخوم النفود، في المجهرية وفجر. قال محمد أبو تايه: «إننا نعيش مثل الحيوانات البرية».
يقوم بحراسة طريق الحج كل من: الحويطات من الكرك إلى تبوك، وبنو صخر في الشمال، وحرب في الجنوب. وقالت هيلة إحدى زوجات محمد: «لا نستريح ساعة». إنها في بؤس وحالة يرثى لها، وفي بيت شعر محمد هناك غزال المها مربوط، منظر جميل للرجال وهم يتحلقون حول موقد نار القهوة وتصطف حوله دلال القهوة الكبيرة، غمغم رجل عجوز قائلا: «الله يا الدنيا!». وجاء رجال من الشرارات وقُدّمتْ لهم القهوة، وأخيرا جاء عم محمد وهو طاعن في السن، وقال إن الجد الأول لكل الحويطات أحد أشراف مكة، تم ارساله عندما كان طفلا إلى العقبة، تزوج هناك وأصبح هو أب الجميع.
لا يُقْدِمون على بيع بعير من إبلهم أبدا، المال للميري كانوا يكسبونه من خلال العمل في الأماكن المزروعة في زيزيا- أو الجيزة كما ينطقونها- والكرك، وبطّـل [تخلّى عن] محمد الغزو منذ سجنه في دمشق الشام، يقول محمد: «شِفْتْ الموت وْبطّـلْت».
واحتج سعود – القهوجي- بسخط قائلا: «لا، وحياتك وحياة الله»، كانوا يؤمنون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واعترف بأن الصخور [بني صخر] عندما جاؤوا في وادي باير ذبحوا أضحية، لكن «الضّحيّة»– كما قال سعود- لم تكن للرجل الميت بل لله الذي يحميهم من الشرور، وأضاف: «يا حجاج مساك الله بالخير، سَمّعْنا ما عندك!»، وقام حجاج بغناء قصيدة على الربابة.
ثم قص علينا محمد حكاية محمد بن رشيد وقتله أقاربه حيث قتل اثنين وألقى بهما في بئر، وقال: «أشُبّ النار»؟ قال الأول: اي بالله يا شيخ محمد. وجرت العادة أنه بعد صلاة الجمعة يقوم الأمير باستقبال جميع الناس، يجلسون في أربعة صفوف أمامه، وكان حمود يجلس دائما على المنصة بجانب محمد الرشيد، قال حجاج الذي يعرف حائل «أنا أشهد بالله».
التفت محمد نحوي قائلا: إنه وعلى مدى أربع سنوات من ارتقائه سدة الإمارة كان محمد يذهب ليلا عبر شوارع حائل مصطحبا اثنين من العبيد، وكان الأخيران يتسلقان جدران البيوت للاقتراب من نوافذها، يسترقان السمع لما يقال. وأضاف «وإذا سمع مثلا محمد الضلعاني أو محمد المعراوي أو الست [يقصد غيرترود بيل] تتحدث ضده، يقوم صباح اليوم التالي إما بسجنه أو قطع رقبته».
مشهد رائع داخل خيمة محمد، حيث النار المتوهجة محاطة بحلقة من الحجارة، وخارجها هناك صخرتان كبيرتان تدعمان الخيمة لتثبيتها كأنهما معا تمثال منحوت، ودلال القهوة الكبيرة والناس يجلسون حولها، وصبية صغار ما بين الست أو السبع سنوات من العمر جالسون بوقار مثل الرجال البالغين، وزار خيامنا أحد الصبية ليلة البارحة ممتطيا صهوة مهرة جامحة، ورأيت صبيا صغيرا ممتطيا ظهر جمل قابعا خلف سنامه، وعندما يركب الصبي الصغير الفرس يتصرف كرجل بالغ.
يجلس بجانبي محمد، وهو ذو جسم ضخم، بثوبه الأبيض وكوفيته [شماغه] بحاجبيه السوداوين، يسحب نفسا قويا من الشيشة بين شفتيه الكبيرتين، أحضر العبد عباءة فرو [فروة] ذات أكمام طويلة ووضعها على كتفيه، وفي الخارج هناك فرس مربوطة بحبل طويل، وعندما عادت الإبل من الفلاة إلى المضرب أحضروا لنا طاسات كبيرة من الحليب. ورأيت الخَلْفات وحيرانها تبرك على الرمال أمام خيامنا.
عدتُ مشيا إلى خيمتي والطقس بارد قارس والهلال مرتفع كقارب في نهر، ونجما الشِّعْرَى اليَمَانِيَّة الساطعان يتلألآن في كبد السماء، وأنا جالسة في خيمتي رأيت نيازك هائلة تتساقط من السماء وقد سقطت من منتصف السماء، هناك بعض الندى في الطبيق، وعندما استيقظت في الصباح الباكر وجدت الصقيع يغطي الأرض وحبال خيمتي مبتلة.
السبت 31 يناير 1914
شرعنا في الرحيل قبل شروق الشمس مع علي، وعواد، وأحد رجال محمد يدعى «عودة» إلى كلوة، وسرنا عبر سلسلة طويلة من التلال والوديان الصغيرة التي لا نهاية لها، وفي الوادي بالقرب من خيامنا هطلت أمطار غزيرة في وقت مبكر من فصل الشتاء مكونة غدرانا وسط رمال الصحراء بخلاف السنة الماضية حيث شحّتْ الأمطار.
وحدثنا عواد عن غزوة كبيرة عبر الفرات في العام الماضي، وكان الغزاة يمتطون ما يقرب من 1200 بعير للحصول على الأسلاب، واستغرقت رحلة الغزو ثلاثة أشهر، ولم يقتل خلالها أي فرد، عبروا الصحراء وأقاموا ثلاثة أيام في وادي حوران ثم اتجهوا إلى قبيسة ومن ثم هاجموا الشيخ فهد بيك الهذال في الرزازة ولم يستولوا إلا على 200 بعير، لأن الإبل كانت ترعى في مكان بعيد في مراعيها، كان «عودة أبو تايه» مصمما على توسيع نطاق العمليات، وقسم رجاله إلى ثلاث مجموعات، أعاد الثلثين إلى موطنهم، واصطحب 400 غازٍ مرتحلاً شمالاً إلى حلب للإغارة على الفدعان والسبعة من قبيلة عنزة.
قال لي محمد ونحن نجلس في الخيمة الكبيرة: إن قبيلة عنزة لم ترفع شكوى إلى الحكومة لتسترد ما سلب منها، لذا فإن ما كسبه أبو تايه يعد غنائم حرب، وكانت الغزوة بأكملها لا طائل من ورائها، إذ لم يحصل أبو تايه على أسلاب ذات قيمة.
عبرنا وادياً كبيراً نسبياً يؤدي إلى وادي السرحان من جهة، ويفضي إلى خبراء أم رقبة من جهة أخرى، وقابلنا شخصا حويطيا ذكر لنا أن هناك قصرا على تلة يدعى الزوايدة فذهبنا لرؤيته. كان القصر ذا اطلالة جميلة على الوادي، في مكان عال، والقصر عبارة عن مبنى مستدير مشيد من الحجارة غير المصقولة، فيه قبو كخلية النحل، ويحيط بالقصر جدار دائري؛ ولا يتوسط الجدار تماما، وحوله صف من الحجارة يمتد إلى كفاف التل.
ويغطي الأرض التي نسير عليها حجر رملي أحمر حتى وصلنا إلى كلوة، وتوجد خبراء داخل البركة الكبيرة، وهناك آثار واضحة تدل على سد في الجانب السفلي. المبنى الأول هو خزان مياه (بركة) وفيه ثقب يساعد على تدفق المياه من الخبراء، لا زخرفة داخل القصر؛ وعلى سطحه ألواح حجرية وبقايا مدفع مورتر وحجارة صغيرة، وكتابات كوفية على الخزان، وهناك خدش في الباب، ولا زخرفة عليه، وفوق أحد الأبواب شكل من نمط الهرم من الجص والحصى. ويخلو القصر من الأقواس، وهناك عدد قليل من الحروف العربية مكتوبة على قطعة من حجر الخزان.
إن رؤية النوق وصغارها [حيرانها] في الصباح الباكر وهي بقرب بيت الشعر لمنظر جميل أخاذ، وقد ارسلنا رواحلنا إلى الخبراء لترتوي، ولم تعد إلينا إلا بعد التاسعة صباحا وذكر مرافقونا أن ذلولا واحدة بركت وحرنت رافضة النهوض فتركوها، وهي تبعد مسيرة ست ساعات.
لذلك وجب علينا عدم الرحيل غدا بانتظار عودة ذلولنا! جلست في خيمة محمد أستمع إلى حجاج وهو يصدح بصوته بمصاحبة الربابة يردد قصائد عن غزوات عودة أبو تايه وفخره بأخته علياء (الندى هنا والرمال البلورية هناك). وقبل مجيء رواحلنا كان قد نفد ما لدينا من ماء، والعرب الآخرون ليس لديهم ماء أيضا، وجاءت امرأة عجوز تشكو إلى محمد حال زوجها المريض وتطلب مساعدته في علاجه.
الأحد 1 فبراير 1914
ذهب أحد رجالنا ليلاً لجلب الذلول التي حرنت بالقرب من الخبراء، وعاد عند غروب الشمس واستغرقت مسيرته ثلاث ساعات، في غضون ذلك أمضينا بعض الوقت في التحدث إلى «عقيلي» من شمر من نجد، وقد وعدنا أن يرافقنا في رحلتنا، ولكن عندما عزمنا على الرحيل في اليوم التالي أخلف وعده ولم يصاحبنا، ويبدو أنه مجرد تمنٍّ لا أكثر، واسمه حسين من فخذ سنجارة من شمر.
جلست مع حريم محمد إلى وقت متأخر بعد الظهر، كنّ يخطن ثيابه القطنية البيضاء، أخته حمدة فتاة رشيقة القوام وجميلة جدا، وهي غير متزوجة، وله أربع شقيقات أخريات، وهن متزوجات، لقد تحدثت إلى واحدة من زوجاته رزقت طفلاً، إلا أنه توفي، ويلاقي مصطفى إزعاجات من علي العقيلي باستمرار، واشتكى مصطفى إلى محمد بأنه قد يضطر إلى تركنا إذا استمر علي في تكرار ازعاجه، وعليه اتخذت قرارا باستبعاده، إنه رفيق سوء.
في هذه الأثناء قررت أن أتخلى عن سيف ليعود إلى أهله إلا أنه أخذ يبكي، وقال: إنه كان في بيت الجوابري منذ كان طفلا وإنه لا يعرف طريقه بين هؤلاء الناس، فتراجعت عن قراري وأبقيته معنا، ولقد استأجر رفيق الطريق مساعد الشراري بعيرا بعشر ليرات مجيدية، فذهبت وقت الغسق إلى محمد وسلمته العشرة مجيديات، ودعا عشرة من الرجال ليشهدوا أنه استلم النقود، ونادى: «يا عودة، يا عواد، ويا حجاج، ويا... اشهدوا»، ثم إنهم شهدوا على أنه إذا عاد مساعد دون رسالة تحمل ختم محمد وختمي، كان عليه دفع 20 ريالا لنا، لأنه شرطنا حتى نصل إلى الجوف، وكان محمد يخشى ألا يكون نواف [الشعلان] هناك، وبالتالي يحتجزنا العبد إلى أن يأذن له نواف.
وعلاوة على ذلك لدينا الإبل التي تم شراؤها من مرعي وعليها وسم الرولة، حتى الآن نتجه جنوب شرق وهي الجهة المنشودة أصلا، وأقسم مساعد بأن طريقنا التي سلكناها تجعل غزو عودة ابوتايه إلى اليسار وتجعل الآخرين إلى اليمين، وحدثنا محمد بأن ديرة الحويطات اعتادت ان تكون آمنة قدر الامكان، وبمقدور المرء أن يضع كيسا من الذهب فوق رأسه والتجوال في الديرة في سلام وطمأنينة، ولكن في الخريف الماضي هوجمت قافلة من التجار من غزة مع رفيق حويطي من ابن عم الرفيق، الذي قتل ابن عمه والتجار وأخذ الغنيمة، وقد دمر هذا الفعل ديرة الحويطات بعد هذه الحادثة وسال دم بين رجال القبيلة، ويقول سعيد إن عودة أبو تايه طيب المعشر ومتواضع يتحدث إلى الجميع في بيت الشعر الخاص به، وهو عادل بين الجميع، ولكن عندما يستفزه الآخرون يغضب بجنون.
في العام الماضي قتل شراري شراريا من أفراد قبيلته، وكان القاتل من جماعة محمد، فما كان من محمد إلا أن ألقى القبض على الرجل، وقطع يديه وقدميه وتركه في الصحراء ليموت، كسب محمد في إحدى غزواته أعدادا هائلة من الإبل، ووضع وسمه عليها وائتمنها لدى أناس مختلفين تحسبا فيما إذا داهمهم غزو على حين غرة لا تكون جميع الإبل متجمعة أمام بيته، وعندما يبيع بعض إبله فإنه يأتمن أثمانها لدى االتجار في معان أو الكرك.
جاءت حمدة إلى خيمتي ودخّنَتْ سيجارة، فجاء سعيد وقال لها: خذي حذرك خشية أن يراك محمد وأنت تدخنين السيجارة، وتساءلت حمدة هل هو «مأمون»؟ وقالت إن لدينا قليلاً من «التتن» [التبغ]، والتتن يقدم للضيوف.
--=------------------------------------------------------------------------------
الحلقة (6)
الاثنين 2 فبراير 1914
وأخيرا شرعنا في الرحيل مغادرين مضرب محمد، وقد أعطانا محمد نصف كيس من القمح حملناه على أحد رواحلنا، مقابل ذلك أعطيته منظار زايس، وطلب وساطة علي لمنحه المزيد من الهدايا وأخيرا رضي بما أهديته، وكان الجميع يسأل عن التتن (التبغ). كان الطقس غائما وباردا جدا اختفت معه الشمس، ويرتحل العرب على الدوام وتقوم النساء بأعمال التجهيز للرحيل، لذا يشتكين بمرارة من التنقل المستمر، وقد عبرنا واديا ودخلنا في وادٍ آخر سرنا وسطه، وهذا الأخير يفضي إلى الحوصا، ثم دلفنا إلى حافة التلال.
وعلى نحو مفاجئ رأينا كتلا من الحجارة الكبيرة متناثرة هنا وهناك إلى الأسفل، وفي الوادي الرملي وجدت نباتات غريبة، وكأنها بلا جذور وبلا أوراق تشبه نبات الهليون الكبير، واللافت للنظر أن هذه النباتات كلها خضراء، تشكيل ملون واضح للتلال في أسفله: أحجار رملية حمراء وفي أعلاه صخور بركانية رمادية.
هذه الأحجار الرملية تعصف بها الرياح فتتناثر ولا سيول تجرفها إلى التلال، وجدنا ذلولنا (مطيتنا) هنا وأقمنا مخيمنا بالقرب من أشجار السدر.
أخذت أقرأ رواية «محنة تشارلز فيفرل»، وقمت بجولة مشيا على الأقدام فوق التلال المحيطة بنا والتي تغطيها رمال ناعمة وتتناثر فيها أحجار فيما يشبه فضلات الإبل (الدمن)، نحن على حافة قعرة الطبيق، وخلف كتلة التلال الحمراء الصغيرة يقبع عالم الرمال الجرداء يترك أثرا في الروح البشرية.
