القضاء في الاصطلاح:
-
.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
يمكن أن نستخلص تعريفاً شاملاً ومبسطا
للقضاء بأنه: (الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً للنزاع
بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة).
مشروعية القضاء:
القضاء من عمل الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يدل على ذلك
قوله تعالى: ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78، 79] وقوله : ﴿
يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26].
ورسول الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم -
صاحب الرسالة الخاتمة والدائمة كما كان مأمورا بالدعوة والتبليغ كان
مأمورا بالحكم والفصل في الخصومات.
وقد ورد في القرآن الكريم في غير ما أية ما يشير إلى ذلك، منها قوله تعالى: ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48] وقوله : ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42] وقوله : ﴿ فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
وأما السنة المطهرة: فتدل لمشروعية القضاء
أحاديث كثيرة منها ما رواه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال:( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا
حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا حسد إلا
في اثنين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله
حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ).
وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على
مشروعية القضاء قال ابن قدامة: ( وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء،
والحكم بين الناس ).
الحكمة من مشروعية القضاء:
القضاء أمر لازم لقيام الأمم ولسعادتها
وحياتها حياة طيبة ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات، وأداء
الحقوق إلى مستحقيها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي
العابثين وأهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه
وماله، وعلى عرضه وحريته، فتنهض البلدان ويتحقق العمران ويتفرغ الناس لما
يصلح دينهم، ودنياهم فإن الظلم من شيم النفوس، ولو أنصف الناس استراح
قضاتهم ولم يحتج إليهم.
حكم القضاء:
اتفق الفقهاء على أن القضاء، فرض كفاية إذا قام به بعض الأمة سقط الوجوب عن الباقين وإذا لم يقم به أحد منها أثمت الأمة جميعا.
أما كونه فرضا فلقوله تعالى: ﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾ [النساء: 135].
وأما كونه على الكفاية، فلأنه أمر، بمعروف
أو نهي عن منكر وهما على الكفاية، ولأن أمر الناس لا يستقيم بدون القضاء،
فكان واجبا عليهم كالجهاد والإقامة.
قال الأمام أحمد : ( لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس ).
ولأن فيه أمرا بالمعروف ونصرة للمظلوم
وأداء للحق إلى مستحقيه وردعا للظالم عن ظلمه، وهذه كلها واجبات لا تتم إلا
بتوالي القضاء، لذا كان تولي القضاء واجبا والقاعدة الفقهية تقول: ( إن ما
لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) هذا عن حكم القضاء بصفة عامة.
أما عن حكم الدخول فيه بالنسبة للأفراد
فإنه يختلف باختلاف حالاتهم، فيجب على الشخص إذا تعين له ولا يوجد من يصلح
غيره، ويكره إذا كان صالحا مع وجود من هو أصلح منه، ويحرم إذا علم من نفسه
العجز عنه وعدم الإنصاف فيه لميله للهوى ويباح له فيخير بين قبوله ورفضه
إذا استوى هو وغيره في الصلاحية والقيام به، وقد سئل مالك - رضي الله عنه
-: ( أيجبر الرجل على ولاية القضاء ؟ قال: نعم إذا لم يوجد منه عوض، قيل
له: بالضرب والحبس ؟ قال: نعم ).
الشروط الواجب توفرها في القاضي الشروط الواجب توفرها في القاضي:
يشترط الفقهاء في القاضي جملة من الشروط
والمواصفات التي ينبغي توافرها في شخصيته لكي يتمكن من أداء مهمته على
الوجه الأكمل، وهذه الشروط هي :
أولا: البلوغ:
فلا يجوز تقليد الصبي القضاء، وإذا قلد
فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمر
بالاستعاذة من أمارة الصبيان، فقد روي الأمام أحمد أنه - صلى الله عليه
وسلم - قال:( تعوذوا بالله من رأس السبعين، ومن إمارة الصبيان ) والتعوذ لا
يكون إلا من شر، فيكون تقليد الصبيان فسادا في الأرض ومضارة؛ ولأنه لا
ولاية للصبي على نفسه فلا تكون له ولاية على غيره بالقضاء ونحوه.
ولأن القضاء ليس في حاجة إلى كمال العقل بكمال البدن فحسب، بل يحتاج كذلك إلى زيادة فطنة وجودة رأي.
ولا يشترط في القاضي أن يكون طاعنا في
السن، بل المراد اجتماع الشروط المعتبرة في ولايته بعد بلوغه، ولو كان حديث
السن، فقد روى أن الخليفة المأمون قلد يحي بن أكثم قضاء البصرة، وكان ابن
ثماني عشرة سنة، فطعن بعض الناس في ولايته لحداثة سنه فكتب إليه المأمون:
كم سن القاضي ؟ فأجاب يحي بقوله: ( أنا في سن عتاب بن أسيد حين ولاه الرسول
- صلى الله عليه وسلم - على مكة ) على أن ارتفاع السن يجيء من باب الوقار
والهيبة التي استحبها العلماء في القاضي.
ثانيا: العقل:
فلا يجوز تقليد المجنون أو المعتوه أو
مختل النظر لكبر السن، أو مرض قياسا على الصبي، بل أولى وإذا قلد أحد هؤلاء
فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ.
قال الماوردي في هذا الشرط: ( وهو مجمع
على اعتباره ولا يلتقي فيه العقل الذي يتعلق به التكليف من عمله بالمدركات
الضرورية حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيد من السهو والغفلة يتوصل
بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعطل ).
ثالثا: الحرية:
والمراد كما لها، فلا يجوز تقليد من فيه
شائبة رق كالمكاتب والمدبر فضلا عن القن (وهو العبد الخالص ) وإذا قلد
القضاء فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ، وذلك لأن العبد ناقص عن ولاية نفسه فمن باب
أولى أن يكون ناقصا عن ولاية غيره، كما أن العبد مشغول بحقوق سيده،
فمنافعه كلها له، هذا بالإضافة إلى أن القضاء منزلة وحرمة وهيبة لكي يردع
أصحاب اللدد وأهل الباطل، ولا شك أن هذه الصفة لا تتوفر في العبد.
هذا مذهب جمهور العلماء، خلافا لابن حزم ومن وافقه في قبول شهادة العبد ويقولون إن أهلية القضاء كأهلية الشهادة.
رابعا: الإسلام:
وذلك لأن القضاء ولاية ولا تجوز ولاية الكافر على المسلم، قال تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
﴾ [النساء: 141] ثم إن القاضي يطبق أحكام الشريعة الإسلامية وهي دين،
وتطبيق الدين يحتاج إلى إيمان به من قبل من يطبقه وخوف من الله يمنعه من
الحيدة عن التطبيق السليم لأحكامه، ولا يتأتى ذلك من غير المسلم الذي لا
يؤمن بهذا الدين بل حمله كفره بالإسلام على تعمد مخالفة أحكامه أو العبث
بها.
ولا خلاف بين الفقهاء في اشتراط الإسلام
في من يتولى القضاء على المسلمين أما تولية القضاء لغير المسلم على غير
المسلمين، فقد منعها ولم يجزها جمهور الفقهاء لأن شرط الإسلام عندهم شرط
ضروري لا بد منه في من يتولى القضاء سواء كان قضاؤه على المسلمين أو على
غير المسلمين.
وذهب الحنفية إلى جواز تقليد الذمي وهو
غير مسلم القضاء على أهل الذمة وعللوا ذلك بأن أهلية القضاء كأهلية
الشهادة، والذمي من أهل الشهادة على الذميين فهو أهل لتولي القضاء عليهم.
وكونه قاضيا خاصا بهم لا يقدح في ولايته ولا يضر كما لا يضر تخصيص القاضي المسلم بالقضاء بين أفراد جماعة معينة من المسلمين.
ويرى الماوردي أن إسناد القضاء في غير
المسلمين إلى قضاة منهم هو في الصورة تقليد قضاء، وفي الحقيقة تقليد رياسة،
بدليل أن لهم أن يدعوا قضائهم هؤلاء ويتحاكمون إلى قضاة المسلمين، وفي هذه
الحالة يكون حكمنا بينهم متروكا لاختيارنا كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ [المائدة: 42] فإن تحاكموا إلى قضائهم فقد التزموا بما يحكمون به لالتزامهم له، وليس لأنه لازم لهم من الأصل.
