جاء في كتاب ((
الجواب الكافي )) لابن قيم الجوزية رحمه اللَّه ما مختصره :
-
.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
وللمعاصي من الآثار القبـيحة المذمومة ، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما
لا يعلمه إلا اللَّه .
1- فمنهـــا :
حرمان العـلم ، فإن العلم نور يقذفه اللَّه في القلب ، والمعصية تطفئ ذلك النور ،
ولما جلس الإمام الشافعي بـين
يدي الإمام مالك ، وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته ، وتوقد ذكائه ،
وكمال فهمه ، فقال : إني أرى اللَّه قد ألقى على قلبك نورًا ، فلا تطفئه
بظلمة المعصية ، وقال الشافعي :
شكوت إلى وكـيــع ســــوء حفظي
وقـال : اعلم بـأن العــــلم فـــضل |
فـــأرشدني إلى تـــــرك المعــاصي
وفضـل اللَّــه لا يـؤتـــاه عـاصـــي |
2- ومنهـــا :
وحشة يجدها العاصي في قلبه بـينه و بـين اللَّه
لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلاً ، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة
، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة ، وما لجرح بميت
إيلام ، فلو لم يكن ترك الذنوب إلا حذرًا من وقوع تلك الوحشة ، لكان
العاقل حريًّا بتركها ، وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه ،
فقال له : إذا كنت قد أوحشتك الذنوب ، فدعها إذا شئت واستأنس .
وليس على القلب أمرّ من وحشة الذنب على الذنب ، فاللَّه المستعان .
3- ومنهــا:
الوحشة التي تحصل بـينه وبـين الناس ،
ولا سيما أهل الخير منهم ، فإنه يجد وحشة بـينه وبـينهم ، وكلما قويت تلك
الوحشة بَعُـدَ منهم ومن مجالستهم ، وحرم بركة الانتفاع بهم ،
وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن ، وتقوى هذه الوحشة حتى
تستحكم فتقع بـينه وبـين امرأته وولده وأقاربه وبـينه وبـين نفسه ، فتراه
مستوحشًا من نفسه .
وقال بعض السلف : إني لأعصي اللَّه فأرى ذلك في خـُـلـُق دابتي وامرأتي .
4- ومنهــا :
تعسير أموره ،
فلا يتوجه إلى أمر إلا ويجده مغلقًا دونه ، أو متعسرًا عليه ، وهذا كما أن
من اتقى اللَّه جعل له من أمره يسرًا ، فمن عطل التقوى جعل اللَّه له من
أمره عسرًا ،
ويا للعجب ؟ كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه ، وهو لا يعلم من أين أُتي
؟
5- ومنهــا
: ظلمة يجدها في قلبه
حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهمّ ، فتصير ظلمة
المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره ، فإن الطاعة نور ، والمعصية ظلمة ،
وكلما قويت الظلمة
ازدادت حيرته ، حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر ،
كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده ، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين ،
ثم تقوى حتى تعلو الوجه ، وتصير سوادًا حتى يراه كل أحد .
6- ومنهــا :
أن المعاصي توهن القلب و البدن
:
أما وهنها
للقلب : فأمر ظاهر ، بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية .
وأما وهنها
للبدن : فإن المؤمن قوته من قلبه ، وكلما قوي قلبه قوي بدنه ، وأما
الفاجر فإنه - وإن كان قوي البدن - فهو أضعف شيء عند الحاجة ، فتخونه قوته
أحوج ما يكون إلى نفسه ، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما
كانوا إليها ، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم
وقلوبهم ؟
7- ومنهــا :
حرمان الطاعة : فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أنه يصد عن طاعة تكون بدله ، ويقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه طريق ثالثة ، ثم رابعة وهلم جرا ،
فينقطع عليه بالذنب طاعات
كثيرة ، كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها ، وهذا كرجل أكل أكلة
أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيـب منها ، واللَّه المستعان .