الطقس غائم وعاصف، والإبل ترعى في الوادي وقد نزعنا أشدتها، وهناك ناقة ترك الشداد جرحا غائرا على ظهرها فأغرى ذلك الغربان التي هاجمتها ونقرت الجرح مما زاده اتساعا، ولعلاج ذلك قام الرجال بعملية كي خلف الأذنين، وعلى الأنف، وعلى الذيل بعصا محروقة، قلت للرجال: إن السماء ملبدة بالغيوم «يجي مطر؟» فقالوا: الله هو الذي يرسل الخير، ولكن من المرجح أن الأمطار إلى الجنوب منّا.
الثلاثاء 3 فبراير 1914
افترقنا مع عواد اليوم وأعطيته كوفية (شماغ) من الجوخ، وخشيت أنه يعتقد أن ما أعطيته قليل جدا بحقه، واجتزنا قعرة الطبيق (الفيه) إلى خبراء غضي التي تقع في وادي غضي، وتبدأ هذه الأخيرة من خبراء الفيه إلى خبراء المسعود، وتبعد مسيرة ساعة تقريبا عن المكان الذي خيمنا فيه.
وسرنا في هذا الوادي بعد أن كنا قد ملأنا قرب الماء (السقاء) لدينا، وكنت أسير على أقدامي لمدة 25 دقيقة منذ رحيلنا إلى أن وصلنا جبل وعلة، ورأيت ثنيّة الريلان التي يبدو أنها امتداد للطبيق من جهة الشرق، ويطلق على الجانب الغربي من الطبيق العفر (الأعفر) والجانب الشمالي الشرقي الحمر (الأحمر) أو الأسود، وفي الوسط طور الذي يقع في وادي العسرة حيث لا أحد يقوم بقطع الأشجار لجمع الحطب أو كسر فرع من الشجر ليتخذه عصا. ولكنه يظل مرعى للإبل والأغنام. هناك خبراء كبيرة، وإلى يسار طريقنا من الفيه إلى مغيرا توجد خبراء كبيرة في وادي حصيدة تكون مملوءة بالمياه عند هطول المطر في فصل الشتاء وهي مملوءة تماما الآن، والمخاطر لمن يرتادها ليست كبيرة. هناك أسطورة مشهورة تتناقلها الأفواه حول تل في وسط طور يدعى «تل جدعان»، عندما تهب الرياح تفوح منه رائحة العنبر، وهذه الأساطير مشهورة بين الشرارات، وهذه المنطقة هي ديرتهم الأصلية وكانوا تحت حكم محمد بن رشيد الذي حماهم، ولم يعانوا انقضاض أي أحد على ديرتهم، ولكن بعد وفاته، قد تأتي إليها قبائل الحويطات وقبائل أهل الشمال. وهؤلاء الأخيرون خاضوا معركة حامية الوطيس قبل نحو 4 سنوات بالقرب من تل مقيح قتل خلالها نحو 300 رجل.
ومنذ ذلك الحين تمت المصالحة بينهم وأصبحوا أصدقاء، ويحكي مساعد نوعا من القصص حول الحيوانات مثل: الأسد والنمر وأبو الحصين (الثعلب) وكيف تتشاجر هذه الحيوانات للحصول على قطع من جسم الأرنب.
بدأنا نشاهد «العشب» والأشجار الخضراء اليوم، بعد الخبراء انضم إلينا غادي بن رمال وكان قد مكث مع الحويطات خمس سنوات، والآن يرغب في العودة بقطيع إبله ووالدته وشقيقه وشقيقته إلى قبيلته، وكان بمثابة رفيق وصحبته ذات فائدة مشتركة له ولنا، فهو لحسن حظه، أن الطريق تكتنفه المخاطر ولن يجرؤ أحد أن يسلكه بمفرده.
اليوم كان ماطرا والرياح تهب باردة. قلت لعلي: الناس في بلدي تخشى طقس هذا الصباح. قال: نعم، «عندنا هذا ماكو مثله». تحدثت إلى فتوح عن الإسلام والمسيحية وقال فتوح: إن المسيحية أفضل من الإسلام، لأن المسلمين أعيادهم قليلة، لديهم عيدان فقط، ولا يعرفون توقيتهما بالضبط بل يعتمدون على رؤية هلال الشهر لتحديد ذلك؛ إنهم ليسوا مثلنا حيث لدينا أعياد عديدة ونعرف توقيتها بدقة.
قال لي فلاح: طوبى للرحماء، وكان قد تشاجر مع فتوح الليلة الماضية لأنه أقسم بالله أنه التقط كيسا- كان فتوح اشتراه من دمشق الشام- لينام فيه في الصحراء. قال فتوح: ولماذا القسم بالله؟ ألم يعرف الله ذلك؟ نعم إنه يعرف فلا داعي للقسم، ورأى كل من سعيد وسالم أن القسم لم يكن مستحبا أو ضروريا.
الأربعاء 4 فبراير 1914
هل السرور الذي غمرنا يعود إلى أخذنا الطريق المباشر نحو نجد، أم أن هذه الصحراء القاحلة بلاد مرافقي من الرجال هي التي بعثت السرور في نفوسهم، وبقدر ما بعثته في نفسي أنا أيضا؟ لا أعرف! ولكننا مرتحلون بروح معنوية عالية واطمئنان، وأعتقد أن هذا الشعور يسود في ظل الأمن، وكان من حسن طالعنا أن التقينا في مكان التخييم يوم الاثنين أفرادا من عائلة شمرية مكثوا خمس سنوات في ديرة الحويطات والآن يريدون العودة الى ديرتهم، وقد نما إلى مسامعهم أننا في طريقنا إلى هناك لذا أبدوا لنا رغبتهم في الانضمام إلينا ووافقنا في الحال على ذلك، وكانت الفائدة متبادلة بين الطرفين، فمن ناحية بالنسبة إليهم لن يجرؤوا على اتخاذ هذا الطريق لوحدهم، ومن ناحية أخرى بالنسبة إلينا إذا ما تعرضنا لغزو من شمر فهم الضمانة لنا. نحن في الواقع نمثل قافلة كبيرة: بيتين من الشعر من الشرارات هم وحيواناتهم: (6 رؤوس من الأغنام والماعز) وقطيع من الإبل، ولا أعرف إلى أي مدى سيذهبون.
كان الجو ماطرا يوم أمس إذ كانت تهطل زخات قوية من الأمطار من وقت لآخر خلال معظم ساعات النهار. ارتحلنا جنوبا مباشرة من مخيمنا نحو الخبراء التي تكونت مياهها إثر سقوط الأمطار، حيث ملأنا قربنا من مياه الخبراء، وبعد ذلك تحولنا إلى الشرق إلى وادٍ جاف قليل الانخفاض وفي نهاية المطاف خيّمنا فيه، ولكن الوادي لم يكن خاليا من النبات ففيه: القتاد والنفل والشجيرات الخضراء التي انبثقت من وسط الرمال لتتغذى عليها حيواناتنا، وأخذت الإبل تأكل بشراهة.
أفرح قلوبنا صاحبنا الشمري عندما أخبرنا أن مناطق الرعي التي أمامنا ستكون أفضل وأفضل ونحن نمضي قدما، كانت كلماته لها صدى في نفوسنا، وقد رعت الإبل طوال اليوم ونحن مرتحلون واستمرت في الأكل ليلا حتى التخمة. أعتقد انه لن يكون هناك مجال للجوع على الإطلاق، وكانت أمطار نوفمبر الوفيرة هي التي أحيت الأرض الصحراوية فأهميتها واضحة هنا، والخباري مليئة تماما بالماء- مررنا بخبراء أخرى هذا الصباح وملأنا قربنا– والشجيرات منتشرة على أديم هذه الصحراء. شعرنا براحة واطمئنان كبيرين؛ كان ما لدينا من عليق (علف) لا يكفينا سوى لمدة خمسة أيام فقط، وإذا نفد ما لدينا من عليق ولم نجد للإبل ما تأكله فسنجد أنفسنا نحن والموت جوعا وجها لوجه! وماذا بعد؟ فكرت جديا ليلة البارحة- ونحن في الطبيق- لتفادي تلك المشكلة يجب أن نسلك طريق الجوف لكي نحصل على الطعام للإبل فيه، ومن ثم قررت أن جميع الاحتمالات مفادها عدم الوصول إلى نجد على الإطلاق، وألا مناص من اتخاذ قراري وإن كان محفوفا بالمخاطر، ووقف الحظ إلى جانبي.
هذه هي الصحراء الحقيقية كما تراها في الكتب المصورة، إنها مصنوعة من الحجر الرملي الأحمر حيث ينجم عنه أن تتداخل ألوانها بين الأحمر والذهبي لا شيء غير ذلك، ولكن لا شيء أحيانا تلال رملية نفسها في سلسلة طويلة من تلال معتدلة الارتفاع تذروها الرياح. وفي المنخفض بين هذه التلال توجد ما يطلق عليها النقرة، وتتناثر على سطحها الأحجار، وبفعل عوامل التعرية من الرياح والشمس تتحول هذه الأحجار إلى أشكال غريبة.
وهنا، فعزيزي فصل الربيع أعتقد أنه لا يمانع من قدومه، فالأرض اكتست بحلة قشيبة فالنباتات الشائكة الخضراء تشكل تباينا مقابل ألوان الرمال الذهبية والحمراء، بل إن بعض النباتات ظهرت أزهارها الملونة الجميلة.
وعلى الرغم من أنها شاسعة مترامية الأطراف وخالية تقريبا فإنها مفعمة بالجمال؛ هل أن من أسباب جمالها هو هذا الفضاء والهدوء؟ على أي حال أنا أحب ذلك، وعلى الرغم من أن الإبل تسير بوتيرة بطيئة، وتتناول طعامها حيث ما تذهب، فإنني لا أشعر بنفاد الصبر ولست في عجلة من أمري ولا تحدوني رغبة شديدة للوصول إلى المكان المراد، فلايزال الطقس باردا.
اليوم، وللمرة الأولى منذ صباحات عديدة، كان ميزان الحرارة فوق درجة التجمد عندما تناولت الإفطار- مجرد فوق درجة التجمد قليلا– وكانت تهب رياح عاتية طوال اليوم فتخفف من أشعة الشمس، والنباتات الصحراوية تنثر عطرها مع الرياح، قال علي: «رائحة الريح من العنبر» اليوم، عندما وصلنا إلى المخيم في أرض منبسطة رملية تتناثر بها أكوام من الصخور المكسورة، وجلب لنا مرافقونا المرتحلون من الشرارات حليب الماعز وقت المساء.
وبما أنني قد شربت كثيرا من حليب النوق الذي كان يقدم لي بطاسة خشبية كبيرة في بيت محمد أبو تايه، لذا لم أستسغ حليب الماعز وبدا لي خاليا من النكهة، جاءت إبلنا وقت غروب الشمس فذهبت لاستقبالها وتفقدها.
الخميس 5 فبراير 1914
كان الصقيع يغطي جميع التلال الرملية هذا الصباح، وهذه التلال تكون مرتفعة بشكل واضح من جهة الشرق وفيها نتوءات من الثلوج وتنخفض بشكل حاد من جهة الغرب، عبرنا طعوس النقرة، وهي سلسلة طويلة من الكثبان الرملية، وتتصل على ما يبدو في طعوس السويوينة.
في الساعة 8:15 نرى أمامنا تلال الهاوي التي تفصل بين السويوينة، كنا نسير عبر أرض منبسطة جرداء تماما، وصلنا إلى التلال الساعة 9:30 وظهر أمامنا مباشرة قليب السويوينة فالتقطت له صورة، هنا وجدنا تجمعات مياه الأمطار (خباري) في فيضة كبيرة أرضها منخفضة وصلبة.
في الساعة 11:32 خرجنا من هذه الأرض المنخفضة ورأينا مليح في الجهة الجنوبية الشرقية، وهو يتألف من مجموعة تلال، واستخدمت جهاز الاتجاهات وكان قياسي هنا 135 درجة، وأنا في هذا المكان أخذت جميع القياسات السابقة لمليح، وفي جهة الشرق تمتد سلسلة طويلة من التلال أخذت قياسها من منتصفها فكانت 126، وأخيرا هناك تل يدعى بارود الملح (119)، وفي وسط هذه التلال يوجد بئر وكذلك هناك بئر أخرى في بارود الملح.
الاثنين 9 فبراير 1914
كان يوم السبت الماضي يوما رائعا مبهجا، أمضيناه عبر أرض معشوشبة كالحدائق الغناء تنتشر فيها الأزهار مختلفة الألوان والشجيرات الخضراء، وفي الليل حين ذهبت إلى خيمتي واضطجعت على سريري، جاء إلينا ضيف من الحويطات، وأفادنا أنه كان خارجا لصيد المها، ويبعد مضرب جماعته مسيرة ساعة أو نحو ذلك، وقد التقينا بهم في اليوم التالي وهم ظاعنون، وشيخهم شاب يدعى محمد وهو حريص جدا على أن نخيم بالقرب من جماعته.
وكان قد أمضى الشتاء مع عرب ولد سليمان من قبيلة عنزة الشهيرة، وأبلغنا أن الشيخ يبعد على مسيرة 5 ساعات إلى الشرق، ونظرا لأنه ربما قد يسمع عن وجودنا أو قد سمع بالفعل، قررنا أنه لا مناص من الذهاب إليه واتخاذ رفيق طريق من قومه؛ ووفقا لذلك لجأنا إلى تغيير مسارنا نحو الشرق، ووصلنا مضربه الساعة الواحدة بعد الظهر تقريبا.
لم يُظْهر نوعا من الود تجاهنا، وبعد احتسائنا أول فنجان من القهوة بدأ باستجوابي: سألني عن مدى معرفتي بهذه البلاد وعن الهدف من قدومي إلى هنا، وبعد أن تناولت التمر في ضيافته ذهبت إلى خيمتي فنهض من مجلسه وتبعني، وشرع في تفحص كل ما عندي من ممتلكات، ومن سوء الحظ أن وقعت عينه على منظار الزايس وأبدى شغفه به على الفور، وطلب أخذ كل شيء شاهده فرفضت طلبه، وبحلول الليل وبعد مشاورات مع مرافقي وافقت على أن أعطيه مسدسا مقابل أن يرسل ابن أخيه معنا كرفيق، ولكنه عاد في صباح اليوم مرة أخرى يطلب المنظار وهددنا إذا لم ننفذ طلبه أنه سيتركنا نذهب دون مرافق من قبيلته وسنكون عرضة لمخاطر الطريق، ولم يقل لي ذلك شخصيا بل أسرّ إلى مرافقيّ فتوح وسعيد، وأضاف أنه لم يحدث أن ارتحلت امرأة مسيحية في هذه البلاد ومن غير المسموح لها الآن أن تقوم بذلك، وأنا لا أعلم ما إذا سيتم وضع هذه التهديدات حيز التنفيذ أم لا، ستظل نوعا من الشكوك لا أحد يجزم بما ستؤول إليه الأمور ولكن يجب أن نبدد هذه الشكوك ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، إن مرافقي سعيد يعرف عادات العرب جيدا ويعرف هذا الرجل أيضا، همس بأذن فتوح بأنه من الأفضل أن نعطيه المنظار لئلا يصيبنا الأسوأ، وفي نهاية المطاف تم تجريدنا من المنظار والمسدس.