خامسا: الذكورة:
وهي شرط عند جمهور الفقهاء، فلا يجوز
عندهم تولية المرأة القضاء وإذا وليت يأثم المولىّ وتكون ولايتها باطلة
وقضاؤها غير نافذ ولو فيما تقبل فيه شهادتها.
وحجتهم: الحديث النبوي الشريف: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ).
ولأن المرأة لا تصلح للإمامة العظمى أي
رئاسة الدولة ولا الولاية على البلدان، ولهذا لم ينقل عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - ولا عن أحد من خلفائه الراشدين من بعده أنهم ولوا امرأة قضاء
ولا ولاية بلد، ولو جاز ذلكم لوقع ولو مرة واحدة ولم يخل منه جميع البلدان
غالبا.
وأيضا فإن القاضي يحتاج إلى مخالطة الرجال
من الفقهاء والشهود والخصوم، والمرأة في الأصل ممنوعة من مخالطة الرجال،
لما يخاف عليها من الفتنة بسبب هذه المخالطة التي لا ضرورة لها.
وقال فقهاء الحنفية يجوز أن تكون المرأة
قاضية في غير الحدود والقصاص لأنه لا شهادة لها في هذه الجنايات ولها شهادة
في غيرها، وأهلية القضاء عندهم تدور مع أهلية الشهادة.
وذهب ابن جرير الطبري إلى أن الذكورة ليست
شرطا لتولي القضاء كالإفتاء عنده، والإفتاء لا تشترط فيه الذكورة، وعلى
هذا يجوز للمرأة أن تكون قاضية في الأموال وغيرها وبهذا القول قال فقهاء
المذهب الظاهري كذلك.
سادساً: العدالة:
وهي معتبرة في كل ولاية عند جمهور
الفقهاء، والمقصود بها أن يكون القاضي قائما بالفرائض والأركان، صادق
اللهجة، ظاهر الأمانة عفيفا عند المحارم، متوقيا المآثم بعيداً عن الريب،
مستعملا لمروءة مثله في دينه ودنياه.
لهذا لا تجوز ولاية الفاسق للقضاء لأنه متهم في دينه، والقضاء أمانة من أعظم الأمانات.
سابعاً: الاجتهاد:
وهو الأهلية لاستنباط الأحكام من مصادر
التشريع فالمجتهد هو من يعرف من القرآن والسنة ما يتعلق بالأحكام خاصة
وعامة ومجملة ومبنية وناسخة ومنسوخة ومتواتر السنة وغيره، والمتصل والمرسل
وحال الرواة قوة وضعفا ولسان العرب لغة ونحوا، وأقوال العلماء من الصحابة
فمن بعدهم إجماعا، واختلافا والقياس بأنواعه.
ثامنا: سلامة الحواس:
والمراد بها السمع والبصر والكلام: وهذا
شرط جواز وصحة عند جمهور العلماء فلا تجوز تولية الأصم لأنه لا يسمع كلام
الخصمين ولا تجوز تولية الأعمى؛ لأنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه ولا
المقر من المقر له، ولا الشاهد من المشهود له أو عليه، ولا تجوز تولية
الأخرس لأنه لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته أما سلامة
باقي الأعضاء فهي هنا إنما تعتبر استحبابا لا لزوما؛ لأن السلامة من الآفات
أهيب لذوي الولاية، والهيبة هنا مستحبة لا مستحقة ومن ثم فلا مانع من أن
يكون القاضي مقعدا أو أقطع أو أعرج، ومثل هذا يقال في شأن ضعيف النطق أو
السمع أو البصر لعدم فوات المقصود من ولاية القضاء.
هذا ومن الجدير بالذكر أن القاضي لا يأخذ
شرعيته إلا بتعيين من ولى الأمر أو نائبه وذلك حفاظا على وحدة المسلمين
وصيانة دمائهم، فالقضاء كما هو معلوم منصب من مناصب الدولة لا يجوز لغير
ولي الأمر تعيينه إلا في حالة الضرورة كما لو لم يوجد حاكم في بلد ما فإن
لأهل العلم والرأي تعيين قاض يحكم بينهم.
على أنه في حالة وجود حاكم بعد ذلك فلابد
من إذنه. كما أن ولاية القاضي تعمم وتخصص، فيجوز أن يكون قاضيا في جميع
بلاد المسلمين وفي كل دعوى كما يجوز للحاكم أن يوليه القضاء في مكان معين
لا يتعداه، أو في نوع من الدعوى كالحكم بين أهل الذمة.
وفي كل ذلك لا يجوز للقاضي أن يتعدى ما
رسم له، ولا أن يتجاوز حدود ولاياته. وهو ما يسمى بالاختصاص القضائي.
زماناً ومكاناً وموضوعاً.
أعوان القاضي - استقلال القضاء:
يحتاج القاضي في وظيفته القضائية إلى مجموعة من الأعوان تعينه على ممارسة مهنته وأدائها على الوجه الأكمل، ومن هؤلاء الأعوان:
1/ جماعة من أهل العلم والفضل:
يتخذ القاضي جماعة من أهل العلم والفضل يستشيرهم في ما يعرض عليه من قضايا
وما ينبغي لها من أحكام شرعية مناسبة وهذه المشاورة من القاضي مطلوبة، وإن
كان عالما فقد كان عمر بن الخطاب يستشير كبار الصحابة وعلماءهم كعلي بن
أبي طالب وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - أجمعين.
والغرض من المشاورة تبينه القاضي إلى ما
عسى أن يكون قد فاته أو نسيه مما له تعلق بالدعوى أو تأثير في الحكم مع
بيان رأيهم في الحكم المناسب، وقد اشترطوا فيهم أن يكونوا من أهل الاجتهاد
والعدالة؛ حتى يمكنهم الدلالة على الحكم الشرعي للقضية.
2/ الكاتب:
وهو الذي يكتب بين يدي القاضي حسبما يملي عليه القاضي. وقد قال الفقهاء في
هذا الكاتب ينبغي أن يكون عدلا، وعلى قدر كاف من الفقه والدراية.
3/ الحاجب: وهو الذي يقدم الخصوم إلى القاضي؛ ليقضي في خصومتهم بحسب أسبقيتهم في الحضور أو على حسب ترتيب رؤية دعاواهم.
4/ البواب: ومن
وظيفته إعلام الناس بوقت جلوس القاضي للحكم، وإعلامهم بوقت راحته،وإخبار
القاضي بمن يريد الدخول عليه والغرض من ذلك؛ حتى إذا أذن له القاضي بالدخول
أدخله وإلا لم يدخله.
5/ المترجم:
ويتخذ القاضي مترجما عدلا أو مترجمين اثنين أو أكثر فإن لم يكن عند القاضي
مترجم خاص ترجم له عند الحاجة ثقة مأمون، ومترجمان أفضل من الواحد وتجوز
ترجمة المرأة العدل عند الحاجة، ويقوم هؤلاء المترجمون بترجمة أقوال
المدعين أو المدعى عليهم أو الشهود إذا كان القاضي لا يعرف لغتهم.
6/ الجلواز: وهو
الذي يقوم على رأس القاضي ويقيم الخصوم إذا انتهت الخصومة ليخرجوا من مجلس
القضاء، وهو الذي يمثل الشرطة التي تحفظ الأمن في المحكمة وتحمي القاضي.
7/ الشهود:
وهؤلاء يحضرهم القاضي وجوبا ليشهدوا على القرارات التي تصدر من الخصوم
ويحفظها ويدلوا بها عند الحاجة، وينبغي أن تتوفر فيهم العدالة اللازمة
لتحمل الشهادة وأدائها.
8/ الأجرياء:
ووظيفتهم إحضار الخصوم إلى مجلس القضاء إذا استعدى عليهم أصحاب الحقوق،
وينبغي أن يكونوا من ذوي الدين والأمانة والبعد عن الطمع، وهؤلاء أيضاً
يمثلون جزء من شرطة المحاكم.
9/ المزكون: وهؤلاء رجال عدول يختارهم القاضي دون أن يكونوا معلومين للناس لتزكية الشهود بعد السؤال عنهم.
10/ المؤدبون:
هؤلاء نفر من الرجال الأكفاء يكونون في مجلس القضاء ليزجروا من ينبغي زجره
من المتخاصمين أو غيرهم إذا أساءوا الأدب في مجلس القضاء، ولهم الحق في
إخراجهم من المجلس إذا لم يكفوا عن إساءتهم، وهؤلاء أيضاً يتبعون لشرطة
المحاكم.