8-
أن المعاصي تقصر العمر
، وتمحق بركته ولا بد ، فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور ينقصه ، وسر
المسألة : أن عمر الإنسان مدة حياته ، ولا حياة له إلا بإقباله على ربه ،
والتنعم
بحبه وذكره ، وإيثار مرضاته .
9- ومنهــا :
أن المعاصي تزرع أمثالها ، ويولد بعضُها بعضًا ، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها ،
كما قال بعض السلف * إن من
عقوبة السيئة : السيئة بعدها ،
* إن من ثواب الحسنة : الحسنة بعدها .
10- ومنهـا :
وهو من أخوفها على العبد ، أنها تضعف القلب عن إرادته
فتقوى فيه إرادة المعصية ،
وتضعف إرادة التوبة شيئًا فشيئًا ، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة
بالكلية ، فلو مات نصفه لما تاب إلى اللَّه ،
فيأتي بالاستغفار وتوبة
الكاذبـين باللسان بشيء كثير ، وقلبه معقود بالمعصية مصرّ عليها ، عازم على
مواقعتها متى أمكنه ، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك .
11- ومنهــا :
أنه ينسلخ من القلب استقباحها ،
فتصير له عادة ، فلا يستقبح من نفسه رؤية
الناس له ، ولا كلامهم فيه ، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام
اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية ، ويحدث بها من لم يكن يعلم أنه عملها ،
فيقول : يا فلان ، عملت كذا وكذا ، وهذا الضرب
من الناس لا يُعافون ، وتسد عليهم طريق التوبة ، وتغلق عنهم أبوابها في
الغالب ،
كما قال النبـي صلى الله عليه
وسلم : (( كل أمتي معافى إلا المجاهرون ، وإن من الإجهار : أن يستر اللَّه
على العبد ، ثم يصبح يفضح نفسه ،
ويقول : يا فلان ، عملت يوم كذا كذا وكذا فيهتك نفسه ، وقد بات يستره ربه )) .
12- ومنهــا :
أن كل معصية من المعاصي هي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها اللَّه عز وجل ،
فاللوطية : ميراث عن قوم لوط ،
وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص : ميراث عن قوم شعيـب ،
والعلو في الأرض والفساد : ميراث عن فرعون وقوم فرعون ،
والتكبر والتجبر : ميراث عن قوم هود ، فالعاصي لابس ثياب بعض هذه الأمم وهم أعداء اللَّه .
وقد روى عبد اللَّه بن أحمد في كتاب (( الزهد )) لأبـيه عن مالك بن دينار
قال : أوحى اللَّه إلى نبـي
من أنبـياء بني إسرائيل أن قل لقومك : لا تدخلوا مداخل أعدائي ، ولا تلبسوا
ملابس أعدائي ، ولا تركبوا مراكب أعدائي ، ولا تطعموا مطاعم أعدائي ،
فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي .
13- ومنهــا :
أن المعصية سبـب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه .
قال الحسن البصري : هانوا عليه فعصوه ، ولو عزُّوا عليه لعصمهم ،
وإذا هان العبد على اللَّه
لم يكرمه أحد ، كما قال تعالى :[ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ] [
الحج : 18 ] ،
وإن عظمهم الناس في الظاهر ( لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم ) ،
فهم في قلوبهم أحقــر شيء وأهونه .
14- ومنهــا :
أن العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى تهون عليه وتصغر في قلبه ،
وذلك علامة الهلاك ، فإن الذنب كلما
صغــر في عين العبد ،
عظـم عند اللَّه تعالى ،
وقد ذكر البخاري في (( صحيحه )) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال :
(( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه ،
وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار )) .
15- ومنهــا :
أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه ، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم .
قال أبو هريرة : إن الحبارى ( طائر أكبر من الدجاج الأهلي)
لتموت في وكرها من ظلم الظالم .
وقال مجاهد : إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السَّنَةُ وأمسك المطر ،
وتقول : هذا بشؤم معصية ابن آدم .
وقال عكرمة : دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب
يقولون : منعنا القطر بذنوب بني آدم .
فلا يكفيه عقاب ذنبه حتى يـبوء بلعنة من لا ذنب له .