ولم يكن أصحابنا الشمامرة المرتحلون معنا أفضل حظا منا، فقد تم الطلب منهم دفع ضريبة (خاوة) مرور مقدارها 3 مجيديات، وأثناء المفاوضات التي قام بها رجالي كنت جالسة أراقبهم من بُعدٍ وأنا أرتجف من البرد القارس، وأخيرا أصبحنا أحرارا وأذن لنا في الرحيل، وجدنا أنفسنا مع ثلاثة رفقاء هم: صيّاح ابن أخ زايد، ورجلان من الفقير هما: حامد شقيق الشيخ، وظاهر، ويقال إن الفقير أشد وحشية من ولد سليمان وكنا نخشى أن نعبر ديرتهم دون ضامن يرافقنا من رجالهم، ونخشى أن يُرسل الشيخ أحداً ليسلبنا بعد أن شاهدنا في بيت صياح، ويبدو أننا الآن آمنون تماما– «إن شاء الله!»- ولكن لايزال هناك أسبوع بيننا وبين الوصول إلى نجد وتقلباته البرّية الكثيرة، «خير إن شاء الله!» كانت رحلة اليوم مملّة جدا، لا نشاهد سوى التلال الرملية والصخور اللامعة، إنها أرض خالية من المعالم الأخرى، بدّد رتابتها قليلا مشاهدتنا لآثار مجموعة نعام، ولكن لا يمكن نسيان ذكريات هذا الصباح المثيرة التي عبرت بسلام مما بث السعادة في نفوسنا.
سألت الشيخ محمد بن فندي من الفقير (الفقرا) فيما إذا كان يتذكر خليل الذي حلّ ضيفا على والده، فأجاب: نعم، والله إنه كان رجلا طيبا.
الهوامش
خليل هو Charles Doughty (تشارلز داوتي 1843- 1926) رحالة ومستكشف إنكليزي قام برحلة إلى الجزيرة العربية عام 1876 وأطلق على نفسه اسم خليل، زار حائل عامي 1877 و1878 إبان حكم الأمير محمد بن رشيد، كان متعاليا فظا ومع ذلك حظي بحماية الأمير محمد.
[المترجم]
----------------------------
(الحلقة 7)
من دمشق إلى حائل على ظهور الإبل في 16 ديسمبر 1913، انطلقت رحلة غيرترود بيل من دمشق، ميممة حائل بقافلة مكونة من 17 بعيراً محملة بالمؤن والخيام، وثلاثة جمّالين، وطباخ، ومرشد، وقد تلقت تحذيرات عن المخاطر المحتملة، وبالرغم من أخذها الحيطة والحذر في ترحالها، فإن المخاطر واكبت رحلتها: حين هاجم قافلتها بعض الفرسان وسلبوا أسلحتها وذخيرتها عنوة، وانتظرت أسبوعاً حتى أعاد أحد شيوخهم ما سُلب، ثم اعترض طريقها مسؤول عثماني لمنعها من السفر؛ وبعد 10 أيام من المفاوضات المضنية، تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر. وعند مرورها بأراضي إحدى القبائل اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور، بحجة أنها "نصرانية"، واقترح سراً على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها، وفي حائل ظلت غيرترود بيل حبيسة في قصر برزان قرابة 11 يوماً، وقد سجلت معاناتها في يومياتها يوماً يوماً. وكانت، مع كل تلك المصاعب، مفعمة بالحيوية والحماسة، وقد شدها جمال الطبيعة في صحراء النفود، وكثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر، وأنها تعيش أجواء "ألف ليلة وليلة" الحقيقية. وتستعرض بي
الثلاثاء 10 فبراير 1914
شرعنا في الرحيل الساعة 6.15 وسرنا عبر أرض مغطاة بالحصى تتخللها تلال رملية مثل تلك التي عبرناها يوم أمس، وفي الساعة 8.5 أخذت القياسات على تلة «بيضات البيت؟»، وقد لا يكون ذلك الاسم الصحيح. وفي الساعة 8:35 شاهدنا حلوان والخنفة وعند الساعة 9.46 حصلت على سلسلة من القياسات من حلوان، وسنام، وذويبان، ومشيديه (ولكنني لست متأكدة تماما من صحة الاثنين الأخيرين، لم تكن لهما أهمية من ناحية المسافة) وإلى اليمين باتجاه الطعوس التي هي في نهاية الطرف الجنوب الغربي من النفود، وتيماء تبعد عنا مسافة مسيرة يوم للذلول، ويقع طريقنا إلى اليسار منها.
وفي الساعة 10.55 كانت تلال ثليثوات الصخرية إلى يسارنا وقمت بأخذ قياس الاتجاهات والمسافات من مكان ربما هو مشيدية، ثم عبرنا خبراء أم الطرفة الجافة، وأخذت قياسات من فوق ثليثوات في الساعة 11.45، ومرة أخرى في الساعة 12.30 قمت بنفس الشيء في حلوان وسنام. ومنذ مرورنا بالخبراء ونحن نسير فوق أرض منبسطة مغطاة بالحصباء السوداء، وفي الساعة 12:50 ودّعنا ثليثوات ووصلنا إلى تلال العسافية التي تقع في الجانب الجنوبي من وادي نيّال.
وفي الوادي أكثر من 100 قليب (بئر) ولكن لا تتوافر فيها المياه إلا في حالة أن تسقط الأمطار بغزارة ويسيل الوادي (فقط السيل)، وهذه المرة أعتقد أن قياساتي صحيحة لكل من: حلوان، وسنام، وذويبان.
وصلنا إلى مضارب الفقير في الساعة 1.30 في وادي نيال، التي تبعد مسيرة نحو 3 ساعات من العسافية، وهناك خبراء تسمى عروس تتدفق إليها المياه من الغِمَار عند سقوط الأمطار، وبيّن لي مساعد كيف أن الشرارات يحتمون بصدوع أكوام الحجر الرملي عندما تمطر لتفادي البلل من الغيث، ولفت انتباهي إلى واحدة منها، وأضاف أنها أيضا مأوى جيد للحماية من حرارة الشمس.
والفقير ليس لهم أعداء في هذه اللحظة ما عدا هتيم، وقال حامد وزايد: نحن الفقير نخاف من شمر، لأنهم يعرفون غارة عودة أبو تايه القادمة ولم يحذروا أصدقاءهم شمر، وكذلك أبدى مساعد شعوره بالخوف أيضا، وجدير بالذكر أن ظاهر من فخذ سرحان من الفقير.
كانت الرياح تهب علينا باردة طوال اليوم ولكن الشمس كانت حارقة عندما خيمنا، والأرض مغطاة بعشب وفير، ونشب خلاف كبير حول أي طريق نسلك، فعلي وغادي يريدان أن نسلك طريق مورد العسافية- لأنه أقصر حسب اعتقادهما- حيث نسقي رواحلنا ونواصل مسيرتنا من هناك، عبر ثمايل الشبكة في النفود، ثم إلى بير حيزان وهو نفسه من الخبراء إلى حيزان، وهذا الخلاف إما أن يكون بسبب الخوف من شمر (حيث كان فخذ السويد من شمر يقطنون في الشبكة عندما غزاهم عودة أبو تايه والآن قد ارتحلوا شرقا) أو لأنه، كما يقولون، لوعورة الطريق نتيجة كثرة الطعوس على امتداده، أما الآخرون فيحبذون اتخاذ طريق الخبراء، وأنا لا أعتقد أن هناك فرقا كبيرا في الوقت الذي يستغرقه أي الطريقين.
وعلمت أن الأمير ليس في حائل الآن إنما هو قرب الحيانية، وأعتقد أن هذا أمر مؤسف بالنسبة إلي، ويقال إنه قد أخطر جميع رجاله عن قدومي إلى حائل، ولكن لا أعلم فيما إذا قد يسمح لي بذلك أو يحيلني إلى جهة أخرى، وكذلك لا أعرف مدى صحة هذه الأخبار، وبدا غروب الشمس وطلوع القمر معا تقريباً.
الأربعاء 11 فبراير 1914
شرعنا في الرحيل في الساعة 6 صباحا، وكان الجو غائما، وصعدت ركابنا الضفة المقابلة من الوادي، ومن الساعة 6.20 حتى تقريبا الساعة 10 ونحن نقطع أرض «جَلَد» مفروشة بالحصى، أرض قفراء تخلو تماما من الكلأ، حتى الساعة 10 تقريبا ونحن نسير إلى الشرق من الطعوس وبقربها، ثم اتجهنا أكثر غربا فوق تلال رملية، وأصبحت الأرض رملية غير حصوية.
وفي الساعة 11.30 وصلنا الى خبراء الفصفص الواسعة، أرضها منخفضة تحيط بها تلال رملية وقاعها صلبة، توقفنا في هذه الخبراء الطيبة، وسقينا رواحلنا وملأنا قربنا (السقاء) واستغرق ذلك نصف ساعة.
إنه مكان مهجور وبائس ولكنه غمرني بالفرحة والسعادة لرؤيتي الماء فيه؛ لأنه إذا لم نعثر على الماء فيه فسنضطر أن نتجه جنوب غرب إلى البيد، وهو قريب جدا من تيماء وسيكون مضيعة للوقت.
كان زايد حريصا على أن نخيّم لمدة ثلاثة أرباع الساعة بالقرب من الماء، حيث تكثر هناك الأشجار، ولكنني أصررت على مواصلة رحلتنا، وعندما صعدنا أول طعس كبير من طعوس النفود الرملية، في الساعة 1.30 قمت بأخذ قياس الاتجاهات.
وجدنا وفرة من الكلأ إلى اليسار منا، فالعشب وفير وتكثر شجيرات الحماط والعلندا والرمث وكلها طرية والقتاد (الكداد أو التسداد) وهي ذات أشواك، وقال لي محمد المعراوي إنه يسميها خرفش، وهناك أشجار الغضا والأرطى التي لا تأكلها الإبل، ونبات العلقا الأخضر الذي لا يوجد إلا في النفود.
وصلنا إلى المضرب الساعة 2.45، وكان يومنا رائعا، قال حامد حارسنا- الذي ينتمي إلى الفقير- إن أفراد قبيلته يحرسون طريق الحج من دار الحمراء إلى المدائن (مدائن صالح) وإنه كان يحصل على صُرّة من المعاش والزهاب والملابس والمال سنويا عندما يعبر الحجاج في موسم الحج.
وقد اعتاد عبدالرحمن على جلب حزم كبيرة من العشب ويبيعها على الحجاج علفا لركابهم، أما الآن فقد كسدت هذه التجارة لأن الحجاج يستخدمون القطار، خيمنا في أرض ذات رمال صفراء، ها هي مناظر النفود المبهجة، وجدير بالذكر أن حراسة طريق قوافل الحج منوطة ببني صخر، والحويطات، وبني عطية، والفقير، والأيدا، وبيلي، وجهينة، وحرب، وولد سليمان من قبيلة عنزة من معاز بن وائل، وتعد تميم وقحطان من القبائل القديمة.
وعرض علي الرفقاء الثلاثة ختم المصنع لبنادقهم التي تظهر علامة التاج VR قلت لهم: لو كنت شيخا ذا شأن لمنعت كل أنواع الأسلحة من دخول الجزيرة العربية، ووافقني زايد الرأي قائلا: والله أفضل بكثير! سيعود الناس لسلاح الرمح والحجارة إذا لا توجد بنادق، حتى الخيول الأصيلة أصبحت نادرة الآن، وسلاح المدفع لا يوجد إلا لدى ابن رشيد، ولدى ابن شعلان مدفع واحد في الجوف في حالة جيدة.
يؤدي كل مرافقي الصلاة بانتظام إلا أنهم لا ينزعون عباءاتهم (بشوتهم) أثناء أدائها.
الخميس 12 فبراير 1914
كان رحيلنا في تمام الساعة 6 باتجاه طعس يدعى الصبي، وقمت بأخذ قياس الاتجاهات لذويبان والشبكة وعرنان وأيضا لتلال غنيم، والتي تبعد مسافة ساعة واحدة فقط من تيماء، وسهل المحيمرية بالقرب من تيماء، بالإضافة إلى التلال الرملية في بداية النفود التي تركناها خلفنا وإلى بير حيزان أمامنا.
والطعوس بلونها الأصفر هي كثبان رملية ينعدم الكلأ فيها تحيط النفود بما يشبه الخندق من ثلاثة جوانب أما الجانب الرابع فيفضي إلى شعيب عميق.
هذه الضفاف الرملية تنحدر من الشرق إلى الغرب بوجه عام، وتنحدر الوديان بينها فجأة إلى تجويف عميق جدا يسمى قعرة وأرض حواف النفود جَلَد (حصوية).
والطعوس مخروطية الشكل مدببة تقع في الشرق وتمتد منها ظهرة باتجاه الغرب، ولاحظت أن الأرض تنحدر انحدارا شديدا نحو الشمال، وبينما كنت أتسلق «طعس الصبي» جاءني فتوح وأخبرني أن إحدى نوقنا قد بَرَكَت ولم تنهض. وذهبت أنا ومحمد المعراوي، وفلاح ومعنا «عليق» (علف) ووجدناها ملقاة على جانبها، وقد هلكت إنها جثة هامدة. وقال محمد: «راحت هذي، لها الله؟»، قلت: «أحسن»، وقام محمد بنحرها، واستخدم سكينا حادا لقطع الوريد الوداجي، مع عبارة «بسم الله، الله أكبر»، كان سبب هلاكها مرض يسمى «الطير»، ولحسن الحظ أنها كانت واحدة من الإبل الضعيفة.
رأينا الكثير من آثار غزال المها، ورأى رفاقنا ثلاثا من المها لكنهم فشلوا في صيد أي منها، وكذلك رأينا آثار أقدام جديدة لعرب، وعندما نصبنا خيامنا شاهدت إبلا من بعد.
ذهب أحد رفاقنا لمعرفة مَنْ هُم– ودعوت الله- ألا يعود إلينا بأخبار سيئة! إن الرمال رغم نعومتها تشكل عائقا كبيرا للجمال أثناء مسيرتها، إذ تغوص خفافها فيها وبشكل خاص في القعور... أشعة الشمس حارقة في منتصف النهار، ولكن يهب نسيم عليل بارد مباشرة بعد غروب الشمس.
حدثني محمد المعراوي أنه في إحدى المرات كلف من الوالي محمد سعيد باشا لنقل رسائل مهمة من الوالي من دمشق الشام إلى معان، وكان الوالي عائدا من الحج منذ 3 أيام، وقال لي محمد: غادرتُ وقت الفجر وفي الفجر التالي كان في أم الجمل التي يقطنها عنزة ونحو الساعة 8.00 كنت في معان، وأضاف التقيت محمد بن جازي و8 هجانة (من راكبي الجمال) وكوكبة من الفرسان كانوا أعداء له (قومانيين) بسبب خلاف على بعض الإبل، التقيتهم ما بين وادي الحساء ومعان.
وكان ذلك قبل امتلاك الناس للبنادق، وكان مع ابن جازي بندقية مصرية جيدة، استوقفني محمد بن جازي وسألني من أنا؟ وكان ابن جازي قد عقل راحلته ووقف بجانبها ومعه بندقيته، صرخت: «أنا محمد المعراوي وأنت ابن جازي»، وقال لي: إن رميت رمحك فسأطلق النار عليك من بندقيتي، عندها سنموت معا، صرخ ابن جازي ورمى الرمح وقال: «أدبوا الكلب»، فقذف ثلاثة رجال رماحهم نحوي من الخلف، وخدشني أحدها ولكنه لم يصبني بأذى.
ثم أمسك محمد بن جازي بندقية الحويطي وأطلق الأخير رصاصة من البندقية مرت تحت ذراع محمد من خلال ملابسه، وكان يهدف من إطلاق النار ساقي محمد بن جازي والرصاصة مرت بينهما.
وركب بن جازي راحلته ورافقه جماعته وذهبوا بعيدا بعد مرور ساعة عصيبة هددت حياتي، وقال سعيد باشا: «سلّمك الله من أذى الحويطات». وقال محمد لقد حصلت على ذلول كهدية من الهقيش والخريشان، والتقى بأحد شيوخ الجبل من عنزة في معان وكان في طريقه للانضمام الى سعيد باشا وأهداه ذلولا أخرى.