11/ أهل الخبرة: وهؤلاء
يختارهم القاضي من أهل العدالة والأمانة والخبرة في الأمور التي تدخل في
أعمال القضاء وتحتاج إلى خبرة معينة مثل تقويم الأشياء وإجراء قسمة العقار
والمنقول ونحو ذلك.
12/ صاحب السجن: أو
السجان ومن واجباته أن يرفع إلى القاضي كل يوم أحوال المحبوسين وما يجري
في السجن حتى يزيل الظلم، ويطلق سراح من لا يستحق البقاء في السجن وكذا من
انقضت مدة سجنه.
هذا ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأعوان
منهم من يختاره القاضي بنفسه كأهل العلم والفضل الذين يستشيرهم، وكالمزكين
والشهود، ومنهم من يعينه الحاكم أو الأمير كالكاتب والحاجب والبواب.
ويتقاضى أعوان القضاء أرزاقاً من بيت المال مقابل عملهم كل حسب اختصاصه ونوعية عمله.
هذا وينبغي للقاضي أن يراقب أعوانه ليطمئن على حسن سيرتهم وقيامهم بواجباتهم المناطة بهم.
استقلال القاضي عن السلطة التنفيذية:
تمنع نصوص الشريعة وقواعدها العامة ولاة
الأمور في الأمة من التدخل في القضاء أو التأثير في أدائه بأي وجه من
الوجوه، لأن هذا محرم والنظام الإسلامي يتقيد بصفة عامة في كل أصوله وفروعه
ومظاهره بغاية عليا هي العدل القائم على التوحيد، والتوحيد ليس بالقول
فحسب بل بالعمل الذي يصادقه هذا العمل، وهو تنفيذ ما أمر الله به، ومنع ما
نهى الله عنه، وذلك على وجه التضامن بين الناس، ومن مقتضى ذلك أن تكون
أوامره سبحانه وتعالى، ونواهيه معيارا للحق والعدل، فما أمر به هو الحق
والعدل، وما نهى عنه هو الباطل والظلم ومنعه هو الحق والعدل.
وقد تواترت الآيات في وجوب الحكم بالعدل وتحريم الظلم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90] وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8] والشنآن هو البغض والشقاق. وقال تعالى : ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58] وقال تعالى : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]
وفي الحديث القدسي : ( قال الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ).
تلك هي بعض نصوص الشريعة في شأن وجوب
الحكم بالعدل وبما أنزل الله وهو خطاب عام للحاكم والمحكوم على السواء،
فالحاكم والسلطان في الإسلام مقيد فيما يجريه بحكم الله، ولا طاعة له فيما
جاوز ذلك.
هكذا فهم وعمل السلف الصالح بأحكام
الشريعة، فهم ولاة الأمور والحاكم هو الله تعالى، وأن الخليفة أو الإمام
ليس إلا واحدا من المسلمين سواء بسواء، هم الذين يختارونه ويوسدونه الرئاسة
ولهم مراقبته، وعليه مشاورتهم فإن حاد عن الشرع وأهدر مصالحهم عزلوه.
كما فهم ولاة الأمور في الدولة الإسلامية
أن أساس الحكم في الإسلام هو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فهذا
عمرو بن العاص يقول: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا
بعمارة، ولا عمارة إلا بالعدل.
وهذا عمر بن عبد العزيز يكتب إلى أحد عماله حينما استأذنه في تحصين مدينة قائلا: ( حصنها بالعدل، ونق طريقها من الظلم ).
وهذا سعيد بن سويد يقول في إحدى خطبه
بحمص: ( أيها الناس إن للإسلام حائطا منيعا وبابا وثيقا، فحائطه الحق وبابه
العدل، ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان وليس شدة السلطان قتلا
بالسيف ولا ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل ).
من أجل ذلك أحاط الخلفاء الراشدون ورؤساء
الدولة الإسلامية القضاء بكل مظاهر الإجلال والتكريم، وصانوه عن التدخل
ضمانا للحق وإرساء للعدل فلم يسعوا إلى تحويل الأحكام لصالحهم، أو لصالح من
يحبون، وانما امتثلوا لأحكام القضاء بالاحترام والتنفيذ فكانوا يقبلون
الأحكام الصادرة ضدهم راضين وينفذونها طائعين.
وكم حدثتنا كتب الأثر عن مخاصمات كان بعض
الخلفاء الراشدين وولاة المسلمين ومن بعدهم طرفا فيها، وصدرت ضدهم أحكام
القضاة الموالين من قبلهم راضين طائعين ولعل الحق كان معروفا لهؤلاء
الخلفاء، ولكنهم تعمدوا طرح الخصومة على القضاء لاختبار قوتهم في الحق ولو
كان في جانب ذمي من اليهود أو النصارى وضد الخليفة، وليكن ذلك سنة من بعده.
ولم يكن حرص قضاة الإسلام أنفسهم على تلك
المعاني بأقل من حرص ولاة الأمور فقد كان القاضي في مجلس قضائه محترما
مهيبا لا تأخذه في الحق لومة لائم يسوي في مجلسه بين الأمير والحقير وبين
الشريف والوضيع.
وقد روت لنا كتب التاريخ بعض الأمثلة على
ذلك منها : دخل الأشعث بن قيس على القاضي شريح في مجلس الحكومة فقال شريح:
مرحبا وأهلا وسهلا بشيخنا وسيدنا، وأجلسه معه، فبينما هو جالس معه إذ دخل
رجل يتظلم من الأشعث فقال له شريح: قم فاجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك، فقال
بل أكلمه في مجلسي فقال له: لتقومن أو لآمرن من يقيمك، فقام امتثالا لأمر
القضاء ويروى أبو يوسف وهو من أفذاذ القضاة عن نفسه: أنه جاءه رجل يدعى أن
له بستانا في يد الخليفة فأحضر الخليفة إلى مجلس القضاء وطلب من المدعي
البينة فقال: غصبه المهدى مني ولا بينة لدي وليحلف الخليفة، فقال أمير
المؤمنين: البستان لي اشتراه لي المهدي ولم أجد به عقدا فوجه القاضي أبو
يوسف إلى الخليفة اليمين ثلاث مرات فلم يحلف الخليفة، فقضى بالبستان للرجل.
وكتب الخليفة أبو جعفر المنصور إلى سوار
بن عبد الله قاضي البصر : انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد، وفلان
التاجر فادفعها إلى القائد فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها
للتاجر، فلست أخرجها من يده إلا ببينة، فكتب إليه المنصور: والله الذي لا
إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق، فلما جاءه الكتاب قال: ملأتها
والله عدلا وصار قضاتي تردني إلى الحق.
غير أن الإسلام لم يكتف بمنع ولاة الأمر
من التدخل في عمل القاضي حفاظاً على استقلاله فحسب بل إنه فرض لاستقلال
القضاء ضمانات أخرى لتثبيته وتوطيده ولما كان مركز القاضي في المجتمع مركزا
مهما وخطيراً لأنه هو الذي يفصل بين الناس،فينبغي أن يكون محل ثقة واحترام
الناس لتطمئن على عدالته في الحكم.
ولا يستطيع القاضي أن ينال هذه المنزلة
عند الناس إلا بالدليل الملموس الذي يقدمه للناس في سلوكه المرضي البعيد عن
الشبهات وفي صرامته في التمسك بعدالة الحكم بين الخصوم.
فقد نبه الفقهاء رحمهم الله تعالى إلى ذلك
وذكروا ما ينبغي أن يبتعد عنه القاضي في سلوكه وسيرته وأعماله ولا شك أن
ما ذكروه هو على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، والقاعدة العامة في
سلوكه هي أن يكون مرضيا لا تثار حوله الشكوك والريب،ومما نبه عليه الفقهاء
في هذا المجال:
1- منعه من أعمال التجارة:
قال:
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : ( وأكره له - أي للقاضي - البيع والشراء
خوف المحاباة والزيادة ) لأنه إذا باع واشترى لم يؤمن أن يسامح ويجابي
فتميل نفسه عند المحاكمة إلى مسامحة ومحاباة من سامحه وحاباه ويقاس على
البيع والشراء سائر أعمال التجارة الأخرى حسب الظروف والأحوال.
