الحمدُ للهِ العزيزِ الغفارِ، الواحدِ القهارِ، الجليلِ الجبارِ، ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68]، سبحانهُ و
بحمده ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ [الزمر: 5]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، ولا ربَّ سواهُ، ﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8]، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، المصطفى المختارِ، صلَّى عليكَ اللهُ يا خيرَ الورَى، وزكاةُ ربي والسلامُ مُعطرًا، يا ربِّ صلِّ على النبيِّ المصطفى، أزكى الأنامِ وخيرُ من وَطِئَ الثَّرى، يا ربِّ صلِّ على النبيِّ وآلهِ تِعدادَ حباتِ الرِّمالِ وأَكثَر، والآل والصحبِ الكرامِ ومن تلى، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أنورَ، أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، واعلموا أن الصدقَ مركبٌ لا يهلَكُ صاحبُهُ وإن عثرَ به قليلًا، وأن الكذبَ مركبٌ لا ينجو صاحبُه وإن طارَ به بعيدًا، الصدقُ عِزٌّ وإن كان فيه ما تكره، والكذبُ ذُلٌّ وإن كان فيه ما تحب، ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الزمر: 32 - 34].
أحبتي في الله، حُكي أن راعيًا كان يرعى الغنم لأهل قريته، وكان يُمضي كل يومه وحيدًا على أطراف القرية، فأصابه الملل من الوحدة، ففكر فيما عساه أن يفعل ليرفِّه عن نفسه، فخطر له خاطرٌ أعجبه، وعمِد على الفور إلى تنفيذه، فقام من فوره وجعل يصيح وينادي أهل القرية بأعلى صوته ويقول: أغيثوني، انجدوني، الذئب هجم على غنمكم، الذئب سيأكلني، فأسرع أهل القرية إلى نجدته، فلما وصلوا وجدوا الراعي سليمًا، والغنم ترعى بكل هدوء، ولم يجدوا أثرًا للذئب، فشعروا أن في الأمر شيئًا مُريبًا، فعاتبوا الراعي ولاموه على عدم التثبت، ثم عادوا من حيث أتوا، ويبدو أن الراعي قد أعجبته تلك اللعبة فلم تَمض أيامٌ قليلة حتى أعاد الكرة مرة أخرى، ليكذب على أهل القرية ويتسلى بهم, فهبوا أيضًا لنجدته، ومرة أخرى لم يجدوا للذئب أثرًا، ولكنهم أيقنوا هذه المرة أن الراعي يكذب عليهم ليتسلى بهم، وبعد عدة أيام ظهر الذئب حقيقةً، وهاجم الراعي والغنم، وانطلق الراعي يستنجد ويستغيث، ويصيح بكل ما أُوتي من قوة، وسمعه أهل القرية، إلا أن أحدًا منهم لم يحرك ساكنًا، فقد ظنوا أنه كان يكذب عليهم كعادته، وأكل الذئب من الغنم ما أكل، وتحمل الراعي المسؤولية كاملة، فالكذاب لا يُصدِّقه أحدٌ حتى ولو صدق فيما قال.
أيها المسلمون، الكذب عملٌ مرذول، وصفةٌ مقيتة، وخصلةٌ من خصال أهل النفاق ذميمة، الكذب كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار"، الكذب بريد الكفر، ودليل النفاق، ومركب الشائعات، ومجمع الشَّرور، وأُسُّ الرذَائِلِ، ومطية النار عياذًا بالله، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا).
وقد حفلت آيات الكتاب العزيز بما يدل على التَّنفِيرِ مِنَ الكَذِبِ وإِعلاَنِ قُبْحِهِ، ويَكْفِي لِلدَّلاَلَةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَ وجَلَّ وصَفَ بِهِ الكَافِرينَ، فَقَالَ: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل: 105]، كَمَا وصَفَ بِهِ المُنَافِقِينَ، فَقَالَ: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، وبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الكَاذِبَ ضَالٌّ لاَ يَصِلُ إِلى غَايَةٍ، ولاَ يَنالُ مِنَ اللهِ هِدَايَةً، فَقَالَ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: 3]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28].