16- ومنها :
أن المعصية تورث الذل ولا بد ،
فإن العز كل العز في طاعة اللَّه تعالى ،
قال تعالى : [ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ] [ فاطر : 10
] ،
أي :
فليطلبها بطاعة اللَّه فإنه
لا يجدها إلا في طاعة اللَّه ،
وكان من دعاء بعض السلف :
اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك .
17- ومنها :
أن المعاصي تفسد العقل ،
فإن للعقل نورًا ، والمعصية تطفئ نور العقل ولا بد ، وإذا أطفئ نوره ضعف ونقص .
وقال بعض السلف :
ما عصى اللَّهَ أحدٌ حتى يغيـب عقله ، فإنه لو حضره عقله لحجزه عن
المعصية وهو في قبضة الرب تعالى ، وتحت قهره ، وهو مطلع عليه ، وفي داره
على بساطه ، وملائكته شهود عليه ناظرون إليه وواعظ القرآن ينهاه ، وواعظ
الإيمان ينهاه ، وواعظ النار ينهاه ، والذي يفوته بالمعصية
من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها ،
فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله والاستخفاف به ذو عقل سليم
؟!
18- ومنها :
أن الذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلب صاحبها ، فكان من الغافلين ،
كما قال بعض السلف
في قوله تعالى : [ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ] [ المطففين : 14] ،
قال : هو الذنب بعد الذنب .
19- ومنها :
أن الذنوب تُدْخِلُ العبد تحت لعنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
20- ومنها :
حرمان دعوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ودعوة الملائكة ، فإن اللَّه سبحانه أمر نبـيه بأن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ،
وقال تعالى : [
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
(7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن
صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ] [ غافر : 7- 9 ] .
21- ومنها :
أنها تحدث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن ،
قال تعالى : [
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ] [ الروم : 41 ] .
22- ومن عقوباتها
أنها تطفئ من القلب نار الغيرة ...
والمقصود : أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب
أخرجت من قلبه الغيرة على (نفسه وأهله وعموم الناس)
، وقد تضعف في القلب جدًّا ، حتى لا يستقبح بعد ذلك القبـيح لا من نفسه
ولا من غيره ، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك ، وكثير من
هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح ،
بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ، ويدعوه إليه ويحثه عليه ، ويسعى
له في تحصيله ، ولهذا كان الدَّيُوث أخبث خلق اللَّه ، والجنة عليه حرام ،
وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه لغيره ، فانظر ما الذي حملت عليه
قلة الغيرة . وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة
ومن لا غيرة له ، فلا دين له .
23- ومن عقوباتها :
ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب ، وهو أصل كل خير ، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه ، وفي (( الصحيحين )) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((
الحياء خير كله )) .
وقال : (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم يستح فاصنع ما شئت )) . رواه البخاري .
والمقصود :
أن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية ، حتى ربما
أنه لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه ، بل كثير
منهم يخبر هو عن حاله وقبح ما يفعله ، والحامل له على ذلك انسلاخه من
الحياء ، وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة لم يـبق في صلاحه مطمع .
24- ومن عقوباتها :
أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جلَّ جلاله ،
وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد ، شاء أم أبى ، ولو تمكن وقار اللَّه
وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه . ومن بعض عقوبة هذا
: أنه يرفع اللَّه عز وجل مهابته من قلوب الخلق ، فيهون عليهم ، ويستخفون
به كما هان عليه أمره واستخف به ، فعلى قدر محبة العبد للَّه يحبه الناس ،
وعلى قدر خوفه من اللَّه يخافه الناس ، وعلى قدر تعظيمه للَّه وحرماته يعظم
الناس حرماته ، وكيف ينتهك عبد حرمات اللَّه
، ويطمع ألا ينتهك الناس حرماته ؟ أم كيف يهون عليه حق اللَّه ولا يهونه
اللَّه على الناس ؟ أو كيف يستخف بمعاصي اللَّه ولا يستخف به الخلق ؟
25- ومن عقوباتها :
أنها تستدعي نسيان اللَّه لعبده ، وتركه ، وتخليته بـينه وبـين نفسه وشيطانه ، وهنالك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة ، قال اللَّه تعالى : ]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
@ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
] [ الحشر : 18، 19 ] ،
فأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه ، أي أنساه مصالحها ، وما ينجيه من عذابه ، وما يوجب له الحياة الأبدية .
