الأحد، 8 أبريل 2012

الرد على تعليلات حزب النهضة التونسي لقرار عدم التنصيص على تحكيم الشريعة

ملخص الرد:
-        علة النفاق هي مرض القلب، وليس الحكم بالشريعة
-        التدرج لا يكون في أمر معلوم مكتمل
-        التنصيص على الحكم بالشريعة لا يحتاج إلى تدرج
-        الحل للإشكال في مفهوم الشريعة: تحرير المفاهيم الصحيحة، وليس الاكتفاء بنص
مجمل؛ لا يمكن العمل به
-        المصلحة التي قدرتم حصولها متوهمة وغير معتبرة شرعًا
-        موقف الحزب مخالف لأمر الله جل وعلا بأن يكون الدين كله لله
-        القرار ذهب إلى وجهة نظر العلمانيين!!
-        الاستغناء عن بعض واجبات الشريعة التفصيلية المقطوع بها؛ لأجل أن بعض الناس لا يقر بها؛ هو مبدأ العلمانية
-       إظهار الشريعة هو بحسب القوة والأعوان

هذا رد متواضع على تعليلات حزب النهضة التونسي لقرار عدم التنصيص على تحكيم الشريعة؛ يبين وجه الخطورة فيه، وجزءًا من الرؤية الشرعية للإصلاح.
  
وهنا تذكير بموقف حركة النهضة الرسمي، قبل بيان بعض الحجج التي ساقتها مع الرد عليها مميزًا باللون الأزرق:

1-الخيارات المتاحة:
-        عندما يتم التنصيص على مصدر للتشريع ويوصف بكونه "الوحيد" أو "الأصلي" أو "الأعلى" أو "الأساسي" فإن ذلك يمكّن من الطعن في أي قانون وإن كان صدوره سابقا على سن الدستور، وهو ما يعني إمكانية مراجعة المنظومة القانونية القائمة حتى جعلها موافقة للمصدر المميز.
والجهة الفاعلة في هذا الشأن هي المحكمة الدستورية التي ستنعكس هذه المهمة على تركيبتها، إذ يجدر أن يكون من ضمن "قضاتها" مختصون في الشريعة وعلومها.
-        وحين يتم التنصيص على مصدر بكونه "أصلي" أو "أساسي" (أي دون ألف ولام التعريف) فذلك يفتح مجالا لمزاحمته من قبل مصادر أخرى قد يتم التنصيص عليها صراحة بنفس الصفة في الدستور، أو قد يضيفها التأويل القانوني من قبل المحكمة الدستورية.
-        وحين يتم التنصيص على مصدر بوصفه مصدرا للتشريع دون تمييزه بصفة محددة فذلك يثبت مصدريته ولكنه يجعله أيسر مزاحمة من قبل غيره من المصادر.
2-الصيغ المقترحة:
-        "لا يمكن سن قانون يتعارض مع ثوابت القرآن والسنة"
-        "لا يمكن سن قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام"
-        "الشريعة المصدر الأساسي للتشريع"
-        "المصدر الأساسي للتشريع القرآن والسنة"
-        "الفقه الإسلامي مصدرٌ للتشريع"
-        "الشريعة مصدرٌ للتشريع"
-        عدم التنصيص، والاكتفاء بالفصل الأول من الدستور وصيغته: "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها".
3-قرار الحزب:
إن الهيئة التأسيسية لحركة النهضة المنعقدة يومي 24 و25 من شهر مارس لسنة 2012 في دورتها الواحدة والعشرين إذ تتابع باهتمام وحرص الحوار الوطني والمجتمعي الدائر حول قضايا الدستور، فإنها تؤكد إلتزامها بما جاء في برنامجها الإنتخابي بصفة عامة وخاصة من "أن تونس دولة حرة مستقلة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها وتحقيق اهداف الثورة أولويتها"، وأن حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية "تنطلق في برامجها من احترام الثوابت الوطنية وفي مقدمتها تعاليم الإسلام ومقاصده وتراثه الحضاري". وتعتبر أن صيغة الفصل الأول من دستور 1959 التي تنصّ على أن "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، و العربية لغتها، والجمهورية نظامها" واضحة ومحل توافق بين كل مكوّنات المجتمع، وهي تحفظ الهوية العربية الإسلامية للدولة التونسية، وتؤكد مدنيّتها وديمقراطيتها في ذات الوقت، حيث أنها تنصّ على ان الإسلام هو دين الدولة بما يقتضيه ذلك من دلالات.
والهيئة تدعو أعضاء المجلس الوطني التأسيسي الى ضرورة مراعاة الدستور الجديد في مفاصله المختلفة لخصائص هوية البلاد وحفظها وتذكّر ان تحقيق اهداف الثورة في تنمية جهوية عادلة ومقاومة الفقر والبطالة وإجتثاث جذور الفساد والإستبداد تتطلب توحيد كل قوى شعبنا وتعبئة طاقته وتظافر جهوده من أجل ذلك.
قال الله تعالى " وَ أَوْفُوا بٍالعَهْد إن العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاَ". (الاسراء آية 34)
4-تعليل القرار:
وردت في تعليل القرار تصريحات عديدة من قبل قيادات الحزب، ومن بينهم الشيخ راشد الغنوشي رئيس الحزب، وحمادي الجبالي الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة، والصحبي عتيق رئيس لجنة صياغة توطئة الدستور في المحلس التأسيسي، وفتحي العيادي رئيس الهيئة التأسيسية للحزب، وعامر العريض نائب المجلس التأسيسي، ود. عبد المجيد النجار نائب المجلس التأسيسي، وغيرهم.