الجمعة 13 فبراير 1914
الطقس بارد جدا وصل الى درجة التجمد ليلا، وطوال اليوم كان غائما، عاد مرافقي الثلاثة بصحبة عواد بن حبرون العواجي، وأخبروني أنهم لن يستمروا بمرافقتي في رحلتي، خوفا من شمر لأنهم لم يحصلوا على أخبار عن غارة عودة أبو تايه، ويخشى مساعد أن يُتَّهم بأنه سرب معلومات عن موضع مضرب شمر عندما كان في مضرب الحويطات. أجرة عواد مجيدي في اليوم مقابل مرافقته لنا، ودفعت أجرة الآخرين الذين سيتركوننا- وهم مساعد وزايد وحامد- مجيدي واحد في اليوم و8 مجيديات بدل ملابس، كانوا معنا 5 أيام بشروط مناسبة جدا.
كنا نرتحل على أرض مرتفعة جدا، وكان القياس في الساعة الثامنة 26 .5 وانخفض إلى 26.45 في الساعة 9.15.
شاهدنا حلوان في الساعة 9.30 وحصلت على قياسات كل من: عرنان وحيزا وحلوان والبير، وصعدت طعسا وأخذت قياسا لبير حيزان؛ يطلق عليه زبران، وقبل أن نخيم مررنا بقعرة على شكل حذوة حصان، أكثر انخفاضا في أحد جوانبها من الآخر، خيمنا في قعرة متكونة من مرحلتين من الانخفاض واحدة فوق الأخرى أيضا على شكل حذوة حصان واسعة.
وذكر أن ابن رشيد قد أرسل قافلة كبيرة لجلب البضائع (قد تكون أسلحة؟) قادمة من الحكومة العثمانية إلى المدائن (مدائن صالح)، ويقال إنها قد تتوقف للسقاية اليوم في حيزان، وبالتالي قد يكون هذا سبب خوف مرافقي الذين تركونا ويعتقد أن من نقل لهم تلك الأخبار هو عبدالله بن جلول.
عاد أحد مرافقينا هذا الصباح وهو يرتدي ملابس جديدة قد اشتراها من تاجر وجده في مضرب العواجية، يعرفه محمد المعراوي، وأنه يأتي في الأصل من مشهد علي (النجف) واسمه «صادق أبو العجينة»، كان هناك قدر كبير من نبات النصي اليوم، إلى جانب الحماط والرمث والعلقا، والعلندا. قال علي... الله. فتوح أبو ليلى تحت أمرك يا أبو قاسم! استغفر الله! «العمر حيلة ما في عصر غير ليلة».
السبت 14 فبراير 1914
رحلنا في الساعة 5.50، قبل شروق الشمس، منظر رائع جدا أن ترى النور يأتي على النفود، يلامس الجزء العلوي من الطعوس حول زبران ويتسلل إلى أسفل جنباته، والنوازي في القعر يغطيها الظلال. مررنا إلى الشرق من مجموعة طعوس زبران، وتسلقت طعسا في الجهة الجنوبية الشرقية وبذلت جهدا أثناء عملية التسلق، وقمت بتجهيز أدواتي لأخذ قياس الاتجاهات: جبل برد، بير حيزان، حلوان، اللقحة، نقطتين (أخذت في الوسط) ظلما، حيزاء، والأرض ظهرة متصلة مرتفعة على حافة النفود؛ وبعدها أرض جَلَد (حصوية)، ثم عرنان ويؤدي إلى جبل المسمى، وطعس فبران الكبير إلى الغرب من حيث وقفت، وإلى الخلف بالعودة إلى الصبي.
عندما نصبنا خيامنا كانت الساعة 9.10 في موضع يبعد نحو نصف ميل أو أقل عن زبران والذي كانت قياساته 306، في حين العودة إلى الطعس كانت 180.
ذهبت مع الإبل إلى حيزان الذي وصلناه في الساعة 10.25، وهو عبارة عن بئر تقع في منخفض عميق جدا، حتى إن البرومتر انخفض درجتين مع نزولنا، هناك بئر واحدة فقط جيدة للاستخدام هي «حيزان»، وكان الحبل (الرشاء) المستخدم لسحب الماء من البئر طوله بحدود 48 خطوة (37 متراً). وتقع إلى الجنوب قليلا بئر أخرى تسمى حيزاء وهي ميتة (مسدودة)، وفي أيام محمد بن رشيد تولت قبيلة الرولة حيازة هذه الآبار في هذه المنطقة وقطعت الطريق على شمر، لكن محمد بن رشيد طرد الرولة وردم بئرا واحدة، هي الحيزاء، وهذه الأخيرة ماؤها أقل جودة من حيزان، ولم تستخدم منذ ذلك الحين، وكلتا البئرين مطوية بالحجارة المشذبة المربعة تقريبا، والجزء السفلي منهما مغلف بقطع من الصخور الصلبة، وجلبنا معنا عمودين (مقام)، وبكرة (محالة) من الحديد، والحبل (الرشاء) لسحب الماء من البئر لأنه يوجد على أعماق سحيقة. وكان العرب يستخدمون ترتيبا مماثلا مع بكرة خشبية، كان مضرب العواجية قد شهدناه من فوق الطعس، وكان هناك بعض الاعتراض في البداية على قيامي بالتصوير إلا أن مرافقي الشمري شجعني على الاستمرار في أخذ الصور.
وبالقرب من البئر يوجد قبر الشيخ مشعان العواجي والد الشيخ الحالي، ودفن بعد مقتله في إحدى معاركه القبلية وليس هناك كتابة أو وسم على شاهد القبر، ركبنا ظهور رواحلنا برفقة غادي وشقيقه عائدين إلى مخيمنا، واستفدنا من بقية اليوم لعمليات الغسيل والنظافة. كانت درجة الحرارة 20 مئوية، تهب علينا رياح خفيفة غير مثيرة للغبار. تنتشر أعشاب وشجيرات خضراء تشكل وجبة ثمينة لإبلنا، فنحن الآن على الحدود بين عنزة وشمر، ومن القلبان أمامنا فصاعدا كل هؤلاء شمر، والفنده من عنزة الذين يشربون من حيزاء جميعهم أصدقاء لشمر، وليس للعواجية خصومة مع شمر ولكن خصومتهم مع هتيم، حيث نشبت مشاجرة معهم قبل 3 سنوات حول مناطق الرعي، إذ دارت رحى معركة كبيرة ومن تداعياتها أن فقدت عنزة 40 رجلاً (من جميع عنزة بمختلف أفخاذها) في حين خسرت هتيم 30 رجلاً.
ويقطن الشيخ العواجي في الصيف في بيضاء نثيل، وسألني أحد الرجال فيما إذا كنت نصرانية فأجبته أنني إنكليزية، والشيخ الذي يخيم هنا هو سليمان بن خلف العواجي، وهو ابن عم الشيخ الكبير مشعان، وقد أرسل الشيخ إلينا صبيا لمعرفة ما إذا كنا نريد أي شيء، وأثناء مسيرنا أشاد غادي بابن رشيد، وقال إنه بالنسبة إلى جماعته أفضل من عودة أبو تايه لجماعته الحويطات. كانوا يعرفون عن غارة عودة ولكن لم يقوموا بتحذير شمر، ومع ذلك أيضا أشاد بعودة أبو تايه قائلا: «كان مليح»، وعندما مرض مجند شقيق غادي في إحدى المرات أدخل مستشفى فيكتوريا في دمشق الشام، ويعرف مجند جيدا اللهجات.
عندما شاهدنا بيوت الشعر صباح اليوم أبدى عواد نفاد صبره وتلهفه للذهاب إلى البيوت والحصول على «العلوم» (الأخبار)، جلسنا أمام الخيمة نرسم الوسم على الرمال.
------------------
(الحلقة 8)
وتستعرض بيل في ما يلي يوميات الرحلة من 16 فبراير إلى 25 فبراير 1914.
الاثنين 16 فبراير 1914
أعاني نوبة شديدة من الاكتئاب اليوم، وكيف أضع هذا الشعور بكلمات معبرة، وماذا يترتب على ذلك إذا ما صغت عبارتي يا ترى؟ هل أكون أفضل حالا أم سيزداد اكتئابي أكثر من أي وقت مضى؟ تساورني الشكوك العميقة بشأن ما إذا كانت مغامرتي بعد كل تلك المشاق تستحق كل هذا العناء.
لن آبه بالمخاطر التي تكتنف مغامرتي فأنا لا أمانع ذلك؛ ولكنني بدأت أتساءل ما الفائدة المرجوة من هذه المغامرة برمتها. إن البوصلة تشير إلى بلاد معروفة إلى حد ما، هناك عدد قليل من الأسماء التي يمكن أن تضاف إلى الخريطة؛ أسماء الجبال الصخرية والسهول الجرداء واثنين من الآبار الصحراوية العميقة (الطوال) التي استقينا من إحداها اليوم، وربما تكون هذه جميع الإضافات.
ولا أعرف ما هو العرض الذي سيقدمه آل رشيد لي عندما أصل، حتى لو كان مستوحى من أفضل إرادة في العالم، فتساورني الشكوك فيما إذا كان بمقدورهم أن يفعلوا أكثر من أن يسمحوا لي بحرية المرور إلى بغداد، لقد تضاءلت سلطة آل رشيد ونفوذهم في الوقت الحاضر، ولم تعد قوية كما كانت فيما مضى. والطريق إلى بغداد كانت مطروقة مرات عديدة من قبل، ولا أرى إن كانت الرحلة إلى نجد ذات قيمة حقيقية، أو أنها إضافة حقيقية للمعرفة، إنها لم تضف الشيء الكثير المميز. لقد توصلت وبوضوح إلى حقيقة مفادها أن كل ما يمكنني القيام به أن أختار بين طريقتين أثناء مهمتي هذه في الجزيرة العربية.
الأولى طريقة حياة الصحراء Arabia Deserta (كما عاشها داوتي): وهي الانغماس في حياة ناس الصحراء هنا والعيش مثلهم لشهور وسنوات، وبهذه الطريقة يمكنني أن أتعلم شيئا ما هنا، إلا أنه من الواضح لا يمكنني أن آخذ بهذه الطريقة؛ لأن هناك أمورا محظورة علي لكوني امرأة، (لا كما فعل داوتي).
والطريقة الأخرى (كما عاشها ليتشمان Leachman)– أن تركب ظهر بعير أو تمتطي صهوة حصان وتتجول في البرية وبيدك بوصلة لترسم الخرائط فقط لا لشيء آخر غير ذلك، وهناك بعض الفائدة من ذلك أيضا وقد أكون قادرة على القيام به على مساحة محدودة بالزمن، ولكن لست متأكدة، على أي حال لا أقوم بذلك الآن.
والنتيجة النهائية هي أنني أكون أكثر نفعا عندما أعمل بوظيفة في بلدان متحضرة (مدنية) حيث أعرف ما الذي أبحث عنه وكيف أدونه، ولو كان هناك أي شيء يستحق التدوين فلن تجده أو تصل إليه، والواقع أن المشاهدات على الطريق قد يعوقها أن تقابل قبيلة معادية تقطع طريقك، أو أن يكون الطريق خاليا من الماء، أو أي شيء من هذا القبيل، إنها لا تستحق كل هذا العناء والذكر، وما علق في ذاكرتي وصادفته على طريقي خلال الأيام العشرة الأخيرة لا يستحق الذكر كما أشرت: تحدثنا عن بئرين مررنا بهما، وفي الحقيقة لا أستطيع التفكير بأي شيء آخر. لذا هل يا ترى أن ذلك سبب اكتئابي، أخشى عندما أصل إلى النهاية أن أنظر إلى الوراء هل أقول، إن «ما قمت به كان مستحقا»، أم أنني من المرجح عندما أنظر إلى الوراء سأقول: «ما قمت به كان مضيعة للوقت؟!» ومع ذلك فمن المؤكد أن ما قمت به لا يمكن التراجع عنه الآن، لقد سبق السيف العذل.
أعتقد أنني حمقاء عندما دخلت في معمعة هذا الضياع، عندما أقحمت نفسي بأمور أنا في غنى عنها، إذ لم يكن لي مطلق الحرية لممارسة أعمال هي من صميم اهتماماتي الخاصة، هذا أدى إلى تثبيط هممي؛ لأنها أتت بعد فوات الأوان، مثل معظم أفكارنا الحكيمة. هذه هي الأفكار التي تختلج مخيلتي هذه الليلة، ومع خشيتي من خطورتها إلا أنها تقترب من الحقيقة.
أتمنى أن يحدث أمر ما: شيء مثير، غارة، أو معركة مثلا! شيء ليس من اختصاصي، ما دور اختصاصي بالآثار غير مبال للمعارك؟ كأن دوره ما هو إلا لتزجية الوقت ومنافعه ضئيلة، لا أشعر على الإطلاق أنني مثل ابنة الملوك، والتي من المفترض أن تقوم بهذا الدور هنا، إنه دور النساء المضجر في الجزيرة العربية.
الخميس 19 فبراير 1914
بَطّل (تخلّى) لهيلم– الليلة الماضية-عن فكرة مرافقتنا خلال ترحالنا؛ ولكن تم إقناعه بأن ذلك يعد نقضاً لعهده وتخليا عن شرف كلمته فوافق على مرافقتنا، دفعت لعواد نصف مجيدي، ولغادي ريالا فرنسيا أبو شوشة لكونهما رافقانا أثناء عبورنا ديرة عنزة، لم يأت الشمامرة إلى مخيمنا لوداعنا، تركونا لحالنا وذهبوا إلى بيوتهم.
كان الجو غائما باردا مع رياح شمالية غربية عاتية، ولم تنقشع الغيوم إلا في فترة ما بعد الظهر، وقررت أن أسلك الطريق من خلال الجلد وإن كان هناك بعض الخطر من هتيم، ولكنني لا أستطيع مكابدة مشاق طريق النفود، ونهاية النفود تسمى السطيحة، ومع ذلك فإن محمد المعراوي ولهيلم يأخذان على الدوام اتجاها آخر فأضطر إلى تنبيههما لتعديل وجهتهما وتصحيح المسار مرة أخرى.
حاول لهيلم- من الساعة 10 فصاعدا- حثي على أن نحط رحالنا ونخيّم قائلا: إنه لا توجد مراع أمامنا، لا يوجد عرفج أو أي شيء آخر، وبينما كنت أسير مشيا على الأقدام للحصول على الدفء التقيت أحد الرعاة من شمر، وكان يلوح بيده اليمنى فاقتربت منه ولوحت له بيدي أقدم له التحية، وأمطرني بالأسئلة:
- إلى أين أنا ذاهبة؟
• قدّام.
- من هم الذين معي؟
• من شمر من السويد من السند.
- من أين ِأنا آتية؟
• من دمشق الشام يا ولد!
هذا وقد أخذت قياس الاتجاهات منذ الصباح وركزت على الرديفة، وشمال الضلعان في جبل المسمى التي مررنا بالقرب منها في الساعة 12.30 ومن هنا شاهدت نجد، يا له من منظر فظيع وموحش يوحي بالعدم، أنقاض من الحجر الرملي الأسود، وجروف جبل المسمى في الأفق الشرقي؛ نسير في البرية القفراء: ها هي الضلعان والغراميل منزرعة في أرض رملية عارية، والأرض المنبسطة تفصلها عن تلال الفردات المرتفعة في الجنوب، وخلفهما في الشمال سلسلة حبران المتقطعة... لا تزال الرياح تهب باردة شديدة، وعبر طريقنا لا تفارقنا المشاهد الرائعة للضلعان والغراميل.