فاللَّه سبحانه وتعالى يعوض
عن كل شيء سواه ولا يعوض منه شيء ، ويغني عن كل شيء ، ولا يغني عنه شيء ،
ويمنع من كل شيء ، ولا يمنع منه شيء ، ، ويجير من كل شيء ولا يجير منه شيء ،
وكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة
عين ؟ وكيف ينسى ذكره ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه . فيخسرها ويظلمها أعظم
ظلم ، فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه ، وما ظلمه ربه ولكن هو الذي ظلم
نفسه .
26- ومن عقوباتها :
أنها تخرج العبد من دائرة الإحسان وتمنعه من ثواب المحسنين ..
والمقصود :
أن الإيمان سبـب جالب لكل خير ، وكل خير في الدنيا والآخرة فسبـبه الإيمان
، فكيف يهون على العبد أن يرتكب شيئًا يخرجه من دائرة الإيمان
ويحول بـينه وبـينه ، ولكن لا يخرج من دائرة عموم المسلمين ، فإن استمر
على الذنوب وأصر عليها خيف عليه أن يرين على قلبه ، فيخرجه عن الإسلام
بالكلية ، ومن هنا اشتد خوف السلف ، كما قال بعضهم : أنتم تخافون الذنوب
وأنا أخاف الكفر .
27- ومن عقوباتها :
أنها تضعف سير القلب إلى اللَّه والدار الآخرة ، وتعوقه وتوقفه وتعطفه عن السير ، فلا تدعه يخطو إلى اللَّه خطوة ، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه .
فالذنب إما أن يميت القلب ، أو يمرضه مرضًا مخوفًا ، أو يضعف قوته ولا بد ، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ النبـي صلى الله عليه وسلم منها وهي
: (( الهم ، والحزن ، والعجز ، والكسل ، والجبن ، والبخل ، وضلع الدين ، وغلبة الرجال )) .
والمقصود : أن الذنوب هي أقوى الأشياء الجالبة لهذه الثمانية ، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة
(( لجهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء )) ، ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم اللَّه تعالى وتقدس ، وتحول عافيته إلى نقمته وتجلب جميع سخطه .
28- ومن عقوبات الذنوب :
أنها تزيل النعم وتحل النقم ،
فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبـب ذنب ، كما قال علي بن أبـي طالب رضي
اللَّه عنه : (( ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع بلاء إلا بتوبة )) . وقد
قال تعالى : [ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] [ الشورى : 30 ] .
29- ومن عقوباتها :
ما يلقيه (( اللَّه )) سبحانه وتعالى من الرعب والخوف في قلب العاصي ، فلا تراه إلا خائفًا مرعوبًا ، فإن الطاعة حصن اللَّه الأعظم ، الذي مَن دخله كان من الآمنين من عقوبات
الدنيا والآخرة ، ومَن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب .
30- ومن عقوباتها :
أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب ،
فيجد المذنب نفسه مستوحشًا ، وقد وقعت الوحشة بـينه وبـين ربه ، وبـينه
وبـين الخلق ، وبـينه وبـين نفسه ، وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة
، وأمرُّ العيش عيش المستوحشين الخائفين ، وأطيـب العيش عيش المستأنسين .
31- ومن عقوباتها :
أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه ، فلا يزال مريضًا معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه ، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان
.
32- ومن عقوباتها :
أنها تعمي بصر القلب ، وتطمس نوره ، وتسد طرق العلم ، وتحجب مواد الهداية .
33- ومن عقوباتها :
أنها تصغر النفس ، وتقمعها وتدسيها وتحقرها حتى تصير أصغر من كل شيء وأحقره ، كما أن الطاعة تنميها وتزكيها وتكبرها . قال تعالى :[
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا @
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ] [ الشمس : 9، 10 ]
والمعنى : قد أفلح من أعلاها وكبرها بطاعة اللَّه وأظهرها ، وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية اللَّه .