وتَعلمونَ يا كرامُ: أنَّ الكذب من الصِّفاتِ المرذولةِ قَدِيمًا وحديثًا, فقد كانتِ العربُ تَنفِرُ من الكَذِبِ وتأنفُ منه، وتزدري الكاذب وتحتقره، فَهذا أبو سُفْيانَ بنَ حَرْبٍ رضيَ اللهُ عنهُ قَبلَ إسلامِهِ حين سأله هِرَقلُ مَلِكُ الرُّومِ عن هذا النَّبِيِّ الجديدِ فَصَدَقُهُ في القولِ، وَوَصف الرَّسولَ بِأصدَقِ الأوصافِ، قال أبو سفيانَ وهو يومَئِذٍ مُشركٌ: (فوَاللَّهِ، لَوْلا أَنْ يَؤْثرَ عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ)، والعربي يستنكف أن يكذب حتى على ناقته، يقول أحدهم وقد اشتدَّ الظمأ بناقته:
أريد أُمنِيك الشـرابَ لتهدئي *** ولكنَّ عارَ الكاذبين يَحول
تَقولُ عُائِشةُ رضي الله عنها: ما كانَ خُلُقٌ أَبغَضُ إلى رسولِ اللهِ من الكَذِبِ، ولقد كان الرَّجلُ يُحدِثُ عندَ النَّبِيِّ الكِذْبَةَ، فَمَا يَزَالُ في نَفْسِ النَّبيِّ عليه حتى يَعلمَ أنَّهُ قد أحْدَثَ مِنها تَوبَةً، ويَقُولُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: "كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ مُصَدِّقٌ وأَنتَ لَهُ كَاذِبٌ"، ولِكَي يَقْطَعَ الإِسلاَمُ الطَّريقَ عَلَى الكَذِبِ، نَهَى الإِنسَانَ عَنِ الإِفرَاطِ فِي الحَدِيثِ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، وأَمَرَهُ بِالتَّثَبُّتِ مِنَ الأخبَارِ قَبْلَ نَقْلِها والتَّحدُّثِ بِها؛ يَقُولُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بِالمَرءِ إِثمًا أَنْ يُحدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ".
أيها الإخوة الكرام، لقد انتشر الكذب في كثيرٍ من مجالس الناس ومنتدياتهم، وفي مراسلاتهم ومكاتباتهم، وعبر مواقع التواصل بينهم، حتى أصبحت هذه الصفة للأسف بضاعة لبعض الناس لا يُجيد غيرها، ذلكم أنه تعوَّد الكذب، فكذب ثم كذب، وتحرَّى الكذب، وزيَّنت له نفسُه الكذب حتى ظنه ذكاءً ودهاءً وفطنةً، وصدق الله: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8]، ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 14].
أيها المسلمون، أمَّا أعظمُ الكذب، فالكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116]، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، ومن أعظم الكذب أيضًا الكذب الذي يترتب عليه أخذ حق، أو أكلُ مالٍ بالباطل كالكذب في البيع والشراء، وكالكذب في المطالبات والخصومات، ففي صحيح مسلم: قال عليه الصلاة والسلام: "ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور وقول الزور"، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مُتَّكِئًا، فجلَس، فما زال يُكرِّرها، حتى قلنا: ليتَه سَكَتَ"، وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار مالم يتفرَّقا فإن صدَقا وبيَّنا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتَما وكذَبا مُحقت بركةُ بيعهما".
ومن أعظم الكذب: الكذب الذي ينتشر بين الناس بكثرة، فيؤثر عليهم، كالكذب في وسائل الإعلام، وفي مواقع التواصل، وعن هذا النوع من الكذب حدِّث ولا كرامة، فهناك قنواتٌ ومواقع متخصصة تجارتها الكذب وقلب الحقائق ونشر الشائعات، واتهام الأبرياء وتبرئة المجرمين، إعلامٌ مفضوح، يتلوَّن ويتقلَّب حسب مصالحه الآنية، فويل لهؤلاء: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ [الجاثية: 7]، ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: 1]، ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [المطففين: 1].
معاشر المسلمين، مما يتساهل فيه كثيرٌ من الناس: الكذب مزاحًا لإضحاك الآخرين، وإيناسهم وإدخال السرور عليهم، لكنه عملٌ ممنوعٌ في الشريعة؛ لأنه يغرِّي النفس بالكذب، ويعوِّدها على سفاسف الأمور؛ جاء في الحديث الصحيح: (ويلٌ للذي يُحدِّثُ بالحديثِ ليضحِكَ به القومَ، فيكذِبُ، ويلٌ له، ويل له)؛ [أخرجه الترمذي وأبو داود، وحسنه الألباني في "غاية المرام" (376)].
لا يكذب المرء إلا من مهانته *** أو فَعلة السوء أو من قلة الأدب
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الكذب لا يصلح في جدٍّ ولا هزل، ولا يعِد أحدكم صبيه شيئًا، ثم لا يُنجزه.
وهذا أيضًا مما تساهل فيه بعض الناس، أعني الكذب على الأولاد، فيكذب الوالدان؛ إما للتخلص من إزعاج الولد، أو لتخويفه أو لأي سبب، وهذا في الحقيقة يعلِّم الولد الكذب، ويعوِّده عليه:
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوَّده أبوه
عن عبدالله بن عامر أنه قال: "دعتني أمي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعالَ أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تعطه شيئًا كُتبت عليك كذبة"؛ رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ومما يتساهل فيه بعض الناس نقل الكذب، فينقل عن فلان وعن فلان وهو يعلم أنه كذب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من حَدَّثَ حديثًا وهُو يرى أنَّه كَذِب، فهو أحدُ الكاذبينَ)؛ رواه مسلم، ومن هذا القبيل أيضًا كثرة الثرثرة ونشر الشائعات والأقاويل؛ جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمِع)، وقال عليه الصلاة والسلام: "بئس مَطِيَّةُ الرجل زعموا"، وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، ويعظم ضرر الأقاويل والإشاعات أكثر حين تكون تشهيرًا بأعراض الآخرين وتنقيصًا لهم، وأعظم منها تلك الشائعات التي تكون في أوقات الأزمات التي تتعلق بأمن المجتمع واستقراره، فيُنشرُ بتلك الشائعات الذعر والخوف، ويُزعزَعُ الأمن؛ جاء في صحيح البخاري قوله عليه الصلاة والسلام: "وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ)؛ بارك الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين.
