نبتت في السنوات الأخيرة ظاهرة (الشيلات) التي تذكّرني - كلما سمعت اسمها - قولَ الرصافي في وصف الأرملة المُرضِع التي تتقي البرْدَ والريح:
تمشي بأطمارِها والبردُ يلسعُها
كأنّها عقربٌ (شالتْ) زُباناها
شالت زُباناها أي ارتفع قرناها. والذي يذكّرني البيتَ هو وجه الشبَه بين (الشيلات) و(شالت زُبانى العقرب، أو شالت هي بذنبها)، فهما –أي العقرب والشيلات- موضع تخوّف، وحِذار. وهذا بيّن في العقرب، ولكنّ الشرّ في (الشيلات) أنها صرفت الأذواق إلى ضروب من الهياط والمِياط، وأثارت نُعَراتٍ، وشغلتْ الناسَ بالشائلين والشائلات، فهي تلسع لسع العقارب، وقد لا يُدرَك ألم اللسْع وأثره إلا بعد حين.
والمثير أنها لقيت تشجيعاً تجاوز المقدار المنتظَر، أو المقبول، فرُصدت لمسابقاتها جوائز مليونية، تجعل الظنَّ يذهب إلى أن (الشائل) سيأتي بما لم تستطعه الأوائل!
لقد أُعلن في (جائزة الملك عبدالعزيز للشعر الشعبي) عن تخصيص خمسة ملايين لأحسن (شَيلة)! ومليونان للثانية، ومليون للثالثة، وهذا كله غير ما يُمنح من مالٍ مماثل للمحاورة والشعر النبطي!
خمسة ملايين! بل ثمانية ملايين للشيلات! وما الشيلات؟ أليست جزءاً من الشعر النبطي؟ فلماذا فُصلا؟ هذا سؤال عابر، ولكن لنعُد إلى أصل المسألة: ما الغاية من هذا التشجيع؟ وما الفوائد والعوائد على البلاد والعباد من الشيل والتّشيِييل؟
لننظر في المسألة نظرات عقلية هادئة: ما الغايات التربوية والتعليمية والوطنية من هذا التشجيع منقطع النظير؟ هل رُئي أن في (الشيلات) قيماً لغوية تعيد الأجيال إلى صفاء اللغة وسموّها؟ وهل لُحِظ فيها ما تقدّمه من تربية وتعليم، ومؤازرة لما تتضمّنه المناهج من علم وثقافة؟ وهل تنبّه مشجعوها إلى أنها تشجّع على التفكير العلمي البنّاء؟ وهل بدا لهم –ولم يبدُ لغيرهم – أنها تضع بلادنا في مصافّ الدول ذوات الاختراع والإبداع في فنون العلم والمعرفة؟
لا شكّ في أن من رصد تلك الأموال الهائلة قد فكّر وقدّر، فرأى ما لم نره، وعلم ما لم نعلمْه، فليته يضيء لنا ظلمات جهلنا بمصابيح عقله وتفكيره!
والشيء بالشيء يُذكَر، هل حظيت منجزات العلماء المبدعين والعاملين الناجحين والمعلّمين المخلصين والطلاب النابهين بعُشر معشار ذلك الحظّ؟ إن أربعة وعشرين مليوناً لتسعة فائزين، تعادل ما مُنح لنحو واحد وثلاثين عالماً فازوا بجائزة الملك فيصل في عقود! أي إن قيمة العالِم في حالنا العجيبة هذه تساوي خُمس (شَيلة)، وأن منزلته لا تقرب من منزلة (ناقة مزيونة) تُمنَح مليوناً! فمنجَز علمي ربما أفنى العالِم فيه زهوة عمره لا يقرُب من جزء مما يحظى به (شائل) قُصاراه أن يصفّ بعض الكلمات، ويدندن بها، ثم تطير بها الأفواه، ولا شيء بعد ذلك!