وهذا بيان لعدد من التعليلات التي سيقت في غير ترتيب مقصود، مع الرد عليها:

1.       كلنا في النهضة نؤمن بالشريعة.. ولا أحد منا لا يؤمن بالشريعة الإسلامية.. لأن الشريعة هي اسم ثان لوصف الإسلام.. ولكن هذا المصطلح ملتبس على الناس.. وطالما أنه ملتبس، فقد ارتأينا عدم إدراجه حتى لا نضطر بعض التونسيين للقول بأنه "ضد الشريعة"..
الملتبس يلزم بيانه، وليس تركه وعدم إدراجه، كما بين الشيخ راشد الغنوشي - مثلاً - بأن موضوع الشريعة ليس منع النساء من العمل والدراسة وقيادة السيارة!! وإغلاق دكاكين الحلاقة... فإذا بُيِّن معنى الشريعة الحق؛ فقال بعض الناس: بأنه ضده؛ فهذا لا يمنع من الحكم بالشريعة، كما قال تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا ) وقال سبحانه: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنًا عليه؛ فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا؛ فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون، وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيرًا من الناس لفاسقون) .
وبما أن الشريعة اسم ثان لوصف الإسلام؛ فلماذا لا ينص على الحكم بالإسلام؟!      

2.       الشريعة كما نراها في حركة النهضة: هي عقيدة الإسلام، وعبادات الإسلام، وأركان الإسلام، وأخلاق الإسلام، وقوانين الإسلام.. وليست الشريعة كما يتصوره (أو يصوّره) البعض: نظام عقوبات زجرية ضد الناس، أو يتم تخويفهم بها.
ما علاقة هذا بعدم التنصيص على الحكم بالشريعة؟! إن ذكر الرؤية الصحيحة تعليل للتنصيص على الحكم بالشريعة، وليس تعليلاً لقرار عدم التنصيص على ذلك !!     


3.       مبادئ الحركة إسلامية ولن تحيد عن هذا أبدا.. ولا اجتهاد في ما فيه نص قطعي الدلالة والثبوت.
الآيات الدالة على وجوب الحكم بما أنزل الله مبدأ إسلامي قطعي الثبوت والدلالة، وقد حادت عنه الحركة!!
4.       هناك العديد من الدول التي تنص على الشريعة ولكن هذا لم يمنع إنتشار الفساد الأخلاقي والمادي وطغيان الحاكم وحاشيته. لذا فوجود النص لوحده لا يكفي.
وجود النص حجة على المخالف، وإن لم يمنع المخالفة.
وإذا لم يمنع النص على الشريعة من انتشار الفساد الأخلاقي والمادي وطغيان الحاكم وحاشيته؛ فإن عدم النص سيكون سببًا في ذلك بقدر أكبر وأكثر.     