2- منعه من قبول الهدية:
لا يقبل القاضي الهدية من أحد الخصمين
لأنها تورث تهمة المحاباة بل إن الهدية تكره إلى القضاة مطلقا أي سواء من
الخصمين أو من غيرهما.
ولما رد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله
تعالى - الهدية قيل له : إن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يقبل الهدية
فقال عمر :( كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية ولنا رشوة؛ لأن
المسلمين كانوا يتقربون بهذه الهدية للنبي - صلى الله عليه وسلم - لنبوته)
ولأنه - صلى الله عليه وسلم -معصوم مما يخاف من الهدية على غيره ويقاس على
الهدية كل منفعة يقدمها إليه أهل البلد الذي يقضي فيه.
3- منعه مما يخل بالمروءة:
وبالإضافة إلى ما تقدم، ينبغي أن يكون
القاضي مهيبا وقورا بعيدا عما يلثم المروءة ولا يليق بالقضاة قليل المداخلة
والعلاقات مع الناس حتى لا يتأثر فيحابي في قضائه من أجلها وأن لا يغشى
مجتمعات الناس التي تناسبه، وألا يمازح ويضاحك الآخرين في مجالسهم أو
مجلسه؛ لأن كل ذلك ينزع المهابة والوقار منه والقاضي بحاجة إلى الهيبة
والوقار.
وكذلك عليه أن يكون كلامه من النوع العلي
الخالي من الغلطة والفحش أو الاستهزاء أو الاستعلاء على الآخرين ( ومن
مظاهر استقلال القضاء في الشريعة الإسلامية كذلك، ما ذهب إليه جمهور
الفقهاء من أنه لا يجوز للسلطان عزل القاضي إذا كان عدلا إلا لمصلحة اقتضت
ذلك كتسكين فئة، أو يكون غيره أقوى منه أو أصلح للقضاء،فإن عزل لغير مصلحة
لا ينعزل ).
وإذا كانت الناحية المادية لها تأثير كبير
في حياة الناس فقد رعت الشريعة الإسلامية ذلك الجانب حرصا منها على عدم
الإخلال بمبدأ استقلال القضاء، فمادام أن القاضي قد شغل وقته وفرغ نفسه
للحكم بين الناس، وما دام أنه منع من التكسب بالتجارة ونحوها ومن كثير من
مخالطة الناس وأمر بالتحلي بدرجة عالية من الأخلاق والآداب تكفل له
الاحترام والاستقلال في الرأي.
ما دام كذلك فإن كل هذا لن يتم له إلا إذا
كان له مرتب يتقاضاه من بيت المال يكفل له العيش بأمان دون أن يكون لأحد
عليه منه ودون أن يلجأ إلى بعض المكاسب التي لا تليق بمنصبه من هنا فقد نص
الفقهاء على أن القاضي ينبغي أن يكون له رزق من بيت المال.
يقول ابن قدامة في موضوع رزق القاضي بعد
أن ذكر أقوال الفقهاء في هذه المسألة :( والصحيح جواز أخذ الرزق عليه - أي
على عمل القضاء - بكل حال، لأن أبا بكر -رضي الله عنه- لما ولى الخلافة
فرضوا له الرزق كل يوم درهمين، ولما ذكرناه من أن عمر -رضي الله عنه- رزق
زيدا وشريحا وابن مسعود،ولو لم يأمر بفرض الرزق لتعطل القضاء وضاعت الحقوق
).
انتهاء ولاية القاضي وأسبابها:
هناك طرق عديدة يفقد بها القاضي ولايته للقضاء ويخرج منها، وأهم هذه الطرق:
1/ عزل القاضي من قبل الإمام أو نائبه:
إذا وجد الإمام أفضل منه أو ظهر عجزه وعدم كفاءته، أو أقر بأنه حكم بجور متعمدا أو ثبت عليه ذلك بالبينة.
فقد عزل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-
شرحبيل بن حسنة عن القضاء فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني ؟ قال: لا ولكن
وجدت من هو مثلك في الصلاح وأقوى منك في العمل، فقال: يا أمير المؤمنين إن
عزلك عيب فأخبر الناس بعذري، ففعل عمر ذلك.
2/ فسق القاضي:
إذا ارتكب القاضي بعض الأفعال المفسقة كشرب الخمر أو غيره من الكبائر فإنه ينعزل لحظة فسقه ولا تعتبر أحكامه بعد تلك اللحظة.
قال ابن قدامة : ( فأما إن تغيرت حال
القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من القضاء أو اختل فيه بعض شروطه
فإنه يعزل بذلك ويتعين على الإمام عزله وجها واحدا ).
3/ الردة:
لأن الإسلام شرط في صحة ولاية القاضي،
وشرط في استمرارها، وعلى هذا فلو ارتد قاض عن الإسلام فإن ولايته للقضاء
باطلة من تلك اللحظة التي ارتد فيها.
4/ الجنون والسفه:
وبعبارة أدق فقدان أهلية التكليف فإذا فقد القاضي هذه الأهلية لم يعد صالحا للقضاء وبالتالي فإنه ينعزل.
5/ فقدان السمع أو البصر أو النطق:
فقد ذهب الجمهور إلى أن القاضي إذا أصيب بالصمم أو العمى أو الخرس، فإنه يخرج من ولاية القضاء.
6/ المرض المعجز:
فإذا أصيب القاضي بمرض أقعده عن الحركة والنهوض وأعجزه عن القيام بعمله، ولم يرج شفاؤه فإنه ينعزل.
7/ انتهاء مدة ولايته واختصاصه:
فإذا عين الإمام رجلا على القضاء مدة سنة
فإن ولايته للقضاء تنتهي بانتهاء السنة، وكذلك إذا كلفه الإمام بالنظر في
قضية أو مجموعة قضايا محدودة فإنه بمجرد الفراغ من النظر في تلك القضايا
تكون قد انتهت ولايته.
8/ استقالة القاضي من القضاء:
إذا استقال القاضي من وظيفته وقبل الإمام استقالته، فإنه تنتهي ولايته بذلك.
9/ الموت:
لأنه مبطل لأهلية التصرف وبالتالي تنتهي ولاية القاضي بمجرد موته.
الدعوى والإثبات في الإسلام:
تمهيد
القاضي لا ينظر منازعات الناس وخصوماتهم
إلا إذا رفعوها إليه في دعوى طالبين الفصل فيها، ونظر القاضي وفق قواعد
وضوابط معينة يسمى أصول استماع الدعوى، كما أن الدعوى تثبت عند القاضي
بوسائل معينة معتبرة شرعا تسمى وسائل الإثبات.
والغرض من هذه القواعد والأصول هو تنظيم
عملية القضاء وجعلها معروفة للمتخاصمين، وعلى نحو من السهولة والوضوح،
وتيسير التوصل إلى إظهار الحق وإثباته وإيصاله إلى صاحبه بطريق مأمون خال
من الخطأ والعثار والتطويل، وبأقصر وقت ممكن.
هذا ومما تنبغي الإشارة إليه أن أول ما
ينظره القاضي في مجلس القضاء بعد انتهاء إجراءات تسلمه لوظيفته، دون طلب من
أحد، هو قضايا المحبوسين خشية أن يكون فيهم من لا يستحق البقاء في السجن،
فيتحقق في أمرهم ويخرج من السجن من يستحق الإخراج منه ثم ينظر القاضي بدون
طلب من أحد في أمر الأوصياء الناظرين في أموال اليتامى والمجانين وتفرقة
الوصية بين المساكين، فيقصدهم القاضي بالنظر فيبقي منهم القوي الأمين على
وصيته، ويضم إليه من يعينه إن كان ضعيفا أو يعزله إن كان فاسقا.
ثم ينظر في أمر الضّوال واللقطة التي تولى
القاضي السابق له حفظها فيبيع ما في بيعه مصلحة ويحفظ ثمنه لصاحبه، ويبقي
ما يرى فيه مصلحة إلى أن يظهر صاحبه.
الدعوى وشروط قبولها:
الدعوى هي القول الذي يصدر من المدعي أمام
القاضي لإخباره بأن له حقا معينا في ذمة المدعى عليه، وأنه يطالبه به
ويريد من القاضي الحكم له به على المدعى عليه. وليست هناك صيغة معينة
للدعوى بحيث لا تجوز الدعوى ولا تقبل إلا بها، وإنما القاعدة هنا هي أن كل
كلام يفيد ما قلناه في تعريف الدعوى فإنه يصلح أن يكون صيغة لها والدعوى
التي يسمعها القاضي هي الدعوى الصحيحة، وهي التي توفرت فيها الشروط
التالية:
1/ أن يكون كل من المدعي والمدعى عليه عاقلا.