أغاية (الأمر) إكرام ل(شائلكم)؟
يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ
إن في تعاملنا مع الظواهر خللاً كبيراً، وإن ما أعلنته هيئة (جائزة الملك عبدالعزيز للشعر الشعبي) من تلك الجوائز يثير الأسئلة الحرجة عما وراء الأكمة! وعن مغازي إهدار تلك الأموال الطائلة! بل عن مصادرها ومواردها؟
ونحن - وقد أحدقت بنا فتن كقطع الليل المظلم- أحوج ما نكون إلى إعادة النظر، وترتيب الأولويات، ومراعاة ما تمرّ به البلاد من حاجات كثيرة، أهمها معاضدة القائمين على الثغور، مادياً ومعنوياً، والاقتصاد في هدر المال، ودعم محاضن التربية والتعليم، وإنقاذ الأجيال من شوائب الفكر المشبوه، وحمايتهم من تغوّل التطرّف في الجهتين، ودفع حركة الثقافة الحقيقية، وتحسين الخدمات الطبية، وإتمام البُنى التحتية، وهلمّ جراً. والاهتمام بذلك كله والعناية به لا يتفقان مع هدر المال على شيء أغلبه من الغثاء والزبَد الذاهب جُفاءً.
وحتى يتحقق ما نصبو إليه ينبغي أن يكون عندنا من وضوح الرؤية وشفافية التعامل ما يمكّننا من النظر المُدرِك إلى الأسباب التي جعلت للشيلات وشائليها وشائلاتها كلّ هذه المنزلة العجيبة! وينبغي كذلك أن ندرك النتائج الوخيمة التي بدأت بواكيرها تغزو المجتمع، كسطحية الاهتمام، وتفريغ العقول من القيم العليا، وخلخلة الانتماء الوطني.
إن الاهتمام بالتراث الشعبي، إذا خرج عن أطره المقبولة، يصبح وبالًا على الأمة تاريخها ولغتها وتراثها ووحدتها. وأظن أن فيها من ذوي الرُّشد من يستطيع ردَّ تلك المهازل، مستمِعاً للنصائح في (منعَرَج اللوى)، قبل أن يستبين (ضحى الغد)، فيقول ناقضاً قول دريد بن الصمّة:
وهل أنا إلا من غَزِيّة إن غوتْ
(رشدتُ) وإن ترشدْ غَزِيّة أرشُد
بقلم: د.عبدالله بن سليم الرشيد
المصدر:
---------------
مواضيع مشابهة - أو -ذات صلة :
تغريدات الأخت مها العتيبي عن خطر قناة بداية !
تمشي بأطمارِها والبردُ يلسعُها
كأنّها عقربٌ (شالتْ) زُباناها
شالت زُباناها أي ارتفع قرناها. والذي يذكّرني البيتَ هو وجه الشبَه بين (الشيلات) و(شالت زُبانى العقرب، أو شالت هي بذنبها)، فهما –أي العقرب والشيلات- موضع تخوّف، وحِذار. وهذا بيّن في العقرب، ولكنّ الشرّ في (الشيلات) أنها صرفت الأذواق إلى ضروب من الهياط والمِياط، وأثارت نُعَراتٍ، وشغلتْ الناسَ بالشائلين والشائلات، فهي تلسع لسع العقارب، وقد لا يُدرَك ألم اللسْع وأثره إلا بعد حين.
والمثير أنها لقيت تشجيعاً تجاوز المقدار المنتظَر، أو المقبول، فرُصدت لمسابقاتها جوائز مليونية، تجعل الظنَّ يذهب إلى أن (الشائل) سيأتي بما لم تستطعه الأوائل!
لقد أُعلن في (جائزة الملك عبدالعزيز للشعر الشعبي) عن تخصيص خمسة ملايين لأحسن (شَيلة)! ومليونان للثانية، ومليون للثالثة، وهذا كله غير ما يُمنح من مالٍ مماثل للمحاورة والشعر النبطي!