الثلاثاء 24 فبراير 1914
في الساعة السادسة ركب محمد المعراوي وعلي راحلتيهما متجهين إلى حائل، وبعد 10 دقائق شرعنا بالرحيل، وهطلت أمطار غزيرة ليلة البارحة وكان صباحنا جميلا منعشا، وسرعان ما قادنا الطريق من خلال التلال إلى ضلعان غرانيتية من النهايد إلى طوال الصبروه وتل خلف والجاعد في الساعة 8.45.
أثناء عبورنا من خلال الضلعان اجتزنا مكانا قد حددت قياسه سابقا قد يكون أو لا يكون «مديرية» (أعتقد أن الاسم ليس دقيقا؟). توقفنا لملء القرب من الساعة 8.55 حتى 9.30 في غدير ماء خبراء كبيرة بين الصخور، شعور مفعم بالحيوية في هذه المنطقة الغرانيتية حيث اكتست الأرض بالشجيرات الخضراء والزهور الملونة الصغيرة. وانتشرت أشجار الطلح الكبيرة في كل مكان، وتفوح من السهل رائحة عطرة من البعيثران بأز هاره الصفراء.
مررنا بقصر ابن رشيد في الساعة 11.45 حيث اعتاد ابن رشيد أن يخرج لتفقد خيله هنا، ويقع القصر في بستان نخيل كبير، وفي الساعة 12.35 رأيت قرية لقيطة التي تبعد عنا نحو 3 كيلومترات، وفي الساعة 12.45 وصلنا عبر التلال إلى سميراء، وبيننا وبين حائل أرض منبسطة من الغرانيت والبازلت الحصوي، وفي الطرف الشمالي الشرقي يقبع جبل أجا الذي أصبح الآن إلى يميننا.
وأقمنا على مسافة 2 كيلو متر من حائل، حيث بمقدورنا أن نراها، لاتزال رحلتنا ممتعة للغاية، حدثني سعيد عن مجازفاته في عمليات التجارة منذ كان عمره 15 سنة والآن عمره 40 سنة، وكان يتقاسم مع من يشاركه التجارة، أيا كان، أرباح النصف مقابل «التعب» في الشراء، وإذا قبل في أرباح النصف فإنه أيضا يتحمل الخسارة الممكنة، وإذا كان يأخذ الثلث فقط فإنه لن يعاني أي خسارة.
إن تجارة الإبل والأغنام والسمن قد ارتفعت أسعارها على ما كانت عليه في نجد بسبب المنافسة القوية بين المشترين من العقيلات الذين يعملون فقط للتأجير، وإذا كانت السوق المصري جيدة يكسب التجار ما بين 200 جنيه إسترليني إلى 300 جنيه إسترليني من كل بيعة 1000.
والربح من رَعيّة (قطيع) الغنم والإبل هي ما بين 71 إلى 81 جنيها لكل 500 رعية أغنام، لكل رعية إبل تحتاج إلى اثنين من الرعاة من العرب، وهناك رعاة قطيع إبل من شمر كسبوا ما بين 20 و30 مجيديا من خلال سفرهم إلى دمشق الشام، لكن تجارة الأغنام يكتنفها الكثير من المتاعب والقلق فمخاطر تعرضها للفقدان أو الهلاك محتملة. في إحدى المرات بالقرب من الموصل خسر سعيد قطيعا كاملا من الأغنام، وقال: إنه على إثر هذه الحادثة «خارت قواه ولم يستطع السير»، ولكن بعد البحث لمدة يومين عثر على القطيع، وقال إنه لم يجلب في المرة الواحدة أكثر من 100 أو 150 من الإبل وذلك خشية إغراق السوق.
ولكن محمد البسام كان يجلب 150 رعية (قطيع) في وقت واحد، وكان المعراوي هو الأشهر والأكثر ثقة في هذه التجارة، وفي إحدى المرات اشترى 500 رأس غنم وباعها في سوق دمشق الشام لرجل لم يرها - مجرد ثقة به– قال له: «أعطني يدك فقط» وتمت الصفقة... بعد الاتفاق على السعر.
سئل مرة أحد الرولة: «عندما يأتي إلى قبرك الملكان ويسألانك عن أعمالك بماذا تجيب؟» قال: «سأقول أنا رْويلي ميّتْ، القَوْل والحَكِي عند ابن الشعلان، هو شيخنا، اذهبا واسألاه».
الأربعاء 25 فبراير 1914
شرعنا بالرحيل نحو الساعة 6.30 متجهين نحو حائل، وكان رجالي متلهفين للوصول إلى هناك، وبعد ثلاثة أرباع الساعة شاهدنا ثلاثة رجال قادمين كان أحدهم رفيقنا علي يمتطي بعيرا جاء مسرعا، وقال لنا: «كل شي على كيفنا» وأضاف قابلنا إبراهيم السبهان وكان كريما وأبدى ترحيبه بكِ.
وكان برفقة علي فارسان يمتطيان صهوتي حصانيهما، تقدما نحونا، أحدهما كان ممسكا برمحه، إنهما من عَبِيد ابن رشيد، واستقبلانا بكثير من الود ورحبا بي بشكل خاص، وفي وقت لاحق انضم إليهما فارس آخر هو حسن الضايفي، وأثناء مسيرنا أشاهد تلال السمراء النائية، وحين صعدنا احدى التلال رأينا حائل أمامنا، يحيط بها سور منخفض من الطين، ويبدو أنه شيد في الآونة الأخيرة، مع مجموعة أبراج مصقولة، أبراج شاهقة الارتفاع تظهر من بين بيوت البلدة.
أشجار النخيل الخضراء تعانق السور، وتمتد أرض منبسطة يغطيها حصى الغرانيت الأحمر، وفي جنوب المدينة أرض فضاء، التففنا حول السور ودلفنا إلى بوابة قفار أو المدينة، ويمتد أمام البوابة شارع واسع خال، وعلى الفور إلى اليسار وجدت محمد المعراوي واقفا ينتظرنا أمام باب المنزل. ترجلت من راحلتي وسرت في ممر طويل منحدر يؤدي إلى ساحة ثم إلى قاعة كبيرة مسقوفة، سقفها من سعف النخيل يقوم على جذوع نخيل بيضاء، والجدران مطلية باللون الأبيض وزُيّنت بأقوال وحكم كتبت بخطوط حمراء وزرقاء وفرشت الأرضية بالسجاد والوسائد، ورسمت الزخرفة التشجيرية على الجدران، وهناك نوافذ صغيرة جدا، في صفين الواحد فوق الآخر.
هنا جلست على الوسائد في الزاوية، هذا هو القصر الخارجي لمحمد بن رشيد، حيث اعتاد أن يأتي إليه لمشاهدة قوافل الحجاج التي تتجمع في الساحة المقابلة له، وقد استقبل هذا القصر شخصيات هامة زائرة، عندما ذهب الرجال لمعرفة المكان الذي سينصبون فيه خيامنا، صعدت فوق سلم خشبي إلى سطح القصر لمشاهدة مناظر حائل.
ناداني الصبي عطا الله (الرقيق-العبد) للنزول وجاءتني امرأة عجوز في الروشن (1) (صالة/ مجلس الضيوف)، مرتدية رداء قطنيا أحمر وفوقه عباءة سوداء وضعتها على رأسها، وتبعتها امرأة أخرى، ترتدي رداء قطنيا خفيفا لونه أحمر وأرجواني وفوقه الجلباب وتضع وشاحا مصريا ذهبيا مطرزا على رأسها، وسلاسل من اللؤلؤ الخالص مع حبات من الزمرد والياقوت يطوق رقبتها، وقلائد طويلة تمتد من الرقبة إلى الصدر، وسوار حول معصمي يديها وخواتم في أصابعها من الذهب الخالص الثقيل مرصع بها الألماس.
إنها تركية الشركسية، ربما نسبة لأصلها التركي، عاشت في إسطنبول في طفولتها، وتم إرسالها إلى الشريف وعاشت في مكة المكرمة لمدة سنتين، ولا تعرف لماذا تم إرسالها، ربما لتعلم اللغة العربية، وهكذا جاءت إلى هنا الى عبدالعزيز بن رشيد، وبعد مجيئها نسيت اللغة التركية.
وقالت لي تركية: إن إبراهيم أرسلها لترحب بي في حال لم أكن أعرف اللغة العربية، وقامت بتعريفي بأجزاء البيت، وكانت تجلس النساء في الصالة وفيها مكانان لعمل القهوة: داخلي وخارجي، وكانت الصالة تستخدم سابقا لاستقبال كبار الشيوخ العرب. وهناك جناح آخر ذو غرف صغيرة تستخدم لإقامة نساء محمد بن رشيد عندما يأتي إلى هنا، كل زوجة في غرفة خاصة بها، وبعدها ساحة مفتوحة أخرى صغيرة، وحوش يزرع فيه الليمون، والسفرجل، وتوجد أشجار التفاح، وللروشن الكبير شرفات، في إحداها يوجد تلسكوب، وفي الأخرى مصحف كبير قديم.
الممر مغطى من جانب ومفتوح من الجانب الآخر، والسقف من سعف النخيل محمول على أعمدة من جذوع النخيل، أخذت تركية تحدثني عن إسطنبول كثيراً وعن وسائل النقل مثل الترمفاي والعربات وعن المواد الغذائية، ثم قالت ومع ذلك هنا الحمد لله اللحوم والتمور جيدة ورخيصة! ما ينقص إسطنبول إلا تمور حائل! والسمن رخيص هنا، ترعرعت تركية بين العرب لذا تسلك سلوكهم، ترتدي ملابس مثلهم، وتمشي عارية القدمين مثلهم، وتسرح شعرها الطويل مثلهم حيث تترك فرقا في منتصفه، وقالت إنها تأكل لقيمات الأرز واللحم بكفها وبين أصابعها (أي لا تستخدم الملعقة والشوكة)، وتشرب اللبن! وترى تركية أن هذا وطنها وبيتها تود أن تموت هنا ولا تود أن تبارحه قيد أنملة، لا ترغب في العودة إلى إسطنبول على الإطلاق.
وفي وقت لاحق طلبت مني أن آخذها معي إلى إسطنبول وإنها ستقوم بتدبير أمورها هناك، أرسل السلطان العثماني عبدالحميد أربع شركسيات إلى محمد بن رشيد، اثنتان عادتا بعد وفاته، وواحدة إلى جانب تركية لاتزال تعيش هنا ومتزوجة شخصا يعيش في السماوة.
وحالما خلت الساحة من رجال حائل، جاء سالم وطلب مني ومن تركية ولولوة أن ننزل إلى أسفل لرؤية خيامي، وتبعنا كثير من الفتيات العبدات الجميلات، وعرضت تركية لهن كل الأغراض، الطاولة والكراسي وأواني الطبخ، وشرحت استخداماتها، مشيرة إلى كل إناء بإصبعها وطريقة استخدامه بدقة. لديها لسان معسول وإن كانت غير صادقة في بعض الأحايين. قالت:
«جئت هنا على طول الطريق من إسطنبول لإيجاد رجل»، وأضافت: «وأنتِ لا شيء لديك». وتقوم لولوة بوظيفة وكيلة للبيت بتصريف الأعمال- وهي وزوجها مقيمان هنا منذ زمن محمد بن رشيد، وقتل زوجها مع عبدالعزيز بن رشيد. وتقوم على خدمتها امرأة عبدة وابنها الصبي «عطا الله»، ويحرس الباب عبد اسمه «سعيد» اقتيد ككسب من قبيلة عتيبة، حيث جرت العادة عندما تقوم معارك قبلية يؤخذ العبيد كغنائم حرب مثل الأفراس والإبل، ويقوم العبيد ضعاف البنية في مهمة جمع الحطب وسحب الماء من البئر، أما الأقوياء فيسلحون ويقومون بمهام قتالية، وهناك أيضا فئة الخصيان الذين يجلبونهم من إسطنبول أو مكة المكرمة- الطواشي، وهناك أيضا مواطن من حائل، اسمه صالح، يعمل كرقيب على القصر، بعد تناول وجبة الغداء طلبتني تركية فذهبت وجلست معها، والحريم لا تذهب خارج القصر على الإطلاق.
قالت تركية: كنت هنا عندما قتل عبدالعزيز وتحدثت عن النحيب والعويل الذي أعقب ذلك، جاءتنا العبدة وجلست معنا. وقالت «أنا لم أصلِّ الظهر»، وقالت لها تركية: «يجب أن تذهبي وتصلي، يجب أن تذهبي وتصلي»، لقد انقضت أكثر من ساعة بعد الظهر، وبعد ذلك أعلن إبراهيم انه غير مسموح لي بالذهاب إليه بسبب التذمر من قبل علماء الدين. ذهبت إلى الروشن وجلست، وجاء عبد طويل القامة يسير أمام إبراهيم ووقف في الباب، ثم دخل إبراهيم وهو يرتدي على رأسه الكوفية (الشماغ) الأرجواني والأحمر وفوقه عقال مذهّب، ويلتف حول جسمه عباءة مطرزة بالذهب ويمتشق سيفا مطليا بالفضة. وتفوح منه رائحة عطر الورود الزكية، وجهه طويل ورقيق مع لحية ملكية ضئيلة؛ وأسنان تغيّر لونها، وعيناه سوداوان مكحولتان.
وتحدثنا عن الرحالة الذين زاروا حائل مثل: الليدي آن بلونت (2)، ويوليوس أوتينغ (3)، وتشارلز داوتي، ثم تناول حديثنا شؤون منطقة بريدة التي تخضع الآن لحكم ابن سعود؛ أما عنيزة فهي تحت حكم أميرها المستقل ولا تدفع الزكاة لابن رشيد، وقبيلة عتيبة قسم منها مع ابن رشيد، وقسم آخر مع ابن سعود، ولكن بعض أفرادها «قوماني» لكلا الطرفين على حد سواء.
جاءتني تركية ولولوة حينما كنت أحتسي أكوابا من الشاي، وتجاذبت معهما أطراف الحديث، وتركية تحب الثرثرة كثيرا، وتصف الأمير بـ«السلطان الله يسعدو». أرسل لنا كل من: علي وسعود، أبناء حمود وصالح بن سبهان، أربعة خراف نجدية سوداء وكيسا من الأرز، وعند الغسق عادت تركية برفقة عبدتها إلى القصر، وكانت الفتاة العبدة تجيب تركية على الدوام عند أي طلب منها بـِ»لبيكي». قالت تركية إنها لم تمشِ منذ سنوات وإنها تشعر بألم في ساقيها، وقالت إنها عندما تمشي وقت الغسق يحد من حركتها السياج الطويل والأسوار الطينية الواحد بعد الآخر وهناك أيضا آبار في الطريق يخشى الفرد أن يسقط فيها وإن كان بعضها «مدفونا».