2/ أن يكون الحق المدعى به معلوما، ويدخل تحت ولاية القضاء وتجري عليه الأحكام.
3/ ألا
يكون المدعى به مستحيلا عقلا ولا عادة، فالأول كما لو ادعى أن فلانا ابنه
وكان أكبر منه سنا، والتاني كما لو ادعى فقير مشهور بالفقر أنه أقرض شخصا
أموالا طائلة.
4/
أن يترتب على ثبوتها حكم ملزم للمدعى عليه، فلو ادعي شخص أنه فقير وأن
فلانا من سكان محلته غني ويطلب شيئا من ماله لمجرد غناه لم تسمع دعواه؛
لأنها لو ثبتت لم بترتب عليه إلزام الغني بإعطائه شيئا من ماله.
مجلس القضاء وآدابه:
وقبل أن نتكلم عن كيفية رفع الدعوى ينبغي
أن نشير إلى أن مجلس القضاء -وهو المحكمة- ينبغي أن يكون مكان جد وسكينة
ووقار ولا مجال فيه للعبث والتطاول وسوء الأدب من قبل الحاضرين سواء كانوا
من خصوم الدعوى، أو الشهود أو غيرهم وإذا جلس القاضي في مجلسه للقضاء فيجب
أن يكون في حالة نفسية هادئة راضية حتى يكون مستعدا تمام الاستعداد لسماع
الدعاوى وما يقدمه الخصوم من بينات ودفوع، وبهذا جاء الحديث الشريف الصحيح
عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ) فنص
- صلى الله عليه وسلم - على الغضب ونبه على ما في معناه.
ولهذا قال الفقهاء: ينبغي أن يكون القاضي
خاليا من الجوع الشديد والعطش والفرح الشديد والحزن الكثير، والهم العظيم
والوجع المؤلم، ومدافعة الأخبثين أو أحدهما، والنعاس؛ لأن هذه الأشياء
ونحوها مثل الغضب من جهة تأثيرها في حالة القاضي النفسية وحضور ذهنه
لمقتضيات الدعوى، واستعداده المطلوب لسماع أقوال الخصمين.
وينبغي أن يكون القاضي في مجلس القضاء غاض
البصر كثير الصمت قليل الكلام، يقتصر كلامه على سؤال أو جوابه، ولا يرفع
بكلامه صوتا إلا لزجر أو تأديب، وأن يلزم العبوس، من غير غضب، وأن يكون
جلوسه بسكينة ووقار وأن لا يتضاحك ولا يتكلم بما لا علاقة له بأمور الدعوى
التي ينظرها.
كما أنه ينبغي، أن يكون على وضع يزيد من هيبته في قلوب الناس، حتى في هيئته لباسه، وهندامه.
ولا يتكلم الخصمان إلا إذا وجه القاضي
الكلام أو السؤال إليهما أو أذن لهما فيتكلم من أذن له بالكلام وعلى خصمه
أن يستمع ولا يقاطع خصمه أثناء كلامه، فإذا انتهي من كلامه جاز له أن
يستأذن القاضي ليتكلم، فإذا أذن له تكلم، وإن لم يأذن له سكت.
والقاضي يستمع لكلام الخصمين دون ضجر ولا ملل ولا إنهاء إلا أن يكون منهما لغط فينهرهما أو ينتهر اللاغط منهما.
شروط قبول الدعوى:
ترفع الدعوى إلى المحكمة المختصة بنظر
الدعوى، وهذه المحكمة في الأصل هي محكمة محل إقامة المدعى عليه، وعلى هذا
فإن المدعى يرفع دعواه إلى قاضي البلد أو المحل الذي يقيم فيه عادة المدعى
عليه.
وترفع الدعاوى شفاهاً إلى القاضي بأن يحضر
أصحابها فيدخلهم الحاجب على القاضي، حسب الأسبق في الحضور، فإذا دخل سأله
عن دعواه ونظر فيها، وقد جرى العرف على أن كاتب القاضي يقوم بكتابة دعاوى
الناس بذكر أسم المدعي والمدعى عليه، وموضوع الدعوى والشهود، ويضع كل دعوى
في محفظة، ويجمع دعاوى كل شهر ومحافظها كل محفظة على حدة ويقدمها للقاضي،
فيقوم القاضي بالتحري عن شهود كل دعوى وتزكيتهم تمهيدا للنظر فيها.
والأصل أن صاحب الحق هو الذي يرفع الدعوى
إلى القاضي إذا كان أهلا لمباشرة هذا الحق بأن تتوفر فيه الشروط الإلزامية
بأن يكون بالغا عاقلا غير محجور عليه لسفه ونحوه، ولكن مع هذا يجوز لصاحب
الحق أن يوكل غيره ليرفع دعواه نيابة عنه إلى القاضي ويرافع فيها نيابة عنه
أيضا، ويشترط لصحة هذه الوكالة أن يكون صاحب الحق الموكل كامل الأهلية فإن
كان ناقصا أو عديما ناب عنه في إقامته الدعوى وليه الشرعي.
وقد صرح الفقهاء بجواز الوكالة في الخصومة
سواء كانت بأجر أو بغير أجر، إلا أنها إن كانت بغير أجر فهي إحسان ومعروف
تلزمه إذا قبلها واستمر فيها.وإذا كان صاحب الحق أو وكيله أو وليه الشرعي
هو الذي يرفع الدعوى إلى القاضي للمطالبة بحقه في الدعوى المدنية والجزائية
فإن النيابة العامة ( أو الادعاء العام ) تملك رفع الدعوى الجزائية ضد
المجرمين والمطالبة بإنزال العقاب بهم، وذلك لأن الجرائم أفعال محرمة شرعا
فهي معاص وضرر بمصلحة الأفراد والمجتمع، وفساد في الأرض، والشريعة
الإسلامية تأمر بإزالة الضرر والفساد، فمن واجب ولي الأمر أن يتخذ كافة
الوسائل المباحة لتحقيق هذا الغرض، ومن هذه الوسائل تعيين هيئة النيابة
العامة لتقوم بمهمة ملاحقة الجرائم ورفع الدعاوى على المجرمين، وتعتبر وهي
تمارس عملها هذا نائبه عن المجتمع والأفراد المتضررين بالجريمة.
المحاكمة:
قبل أن يباشر القاضي المرافعة فيستمع دعوى
المدعى وبينته، ودفوع المدعي عليه أو إقراره فإنه يقوم بإحضار المدعى عليه
إذا لم يحضر من تلقاء نفسه فإذا حضر هو وخصمه مجلس القضاء لزم القاضي
التسوية بينهما وأجلسهما أمامه بحيث يستطيع أن يسمع كلامهما ويستطيعون أن
يسمعوا كلامه دون حاجة إلى رفع صوت.
والقاضي مأمور بالتسوية بين الخصمين فيما
يقدر عليه من أمور التسوية ومعانيها ومظاهرها، فمن ذلك أن القاضي يسوى
بينهما في النظر ولين الكلام والبشاشة، فلا يبتسم لأحدهما ويعبس في وجه
الآخر، ولا يظهر الاهتمام و الإصغاء لأحدهما دون الآخر، ولا يكلم أحدهما
بلغة لا يفهمها الآخر ما دام قادراً على الكلام بلغة يفهمها الخصمان
كلاهما، ويفعل القاضي ذلك بين جميع المتخاصمين حتى أنه يجب عليه أن يسوى
بين الأب وابنه والخليفة والرعية وبين المسلم وغير المسلم.
ويمهد القاضي بأن يعظ الخصمين من الخصومة
بالباطل، ثم يسأل القاضي المدعي عن دعواه ويأمر كاتبه بكتابتها ويرد الدعوى
إن كانت فاسدة، فإن كانت صحيحة توجب للمدعى عليه بطلب الإجابة عن الدعوى
ولا تخلوا إجابة المدعى عليه من ثلاثة أمور:
1- الإقرار فإن أقر كتب إقراره وآمر بأداء ما أقر به.
2-
الإنكار فإن أنكر طلب من المدعي البينة من شهود أو نحوهم فإن لم تكن له
بينة أو كانت له بينت غير صحيحة عرضت عليه يمين المدعى عليه فإن حلفت ردت
الدعوى وإن امتنع ثبتت عليه دعوى المدعي.
