السبت، 10 مارس 2012

الاحتساب السياسي للكاتب : عبدالوهاب آل غظيف

فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – والتي اصطلح على تسميتها بالاحتساب – من أصول دين الإسلام ودعائمه المعلومة منه بالضرورة، كما أنها تندرج من وجوه عديدة في المحاسن الجليلة لهذا الدين، فهي توفر
قوة رقابية ومحاسبية متاحة للمجتمع بأسره، لا يتحكم فيها مستبد ولا سلطان، ولا يضعفها ويوهنها إلا ضعف الإيمان في نفوس الناس، كما أنها منفذ شرعي للتعلق بنور الله والخلوص من ظلمات الفساد وأدرانه لكل مصلح ابتلاه الله بواقع متخلف عن أنوار الوحي، فمن خلالها يحصّل المرء براءة من الإثم وإن عاش مزكوماً به في محيطٍ فاسد.
وهذه الفريضة العظيمة يمكن فرزها إلى أفرادٍ باعتبار موضوعها، فالاحتساب في موضوع الأخلاق يقال عنه الاحتساب الأخلاقي، والاحتساب في موضوع العقيدة يقال عنه الاحتساب العقدي، وهكذا، مع التأكيد على أن هذا التنوع في المواضيع لا يقتضي تهويناً لشيء منها، ولا يجوز اتخاذه ذريعة لذلك، فكلها مطلوبة وكلها في النهاية أفراد بضمها نحقق نوعها وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الشامل.
ومن أفراد الاحتساب باعتبار مواضيعه: الاحتساب السياسي، ذلك الذي يكون موضوعه السياسة وتصرفات السلطان، بأمره بمعروف قصّر فيه، أو نهيه عن محذور قارفه.
وهذا الاحتساب جليل القدر، ومن جلالة قدره أنه صار علامة فارقة للسمو بقدر القائم به وتمييزه عن غيره من الناس، ولذا فقد كان من خير ما يتداول في التراث عن عالم من أعلام الأمة أو إمام من الأئمة وكأنه كناية عن بلوغه القنطرة في الإيمان والعمل حينما يقال: كان صادعاً بالحق قائماً به أو يوصف بالإعراض عن إغراءات السياسي أو بالثبات على مراد الله الذي خالفه الساسة ونحو ذلك.
والاحتساب السياسي يقرر بأدلة الاحتساب العامة، كما يقرر بأدلة خاصة به، ومن ذلك أن عمدة باب النهي عن المنكر من الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ) رواه صحابيه بمناسبة احتساب سياسي، حينما خالف أحد ولاة بني أمية السنة فأنكر عليه رجل من المسلمين بحضور الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري فقال رضي الله عنه: ( أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكرا .. ) الحديث رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
ومن المرويات التي يمكن الاستشهاد بها في باب الاحتساب السياسي : ( سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر يأمره وينهاه فقتله ) ( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم ) ( والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ) ( إن أمتي إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) وغيرها من الأحاديث المروية، وبعضها في إسناده ضعف لكن معناها مما هو متقرر عند أهل الإسلام بأدلة خاصة وعمومات أخرى.
وفي سير السلف الصالح ابتداء من الخلافة الراشدة والصحابة رضوان الله عليهم مروراً بأئمة التابعين ما يؤكد على الاحتساب السياسي وأهميته في الإسلام، بآثار في ممارسته والخضوع لسلطانه، وآثار أخرى صريحة في التحذير من تركه، فأما الأولى فتلخصها الكلمة المشهورة لأبي بكر رضي الله عنه في خطبته لما ولي الخلافة ( إن أحسنت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني ) صححها ابن كثير وغيره، وأما الثانية فكتب العقائد المسندة مليئة بالآثار السلفية التي تحذر من طاعة الإمام إذا بدّل وأفسد، وأن الرعية إن أطاعته في إحداثه كان ذلك علامة فساد الزمان، كقول الحسن البصري: (سيأتي أمراء يدعون الناس إلى مخالفة السنة فتطيعهم الرعية خوفاً على دنياهم, فعندها سلبهم الله الإيمان، وأورثهم الفقر ونزع منهم الصبر, ولم يأجرهم عليه) وقول يونس بن عبيد: (إذا خالف السلطان السنة, وقالت الرعية قد أمرنا بطاعته أسكن الله قلوبهم الشك وأورثهم التطاعن) وقول الشعبي: (إذا أطاع الناس سلطانهم فيما يبتدع لهم، أخرج الله من قلوبهم الإيمان، وأسكنها الرعب) وهذه الآثار مستندها أحاديث نبوية كقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الطاعة في المعروف ) وقوله : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وقوله: (فإذا أمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة ).