الهوامش
(1) جاء ذكر الروشن في شعر عبدالعزيز بن إبراهيم الحامد:
ياملّ قلبٍ من الهوى متعوب = لاهوب طربٍ ولا سالي
غاية هواه جادل الرعبوب =في وسط بيتٍ نايفٍ عالي
في روشنٍ مالسّه اللاهوب = وِمْنَادمٍ دلّه وفنجالي
ياليت خلّي ينجلب بالسوق =أشريه أنا في الحال بالمالي
(المترجم)
(2) الليدي آن بلنت (Lady Anne Blunt (1837 -1917 رحالة إنكليزية مهتمة بالخيول العربية الأصيلة، وقد أنشأت إسطبلاً في إنكلترا للخيول العربية، قامت عام 1878 برحلة - برفقة زوجها- إلى بادية الشام والعراق، واشترت خيولاً من القبائل البدوية هناك وتم إرسالها إلى إنكلترا، وألفت كتاباً عن هذه الرحلة بعنوان «قبائل الفرات البدوية Bedouin Tribes of the Euphrates» وقام الزوجان برحلة أخرى إلى حائل بنفس العام، ووثقت تلك الرحلة بكتاب عنوانه «رحلة إلى نجدA Pilgrimage to Nejd». (المترجم)
(3) يوليوس أويتنغ (Julius Euting (1839 – 1913 مستشرق ومستكشف ألماني، كان مديراً في مكتبة جامعة ستراسبورغ، لعدة سنوات، ثم في مركز الأبحاث الشرقية. قام برحلة برفقة المستكشف شارل هوبر إلى الجزيرة العربية حيث اكتشف آلاف النقوش الآرامية والنبطية والسبئية وزار منطقة حائل عام 1883م. (المترجم)
-----------
(الحلقة 9)
وتستعرض بيل في ما يلي يوميات الرحلة من 26 فبراير إلى 2 مارس 1914 من العام نفسه.
الخميس 26 فبراير 1914
بعنا 6 من الإبل بمبلغ 36 جنيها، بخسارة قدرها 15 جنيها إسترلينيا مقارنة بتكلفتها، ونفق لنا بعير كلفنا 8.5 جنيهات، ومن هنا فإن خسارتنا الإجمالية بحدود 23.5 جنيها، وبقية رواحلنا الـ13 بعيرا أرسلناها إلى النفود للمرعى، ورعاتها عودة وسيف واثنان من الرجال، وطلبت منهم إبقاءها حتى تشفى من الجرب.
قمت بكتابة رسائلي وأنا في الروشن حين زارتني لولوة والعبدة الصغيرة، جلستا بقربي وأخذتا تتحدثان، وقبل الظهر جاء الأمير الصبي عبدالله بن طلال الرشيد مع العبد، إنه فتى وسيم، عيناه سوداوان مكحولتان، ويضع على رأسه عقالا مطرزا بالذهب، ونظرته حزينة. وفي فترة بعد الظهر جاء شقيقه الأصغر محمد، أيضا نظرته حزينة وخجولة، متأبطا يد صبي صغير آخر من بيت الجبر (الذين قتل محمد كثيرا منهم بدعوى تآمرهم على حياته) أخذتهم إلى خيمتي وعرضت لهم كل شيء في الخيمة. جلسوا وأكلوا بسكويتا وتفاحا حتى حضر صالح، وجلسنا مرة أخرى في خيمة الرجال. سألت محمدا إذا كان يجيد القراءة والكتابة، فأجابني: نعم، أذهب إلى المدرسة.
وكان عبدالله قد أنهى تعليمه. وأضاف «إنه يعرف كيفية القراءة والكتابة، يعرف كل شي» ويعرف تسلق النخل، وكان لديهما عبدان صغيران يرافقانهما، وقال صالح: رفع الآن آذان العصر «ألا تنهض لتأدية الصلاة يا محمد؟» ونهضوا من المجلس ومشوا جنبا إلى جنب بطريقة رسمية حتى ابتعدوا عنا، وبدوا مثل رجال قصار القامة وهم في ثيابهم الطويلة، ولمحمد ضفائر طويلة جدا تتدلى على جانبي رأسه.
هذان الفتيان من أبناء طلال وسعود وابناه الاثنان (لديه أربع زوجات على الرغم من أن عمره نحو 20 عاما) والابن الصغير لمتعب بن عبدالعزيز: هو كل ما تبقى من أحفاد عبدالله بن رشيد.
بعد تناول الشاي ذهبت مع سالم وسعيد العبد خارج المدينة وجلست على صخرة أمعن النظر في الكتابة على الجدران الحديثة، إنها خطوط: عبدالله بن صالح وما إلى ذلك...، داخل السور تشع حقول الذرة الخضراء كالمجوهرات، ويسمى القسم الأوسط لبُّة بوابتها إلى جنوب الشرقي (بوابة لبة)، وهناك خمس بوابات للسور بأكمله.
هناك بعض المساحات الفارغة داخل الأسوار لكن أغلبها حدائق. إلى الجنوب هناك حدائق أو بساتين كبيرة منفصلة ذات أسوار وأبراج، وتشمل هذه البساتين اللوز الوردي المزهر، أو الخوخ، وفي الوسط يظهر برج برزان الطويل الشاهق.
خرج سعود بمهمة غزو منذ شهرين، في بداية هطول الأمطار المبكرة الجيدة؛ إنها غزوة المطر، وقال إنه ربما يعود في غضون شهر، وكان قوام فرقته الغازية 800 رجل، ولم يضم القرويين لقواته لكنه تقاضى تعويضا ماديا مقابل إعفائهم من الخدمة. عندما يخرج ابن رشيد في مثل هذه الحملات يأخذ معه رعية أو اثنتين إضافيتين من الإبل وكذلك بعض الأفراس للاستعمال الاحتياطي.
وكان يمنح المؤن والأسلحة لكل رجل وفقا لعدد الرجال الذين دعاهم للانضمام إلى قواته، ووافقوا على المشاركة، يقوم الآن بغزو الرولة، وفي العام الماضي غزا بني صخر، ولا يقوم بالغزو في فصل الصيف إلا لأماكن قريبة للغاية تكون في متناول اليد، وقد قام صالح بتحديد مصلى بجوار الخيام للرجال وشكل المحراب بصف عدد قليل من الحجارة في المقدمة للإمام وحدد صفين بخط على الأرض لاصطفاف المصلين.
أرسل إبراهيم عبده للاستفسار عن صحتي، وفي الليل جلست في خيمة الرجال، وأخذ محمد المعراوي هدايا لتقديمها إلى إبراهيم وهي: كوفية (شماغ)، وعباءة (بشت) من الحرير وعلبتان من الحلويات. وأيضا قدمت كوفيتين وحلويات إلى من أرسل لنا الخراف والأرز، وتحدث صالح عن مآسي الرشيد، وعندما عاد سعود من المدينة المنورة وجد جميع أطفال عائلة الرشيد فرع العُبَيد قد نُفّذ فيهم حكم الإعدام، وكان حمود قد أقنع – على ما أظن- ماجدا ابن أخيه بالعدول عن ذلك قائلا إنه ينبغي ألا يلوث يديه بالدم، فأجابه أنه ينبغي ألا يكون هناك دم وقام بقتلهم خنقا، قال صالح: كان «فارس وغزّاي». قتل متعب على يد سلطان بالقرب من قفار؛ وجلبت جثته ودفن في بئر في برزان. نجل عبدالعزيز الصغير، محمد، قتل بيديه، وقد توسلهم للرحمة به، وأنقذ حمود حياة سعود، وموضي هي أخت حمود وزوجة محمد، وعندما توفي تزوجها عبدالعزيز، وكان السبهان وزيرا لمحمد.
الجمعة 27 فبراير 1914
كتبت في مذكراتي: استيقظت هذا الصباح وأخذت قياس خط العرض، وأمضيتُ وقتا قليلا في الحديث مع لولوة العجوز وقمت بالتقاط صور فوتوغرافية للمنزل، وفي المساء بعد أن حل الظلام أرسل إليّ إبراهيم فرسا واثنين من العبيد هما: حسن وعيد. امتطيت صهوة الفرس وسرت في شوارع مظلمة، نظيفة جدا وخالية تقريبا، في بعض الأحايين أرى نساء يلبس أردية سوداء تتحرك على طول السور.
كان أحد مرافقي يحمل بيده فانوسا، مررنا عبر بوابة خشبية كبيرة تؤدي إلى السوق، وكانت أبواب المحال التجارية مغلقة أمامنا، وهناك مسجد في السوق تؤدي بوابته إلى القصر.
من المسجد إلى البوابة الخشبية للقصر، هناك المقاعد أو الكراسي مصنوعة من الطين وموضوعة على جانب السور الخارجي للقصر. مررت عبر طريق ضيق بين سورين يؤدي إلى بوابة ثانية والتي قام بفتحها لنا عبد آخر.
ترجّلتُ من فرسي وذهبتُ من خلال صالة انتظار كبيرة يفصلها عن الروشن جدار طيني وهناك متاريس في أعلى السور. إن الروشن صالة فسيحة جدا وأنيقة، ويدعم سقفها أعمدة حجرية كبيرة مغطاة بالجص تنتهي بتيجان مربعة. والأرضية من جص خاص تقريبا مثل الرخام، مغطاة بسجاد، ووسائد على مدار الحائط. جلس إبراهيم أمام موقد النار، فنهض الجميع وجلست بجانبه، وتطرق حديثه حول المسارات الآمنة في التاريخ، وتناول من تحت الوسائد الدفتر الذي دوّنت به الأحداث الرئيسة بتواريخها عاما بعد عام حول تاريخ الرشيد، وقد بدأ تشييد القصر من قبل ابن علي وكانت بداية «الشيخة» المتنازع عليها بين الرشيد وتم الانتهاء من بناء السور الخارجي في عهد عبدالله والد محمد. ومن ثم بنيت الأقسام الداخلية شيئا فشيئا، وشمر ليسوا من جد واحد؛ ولكن الجعفَر الذين ينتمي إليهم الرشيد ينتسبون إلى قحطان بالقرب من اليمن، واستولوا هم على ديرة نجد «كَسْب».
ونتيجة لاهتماماتي بالآثار تحدث إبراهيم عن مسلّة قديمة حولها مجموعة من التلال تبعد نحو 4 ساعات من البلدة، وكذلك تطرق إلى وجود حجارة صغيرة مستديرة «منقّشة» (مطرّزة) تبعد نحو 4 أيام من هنا على «درب زبيدة» وصفت بأنها سليمة وعليها كتابة مسمارية.
في غضون ذلك، جلب لنا صبيان عبدان أكوابا من الشاي يعصر عليها الليمون، ثم ناولانا فناجين من القهوة الممتازة، قال إبراهيم إن بندر لم يعقب أولادا بل لديه سبع بنات، ولنايف ابن واحد فقط.
السبت 28 فبراير 1914
جاءت تركية مرة أخرى، جلست معها في الصباح، وروت لي كل تاريخها: فهي ابنة لجندي شركسي وقد تم طلاق والدتها فعادت هي وأمها إلى بلادها الأصلية، ولكن جدتها- قالت لي تركية: «الله يدخل جدتي نار جهنم»- كانت تكره أمها، مما دعاها للخروج من بيتها وعاشتا (الأم وابنتها) حياة بائسة. ضلت تركية الطريق في إحدى المرات وهي تحمل أخاها الصغير على كتفها والتقطها بعض الناس ولا تعرف مَنْ هُم وقاموا بنقلها إلى «بورصة» وبيعها هناك. وقالت إنها لم ترَ شقيقها مرة أخرى، كان اسمه مصطفى وعلامته أن أحد أصابع قدمه اليمنى ملتوٍ على الآخر– وقامت بلي أصابع قدمها الجميلة لتبين لي حالة قدم شقيقها- وكانت على الدوام تبحث عن واحد يدعى مصطفى أصابع قدمه من هذا القبيل.
وقالت إنه تم بيعها إلى ناس من أهل إسطنبول واستغرقت رحلتها 6 أيام للوصول إلى هناك، وإنها وضعت على ظهر بغل ووصلت هناك ليلا، واقتيدت إلى بيت امرأة عجوز، وبقيت هناك حتى قاربت سن الزواج وتم بيعها مرة أخرى، فاقتيدت إلى سفينة وقيل لها إنها ذاهبة لمجرد أن تشاهد منظر البحر، ومن ثم تركت هناك لأنها بيعت لرجال من العرب والذين لا تفهم كلامهم، نامت على سطح السفينة – «شفت العذاب يا غالية»- لا تعرف أحدا، واحتجزت هي ومن معها مدة 25 يوما بمحطة الحجر الصحي (الكرنتينا)، وألقوا بجثث الناس الذين لقوا حتفهم على متن السفينة في البحر، وعندما وصلوا إلى جدة اقتيدت ليلا إلى أحد المنازل، ومن ثم أرسلت إلى المدينة المنورة، ومكثت هناك مدة سنتين في بيت الشريف كخادمة لإحدى بناته- كانت والدة البنت شركسية، وجميع الخادمات العاملات في البيت شركسيات باعتبارهن أكثر جدارة بالثقة، لم تخرج من البيت إطلاقا ولم تَزُر بيت الرسول صلى الله عليه وسلم (المسجد النبوي) في المدينة المنورة، ولكنهم يصطافون بالطائف، ثم انتقلت من بيت الشريف إلى بيت عجوز اسمها هدية، امرأة مرموقة وغنية جدا تسكن مكة المكرمة.
وأعربت لها «هدية» عن رغبتها في أن تزوجها لابن لها بالتبني، وهو صبي فارسي يعيش معها، وسوف تحملها بالمجوهرات، وكانت دائما تتناول الطعام مع هدية، ووقعت في شباك حب الصبي الفارسي من النظرة الأولى- قالت تركية و«كيّفتْ» (فَرَحْتُ) بزوج المستقبل، ثم سافروا جميعا إلى نجد، وعندما وصلوا هناك أقاموا في بيت بطرف البلدة. في هذه الأثناء جاء وكيل الأمير لرؤية هدية، لا يعرف الصبي الفارسي فيما إذا كان هناك ترتيب مسبق بينهما، ولكن تركية عندما رأت الرجل بدأت تساورها الشكوك في أن هناك أمرا ما، وسرعان ما انتُزعتْ من البيت واقتيدت بعيداً، وكانت تصرخ وتنوح على طول الطريق إلى أن وصلت إلى السوق «أوه واه واه هؤلاء العرب! هؤلاء العرب بضفائر «قرون» شعورهم المتدلية وأقدامهم الحافية، واه واه»، وركض الولد الفارسي خلف تركية وهو ينتحب، وعندما وصل إلى القصر رفضوا السماح له بالدخول، وخلال الأيام القليلة الأولى رفضتْ تناول الطعام، وقالت إنها ستمكث أسبوعا.
ثم قيل لها إن الأمير يرغب فيها لتبقى بالقصر «محشومة» وبإمكانها أن تخرج إلى الحدائق وتأكل أفضل الوجبات، وأخيرا جاء الأمير محمد بن رشيد وقال لها إنها ستكون بمثابة ابنته وسيعتني بها، وأحبته كثيرا وقالت إنه رجل لا مثيل له، ولا أحد يقترب منها، وقالت: في عهده عمّت الراحة والاطمئنان الجميع، أما الآن ما إن يخرج الأمير في مهمة غزو حتى يخشى الجميع من هجوم متوقع. كل امرأة من العامة لديها جارية، ولكن الشيخات لديهن جوار يتراوح عددهن ما بين 10 و15 ولديهن كميات كثيرة من المجوهرات، ومن ضمن مجوهرات تركية القلادة التي ارتدتها عندما قابلتني أول مرة.