3- الامتناع عن الجواب فإن امتنع المدعى عليه عن الجواب ثبتت الدعوى عليه.
وإذا كان الأصل في المرافعة أن تكون
علانية لا خفاء فيها ويحضرها من شاء، فإنه قد يرى القاضي المصلحة في جعلها
سرية لا يحضرها أحد من الناس، بل وحتى أعوانه فتبقى مختصرة عليه وعلى أطراف
الدعوى فقط، وذلك إذا كانت طبيعة الدعوى تتعلق بأمور لا ينبغي إظهارها كأن
تكون في أمور شنيعة بين الرجال والنساء ( أو تكون في أمور مضحكة لا يؤمن
أن يؤدى سماعها إلى ما يكره ).
وسائل الإثبات:
إذا رفع المدعي دعواه
فإن القاضي، بعد أن يطلب منه أن يبين دعواه، يسأل المدعى عليه المدعي، فإن
أقر بما يثبت بإقراره الحق، الذي يدعيه المدعي صدر الحكم به.وإذا أنكر
المدعى عليه ما يدعيه المدعي طلب القاضي من المدعي أن يقدم بينته التي يثبت
بها ما يدعيه كالشهود العدول مثلا، فإن قدم البينة ثبتت الدعوى وصدر الحكم
بها وإن عجز المدعي عن تقديم البينة عرض عليه القاضي حق تحليف خصمه
اليمين، فإن طلب تحليفه وحلف المدعى عليه رد القاضي الدعوى، وإن نكل المدعى
عليه عن اليمين على المدعى حكم به للمدعى وحلفه كما سنبينه إن شاء الله
تعالى.
إذا فوسيلة إثبات الحق الذي يدعيه المدعي
قد تكون إقرار المدعى عليه أو بينة المدعي ( الشهود العدول ) أو نكول
المدعى عليه عن حلف اليمين، وهناك وسائل أخرى أو دلائل لإثبات الحق المدعى
به تفاصيلها في كتب الفقه والقضاء وسنتناول كل واحدة من هذه الوسائل بشيء
من الإيجاز.
أولا: الإقرار:
وهو الاعتراف بثبوت حق للغير على نفس المقر ولو في المستقبل.
ولا بد أن يكون الإقرار بلفظ دال على ثبوت الحق للغير على نفس المقر نحو أن يقول : لفلان عندي ألف دينار.
ويقوم مقام اللفظ إشارة الأخرس المفهومة كما تقوم الكتابة أيضا مقام اللفظ.
ومع أن الإقرار سيد الأدلة كما يقولون،
وحجيته ثابتة بالكتاب والسنة، إلا أنه يعتبر حجة قاصرة على المقر لا يتعداه
إلى غيره، فيؤاخذ به المقر وحده دون سواه لأن المقر لا ولاية له إلا على
نفسه.
ويشترط في المقر أن يكون بالغا عاقلا
مختاراً غير سكران. كما يشترط في المقر به ألا يكون مما لا يمكن عقلا ولا
شرعا، كأن يقر بأنه ابن فلان وهو أكبر منه سنا أو يقر الابن بالتسوية بينه
وبين أخته في الميراث، فالأول محال عقلا، والثاني مخالف لأصول الشرع في
الميراث أما المقر له فيشترط فيه أن يكون ممن يثبت له الحق، فإن لم يكن
كذلك لم يصح الإقرار له كما لو أقر لبهيمة أو لدار بمبلغ من المال لم يصح
إقراره وكان باطلا لأن البهيمة والدار لا تملك المال مطلقا إلا أن يكون
شخصاً إعتباريا (معنوياً) كالوقف والشركة.
كما يشترط أيضا إن كان المقر له أهلا للاستحقاق ألا يكذب المقر في إقراره.
وإذا توفرت في الإقرار الشروط المطلوبة
لزم المقر ما أقر به من مال أو قصاص، ولا ينفعه الرجوع إلا إذا أقر بحد فله
الرجوع عن إقراره كما لو أقر بالزنا والسرقة ولكنه يلزمه رد المال
المسروق.
ثانيا : الشهادة:
وهي إخبار صادق في مجلس الحكم بلفظ الشهادة لإثبات حق على الغير وتسمى البينة لأنها تبين ما في النفس وتكشف الحق فيما اختلف فيه.
ويشترط في قبول الشهادة :
1) أن يكون الشاهد بالغا عاقلا مسلما عدلا غير متهم في شهادته لعداوة أو قرابة، وأن يكون عالما بما يشهد به.
2)
تقدم الدعوى بالحق المشهود به - إلا في شهادة الحسبة - حتى لا يكون الشاهد
مدعيا وشاهداً في الوقت نفسه، وذلك في حقوق الله تعالى كحد الزنا والشرب
والسرقة وقطع الطريق.
3) طلب المدعى أداء الشهادة من الشاهد فلا تكون الشهادة إلا بطلب من المدعي.
4) إذن القاضي للشاهد بأداء شهادته.
5) نطق الشاهد بكلمة (أشهد ) في مستهل شهادته ولا يقوم غيرها مقامها كقوله ( أعلم ) أو ( أتحقق ).
6) أن يقتصر الشاهد في شهادته على ما ادعاه المدعي.
7)
أن يؤدي الشاهد ما تحمله من الشهادة مصرحا به بلفظه،فلا يقبل من الشاهد أن
يقول : أشهد بمثل ما شهد به هذا الشاهد، بل لا بد من تصريحه هو بما تحمله
وقت أدائه الشهادة.
8) أن
ينقل الشاهد ما سمعه أو رآه من وقائع إلى القاضي،لا أن يشهد بما يستنتجه
هو مما رآه. لأن تكييف الوقائع وما يستنتج منها، وما يترتب عليها من آثار
وأحكام كل ذلك متروك لتقدير القاضي واجتهاده.
9) إذا
ارتاب القاضي في الشهود فله أن يفرقهم ويسأل كل واحد عن شهادته على حده
فإن اختلفوا سقطت شهادتهم، وإن اتفقوا حكم بها القاضي إن عرف عدالتهم.
10) أن يبلغ عدد الشهود النصاب المحدد حسب ما يشهدون عليه ففي الشهادة على الزنا : لا يقبل أقل من أربعة رجال عدول مسلمين.
وفي بقية الحدود وهي القذف والسرقة، والحرابة وشرب الخمر والردة وكذلك القصاص، فإن نصاب الشهادة المقبول هو شهادة رجلين عدلين.
وفي النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء ونحو ذلك يشترط شهادة رجلين ذكرين أو شهادة رجل وامرأتين.
وفي الأموال وحقوقها كالقروض والإتلاف، والديات والبيوع ونحوها نصاب الشهادة هو رجلان، أو رجل وامرأتان باتفاق.
وفي الولادة والرضاع وعيوب النساء تحت الثياب تقبل شهادة النساء وحدهن دون أن يكون معهن رجل.
ثالثا: علم القاضي:
كما لو سمع القاضي شخصا يطلق امرأته، ثم
ترافعا إليه، فهل يجوز له أن يحكم بما علمه من حالتهما قبل الترافع، إن
القاضي لا يقضي بعلمه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( إنكم تختصمون إلى،
ولعل بعضكم الحف بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع
له قطعة من النار فلا يأخذها ).
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن القاضي
إنما يقضي بالأدلة المسموحة كالإقرار والشهود، ولا يقضي بما يعلمه هو في
ضميره إذا لم نقم عليه بينة ظاهرة.
رابعا: القرائن:
أخذ الفقهاء بالقرائن واعتبروها وسيلة من
وسائل الإثبات وطريقا من طرق الحكم، فمنهم من صرح بالأخذ بها والتعويل
عليها ومنهم من رتب عليها أحكاما فقهية دون أن يصرح باعتبارها.
ومن ذلك ما ذهب إليه المالكية من إقامة حد الزنا على امرأة ظهر حملها ولا زوج لها، وإقامة حد الخمر على من تقيأها.
الحكم في الدعوى وقواعده:
قلنا فيما سبق إن القاضي يتخذ بطانة من
أهل العلم يشاورهم في أمور القضاء والدعاوى التي ينظرها وهذه المشاورة من
القاضي لهؤلاء مندوب إليها ولو كان القاضي عالما،لأن فيها فائدة مؤكدة
للقاضي لأنها تساعد على انكشاف ما غمض أو خفي عليه.