خمسة ملايين! بل ثمانية ملايين للشيلات! وما الشيلات؟ أليست جزءاً من الشعر النبطي؟ فلماذا فُصلا؟ هذا سؤال عابر، ولكن لنعُد إلى أصل المسألة: ما الغاية من هذا التشجيع؟ وما الفوائد والعوائد على البلاد والعباد من الشيل والتّشيِييل؟
لننظر في المسألة نظرات عقلية هادئة: ما الغايات التربوية والتعليمية والوطنية من هذا التشجيع منقطع النظير؟ هل رُئي أن في (الشيلات) قيماً لغوية تعيد الأجيال إلى صفاء اللغة وسموّها؟ وهل لُحِظ فيها ما تقدّمه من تربية وتعليم، ومؤازرة لما تتضمّنه المناهج من علم وثقافة؟ وهل تنبّه مشجعوها إلى أنها تشجّع على التفكير العلمي البنّاء؟ وهل بدا لهم –ولم يبدُ لغيرهم – أنها تضع بلادنا في مصافّ الدول ذوات الاختراع والإبداع في فنون العلم والمعرفة؟
لا شكّ في أن من رصد تلك الأموال الهائلة قد فكّر وقدّر، فرأى ما لم نره، وعلم ما لم نعلمْه، فليته يضيء لنا ظلمات جهلنا بمصابيح عقله وتفكيره!
والشيء بالشيء يُذكَر، هل حظيت منجزات العلماء المبدعين والعاملين الناجحين والمعلّمين المخلصين والطلاب النابهين بعُشر معشار ذلك الحظّ؟ إن أربعة وعشرين مليوناً لتسعة فائزين، تعادل ما مُنح لنحو واحد وثلاثين عالماً فازوا بجائزة الملك فيصل في عقود! أي إن قيمة العالِم في حالنا العجيبة هذه تساوي خُمس (شَيلة)، وأن منزلته لا تقرب من منزلة (ناقة مزيونة) تُمنَح مليوناً! فمنجَز علمي ربما أفنى العالِم فيه زهوة عمره لا يقرُب من جزء مما يحظى به (شائل) قُصاراه أن يصفّ بعض الكلمات، ويدندن بها، ثم تطير بها الأفواه، ولا شيء بعد ذلك!
أغاية (الأمر) إكرام ل(شائلكم)؟
يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ
إن في تعاملنا مع الظواهر خللاً كبيراً، وإن ما أعلنته هيئة (جائزة الملك عبدالعزيز للشعر الشعبي) من تلك الجوائز يثير الأسئلة الحرجة عما وراء الأكمة! وعن مغازي إهدار تلك الأموال الطائلة! بل عن مصادرها ومواردها؟
ونحن - وقد أحدقت بنا فتن كقطع الليل المظلم- أحوج ما نكون إلى إعادة النظر، وترتيب الأولويات، ومراعاة ما تمرّ به البلاد من حاجات كثيرة، أهمها معاضدة القائمين على الثغور، مادياً ومعنوياً، والاقتصاد في هدر المال، ودعم محاضن التربية والتعليم، وإنقاذ الأجيال من شوائب الفكر المشبوه، وحمايتهم من تغوّل التطرّف في الجهتين، ودفع حركة الثقافة الحقيقية، وتحسين الخدمات الطبية، وإتمام البُنى التحتية، وهلمّ جراً. والاهتمام بذلك كله والعناية به لا يتفقان مع هدر المال على شيء أغلبه من الغثاء والزبَد الذاهب جُفاءً.
وحتى يتحقق ما نصبو إليه ينبغي أن يكون عندنا من وضوح الرؤية وشفافية التعامل ما يمكّننا من النظر المُدرِك إلى الأسباب التي جعلت للشيلات وشائليها وشائلاتها كلّ هذه المنزلة العجيبة! وينبغي كذلك أن ندرك النتائج الوخيمة التي بدأت بواكيرها تغزو المجتمع، كسطحية الاهتمام، وتفريغ العقول من القيم العليا، وخلخلة الانتماء الوطني.
إن الاهتمام بالتراث الشعبي، إذا خرج عن أطره المقبولة، يصبح وبالًا على الأمة تاريخها ولغتها وتراثها ووحدتها. وأظن أن فيها من ذوي الرُّشد من يستطيع ردَّ تلك المهازل، مستمِعاً للنصائح في (منعَرَج اللوى)، قبل أن يستبين (ضحى الغد)، فيقول ناقضاً قول دريد بن الصمّة:
وهل أنا إلا من غَزِيّة إن غوتْ
(رشدتُ) وإن ترشدْ غَزِيّة أرشُد
بقلم: د.عبدالله بن سليم الرشيد
المصدر:
---------------
مواضيع مشابهة - أو -ذات صلة :
تغريدات الأخت مها العتيبي عن خطر قناة بداية !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..