الاحتساب السياسي وسؤال المعاصرة:
وفي العصر الحديث تبعاً لتعقد الحياة وتطورها برزت الحاجة إلى التحديث في الوسائل، كما استجدت نوازل في التنظيمات والأساليب مست سائر جوانب الحياة في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، ومن مواكبة العصر و فقه الواقع أن يؤخذ بهذه التنظيمات والأساليب لخدمة المبادئ دام أنها في إطار المباح، فالدولة الإسلامية تختلف في شكلها المعاصر من حيث الأدوات عنها في شكلها السالف دون أن يمس هذا الاختلاف مضمون الحكم بالإسلام وإقامة الشريعة بل إن هذا الاختلاف مما تقتضيه ضرورة القيام بهذا المضمون، فالذين سلفوا قاموا به بطريقة تلبي احتياجات عصرهم، ونحن نحتاج إلى القيام به بطريقة أخرى أشد تعقيداً تلبي احتياجات عصرنا المعقد وهكذا .
فمهمات التعليم وتفقيه الناس في دينهم كانت بصورة مبسطة في الزمن الماضي، واليوم تعقدت لتكون في صورة نظامية وتخصص لها وزارات، وكذلك مهمات الدعوة والإفتاء والقضاء والأرزاق وسائر الجوانب الحياتية في المجتمع المسلم.
ومن ذلك الاحتساب السياسي الذي كان يؤدى في السابق بكلمة في مجلس السلطان، أو فتوى في مسجد أو كتاب، أما اليوم فوسائله أكثر وأعقد سواء من ناحية ثورة وسائل الاتصال، أو من ناحية أدوات ووسائل حديثة كالجمعيات والنقابات ومجالس الشعب والرابطات ونحوها.
وهذه الوسائل المعاصرة يكون النظر فيها من خلال أمرين، الأول: هل في الوسيلة محذور شرعي؟ فإن كان تعين تجنبها، الثاني: فيما إذا خلت من المحاذير الشرعية وكانت وسائل للقيام بواجبات الشريعة فإن الأخذ بها من القيام بهذه الواجبات وحكمها حكم هذه الواجبات، خصوصا في حالة ما إذا توقف تحقيق هذه الواجبات بالصورة الكفائية على هذه الوسائل.
وهذا له نظائر في سائر الواجبات الشرعية التي تتأثر بوسائل عصرية، ففريضة الحج تقوم اليوم بصورة أكثر تنظيما يلزم الناس فيها بحملات وتنظيمات سكنية مغايرة للتلقائية في الماضي، هذه التنظيمات لولاها لتعذر القيام بالفريضة وشقّ على الناس.
وفريضة التحاكم إلى شرع الله تقوم اليوم بوسائل أكثر تنظيما ودقة في  محاكمات ذات إجراءات معقدة يلزم بها الناس ويتعين الأخذ بها مواكبة للعصر ولأنها أنسب وأقوم في تحقيق المطلوب الشرعي في زماننا.
وكذلك الأمر بالنسبة للاحتساب الذي يتعين على المسلمين جميعاً أن ينظروا في وسائل تفعيله المعاصرة، وأن يأخذوا بها، شريطة ألا تضر هذه الوسائل بالمبدأ الذي شرعه الله ورسوله.
فمبدأ الاحتساب أنه فريضة كفائية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمتى كان المجتمع بحاجة لمعروف بما يشمله اللفظ من معنى كانت الحاجة للمحتسبين قائمة، ومتى كان في المجتمع ظهور لمنكر بما يشمله اللفظ من معنى كانت الحاجة للمحتسبين قائمة، والمسؤول عن توفير المحتسبين وسد هذه الحاجة : المسلمون كلهم، إن قام بذلك من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقم من يكفي أثم كل قادر، ومن استعمال الوسائل المعاصرة في الإضرار بهذا المبدأ: أن تتخذ ذريعة لحكر الاحتساب على فئة قليلة لا تقوم بالكفاية، وتجريم من يحتسب من خارج هذه الفئة، في حين أن المعاصرة في القيام بهذا المبدأ تقتضي إشاعة ثقافة الاحتساب المنضبط بضوابط الشريعة، ودعم التكتلات الاحتسابية التي تمارسه بتكامل ووفق مقدرتها، إن كانت شعبية بالوسائل الإعلامية (اللسان) وإن كانت رسمية فبوسائل الضبط و السلطة (اليد) وبذلك يصدق أننا أخذنا بالوسائل العصرية في الاحتساب.
