الأربعاء، 1 مارس 2017

رسالة مخلص إلى هيئة الترفيه

      السيدة «هيئة الترفيه»، أستميح جلالة قدرك وهيبة سلطانك، الذي بدأ فتياً وقوياً لا يعصى له أمر أو يتخلله هوان، عذراً بأن أمنح نفسي منصة للبوح في هواء طلق تنعش بوادر الحرية، التي بدأت تنمو
داخلي منذ أن بدأت فعاليات الهيئة بممارسة أنشطتها على الأرض واقعاً ملموساً.
سيدتي هيئة الترفيه: شكراً لك جداً على هذه البادرة الجميلة، وإن جاءت متأخرة، فالأهم أنها أصبحت واقعاً حياً لا مراء فيه، إذ تفضلت على المواطن، الذي لم يكن يعرف من الترفيه سوى الأسواق والاستراحات، واليوم تفيضين عليه بأياديك الحانية ما ينتزع عن كاهله عنت الانحباس بين الجدران ومكابدة الغربة، وأموال ينثرها فيها بحثاً عن متنفس. سيدتي المصونة: قلت وفعلت أكثر من معدل الطموحات، شققت الأوراق الصفراء القديمة وكتبت بألواح ممغنطة، وكورت الحياة بمعنى مختلف، في بضعة أشهر تعد في حراكنا الاجتماعي ذي الوتيرة البطيئة المتردد الخائفة نقلة ضوئية.
صدقاً، لم يسبقك إلى مثل هذا الإنجاز الضوئي كل وزارات الدولة؛ كوزارة الإسكان التي شاغلتنا طويلاً بالحديث عن نفسها ومشاريعها، لتظل إلى اليوم تدور في ساقية البحث عن حلول من دون جدوى، لم تصل بعد إلى الحد الأدنى من طموحات المواطن في توفير سكن يحفظ له كرامته من مغالاة تجار العقار وسماسرته.
سيدتي هيئة الترفيه أتصور أننا لو انتزعنا صفة وزارة التعليم الاعتبارية وأسندناها إلى مقامك الرفيع فسترجح كفة ميزان الإنجاز في فترة قصيرة، من خلال رؤيتك الخاصة لها.
باختصار أقول: لو أن كل الوزارات ذات التاريخ الطويل والتجارب المتنوعة الفاشلة منها والناجحة أعطيت هذه القدرة الفذة والنافذة على الإنجاز لما رفعنا عقيرتنا ليل نهار نشكو من تردي الحال في بعض أجزائها، في أقل من سنة شهدنا لك يا سيدتي صولات وجولات لم يسبقك إليها أو يجاريك فيها أحد مهما علا شأنه أو عز مقامه، بما حقق الصدمة الأولى المنتظرة نتيجة قوة الفعل والمباغتة غير المحسوبة من كل الاتجاهات، ومن أهمها شرائح المجتمع المحافظة. نحن نعلم أن التسرع في الإنجاز يوقع في مغبة الخطل، وهنا اسمحي لي «معاليك» أن افتح صفحة بيضاء لأوقع رأيي بهدوء، فلربما أكتشف خطئي فتصححين لي، أو صوابي فأنال منك الرضا والقبول، لأطرح بين يديك الجليلتين هذا السؤال: هل قمت بدراسة استكشافية لحاجات مجتمعنا النوعية إلى الترفيه «ما يقبله منها ومالا يقبله»؟ هل قمت بقراءة مستفيضة لمعنى الترفيه لكل طبقات المجتمع وأطيافه وفئاته؟ هل قمت ببناء استراتيجية عمل مستقبلية تشمل كل أدوات المجتمع وملحقاته الصغيرة والكبيرة، مع الأخذ في الاعتبار ثقافته وعاداته وتقاليده المتسامحة؟ أقول المتسامحة قاصداً أن ثمة مفاهيم داخل رواقنا المعرفي الديني منه والاجتماعي يستبطن قيماً متسامحة ولا يرى في الفرح والترفيه على مختلف أشكاله سوى وسيلة طبيعية، تفرج عن النفس وتذهب عنها كدرها وتعينه على مواجهة أعباء الحياة، ما لم يخرج الإنسان على حدود العقل أو الدين والمنطق، ولا أعتقد أننا قادرون، وفق ما تعلمناه وتربينا على أساسه، على تجاوزها؟