فاطمة هي حاكمتهن جميعا، فهي ذكية جدا وتجيد القراءة والكتابة، أما موضي فهي «غشيمة تحت أمها». ولا تقوم الشيخات بعمل أي شيء على الإطلاق طوال اليوم، أصبحت تركية وهابية، إنها تجيد القراءة والكتابة، وتؤدي الصلوات الخمس بخشوع، وفي رمضان تبدأ صلاة التراويح في رمضان من الساعة 5 حتى الساعة 10 في الصيف، وفي فصل الشتاء حتى الساعة 11، وخلال شهر الصيام قد تشعر بأوجاع في الرأس والجسم والساقين، وأداء الصلاة واجب على كل مسلم ومسلمة. وخلال الصوم تمتنع أو تمسك عن الأكل والشرب قبيل أذان الفجر إلى أذان المغرب. في فترة ما بعد الظهر قمت بالتقاط صور لتركية وللروشن، وحدثتها عن الحياة الأوروبية التي كررتها بفارغ الصبر للولوة، وسألتني ما الفرق بين المسيحيين والمسلمين، قلت: في النصف الثاني من الجهر بالإيمان the second half of the confession of faith. طلبن مني وبإلحاح أن أنطق به وقلت النصف الأول، لن أقول الثاني؟ قلت لهن يمكن أن تقول أي شيء بلسانك ولكن قد لا يخرج من قلبك، وأثناء خروجي للنزهة قيل لي إن بعض نساء السبهان قادمات لرؤيتي، فانتظرتهن لكنهن لم يجئن. تم إرسالهن إلي ليخبرنني بأن سليمان قد قال «غربت الشمس». أرسل إبراهيم عبدا لرؤيتي في المساء مع بعض الهدايا، قالت تركية إن الناس هنا يعتقدون أن النساء مثل الكلاب وهكذا يعاملوهن. ليسوا مثل الإنكليز أو الأتراك، وفي اليوم الذي سقط فيه عبدالعزيز كان غازيا ابن سعود بالقرب من ديرته، وعندما خيم بقواته حذره رجاله وأشاروا عليه أن يشدد الحراسة على مخيمه وألّا ينام أو يشعل النيران وكان يرفض الاستماع لنصائحهم قائلا إن ابن سعود لا يجرؤ على مهاجمته.
وفي منتصف الليلة باغتهم العدو، حتى وهم يرون ابن سعود لم يتجرأ أحد على إيقاظ الأمير، وفي نهاية المطاف ذهب أحد رجاله محاولا إيقاظه بلمس قدمه، وقال: إنه استيقظ ومازال يرفض تصديق ذلك، وعندما داهمهم العدو نهض مسرعا متجها نحو حصانه، وعلى عجل امتطى صهوة الحصان معتقدا أن من حوله جماعته ولكنهم كانوا جماعة ابن سعود، وعرفه العدو حين سمع صوته فقتل.
الأحد 1 مارس 1914
أرسل إبراهيم لي فرسا اليوم، وفي الوقت نفسه أعاد الهدايا التي قد أهديتها له ولزامل، وبعث الخازندار متسائلا عما إذا كانت مني أو من محمد المعراوي، وبعد لحظات قليلة ظهرت امرأة ومعها سلة، ركبت الفرس وذهبت إلى حديقته التي كانت مليئة بالخوخ المثمر واللوز والتفاح، ومن ثم قمت بجولة على أسوار المدينة.
ساحتا لبدة وسماح هما فقط المسورتان، عندما جئت لمناقشة الوضع مع المعراوي على مائدة طعام الغداء جلست فترة مع لولوة، ووجه علي دعوة لكل الرجال لتناول العشاء بعد موافقة خاصة من إبراهيم!
عادوا نحو الساعة 5.30، كان الجو حارا جدا وخانقا، فشعرت بصداع وقت العشاء فذهبت إلى الفراش في وقت مبكر، ولكن ليس للنوم، أرسلت تركية مع العبدة بعضا من النارنج والليمون، في فترة ما بعد الظهر قرأت كل «سفر أعمال الرسل Acts» وشعرت وكأنني في بيتي بمواجهة متكافئة بين الرومان وبولص (1) وغمرني إحساس بالراحة معه أيضا.
الاثنين 2 مارس 1914
طقس اليوم رياح مثيرة للغبار وزخات مطر خفيفة، ناقشت الخطط مع رجالي ثم ذهبت إلى الروشن وكتبت خريطة طريقي، جاءتني الجواري فرادى وأزواجا وأخذن يثرثرن بهدوء، وأخيرا طلبت منهن المغادرة، ذهبن مرددات «يا بَعَد حيّي»! تحوم طيور الغربان فوق سماح وكذلك طيور الرخمة الكبيرة التي لها صوت (نقيق) كصوت طائر الحدأة. وفي الليل سمعت نعيق بومة صغيرة تنعق بهدوء، أيقظني صياح ديك بالقرب من خيمتنا صباح أمس– واشترينا ديكا صغيرا وطهوناه، وتناولته وكان لحمه قاسيا جدا وكبده كانت أفضل جزء منه– وأصبحت في جو عائلي حميم في هذا المكان الموحش.
قبل شروق الشمس (صلاة الفجر) وفي الليل (صلاتا المغرب والعشاء) أسمع صالح يرتل القرآن أثناء أداء الصلوات- بصوت ناعم رخيم وجميل جدا، وتساءل سالم عن طريقة الخشوع في الصلاة وقال إن كثيرا من الرجال في دمشق الشام قد يقطعون صلاتهم للرد على سؤال ما، ثم يمضون قدما في تكملتها قائلين: «بسم الله الرحمن...» يجب التأكيد على أنه إذا قمت بالكثير من الإيماءات والحركات التي في غير محلها أثناء تأدية الصلاة أصبحت صلاتك باطلة برمتها.
جاءني أبو قاسم (محمد المعراوي) بعد أن قابل إبراهيم وتحدث إلى فاطمة (وهي منقبة)، كلاهما أبدى عدم علمه بمصير الحوالة المالية التي من المفترض أن يتم صرفها لي.
هنا، ومن الواضح أنهما لن يصرفاها لي، وأنا الآن لا أملك سوى 40 جنيها، وهو قد يكفي لمصاريف الرحلة إذا سمح لنا إبراهيم بالذهاب، وسأقابل إبراهيم هذه الليلة، إنه يوم مشوب بالحذر والقلق «خير إن شاء الله! ما يصير إلا خير».
يرى سالم أن عادات الزواج لدينا قاسية وصعبة لأنها لا تسمح بالزواج من أكثر من واحدة، ويتساءل إذا كانت المرأة لا تنجب أطفالا فكيف لا يسمح للرجل بألا يتزوج من زوجة أخرى، لكنه ينظر إلى نجد بأنها تعيش في عزلة وهمجية ويعتقد أن الموت أفضل من العيش بها، وعلق فتوح حول مسألة الزواج موجها كلامه إلى سالم: «أنت تنظر للمسألة من جانب الرجل فقط، الطلاق أمر صعب على المرأة». وقال سالم: «إيه والله».
يبدو أن فاطمة هي الشخصية القوية والقوة الدافعة وراء العرش هنا، لكنني لا أتوقع أن تسنح لي الفرصة لمقابلتها، في الساعة 5.30 جاء علي بأخبار مهمة تساعدني، حيث أخبرني بوصول أعمامه إلى حائل قادمين من عنيزة، وأن الرشيد في حاجة ماسة إلى مساعدتهم، لأن ابن سعود قد تحدث عن نيته للقيام بحملة غزو- ولم يذكر متى وأين- ويطلب مساعدة كل من أهل بريدة وأهل عنيزة.
وعهدت أسلحة إسطنبول إلى أعمام علي الذين سيقودون حملة للانقضاض على عنيزة والفرصة سانحة أمامهم لقتل أميرها عبدالعزيز آل سليم، وأبدى أعمام علي استياءهم وسخطهم من الطريقة التي عوملت بها هنا وسبق أن تحدثوا إلى إبراهيم بهذا الصدد.
كل شيء- حسب قولهم- بيد «الكلبة» فاطمة، وأشار علي إلى أن واحدا من أعمامه أو أكثر سيأتون هذه الليلة إلى قصر برزان، وهذا يتزامن مع موعد مقابلتي لإبراهيم، فاقتنصتها فرصة ثمينة، عَمّا علي هما صالح اليحيى وحمد من عنيزة، لم أرهما ولم يتجرآ على زيارتي لكنهما أعربا عن احتجاجهما ضد المعاملة التي تعرضت لها.
إلا أن إبراهيم متحضر جدا، ذهبنا عبر المسحب– يجلس الرجال تحت رواق المسجد صباحا وفي ظل السور عصرا- وبعد أن مررنا من خلال الباب الداخلي ذهبنا إلى الطابق العلوي إلى روشن صغير قائم على عمودين لهما تيجان مربعة. جلسنا هنا وجاءنا إبراهيم، تحدثنا أولا عن شائعات حول الأمير بأنه يخيم شرق الجوف، ثم ثانيا ناقشت مسألة الهدايا - التي جلبناها معنا مرة أخرى– وعن الحوالة المالية، وفيما يتعلق بتساؤلاتي قال إنه ليس لديه أي معلومات، وعندما قلت له إنني أنوي مغادرة حائل، قال: إن الرفيق جاهز. ثم تطرقنا في حديثنا إلى مسائل أخرى، وقال: إن شمر هنا منذ مدة تزيد على 200 سنة وتقل عن 500 سنة، ولم يعثر على آبار قديمة محيطة بحائل، قبل نشأة شمر هنا لم يكن هناك أي نوع لحكومة.
أعطيت إكرامية (بخشيش) للبوابين الذين على البوابة الخارجية وبوابة السوق، وجدير بالذكر أنه يتم جلب حجر البناء من سمراء.
الهوامش
(1) بولص الطرسوسي أو القديس بولص، يعرف عند المسيحيين برسول الأمم حيث يعتبرونه من أبرز من بشر بهذه الديانة في آسيا الصغرى وأوروبا، وكان له كثير من المريدين والخصوم على حد سواء. مكث بولص فترة من الزمن في شمال الجزيرة العربية (ربما بادية الشام) ثم عاد إلى دمشق، وهناك تآمر عليه اليهود ليقتلوه وأبلغوا عنه الحاكم فقام رفاقه بتسهيل هروبه من المدينة.
(المترجم)
------------------------------------------------------------------------------------------
(الحلقة الأخيرة)
05-11-2014 | 00:02
كتب عطية بن كريم الظفيري
وتستعرض بيل في ما يلي يوميات الرحلة من 3 مارس إلى 8 مارس 1914.
الثلاثاء 3 مارس 1914
ذهب علي في وقت مبكر إلى المدينة، وذكر أن عمه قد رأى إبراهيم صباح هذا اليوم وأرسله الأخير إلى فاطمة، ولقد بعثت كلا من علي وفتوح ومحمد المعراوي إلى المدينة حول إمكانية جلب رواحلنا، جلست مع الرجال، وطلبت من صالح أن يحكي لي قصة هزيمة عبدالعزيز بن رشيد.
قال صالح: كان عبدالعزيز في مكان ما وراء القصيم يبعد عن حائل 8 أيام سيرا على الأقدام، وخمسة أيام على الذلول، وهاجم مطير وهزمهم، فأرسل المطران رسولا إلى الرياض يقترحون على ابن سعود انضمام قواتهم إلى قواته ومهاجمة ابن رشيد، ووفقا لذلك خرج ابن سعود مع مطير، ولم يتبادر إلى ذهن ابن رشيد أن ابن سعود سيقوم بذلك.
فنصبوا خيامهم في الجَلَد بالقرب من النفود، كما قلت من قبل، وأصر أن يستريح في تلك الليلة، ولم يستمع لأي رأي مخالف ذلك، ونحروا الخراف وأكلوا وناموا، وفي الليل سمعوا صوت الناس والخيول فنهضوا مسرعين وأخبروا عبدالعزيز لكنه رفض تصديق ذلك، وقال: «كذب... كذب... شبّوا النار»، وتم إشعال النيران، وهذا يعد بمنزلة تراجع أمام العدو، فرآهم وأطلق النار عليهم.
قفز عبدالعزيز على صهوة حصانه ومعه حفنة من العبيد، وانطلق إلى الأمام نحو العدو وعزوته «أنا أخو نورة»- وهذه هي صرخة الحرب لابن رشيد وأيضا يستخدمها العبيد. (وصرخة الحرب لقبيلة شمر خيال الرحمن سناعيس، وللطوالة: خيال الهدلا طوالي) سمع صوته الأعداء وعرفوه، فقذفوه برمح اخترق جسمه وسقط من حصانه.
وسرعان ما وصلت الأخبار إلى ابن سعود الذي كان هو نفسه متأخرا عن المهاجمين لبضع ساعات، ولم يصدق ابن سعود ذلك حتى جلبوا له خاتم عبدالعزيز بن رشيد، وقام القصمان بفصل رأسه عن جسده وحملوه على راحلة دارت في أنحاء القصيم ليثبتوا أنه تم قتله حقا، وتم التعرف على وجهه: فها هي لحيته الطويلة وشارباه الطويلان. وأمر ابن سعود بدفن جثمانه.
وحوصر جماعة ابن رشيد وأخذوا على حين غرة، كانت مداهمة جماعة ابن سعود وقت الظلام، وقال صالح كانت تلك إرادة الله، وحالما سمع العرب [جماعة عبدالعزيز بن رشيد] عن مقتله وهزيمة قواته تفرق رجال حائل وتركوا كل شيء، وهرب معظمهم سيرا على الأقدام.
كان الطقس اليوم ماطرا مصحوبا بعواصف رعدية. جاءت زوجة سعيد -عبد محمد بن رشيد- لرؤيتي، وكانت هذه الزنجية رشيقة وجميلة ذات صوت جميل ناعم، وكانت هي وسعيد مع سعود في المدينة المنورة، قال البعض إنهما كانا في خدمته مدة 6 سنوات، وقال آخرون مدة 7 سنوات، وكانت ترتدي الملابس الأوروبية آنذاك، هنا عادت إلى الرداء الخارجي ذي اللون الأخضر الأرجواني الداكن والثوب [الفستان] البرتقالي الداخلي.
وطلب عبدالله بن الجلول جلب أغراض لحمولة 1000 بعير من مدائن صالح، وحصل على 400 بعير فقط، والبعير الواحد يستطيع حمل 50 بندقية من دون ذخيرة، لكن من المرجح أن تكون كل الـ1000 بعير حمولتها ليست أسلحة. يقولون إنه ذاهب لحمل الأشياء إلى تيماء من خلال التبديلات وبعد ذلك في الصيف، عندما يكون العرب في أماكن مصيافهم، تجلب إلى حائل.
الأربعاء 4 مارس 1914
وردت أنباء من العرب مفادها أن ابن شعلان تراجع شرقا أمام ابن رشيد، وأخذ هذا الأخير الجوف دون أن يطلق رصاصة واحدة، وقال علي إن الرولة لا يرغبون في استيلاء ابن الشعلان على الجوف لأنه مصدر دائم للنزاع. في الساعة 11 جاءني سعيد المحمد (العبد) ومحمد وقال لي: لن يسمح لي بالمغادرة حتى تأتي أخبار من الأمير. أجبته بأنني أشعر بالضجر والملل من حائل وأرغب في الرحيل، ولم أطلب من إبراهيم أي شيء سوى رفيق. قال سعيد: «ما يصير»، ثم ذهبت وتناقشت مع محمد المعراوي، وتكررت المناقشة مع علي، وكررت طلبي بتزويدي برفيق ورفض طلبي، ثم غادر سعيد ومحمد.
في هذه الأثناء طلبت من علي أن يذهب إلى أعمامه لمعرفة ما يدور في أذهانهم، عاد مع ابن عمه عبدالله بن محمد (والذي قتل والده على يد جماعة ابن سعود في عنيزة). دخل علي خيمة فتوح، وقال لنا: إن رأي أعمامه بأن الحديث لا يعني شيئا، ولكن نوعا من المداراة أو اللباقة، آمل أنه قد يكون كذلك، ثم ذهبت وتحدثت مع عبدالله وقال: تأسست عنيزة في عهد جده، حيث كان بعض الرعاة يرعون قطعانهم هناك وحرثت «عنز» [عنزة أو معزة] التربة فانبثق الماء؛ لذا يطلق على البلدة عنيزة، في الساعة 6 مساء جاء رجل وأخبرني عن دعوة لي من الحريم.