ومتى كان المسلم مأموراً بالاحتساب من الرسول صلى الله عليه وسلم حال علمه بالمنكر فلا يجوز أن يمنعه من هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يصب في هذا المنع من قرارات وتنظيمات فإنها خارج إطار المشروعية، اللهم إلا أن تكون محققة للكفاية في الاحتساب، ومستهدفة الحد من المنكرات لا الحد من المحتسبين.
وفي مجال الاحتساب السياسي تحديداً : فإن المطلوب من الدولة الإسلامية التشجيع عليه، وتوفير البيئة المناسبة له، عوضاً عن التجاوب معه، وطبيعته تقتضي صدوره من عموم الناس الذين يشكّلون رقابة غير محدودة على فساد الإدارات والسلطات، ويتأبى أن يتم قصره على شريحة معينة هي أيضاً بحاجة لمن يحتسب عليها.
والاحتساب السياسي واجب على الأمة من وجوب الاحتساب عامةً، ولذا لا يصح التعبير الذي يتداوله بعض المتأثرين بثقافة المشاركة السياسية الغربية بأنه (حق للأمة) فهو آكد من ذلك وأعلى رتبة.

التفريطيون والاحتساب السياسي:
في الواقع الفكري هناك من ينظر للتفريط في الاحتساب السياسي، ويصل الأمر ببعضهم إلى التنظير لتجريمه، وهؤلاء في الغالب ينطلقون من دافع سياسي ويمثلون الدفاع عن فساد الساسة ضد مرافعة المحتسبين، ولكنهم يتسترون عن منطلقهم ذلك بمظهرين، مظهر مدني، ومظهر شرعي.
فالمظهر المدني تجده في كثير من الكتابات الصحفية التي تدين العملية الاحتسابية الشعبية بدعوى المدنية وأن التنظيم يقتضي حصر هذه العملية في جهة معينة، وهذا مقتضى المأسسة النظامية .. إلخ ، وترد دعواهم بأن التنظيم والمأسسة لا يعتبر بها حينما تضر بالمبادئ الشرعية، وينبغي أن تكون داخل إطار المشروعية، ومن جهة أخرى فإن التنظيم المعاصر قادر على احتواء المشاركة الشعبية السياسية في الإدارة والحكم لا في الاحتساب فحسب، والواجب أن يؤخذ بهذا التنظيم الذي يفعّل الاحتساب لا أن تشهر دعوى التنظيم للحد منه ومكافحته.
والمظهر الشرعي الذي يظهر به أعداء الاحتساب السياسي غالباً ما يكون عزفاً على وتر مسألتين، الافتئات على ولي الأمر والخروج عليه، ومسألة النصيحة السرية .
والمنهج الذي يربطون من خلاله بين الاحتساب السياسي وبين هذه المسائل منهج تهويلي يقوم على  المبالغة واللغة الخطابية المزعجة، دون أدنى قدر من الموضوعية والعلمية، ولذا فإنه من السهل كشف زيف هذا التدثر بغطاء الشريعة.
فأما مسألة الخروج على ولي الأمر : والتي يشهرها المسيسون سيفاً مصلتاً في وجه من يمارس الاحتساب السياسي ويرفض الانحرافات السلطانية، فيستندون في الرمي بالخروج على تضخيم ما يتضمنه الاحتساب السياسي من رفض شيء من تصرفات السلطان أو الاعتراض عليها، ليصوروه بصورة الرفض للولاية والتمرد على الجماعة، وهذا من غلوهم ومبالغتهم، ومنقوض بكون طاعة السلطان في الإسلام ليست مطلقة مهما بلغ صلاحه، ولا تعني بأي حال من الأحوال عدم مخالفته أينما ذهب، بل هي مقيدة بما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الطاعة بالمعروف) وقوله : (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وأجمع العلماء على أنه لا يطاع في المعصية، وهذا يفيد أنه لا تعارض أصلاً بين التخلف عن طاعة الإمام في أفرادٍ من أوامره وبين البقاء على طاعته في الجملة، وإنما يكون الخروج بنزع يد الطاعة مطلقاً والتمرد على الجماعة.