5.       التعويل على القانون أنه سينشر الاسلام والفضيلة هو تعويل واهٍ.. نعتبر أن الإسلام مبني على الحرية لأننا لا نريد إنتاج منافقين. وبالتالي يجب أن يمثل القانون القيم السائدة في المجتمع. ولا قيمة لقانون اذا لم يرتكز على رأي عام واسع.
الحكم بالشريعة ليس هو الذي ينتج المنافقين؛ فعلة النفاق هي مرض القلب، وليس الحكم بالشريعة، ولذلك فإن تأخيره لن يمنع حصول النفاق؛ فإرادة منع ذلك تستلزم ترك الحكم بالشريعة أبدًا، وليس إلى أن تمثل القيم السائدة في المجتمع.
وقيمة الشيء الحقيقية تكون في ذاته، ولا تنتفي عنه بعدم الإقرار بها، كما قال الله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) وقال تعالى: (آلمر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون).

6.       مبدأ التدرج في تنزيل الأحكام مبدأ ثابت في السنة النبوية.


7.       فرض تشريع من التشريعات دون أن يكون المجتمع مستعدا لتقبله ربما يؤدي إلى رفضه بما يخالف المصلحة. نرى هذا من حادثة منع الخمر في المدينة حيث لم يقع فرض منعه من أول وهلة، ولكن حكمة الله ومعرفته بعباده أدت إلى أن المنع سبق بتهيئة وبتدرج وبصنع ما يمكن أن نسميه بالمصطلح العصري "رأي عام" مطالب بالمنع ومستعد لتنفيذ الأمر دون إكراه في حال تنزيل التشريع. وهذا مثبت في سورة البقرة حيث وصل الرأي العام الإسلامي إلى درجة من الاستعداد للمنع والتشوف له وذلك في آية (يسألونك عن الخمر والميسر).
التدرج لا يكون في أمر معلوم مكتمل . والتنصيص على الحكم بالشريعة لا يحتاج إلى تدرج.


8.       يجب أن نتذكر أن النهضة حظيت بحوالي 42% فقط من الأصوات.
فإذا لم تزد هذه النسبة بعد مدة؛ فهل سيتم الحكم بالشريعة أم يترك؟ ولا دليل على أنه يشترط للحكم بالشريعة أن يقر بذلك الأكثر؛ إذا توفرت القدرة على الحكم بالشريعة. 

9.       التكليف في الإسلام هو حسب الوسع والاستطاعة والقدرة. لذا، فما لم نستطع تنفيذه في الحاضر فلسنا مطالبين به شرعا في هذا الوقت، وإنما علينا العمل على صنع رأي عام يفهم الشريعة فهمها الصحيح بما هي عدل ورحمة وأخوة ونظام.
ما الحكم الشرعي أو أحكام الشريعة التي يُخشى إن حكم بها أن لا تُرى أنها عدل ورحمة وأخوة ونظام؟!  

10. تبنى الدساتير على الإجماع والوفاق وليس على مبدأ الأغلبية لكي يقبل عموم الناس بالقوانين المنبثقة عن الدستور.
إذًا لن يتم الحكم بالشريعة؛ إذا أقر هذا!! وهو مبدأ العلمانية.  

11. هناك إجماع في الشعب التونسي حول البند الأول الذي يحدد هوية الدولة ولغتها ولكن ليس هناك إجماع على موضوع الشريعة بسبب حملات التشويه والمفاهيم المغلوطة عن الشريعة.
الحل لهذا الإشكال هو مناقشة الموضوع، وتحرير المفاهيم الصحيحة، وليس الاكتفاء بنص مجمل؛ لا يمكن العمل به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (3/34): (حاجة الأمم إلى معرفة الأمر والنهي أكثر من حاجتهم إلى معرفة التفاصيل بالخبريات التي يكتفى بالإيمان المجمل بها، وأما الأمر والنهي فلا بد من معرفته على وجه التفصيل؛ إذ العمل بالمأمور لا يكون إلا مفصلاً، والمحظور الذي يجب اجتنابه لا بد أن يميز بينه وبين غيره، كما قال تعالى: (وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون). 

12. نسبة كبيرة من التشريع التونسي الموجود حاليا، وكذلك المجلة القانونية الموجودة مستمدة أصلا من الشريعة الإسلامية بشهادة خبراء التشريع.
لا يكفي هذا، وقد أمر الله بالجهاد (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) فيجب أن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر جميع الأنظمة الوحيد.

13. إذا كان الإسلام هوية الدولة فإن الشريعة جزء من الإسلام لذا لا يجب بالضرورة التنصيص على الخاص إذا كان مشمولا في العام.
لا يجب التنصيص حيث لا يجب التفصيل، والقوانين يجب أن تكون واضحة -كما قلتم – ومفصلة .