معاشر المؤمنين الكرام، إذا كان الكذبُ أُسُّ الرذَائِلِ، فإن الصِّدْق هو أُسُّ الفَضَائِلِ، ورَأسُ الأَخلاَقِ، مَنْ توشح بِهِ تَحَلَّى بِكُلِّ فَضِيلَةٍ، وسلِم مِنْ كُلِّ رَذِيلَة، فَكَمَا لاَ يَجْتَمِعُ ضَلالٌ مَعَ هُدَى، وظَلاَمٌ مَعَ نُورٍ، كذلك لاَ يَجْتَمِعُ صِدْقٌ مَعَ كذبٍ، وحُقَّ لِلصِّدْقِ أَنْ يَتَبَوَّأَ المَكَانَةَ الرَّفِيعَةَ، والمَنزِلَةَ العالية السَّنيَّة، كَيْفَ لاَ؟ وقد وصَفَ الله به نفسه العليَّة، ووصف به كلامه العزيز، قَال تَعَالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، وقَالَ تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، كَمَا أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعلِنَ ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالى: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 95]، كَمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالى رُسَلَهُ وأَنبِيَاءَه بِالصِّدْقِ، رغْمَ أَنَّهُمْ قمم فِي جَمِيعِ الأَخلاَقِ الزَّاكِيَةِ، وفِي كُلِّ الصِّفَاتِ الحميدةِ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ أَبرز مَا تَمَيَّزُوا بِهِ صِفَةَ الصِّدْقِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالى فِي شَأْنِ إِبرَاهيمَ عَلَيهِ السَّلامُ: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 41]، وكذلك قال عن إِسمَاعِيلَ وإِدرِيسَ عَلَيهِما السَّلامُ، وقَدِ اشتَهَرَ صلى الله عليه وسلم بِأَفْضَلِ الأَخلاَقِ وأَزْكَاها، وعُرِفَ بِأَنْبَلِ الصِّفَاتِ وأَرقَاهَا، وبَلَغَ فِي كُلِّ صِفَةٍ حَسَنَةٍ غَايَتَها ومُنتَهاها، بَيْدَ أَنَّ صِفَتَي الصِّدْقِ والأَمَانَةِ كَانَتا عَلَمًا عَلَيه، بل كانت لقبًا يلقب به، فكان صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين، كما حَفَلَتْ آيَاتُ القُرآنِ الكَرِيمِ بِالدَّعوَةِ إِلى الصِّدْقِ والحَثِّ عَلَيه، فَقَرنَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِالتَّقوَى، فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، وقَالَ تعالى: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 33]، وفي آخر آية أهل البر يقول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]، كَمَا وصَفَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى المُسْلِمينَ والمُسْلِمَاتِ والمُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ بالصِّدْق، فَقَالَ: ﴿ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ﴾ [الأحزاب: 35]، ثُمَّ بَيَّنَ جَزَاءَهُم عِنْدَ رَبِّهم، فَقَالَ: ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].
وكل من يَلْزَمُ الصِّدْقَ ويَتَحَرَّاهُ، فسيَسْعَدُ فِي دُنيَاهُ ويَنْجُو فِي أُخْرَاهُ؛ يَقُولُ صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "عَلَيكُم بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلى البِرِّ، وإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجَنَّةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكتَبُ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا"، فَالمُؤمِنُ الحَقُّ هُوَ مَنْ يَجْعَلُ الصِّدْقَ رَفِيقَهُ، ومَنْهَجَهُ وطَرِيقَهُ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، والتَزِمُوا الصِّدْقَ فِي كُلِّ أَحوَالِكُم، فَإِنَّ العَقْلَ يَدْعُو إِليهِ والشَّرْعَ يَحُثُّ عَلَيه، وتجنَّبوا الكذب بكل أشكاله، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أَنا زَعِيم ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَببيتٍ في وَسَطِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وإِن كَانَ مازِحًا، وَببيتٍ في أعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ"؛ رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
ويا بن آدم عِش ما شئت فإنك ميِّت، وأحبِب من شئت فإنك مُفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مَجزي به، البر لا يَبلى والذنب لا يُنسى، والديَّان لا يموت، وكما تدين تُدان،
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..