وهذه العقلية التي تجعل التخلف عن فرد من أفراد أوامر السلطان أو رفضه تخلفاً عن الجماعة ورفضاً لها، وترمي بالخروج لأجل ذلك، تشبه عقلية الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة، ويجعلون مقارفة معصية واحدة كفيل بإخراج المسلم من دائرة الإيمان بالله وطاعته، ورميه بالكفر والخروج عن الدين، بل إنها تزيد عليها من وجه أن الخوارج جاءوا إلى محلٍ تجب فيه الطاعة المطلقة ( طاعة الله ) فجعلوا من يقع في الكبيرة كافراً، أما هؤلاء فجاءوا إلى محلٍ ليس فيه إلا طاعة مقيدة، يجوز من حيث الأصل التخلف عنها في أفرادها، فصيّروا هذا التخلف خروجاً مطلقاً، وأكسبوا بذلك طاعة السلطان من اللزوم ما لا يكون حتى لطاعة الله، فصاروا بهذا الاعتبار شر من فكر الخوارج.
ومما يستدل به على أن مبدأ طاعة الإمام إجمالي يحتمل المنازعة في التفاصيل قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ] {النساء:59}  فأمر الله حال وقوع التنازع بين الإمام ورعيته بالرجوع للكتاب والسنة فلم يكن المعيار الرجوع لطاعة السلطان لقطع النزاع.
وشيخ الإسلام رحمه الله قرر أن طاعة الإمام الصالح تكون فيما لا يعلم أنه معصية لله تعالى، وطاعة الإمام الفاسق تكون فيما يعلم أنه طاعة لله تعالى، ففي الحالة الأولى تسقط الطاعة عندما يعلم المطيع أن ما يأمر به السلطان مخالف لأمر الله ورسوله، وفي الحالة الثانية تسقط الطاعة عندما يعلم المطيع أن ما يأمر به السلطان ليس مما أمر الله به حتى لو لم يعلم أنه معصية ومنكر.
وهذا يؤكد على أن أئمة أهل السنة والجماعة كانوا يفهمون طاعة السلطان فهماً إجمالياً وأنهم يقرون باحتمالها لمنازعته في التفاصيل دون أن يضر ذلك مبدأ الطاعة، ودون أن يعتبر ذلك من الخروج عن الجماعة.
وأما مسألة النصيحة السرية : فهو سؤال يتعلق بالأسلوب، وأسلوب الاحتساب على السلطان ليس محسوماً في شكلٍ واحد، فهو يختلف باختلاف السلاطين وباختلاف المواضيع المحتسب فيها، فالقطعي في الموضوع: وجوب الاحتساب، والاجتهادي: أسلوبه.
وفي جزئية الأسلوب يمكن النقاش حول تفاصيل كثيرة لا تشكل السرية فيها حضوراً مركزياً، فلم تثبت في الشريعة بنص صحيح، فالنصوص الواردة فيها اختلف في تصحيحها وتضعيفها، هذا من جهة الإسناد، وأما من جهة المتن فهي كغيرها من مسائل العلم تحتمل التفقه فيها بالنظر لذاتها وبالنظر لغيرها للجمع بينهما، فلو سلمنا بثبوتها – رغم أن هناك من ضعفها – فإن هناك منهج فقهي في ضوئه يفسر الأمر الوارد فيها – وهو أمر مجرد – هل هو للندب أم للوجوب؟ ثم هل هو مطلق أم مقيد؟ وعوضاً عن الأمر، هناك معنى النصيحة: هل يدخل فيه الإنكار على المنكرات السياسية العلنية أم لا يدخل؟ كونها أقرب للبيان الشرعي الواجب إظهاره .. إلخ، فالمسألة وفق المعايير الفقهية قابلة للاجتهاد وتنوع النتائج، ولذا تعددت آراء العلماء المعاصرين المثبتين لسرية النصيحة، فابن عثيمين يرى الإسرار أو الجهر أيهما يحقق المصلحة الشرعية، والألباني يرى الإسرار إلا في المنكرات العلنية فإنها تنكر علناً.
 لكن المعايير السياسية عند أبواق السلاطين تقفز على كل ذلك، وتجعل من النصح سراً وفق المفهوم الذي يداري مشاعر السياسي وكأنه قطعي من قواطع الدين يضلل مخالفه ويبدّع، في ذات الوقت الذي تسكت فيه عن منكرات السلاطين القطعية، والمعلوم من الدين بالضرورة كونها منكرات، والتي ورد في القرآن والسنة عليها وعيد وتهديد، فلا تبدعهم بها ولا تفسقهم، وهذه المفارقة مما يعين على كشف زيف التدثر بالغطاء الشرعي في مثل هذا الموطن.