34- ومن عقوباتها :
أن العاصي دائمًا في أسر شيطانه ،
وسجن شهواته ، وقيود هواه ، فهو أسير مسجون مقيد ، ولا أسير أسوأ حالاً من
أسير أسره أعدى عدو له ، ولا سجن أضيق من سجن الهوى ، ولا قيد أصعب
من قيد الشهوة ، فكيف يسير إلى اللَّه والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد
؟ وكيف يخطو خطوة واحدة ؟ وإذا تقيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب
قيوده ، ومثل القلب مثل الطائر ، كلما علا بعد عن الآفات ، وكلما نزل
استوحشته .
وأصل هذا كله :
أن القلب كلما كان أبعد من اللَّه كانت الآفات إليه أسرع ، وكلما كان أقرب
إلى اللَّه بعدت عنه الآفات ، والبعد من اللَّه مراتب ،
بعضها أشد من بعض ، فالغفلة تبعد العبد عن اللَّه ، وبعد المعصية أعظم من
بعد الغفلة ، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية ، وبعد النفاق والشرك أعظم
من ذلك كله .
35- ومن عقوباتها :
سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند اللَّه وعند خلقه .
36- ومن عقوباتها :
أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف ، وتكسوه أسماء الذم والصغار ،
فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والتقي والمطيع والمنيـب والولي والورع
والمصلح والعابد والخائف والأوَّاب
والطيـب والمرضى ونحوها ، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيئ
والمفسد والخبـيث والمسخوط والزاني والسارق والقاتل والكاذب والخائن
واللوطي والغادر وقاطع الرحم وأمثالها ،
فهذه أسماء الفسوق و[ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ] [ الحجرات : 11 ]
التي توجب غضب الديان ، ودخول النيران ، وعيش الخزي والهوان ،
وتلك أسماء توجب رضاء الرحمن ، ودخول الجنان ، وتوجب شرف المسمى بها على سائر أنواع الإنسان .
37- ومن عقوباتها :
أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل ،
فلا تجد عاقلين أحدهما مطيع للَّه والآخر عاص إلا وعقل المطيع منهما أوفر
وأكمل ، وفكره أصح ، ورأيه أسدّ ، والصواب قرينه ، ولهذا تجد خطاب
القرآن إنما هو مع أولي الألباب والعقول ، كقوله : [ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ] [ البقرة : 197 ] .
38- ومن عقوباتها :
أن تجعل صاحبها من السفلة
بعد أن كان مهيَّأ لأن يكون من العلية ، فإن اللَّه خلق خلقه قسمين : علية
، وسفلة ، وجعل عليـين مستقر العلية ، وأسفل سافلين مستقر السفلة ، وجعل
أهل
طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة ، وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا
والآخرة .
39- ومن عقوباتها :
أنها تجرئ على العبد ما لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات ،
فتجرئُ عليه الشياطين [ الإنس والجن ] وتجرئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم .
40- ومن عقوباتها
: أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه ...
والمقصود :
أن العبد العاصي إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه
عما هو أنفع شيء له ، فلا ينجذب قلبه للتوكل على اللَّه تعالى والإنابة
إليه
، والحمية عليه ، والتضرع والتذلل والانكسار بـين يديه ، ولا يطاوعه لسانه
لذكره ، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بـين قلبه ولسانه ، فلا ينحبس القلب على
اللسان بحيث يؤثر فيه الذكر ، ولا ينحبس اللسان والقلب على المذكور ، بل إن
ذكر أو دعا بقلب غافل لاه ساه ، ولو أراد
من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ، ولم تطاوعه ، وهذا كله
أثر الذنوب والمعاصي ، كما له جند يدفع عنه الأعداء ، فأهمل جنده وضيعهم
وأضعفهم ، وقطع أقواتهم ، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا
وسعهم في الدفع عنه بغير قوة .