والقاضي مطالب بالإسراع في الحكم بعد سماع
البيانات والمشاورة وظهور الحق في القضية المطروحة أمامه، لأن الغرض من
نصب القاضي فصل الخصومات وحسم المنازعات، وكلما كان الفصل سريعا أوفي وقت
قصير كان ذلك أحسن لوصول الحق إلى صاحبه.
ويكتب القاضي أو كاتبه بأمر منه وقائع
الدعوى وبينات الخصوم ودفوعهم وهذا المكتوب هو الذي يسميه الفقهاء المحضر،
فإن زاد عليه كتابة قرار الحكم سمي: ( السجل) وتكتب نسختان من المحضر أو
السجل.
هذا وينبغي للقاضي أن يدعو الخصمين إلى
الصلح، ولو ظهر له الحق في مسألة الدعوى قبل أن يصدر حكمه في المسألة فإن
أجابا إلى الصلح فالصلح خير فينبغي أن يردهما إليه ولا يقضي حتى ييأس من
الصلح بينهما، وذلك لأن القضاء يورث الضغينة والبغض، لذا ينبغي أن يبذل
وسعه للبعد عنه مهما أمكن خاصة إذا كانت الدعوى بين الأقارب أو خشي القاضي
من الفتنة إذا حكم فيها بغير الصلح.
وإذا كانت القوانين الوضعية في كثير من
البلدان توجب تسبيب الأحكام لما في ذلك من ضمان للمتقاضين وحمل القضاة على
بذل الجهد في تمحيص القضايا والتعمق في البحث القانوني حتى تجيء أحكامهم
ناطقة بعدالتها وموافقتها للقانون مما ينير السبل للخصوم للنزول عندها أو
الطعن فيها، وعندئذ يسهل على محكمة الطعن الفصل في صواب الحكم أو خطئه إذا
كان كذلك فإن فقهاء الشريعة الإسلامية - وإن لم يوجبوا نسيب الأحكام هو أن
ينص القاضي في حكمه على النص القانوني ( أو الشرعي ) الذي بني عليه حكمه
إلا أن ذلك من الأمور الاجتهادية التي يقدرها ولاة الأمور حسبما تمليه
المصلحة، فإذا أمروا بها كان ذلك واجبا شرعاً، على أنه قد ورد في بعض صور
السجلات ما يدل على أن الفقهاء عرفوا فكرة تسبيب الأحكام واستخدامها.
وينبغي للقاضي أن يقرأ الحكم في نهاية الجلسة بصوت عال يسمعه الجميع وبصورة
علنية ثم يشهد عليه الشهود وبعد سماعهم له كما ينبغي له أن يفسر للخصم
الذي حكم عليه ويبين له حتى يعلم أنه قد فهم حجته، وقضى عليه ما فهم.
هذا ولا يصدر القاضي حكمه في الدعوى إلا
بعد سماع كافة حجج الخصمين ويقرر ختام المرافعة بعد أن يقول الخصمان لم يبق
لنا قول نقوله ولا حجة ندلي بها، يقول ابن فرحون : ( ولا يحكم القاضي على
أحد إلا بعد أن يسأله: أبقيت لك حجة: فيقول: لا؟ ).
نقض الحكم وقواعده:
إذا أصدر القاضي حكما في قضية ثم ظهر له أن هذا الحكم خطأ يتعين نقضه، قام هو بنقضه.
وكما أن للقاضي الذي أصدر الحكم أن ينقض
حكم نفسه فإن لغيره من القضاة أن ينقضوا أحكام غيرهم إذا رفعت إليهم هذه
الأحكام أو نظروها من تلقاء أنفسهم كما لو نظر القاضي الجديد أحكام سلفه
إلا أن نقض الحكم القضائي له جملة من الضوابط والقواعد التي تنظمه حتى لا
يكون مسرحا للفوضى فتنتقض الأحكام دون مبرر يقضى بذلك، وأهم هذه القواعد:
أولا: أن
الاجتهاد لا ينقض بمثله: سواء كان مصدر الاجتهاد الثاني هو نفس القاضي
الأول أو كان غيره، وذلك بهدف استقرار الأحكام ووثوق الناس بها وإنهاء،
الخصومات وقطع الطريق على حكام السوء الذين قد يتذرعون بالاجتهاد لنقض
أحكامهم أو لنقض أحكام غيرهم لأغراض غير مشروعة.
ثانياً:
السوابق القضائية لا تقيد القاضي ولا تلتزم: فإذا قضى القاضي في مسألة
اجتهادية بحكم معين فإنه لا يتقيد به في القضايا المماثلة للقضية الأولى،
فله أن يحكم فيها بحكم جديد إذا تغير اجتهاده في هذه القضايا، وبالتالي لا
يجوز له أن ينقض حكمه القديم بحجة حكمه الجديد.
ثالثا: ينقض الحكم المخالف للنص أو الإجماع: فإذا حكم القاضي بحكم يخالف نص القرآن أو السنة أو الإجماع فإن هذا الحكم يستحق النقض.
وقد أضاف القرافى كذلك مخالفة القياس الخالي عن المعارض أو القاعدة الشرعية العامة السالمة من المعارض.
رابعا:
التهمة تؤثر في حكم القاضي وتعرضه للنقض: لأن القاعدة - كما يقول القرافى -
أن التهمة تقدح في التصرفات إجماعا من حيث الجملة وهي- أي التهمة- مختلفة
المراتب فأعلى رتب التهمة معتبر إجماعا مثل حكم القاضي لنفسه، فإن هذا
الحكم ينقض بلا خلاف بين الفقهاء، أدنى رتب التهم مردود إجماعا إذ لا تأثير
له في سلامة حكم لجيرانه وأهل بلدنه مثلا.
والوسط من التهم مختلف فيه هل يلحق بالأول
فينقض الحكم به، أم يلحق بالثاني فلا يؤثر في الحكم ولا ينقض به وأصلها
قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تتقبل شهادة خصم ولا ظنين ) أي متهم.
خامسا: تدقق أحكام قليل الفقه، ومن لا يستشير فيبرم منها الصحيح وينقض منها ما كان خطأ بينا وذلك حفاظا على حقوق الناس وتحقيقا للعدل.
سادسا:
إذا كان الحكم المنقوض صحيحا، فإن الحكم الناقص ينقض ويبرم الحكم المنقوض:
قال القرافى: ( و مما ينقض: ما لا ينتقض فإذا قضى بأن ينقض حكم الأول وهو
مما لا ينقض نقص الثالث حكم الثاني لأن نقضه خطأ ويمضي الأول ).
تنفيذ الحكم ووسائله:
تنفيذ الحكم هو المرحلة الأخيرة من القضاء ذلك أن للقضاء مراتب ثلاث :
المرتبة الأولى: الثبوت.
المرتبة الثانية: الحكم.
المرتبة الثالثة: تنفيذ الحكم:
والقضاء بدون تنفيذ لا قيمة له إذ لا معنى
للحكم إلا التنفيذ ولهذا جاء في كتاب القضاء لعمر بن الخطاب -رضي الله
عنه- الموجه إلى أبي موسى الأشعرى - هو من أهم المصادر الأولى للقضاء في
الإسلام -: ( فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ).
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في كتابه للأشتر النخيعي: ( وأعط القاضي من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ).
ولا شك أن هذه المنزلة تقاس بمدى تنفيذ
أحكام القاضي فالقاضي الذي لا تجد أحكامه تنفيذا لا احترام له ولا منزلة،
وإلا فما قيمة الاحترام والمنزلة بدون ذلك لهذا نجد أن العلماء يضفون على
تنفيذ الأحكام قدسية ومنزلة عظيمة حيث جعلوه من حق الله تعالى ومن الفروض،
بل جعلوا الدولة تعلن الحرب على من لم يذعن له هذا بصرف النظر عن اعتبار
القرآن الكريم تنفيذ الأحكام في قوله تعالى: ﴿
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65] مرتبط بالإيمان والكفر،
فأي حماية وأي ضمان لنزاهة القضاء أعظم من ذلك على أن تنفيذ الحكم قد يكون
بواسطة القاضي نفسه أو بواسطة شخص يعينه الحاكم لذلك، فإذا أصدر القاضي
حكمه فإنه ينفذه بنفسه إن أمكن ذلك قال الماوردي : ( فإذا ثبت عليه عند
القاضي حق وهو حاضر استوفاه منه لمستحقه ولم يكتب به إلى غيره ).