و من الناحية النظامية فإن نقد السلطان وسياسته مما استقر في هذا العصر تناوله كسيما للحكم الرشيد، ولذا صارت أعتى الدول طاغوتية تتبارى لإتاحة المجال في وسائل إعلامها للنقد، وبغض النظر عن مصداقيته وتعرضه للتوظيف ونحو ذلك إلا أن المقصود بيان موقف السياسيين اليوم من أصل النقد.
فمن العجيب أن يصير النقد السياسي مرحباً به من حيث الأصل، وكلأ مباحاً للمرتزقة والعملاء، أو للمنحرفين ممن لا ينطلقون في نقدهم من منطلق ديني، ثم تجد ممن ظاهره الانتساب للشريعة أنه صار أداة في يد السياسي لكتم صوت النقد الشرعي المنطلق من أصول الدين.
والخلاصة : أن شعار النصيحة السرية له مساحة شرعية يمكن أن يعمل فيها، فإذا ما خرج عنها صار شعاراً مسيساً وبوقاً للسلطان لا علاقة له بالشريعة، فالمساحة الشرعية: حينما يتعامل معه المجتهد كشيء أداه إليه اجتهاده، وكأسلوب وصل تقديره إلى أنه الصواب، ثم هو لا يبدع من لم يوافقه ولا يرميه بالخروج، ولا يستحل التشغيب عليه مع السكوت عن صاحب المنكر الأصلي، وأما من يخرج عن هذه المساحة إلى تبديع من لم ينصح سراً ورميه بالخروج والاشتغال به والاستعداء عليه بل والفرح بما يقع عليه من بغي الظلمة فكل ذلك لا محل له في الشريعة.

الإفراطيون والاحتساب السياسي:
وفي الجهة الأخرى من الاحتساب السياسي يقف الإفراطيون، ولهم مظاهر عدة، أبرزها المظهر المادي، الذي لا يعظم من الشريعة إلا ما توجه نحو الحقوق المادية، فترى أصحاب هذه اللوثة يحقرون الاحتساب في المجالات الأخرى التي جاءت بها الشريعة كمجال العقيدة والأخلاق، ولا يقفون إلا مع الاحتساب السياسي الذي يتفق مع قاعدة مادية ينطلقون منها.
وآية هذه اللوثة المادية: الوقوع في اختزال الاحتساب السياسي، فتراهم يحرفون مفهومه ويقتصرون به على الحقوق المادية، ثم هم لا يعتبرون حق الله ودينه، بل يهتكونه على وقع أنغام الحرية، وهذا تفسير تبرمهم ممن يحتسب على السلطان مطالباً بإقامة حدود الله فيمن يخالف دينه، فهم يعدون هذا من قمع حرية التعبير، ويتضايقون من الاحتساب على مناشط التغريب ولا يدخلونه في الاحتساب السياسي، لأنهم اختزلوا الفساد والمنكر في منكرات الحقوق المادية فقط.
وكثيراً ما يتعلقون بقوله تعالى : [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ] {الحديد:25}  ليفسروا القسط بذات الاختزال على أنه القسط في الحقوق المادية، ويضربوا جزء الآية الأخير بأولها، رغم أن القسط في الآية لا يتم إلا باتباع ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب بشموله.
ولو أنهم أكملوا قراءة الآية لوجدوا فيها ما ينقض فكرهم أيضاً : [وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحديد:25} وفيها نص على أن السلاح ذي البأس الشديد مشروع لنصرة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب من عقائد وأخلاق وشرائع .
ولذا كان الشرك الذي هو صرف العبادة لغير الله أعظم الظلم وبه يخرج المرء من دين الإسلام ولا يغفر له ويخلد في النار، بخلاف الاعتداء على الحقوق المادية الذي هو ظلم وكبيرة لكنه دون الشرك، كما قال تعالى: [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13}  [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48}  ويقابل ذلك أن يقال: إن توحيد الله بالعبادة أعظم القسط، ولا يتم القسط إلا به، وهذا هو القسط القرآني، وأما القسط العلماني الذي يروج اليوم تحت سطوة الثقافة اللادينية فهو آداء الحقوق المادية الإنسانية دون اعتبار للحقوق الربانية والقرآنية.

ع ق 1347

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..