تناولت العشاء وتجولت في الشوارع تحت ضوء القمر، وانحرفنا إلى اليسار من بوابة القصر، وكانت تركية في استقبالي، فصحبتني إلى الروشن الكبير حيث وجدت موضي أم سعود، والتي كانت زوجة لمحمد قبل أن تتزوج عبدالعزيز. امرأة جميلة جدا، في ثوب من الديباج الهندي، وتضع وشاحا أسود على رأسها، جاء لرؤيتي اثنان من الفتيان هما ابنا سعود، بملابس مبهرجة، يرتدون الأقمشة المطرزة الهندية، وعيونهم السود الكحيلة.
وأيضا جاءت أختهم الصغيرة بثوب مزركش، ومن على رأسها يتدلى اللؤلؤ، وفتاة أخرى جميلة جدا، وخجولة جدا، هي إحدى زوجات سعود، ترتدي الأقمشة المطرزة الرائعة مع وشاح مطرز بالذهب فوق رأسها، والشقيقة الكبرى لعبدالعزيز، وشركسية أخرى، أصغر سنا وأكثر جمالا من تركية، الكثير من النساء الأخريات، إحداهن ترتدي ثوبا أنيقا جدا مرصعا بالجواهر ربما كانت زوجة أخرى لسعود، جلست تركية أمامي كـ«ترجمان»، قدم لنا الشاي والقهوة والحلويات- تلك التي أهديتها لهن!- مع الليمون الحلو والرمان والأترنج.
ثم احتسينا المزيد من القهوة وطلبن مني أن أقرأ شيئا من الإنجيل باللغة الإنكليزية، وتلوت «طوبى لأنقياء القلب» وترجمتها، ثم أخذتني تركية إلى حديقة داخلية صغيرة فيها الأترنج والليمون معلق فوق بركة، ثم انتقلت إلى روشن سعود، حيث وجدت محمد المعراوي وسعيد الخصي.
هناك قباب مطرزة بالتشجير ونقوش على الجدران مصنوعة من الجص ومطلية باللون البني والأبيض، وفي الساحة هناك 4 مدافع صغيرة، كان المشهد بأكمله مثل ألف ليلة وليلة.
الخميس 5 مارس 1914
لاتزال المناقشات تدور حول رحيلي، ذهب محمد المعراوي صباح هذا اليوم إلى حمود وسيقابل إبراهيم، وفي هذه الأثناء لم تصل إبلنا بعد، أرسلت موضي جريوبا معبرة عن أسفها واعتذارها، وتأمل أنه عندما يعود الأمير-ربما بعد يوم- أن أقوم بزيارتهم، أجبته بتبليغها سلامي وأن يخبرها بأنني عازمة على الرحيل.
اقترح فلاح أن أبيعه هو نفسه لحل مشكلة الضائقة المالية التي تواجهنا! وتجارة العبيد أصبحت غير رائجة في الوقت الحاضر، يجلب العبيد من مكة [المكرمة] وجدة.
بعد العشاء جاءتني تركية وتحدثت إليها عما أواجهه من مشكلات، وتركية متزوجة من عبيد الغريميل، وهو شقيق حامل لواء الحج، وقد منحها محمد الرشيد منزلا وزوّجها إلى عبيد قبل سنتين من وفاته، وقالت إنها متزوجة منذ 19 سنة وتفتخر كون زواجها استمر فترة طويلة.
الجمعة 6 مارس 1914
في صبيحة يوم 3 مارس جاءني العبد الخصي «سعيد»، وهو شخصية مهمة جدا ومعه آخر، وأبلغني أنه غير مسموح لي بالسفر، وفي الوقت نفسه لم أحصل على مبلغ الحوالة المالية التي قد سلمتهم وصلها، وأبلغني أيضا أنه يجب عليّ الانتظار حتى يصل رسول الأمير [البشير].
وأرسلت رسائل فورية إلى أعمام علي، واستؤنفت المفاوضات من جديد بقوة وحيوية، وفي اليوم التالي جاءتني دعوة من والدة الأمير -موضي- لزيارتها مساء، وذهبت هناك وأمضيت ساعتين مع نساء القصر كأنني اقتطعتهما مباشرة من حياة ألف ليلة وليلة، أتصور أنه لاتزال هناك أماكن قليلة من خلالها يمكنك رؤية الشرق الحقيقي متشبثا بعاداته كما ورثها منذ قرون وقرون، وإن حائل تعد من تلك الأماكن القلة.
رأيت النساء وهن يلبسن أردية من الأقمشة المطرزة الهندية، ويتزينّ بالمجوهرات، ويطوف لخدمتهن العبيد [القيان]، وليس هناك شيء واحد له صلة بأوروبا أو الأوروبيين في هذه البيئة سواي، كنت أمثل الاستثناء ووصمة العار! بعض النساء من عائلة الشيوخ كن فائقات الجمال.
إن سطوة القوة والمجد يترتب عليها أن يفرض المنتصر نفوذه الجائر ويؤدي ذلك إلى أن تنتقل المرأة من يد رجل إلى يد رجل آخر، وكيف أن يدي هذا الرجل الجديد قد تكون ملطخة بدماء زوجها السابق وأطفالها، أمر يستحق التفكير والتأمل! فعلى سبيل المثال نجد أن موضي نفسها -لا تزال شابة وفاتنة جدا– على الرغم من أنها قد تزوجت ثلاثة أمراء، حسنا، أحاول أجد تفسيرا، ولكن حقا ما زلت أشعر بالحيرة والارتباك تجاه هذه المسألة.
أصبحت في حبس انفرادي، إنني سجينة وحدتي في هذا البيت الفسيح الذي قدموه لي، أرسلت موضي إلي عبدتها في الصباح مع هدية إناء من اللبن، وتحذير بعدم التحدث كثيرا عن مغادرتي، وقالت لي تركية: إن علي الحمود وجه لي دعوة لقضاء ساعة في الحديقة بعد الظهر.
ذهبت بعد صلاة الظهر ومكثت حتى العصر، مرة أخرى عشت أجواء تجمع بين الشرقية والعصور الوسطى، وجدت علي الحمود وشقيقه الاكبر محمد، أو بالأحرى وجدت في البداية عددا من الصبية الصغار- أبناء السبهان وأبناء متعب- وجميعهم يرتدون الأقمشة الهندية المطرزة: حيث يوضع (الزبون) فوق الثوب، وهو من الجوخ الأصلي المزركش بخيطان الحرير والذهب (الفرملية) والكوفية البيضاء مطرزة بالعديد من الألوان.
ثم أعربت عن رغبتي فيما يتعلق بالمال ورحيلي لكنني قوبلت برفض مهذب حتى وصول «البشير» [رسول الأمير]، وبعد ذلك قمت بجولة في الحديقة، ورافقني الأطفال الصغار بجولتي وهم يمشون الهوينى بثيابهم الطويلة المطرزة بالذهب، يخيم عليهم الوقار والصمت، يحدقون في وجهي بعيونهم الجميلة، وعمر من استضافني ما بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة، كانت ملامح وجه أحدهم تدل على البشاشة مثل أي صبي طبيعي، وآخر ملامحه تدل على الغموض والرصانة، ولكنّ كليهما يتميز بكرم الضيافة الزائدة.
ومرة أخرى عبرت لسعيد الخصي، وكان من ضمن المجموعة، عن رغبتي في الرحيل من حائل، وجاء الرد سلبيا: لن أبرح حائل حتى يأتي رسول الأمير، لا أنا ولا أحد يعرف متى يأتي الرسول، ولم أكن أعرف ما الذي تخفيه الإجابة.
جاءنا سعيد المحمد ومحمد بن شومر بعد صلاة العصر وتحدثت إليهما حديثا شديد اللهجة، معربة عن استيائي لعدم تنفيذ رغباتي للمرة الثانية وأنهيت المقابلة على نحو مفاجئ عندما نهضت غاضبة وتركتهما جالسين، اعتقدت فعلا أنني كنت متسرعة بذلك التصرف، ولكن حقيقة الأمر كنت منزعجة ومستفزة، وعندما غادرا قالا لمحمد المعراوي إنني لن أغادر حتى يصل البشير.
بعد ساعة وصلت إبلنا بعد أن كانت ترعى بالفلاة مع الراعيين سيف وعبدالله العجوز، وبعد أن حل الظلام جاءني سعيد ومحمد، ومع سعيد كيس من الذهب، وإذن صريح بأن أذهب إلى أي مكان أحببت ومتى شئت، وهكذا انتهت المشكلة على نحو جيد! ويبقى التساؤل: لماذا سمحوا لي بالرحيل ولماذا لم يسمحوا لي بذلك من قبل؟ لست أدري، ولا أستطيع أن أخمن الأسباب، ولكن على أي حال أنا الآن حرة وأشعر براحة تامة.
السبت 7 مارس 1914
جرت الاستعدادات للرحيل، وفي الساعة 11 جاءنا رجل وأذن لنا برؤية القصر، وبعد تناولي الغداء ذهبت مع كل من: فتوح، ومحمد المعراوي، وسالم، وفلاح، ومصطفى. أشعر بالكثير من الإثارة في الشوارع ولكن حتى الآن وأنا لا أرى أي سوء نية، في السوق الصغير تقوم المرأة البدوية ببيع اللبن والزبدة والسمن، كان في استقبالي في القصر «سعيد» الذي يبدو أنه غير سعيد، ورجل آخر شاحب الوجه مع عينين غائرتين لا أعرف اسمه.
اصطحبني في جولة داخل المضيف وسمح لي (بل شجعني على) التقاط الصور، ودخلنا من خلال بوابة كبيرة إلى فناء أو ساحة فيها نقوش وزخارف، توجد أعمدة على ثلاثة جوانب، والأسوار من الجص، وهناك أربع أو خمس قطع مدفعية قديمة جدا (وقيل لي إنها قبل عهد محمد بن رشيد)، وهناك جناح على هيئة أعمدة يحتضن أكبر دلال قهوة لم أرَ لها مثيلا على الإطلاق. والقهوجي لديه مكان صغير مغلق خاص به، مقابل السور، حيث قدم لنا القهوة، وجلس بالقرب من موقد كبير.
ثم انحدرنا إلى ممر طويل على يسار البوابة، بين جدران عالية لساحة غير مسقوفة إلى ساحة أخرى فيها ثلاثة أو أربعة مدافع، وفي الساحة يوجد المضيف، في كلا الطابقين والاعمدة تحيط بها، وتوجد غرف للضيوف في كلا الطابقين، وأطباق كبيرة معلقة على الجدران توضع فيها اللحوم والأرز. وعود إلى الحديث عن فناء المضيف الذي قمت بتصويره في الطابق العلوي حيث تناولنا التمور والزبدة الطازجة. إنه مزخرف على الدرابزين، وسقفه جميل تحيط بسوره فتحات معتادة، هنا كان يتم استقبال شيوخ العرب، ثم مرة أخرى دلفنا إلى البوابة، إن الجمال الاستثنائي لمدخل البوابة منظر العبيد وهم يرتدون ثيابهم القطنية الملونة.
التقطت صورا لمناظر خارجية مثل: سوق المسحب وأعمدة المسجد، وبعد أن تجولت لمدة طويلة عدت إلى بيتي وذهبت خارج المدينة لتصوير صخرة عليها بعض النقوش احتشد جمع من الصبية الصغار حولي وكانوا ودودين للغاية.
بدا جمال حائل المتفرد يظهر جليا بعد الظهر، إن هذه المدينة تقع وسط سهل منبسط تربته حصوية نظيفة، تحيط بها الحدائق وبساتين النخيل وخلفها تشمخ قمة جبل أجا الصخرية.
وعندما أرخى الليل سدوله، استدعيت رجالي وسددتهم أجورهم، ثم جلست مع مبروكة ولولوة وعطا الله واحتسينا أكواب الشاي وتناولنا فناجين القهوة على ضوء خافت، حتى انني لم أستطع رؤية الأعمدة في هذا الظلام الدامس.
الأحد 8 مارس 1914
في الساعة التاسعة صباحا شرعنا بالرحيل ذهبت لأودع رجالي وداعا حارا مستحقا وهم كل من: محمد المعراوي، وسالم، وسعيد، ومصطفى، وكانوا قد توسلوني هذا الصباح للحصول على مسدس لكنني سبق أن أعطيته لسالم.
كان صباحنا اليوم مشرقا، من بُعْدٍ نرى منظر السراب الذي يطوق بساتين النخيل ومضيق جبل أجا عند عقده، وتهب علينا نسمات عليلة، وعلى الرغم من سجني فإنني أحمل انطباعا عميقا عن جمال وسحر حائل: بطرقاتها الخالية من الغبار، وصمتها الرهيب، وخلوها من المركبات ذات العجلات، فقط آثار خفاف الإبل والحمير على الحصى الناعم. وأمس جاءت قافلة من المدينة [المنورة] ورأيت الإبل وهي تتدافع عبر بوابة البلدة.
شرعنا في الرحيل أنا مع فتوح، وفلاح، وسيف، وكانت قافلتنا تتكون من ثماني رواحل، فسرنا بموازاة سور المدينة، على طول ممر ضيق بين حائل وجبل السمراء، وهنا كانت البساتين غير مسورة، ومررنا بالسويفلة وهي غير مأهولة، تتناثر فيها أنقاض وآثار، ولا شيء سوى أشجار الأثل، وشمال الآثار هناك «قليبان» [بئران] جديدتان مسورتان، وقد منحهما الأمير لمشهدي [من أهل «مشهد علي»- النجف] لكن لا زراعة قربهما، وكنا قبل السويفلة قد سلكنا جانبا من طريق بقعاء وهو طريقي الصحيح، ومن السويفلة رجع عثمان إلى حائل، وأخذنا نغذ الخطى وسط سهل منبسط.
لم يأتنا علي، وفي الساعة الثانية عشرة بدأ ينتابني القلق، وعبّر مشهور أيضا عن قلقه بأنه لا يعرف الطريق، وكذلك لم نتفق على مكان معين نلاقي علي فيه، وسرنا عائدين حتى رأينا النخيل، وبعد ذلك بحثت عنه من حولنا من خلال المنظار المكبّر، وعلى سفح جبل أجا من الصعوبة بمكان أن نرى بوضوح لوجود السراب.
وأخيرا ركب مشهور على ظهر بعير فتوح وعاد إلى حائل! صعد فتوح إلى رأس تل ومن هناك رأى علي فأطلق رصاصة من بندقيته في الهواء، ونحن ما زلنا نجلس ننتظر المفقودين، وبعد طول انتظار تسلقتُ تلاً فرأيت فتوح في ثوبه الأبيض ذاهبا سيرا على الأقدام إلى قرية، وهناك وجد علي فجاء الاثنان إلينا، ونصبنا خيامنا على بعد ميل من القرية، وبعد ساعتين عاد إلينا مشهور من الشيوخ، وهو من أهل القرية فذهب لرؤية عائلته، وعاد بعد حلول الظلام مع ابنته الصغيرة والتي يعانقها كثيرا، وجلب معه خروفا وبعض الزبدة واللبن. وجلب لنا العبد أيضا بعض العلف لبعير منهك، ومشهور هو ابن خالة لهيلم السند ويحبه كثيرا، وكانت ليلتنا ممتعة.
خاتمة
من هنا بدأت رحلة العودة إلى دمشق بتاريخ 8 مارس 1914 من حائل إلى الحيانية فالنجف فكربلاء فبغداد فالرمادي فتدمر فالضمير، والوصول إلى دمشق في 1 مايو 1914.
واكتفى المترجم بهذا القدر من ترجمة يوميات غيرترود بيل لأهميتها، وعدم ترجمة يومياتها أثناء العودة لخلوها من الإثارة والتشويق.
المصدر
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..