14. موضوع التنصيص على الشريعة من عدمه يندرج ضمن ما يعرف بالسياسة الشرعية حيث تقدير المصلحة هو المحدد الأساسي للاجتهادات والخيارات.
وقد تبين أن المصلحة التي قدرتم حصولها متوهمة، وغير معتبرة شرعًا، كما سبق.

15. ليس من الحكمة تقسيم الشعب التونسي بين مناصر للشريعة ومعارض لها، ولكن الحكمة في التروي وأخذ الوقت الكافي في نشر الفهم الصحيح للدين والشرع.
آلآن وقد قصرتم في نشر الفهم الصحيح للدين والشرع من قبل؟! وأنتم تعلمون أن مفهوم الشريعة ملتبس على بعض الناس؛ فلِمَ لم تستعدوا لإزالة ذلك الالتباس ببيان الشريعة بمعناها الحقيقي، ومع ذلك فإن التنصيص على الحكم بالشريعة التي لا يختلف فيها؛ لا يحتاج إلى ترو وتعليق بوقت.     


16. الثورة التونسية لم تأت على خلفية المطالبة بضرورة تطبيق الشريعة، والثورة لم ترفع شعار تطبيق الشريعة.. وإنما أتت بمبادئ العدالة والمساواة والحرية والكرامة والتشغيل.. وجميع هذه المبادئ محل إجماع.. مثلما أن إسلام الدولة كان محل إجماع من قبل، ولم يأت أحد للتشكيك فيه.. فلماذا ندخل مسألة جديدة (مسألة الشريعة) ليست محل إجماع، بل قد تشق المجتمع إلى نصفين؟ وإذا كانت فهوم الإسلام مختلفة بيننا، فلنترك المجتمع التونسي يتفاعل داخليا في مناخ من الحرية، وسيفرز لنا وينتج (من خلال مؤسساته المنتخبة) ما هو الإسلام الذي يرتضيه..
الثورة التونسية لم تأت على خلفية المطالبة بضرورة تطبيق الشريعة، ولم ترفع شعار تطبيق الشريعة؛ لأنه سقف عال بالنسبة إلى ما كان عليه الحال من قبل، ولكن إذا أتى الناسَ خيرٌ مما طلبوا؛ فلن يردوه، أما مشكلة الاختلاف فيما هو الإسلام فيمكن حلها بالتفاهم بعد التنصيص على الحكم بشريعة الإسلام في النظام الأساسي للحكم (الدستور).       

17. معركة التونسيين حاليا ليست في معرفة هل هم مسلمون أم لا، أو هل أن الشعب مسلم أم لا.. وإنما لدينا أولويات قامت عليها الثورة، وذكرها رئيس الحكومة حمادي الجبالي: السكن الاجتماعي، التكوين المهني، التشغيل، مستوى عيش رفيع، المشاريع الكبرى، العدالة الانتقالية، والأمن.
هذه المسائل ليست أولى من أن يعرف المسلمون: ما هو الإسلام؟ وما يقتضيه أن الإسلام هو دين الدولة من دلالات؟ ومعنى قول الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).  


18. هذا الموقف دليل على تمسك النهضة بمبدأ احترام الأقليات وحقوق الأجيال اللاحقة، وأنها لا ترغب في استغلال أغلبية نسبية وظرفية تتمتع بها اليوم من أجل فرض توجهات دائمة على أقلية قد تكون ظرفية ولا على الأجيال اللاحقة.
ولكن هذا الموقف مخالف لأمر الله جل وعلا بأن يكون الدين كله لله. ولا ضير ولا ظلم في الإكراه على الحق، وإن لم يقر المكره – بفتح الراء- بذلك؛ كالإكراه على قضاء الديون التي يقدر على قضائها، وعلى أداء الأمانة التي يقدر على أدائها، وإعطاء النفقة الواجبة عليه التي يقدر على إعطائها، وشرب الدواء مع كراهة المريض له...