وعلى هذا فإذا كان المحكوم به عقارا أو
حيوانا أو عروضا استحقه المحكوم له وألزم المحكوم عليه بتسليمه بنفسه إذا
أمكن التسليم كما لو كان المحكوم به عقارا معروفا ظاهرا.
وإن كان المحكوم به قصاصا استوفاه ولي
القتيل إن أمكنه ذلك وقدر عليه فإن لم يقدر على الاستيفاء أمره القاضي
بتوكيل غيره حتى يستوفيه عنه.
أما العقوبات الأخرى فقد قالوا: لا يقيم
الحدود إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام ذلك بدليل أنه لم يقم حد على عهد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذنه ولا في أيام الخلفاء الراشدين
إلا بإذنهم لأن حق الله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه
الحيف فلم يجز بغير إذن الإمام.
وقد يكون قيام القاضي بتنفيذ حكمه عن طريق
الكتابة إلى قاض آخر بتنفيذه لما روى الضحاك قال : كتب إلى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ويقبل كتاب
القاضي إلى القاضي الآخر إذا عرف المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه،
سواء كان من أرسل إليه الكتاب معينا أو غير معين باسمه كأن يذكره بوصفه
بقوله قاضي محكمة كذا.
ويجوز لولي الأمر تعيين قضاة خاصين لتنفيذ الأحكام يقومون بهذه المهمة دون غيرهم من القضاة.
هذا وللقاضي عدة وسائل لحمل المحكوم عليه
على تنفيذ الحكم منها منعه من السفر إذا كان مدينا حتى يؤدى الدين، ومنها
حبسه حتى يقضي دينه ومنها الحجز على ماله ومنها بيع ماله إذا امتنع عن
الأداء
خاتمة
تعرضنا في الصفحات السابقة بصورة موجزة
للنظام القضائي في الإسلام وعرفنا ما قام عليه من دقه وإحكام، وما كان
يتمتع به رجاله من حصانة واستقلال، وما كان يراعى في اختيارهم من غزارة
العلم والتقوى والورع وكيف أن الدولة الإسلامية قد عزّت بعدل قضائها وسمو
قضائها ومتانة قانونها الذي تحكم به، ولقد حكمت هذه الشريعة في أزهى العصور
فما قصرت عن حاجة ولا تخلفت عن الوفاء بمطلب.
إن عالمية الشريعة الإسلامية قد اقتضت أن
تكون صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان ولذلك صيغت نصوصها بحيث لا يؤثر عليها
مرور الزمن، ولا يبلي جدتها ولا يقتضي تغير قواعدها العامة ونظرياتها
الأساسية، فجاءت نصوصها من العموم والمرونة بحيث تحكم كل حالة جديدة
وتستجيب لجميع مطالب الحياة.
والحق أن أحوال العالم اليوم وما فيه من
مشاكل وحروب وصراعات دفعت إليها حضارته المادية الخاوية من الروح كل ذلك
يقوم شاهدا على نقص البشر ويعطي الفرصة للإسلام بعقيدته السليمة الصالحة
ومبادئه التي تعنى بالفرد والمجتمع معا، وبالدنيا والآخرة، وبالروح والجسم
جميعا.
إن النظام القضائي في الإسلام يتميز
بخصائص لم يسجلها التاريخ لأي نظام قضائي آخر في الماضي والحاضر، وفيما
تعيشه المجتمعات البشرية مستقبلا فهو يمتاز بالنزاهة المطلقة والبساطة
الحكيمة الخالية من كل التعقيدات والشكليات والبعد عن الهيمنة والاستعلاء
والتأله، وحرية المتقاضين في الدفاع عن حقوقهم دون خوف أو تعثر، كما يتميز
بالسلوك المثالي للقضاة خوفا من الله تعالى وتجنبا للعقاب الأخروي.
وإذا كان عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة،
فإن المنتصر بالله أحد ملوك الأندلس يقول: ( إن أكبر مصيبة تحدث في
المملكة هي أقل خطرا من مصابها بموت القاضي العادل لأن وفاة أحد القواد أو
الوزراء لا تتأثر لها الحياة العمومية تأثرها بوفاة القاضي العادل).
وما دمنا نتحدث عن النظام الإسلامي للقضاء
وعن أهم خصائصه وهي العدل فيحسن بنا أن نورد هذه القصة التي نجعلها خاتمة
لهذا البحث نتبين من خلالها حرص الإسلام على العدل حتى مع غير المسلمين،
وحتى في حالة الحرب في الإسلام:
فقد كتب عمر إلى عامله في العراق أن ينصب
لهم قاضيا خاصا ( وهو أشبه بقاضي دائرة الاستئناف في عصرنا الحاضر ) فنصب
لهم قاضيا أسمه جميح بن حاضر الباجي فسمع شكواهم وحالهم مع القائد قتيبة
وحكم بخروج المسلمين من سمرقند وأن يعود أهل سمرقند إلى حصونهم وينابذهم
قتيبة على سواء ( أي يخبرهم بأنه سيغزوهم علنا قبل غزوه لهم ) ثم يحاربهم
إن أبوا، وخضع القائد العظيم وجيشه لحكم القاضي ( جميح ) وهم المسلمون
بالانسحاب من المدينة فلما رأى أهل سمرقند أن الأمر جد وأنهم لم يشهدوا
عدلا مثل هذا العدل قالوا: ( مرحبا بكم سمعنا وأطعنا) وصدق الله العظيم حين
يقول: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58].
أه-م المص-ادر والمراج-ع:
1- نظام القضاء في الإسلام / للمستشار جمال صادق المرصفاوي طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1401ه – 1981م.
2- نظام القضاء في الشريعة الإسلامية / للدكتور عبد الكريم زيدان الطبعة الأولى 1404ه 1984م مطبعة العاني بغداد.
3- القضاء في الإسلام / للدكتور / محمد عبد القادر أبو فارس / مكتبة الأقصى عمان – الطبعة الأولى 1398ه – 1978م.
4-
السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي / د. محمد عبد الرحمن
البكر / الطبعة الأولى 1408ه – 1988م الزهراء للإعلام العربي – القاهرة.
5- القضاء في الإسلام – تاريخه ونظامه / إبراهيم بخيت محمد عوض / مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة 1975م – 1395ه.
6- تاريخ القضاء في الإسلام / محمود بن محمد بن عرنوس / المطبعة المصرية الحديثة.
7- أدب القاضي / للماوردي – تحقيق محمد هلال السرحان / وزارة الأوقاف بالعراق 1391ه – 1971م بغداد.
8- أدب القضاء / لبن أبي الدم – تحقيق د. محمد مصطف الزحيلي / مجمع اللغة العربية بدمشق 1395ه – 1975م.
9- شرح أدب القاضي / للخصاف – تحقيق محي هلال السدحان / وزارة الأوقاف بالعراق 1397ه – 1977م الطبعة الأولى.
10- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام / لابن فرحون المدني الطبعة الأولى المطبعة الأميرية 1306ه دار الكتب العالمية بيروت.
11- لسان الحكام في معرفة الأحكام / لابن الشخينة / مصطفى الحلبي الطبعة الثانية 1393ه – 1973م.
12- معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين / للطرابلسي / مصطفى الحلبي 1393ه 1973م.
13- الأحكام السلطانية / للماوردي / تعليق خالد عبد اللطيف السبع / دار الكتاب العربي.
14- روضة القضاة وطريق النجاة / لأبى القاسم الرهبي السماني تحقيق صلاح الدين الناهي مؤسسة الرسالة بيروت دار الفرقان عمان.
15- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية / لأبن قيم الجوزية / تعليق الشيخ بهيج غزاوي دار إحياء العلوم العربية بيروت.
16-
المغني / لابن قدامة المقدسي تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ود.
عبد الفتاح محمد الحلو الطبعة الثانية 1413ه – 1992م هجر للطباعة القاهرة.
17- مواهب الجليل لشرح مختصر خليل / للحطاب الطبعة الثالثة دار الفكر 1412ه – 1992م.
18- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج / للرملي / مصطفى الحلبي 1386ه – 1976م.
19- حاشية ابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار الطبعة الثانية 1386ه – 1966م مصطفى الحلبي.
20- الفروق / للقرافي / دار المعارف بيروت.الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..