هل تسمحين لي أيتها الهيئة الموقرة أن أدون بعض ملحوظاتي وأقول: إن ما رأيناه حتى اليوم لا يعبر عنّا حقيقة، بما نستبطنه من قيم يرسخها ديننا الحنيف وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، لن أوسع دائرتها - على الأقل الآن - لأدخلها في حيز مصطلح الهوية الذي بتنا معه ردحاً من الزمن في حال اضطراب وتشكك في كل شيء جديد مختلف عما بين أيدينا ونزاوله يومياً، سأترك لكم الحكم على ذلك، مكتفياً بالتذكير فقط في ما كنا قبل 40 عاماً نعده من مأثوراتنا الفولوكلورية وخصوصياتنا الفنية، فهل كل ما قدم من عروض «كايلومينيت» البصرية والمصارعة الحرة و«كوميك كون» وعروض «السيرك» وغيرها من الفعاليات المعلبة تعنينا في شكل مباشر؟ أم أنها لا تعدو كونها حراكاً مفتعلاً لا يخدم إلا شريحة اجتماعية واحدة لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من المجتمع، من حيث قدراتها المادية، التي تمكنها من حضورها، والأكثرية ترفضها رفضاً قاطعاً لأسباب نفسية ودينية واجتماعية.
السيدة المصونة هيئة الترفيه... لا أعتقد أنه يغيب عنك أن الدول العظيمة التي ترى ذاتها من خلال مرآتها لا مرآة غيرها تصاب بالذعر والقلق الشديدين عند اجتياح أية ثقافة طارئة ودخيلة عليها، وتعلق أجراس الإنذار المبكرة لمواجهتها ورفضها. لنعذر أولئك المرتابين بكل هذه الفعاليات المعلبة، ليس لأنها تدعو إلى الاختلاط الذي تعيشه كل المجتمعات واقعاً حضارياً بين أفراده، الإسلامية منها وغير الإسلامية، إنما هو ما يعكسه ذلك الرفض الذي يأتي من دول تعد الأكثر انفتاحاً على الحياة والتنوع، وتقف مستنكرة ورافضة طغيان الثقافة الأميركية ومحاولة استبدادها بثقافة أجيالها الصاعدة، منها فرنسا، التي وقف وزير ثقافتها مهاجماً أميركا هجوماً قوياً في اجتماع «يونيسكو» في المكسيك على الطغيان الذي تحاول أن تفرض من خلاله ثقافة شمولية وحيدة مستبدة على العالم أجمع.
ولقد تنبهت كندا في وقت مبكر إلى محاولة التغلغل الأميركي في عصب ثقافتها، من خلال ما تبثه من رسائل وبرامج إعلامية إلى شعبها، ورفعت بذلك إلى «يونيسكو» برسالة احتجاج صارخة، فالمسألة إذاً تتجاوز هنا الاستشعار الديني إلى ما هو أعمق، سموه ما شئتم، الهوية، الوجود، التحكم.

السؤال الأخير الذي أوجهه إلى مقام سيدة الترفيه: لم لا تتلمس الروافد الغنية في وعائنا الفني والفكري والفولوكلوري وتحيلها واقعاً نابضاً بالحياة؟
فنحن من أغنى الشعوب في هذا المجال ولا يشق لنا فيه مجال، فلو أحيت الهيئة أسواقنا القديمة والحديثة ومراكزنا الحضارية في كل مناطق المملكة ونفخت فيها روح الحياة من جديد وزينت بكل أنواع الفنون البصرية والسمعية، لتكون ملاذاً لكل الباحثين عن قضاء وقت ممتع، صدقوني يومها لن يأتي الغربيون ليسوقوا علينا مصنعاتهم الفنية، بل ليروا المختلف البديع من ثقافتنا وفنوننا ويستطعموا مذاقنا.
عندها سنلوح بأيادينا شاكرين ممتنين لجلالة هيئة الترفيه، ولن نجد وقتاً كافياً لمناكفة معارضي الفرح كارهي الحياة.
محمد المزيني | الأربعاء 01 آذار 2017
* كاتب وروائي سعودي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..