هذا ،
وثَمَّ أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر ، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند
الاحتضار والانتقال إلى اللَّه تعالى ، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة ،
كما شاهد الناس
كثيرًا من المحتضرين من أصابهم ذلك ، حتى قيل لبعضهم : قل (( لا إله إلا اللَّه )) ، فقال : شاه ورخ
غلبك ثم قضى ( شاه ورخ قطعتان من قطع الشطرنج . والمحتضر يذكرهما لأنهما أخذا عليه لبه وعقله من كثرة اللعب)
.
41- ومن عقوباتها :
أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه ابليس لعنه الله عليه ، وجيش يقويه به على حربه . ( أي أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها
العبد أعداءه ، ويعينهم بها على نفسه ، فيقاتلونه بسلاحه ، والجاهل يكون معهم على نفسه ، وهذا غاية الجهل والسفه
)
42- ومن عقوباتها :
أنها تنسي العبد نفسه ، فإذا نسي نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها ، فإن
قيل : كيف ينسى العبد نفسه ؟ وإذا نسي نفسه ، فأي شيء يذكر ؟
وما معنى نسيانه نفسه ؟
قيل : نعم ينسى نفسه أعظم نسيان ، قال تعالى : [
وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ [ الحشر : 19 ] ،
فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم ، كما قال تعالى :[ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ] [ التوبة : 67 ] ،
فعاقب سبحانه
من نسيه عقوبتين :
إحداهما : أنه سبحانه نسيه
والثانية : أنه أنساه نفسه .
ونسيانه سبحانه للعبد
إهماله وتركه وتخليه عنه وإضاعته ، فالهلاك أدنى إليه من اليد إلى الفم .
وأما إنساؤه نفسه
فهو إنساؤه لحظوظها العالية ،
وأسباب سعادتها وفلاحها وإصلاحها وما يكملها ، ينسيه ذلك جميعه ، فلا
يخطره بـباله ، ولا يجعله على ذكره ، ولا يصرف إليه همته فيرغب فيه ، فإنه
لا يمر بـباله حتى يقصده ويؤثره
. وأيضًا ينسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها ، فلا يخطر بـباله إزالتها وإصلاحها .
43- ومنها :
المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة ،
قال تعالى :[ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ] [ طه : 124 ] ، وقد فسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ، ولا ريـب
أنه من المعيشة الضنك ، والآيات تتناول ما هو أعم منه ، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات ، فإن عمومها من حيث المعنى ،
فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره ، فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب
إعراضه ، وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم ، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب
والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما
فيه ، وإنما تتوارى عند سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة ،
إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر ، فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر ، فإنه
يفيق صاحبه ويصحو ،
وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في الأموات ،
فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر اللَّه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم
في دنياه ،
وفي البرزخ ، ويوم معاده ،
ولا تقر العين ولا يهدأ القلب ، ولا تطمئن النفس إلا بإلاهها ومعبودها الذي هو حق ،
وكل معبود سواه باطل ،
فمن قرت عينه باللَّه قرت به كل عين ،
ومن لم تقر عينه باللَّه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات
.
إلى أن قال رحمه اللَّه تعالى في نهاية الكلام عن آثار المعاصي :
فانظر إلى الآخرة كأنها رأي العين ، وتأمل حكمة اللَّه سبحانه في الدارين ،
تعلم حينئذ علمًا يقينًا لا شك فيه ، أن الدنيا مزرعة الآخرة وعنوانها وأنموذجها ،
وأن منازل الناس فيها من السعادة والشقاوة على حسب منازلهم في هذه الدار من الإيمان والعمل الصالح وضدها ،
فمن أعظم الذنوب الخروج عن الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة ، وباللَّه التوفيق .
انتهى كلام ابن القيم رحمه
اللَّه تعالى ، وأحيطك علمًا بأن تلك النقاط السابقة مجرد عناوين وقليل من الشرح لما في كتاب
(( الجواب
الكافي )) ،
هذا الكتاب القيم لابن القيم الجوزية .
مقتبس من كتاب ففـــروا إلى الله
للشيخ /أبي ذر القلموني
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..