19. هذا الموقف دليل احترام من النهضة لناخبيها وتمسكا بخياراتها وقيمها ووعودها.. فمن أهم ما يميز كل من يتخذ من الاسلام مرجعية، هو ثقة الناس في صدقه وفي التزامه بخلق العدل عند الحكم والتواضع عند القوة والعفو عند المقدرة والوفاء بالوعد حتى عندما تتوفر له فرص التنكر له. والسياسة ليست غدرا ولا كذبا ولا خيانة ولا قهرا كما يريد أن يسوق لها بعض العلمانيين.. وبما أن النهضة لم تجعل من تطبيق الشريعة أحد بنود برنامجها السياسي ولم تدع خلال حملتها الانتخابية لإفرادها بأحد بنود الدستور، بل اقتصرت على الدعوة لاحترام الهوية العربية والاسلامية والتأكيد على مبادئ الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية واحترام حقوق الانسان، فإن تغيير المواقف اليوم لا يخدم قضية الاسلام ولا صورة النهضة ولا مقدار ثقة الشعب فيها.. حتى وإن كان ثمن ذلك حنق عدد من الإسلاميين الآخرين، أو بعض قواعد الحزب.
ولكن النهضة لم تنف أيضًا أنها ستطبق الشريعة أو تنص على أنها لن تطبق الشريعة، ولو فعلت لكانت علمانية، ولما كانت إسلامية، ولكان ذلك معصية تجب التوبة منها، ولا يجوز الوفاء بها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح في النذر، وهو نوع من العهد -: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).    


20. بيننا وبين ناخبينا ميثاق وبرنامج.. وبرنامج حركة النهضة أعلنّاه قبل انتخابات 23 أكتوبر الفارط، ولم يشر لتضمين الشريعة في الدستور.. ولا يمكننا أن نتراجع عن تعهداتنا لناخبينا.. والله تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"..
هذا التعليل كالذي قبله . 


21. موقفنا هذا فيه خير كثير.. فبه ربحت تونس، وربحت الديموقراطية، وربح التوافق، وربح الإسلام.. لأننا حمينا جزءا من الشعب التونسي (قد يصل إلى 40 أو 50% من الشعب) من الاضطرار لإعلان رفضه للشريعة (عن جهل وعدم معرفة) والقول بأنه "ضد الشريعة".. وهي كلمة كبيرة لو اضطررناهم لقولها وهم لا يدركون معنى الشريعة ودلالاتها.. وهؤلاء يحتاجون لوقت كي يفهموا أن "الشريعة هي الإسلام" و"الإسلام هو الشريعة".. ونحن غير متعجلين في هذا الموضوع.

22. تنوي النهضة اقتراح التنصيص على مبادئ الإسلام في توطئة الدستور ليكون الدستور مستلهما من مبادئ الإسلام، ومن أهداف الثورة، ومن مبادئ الحداثة.

23. لا أحد ينكر أن هناك نسبة كبيرة من الشعب تطالب بالشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع وهذا من حقها الديني والديمقراطي.. ولكن لا ينكر أحد أن هناك نسبة من الشعب التونسي التي لديها تخوفات من هذا الأمر بسبب عدم الفهم الصحيح لمبادئ الشريعة السمحة بسبب حملات التشويه المتواصلة. لذا فالأولوية ليست في فرض الشريعة على هذا الجزء من شعبنا لأنه (لا إكراه في الدين) ولكن الأولوية هي في إيجاد أرضية دنيا مشتركة بين شعبنا والعمل على إشاعة الفهم الصحيح للشريعة.
هذه التعليلات (من 20 إلى 23) وردت أمثالها فيما سبق، وتم الرد عليها، بحول الله وقوته.   

24. مشكلة بعض الإسلاميين الداعين لتضمين الشريعة كمصدر أساس ووحيد في الدستور أنهم ينظرون بعين الريبة للعلمانيين واحتمال توظيفهم لتغييب مصدرية الشريعة لتمرير قوانين أو ممارسات تهدد وضع الإسلام في البلاد.. وينسون (أو يتجاهلون) في نفس الوقت ضرورة النظر بعين الريبة لاحتمالات أن يؤدي هذا التضمين لخلق وضع يسمح بزيادة التشدد أو التطرف الديني.. ومشكلة بعض العلمانيين الرافضين لتضمين الشريعة كمصدر (لا نقول أساس ووحيد، بل حتى عبارة "مصدرا من مصادر") في الدستور أنهم ينظرون بعين الريبة للمتشددين الدينيين واحتمال توظيفهم لمصدرية الشريعة لتمرير قوانين أو ممارسات تهدد وضع الحريات لغير المتدينين.. وينسون (أو يتجاهلون) في نفس الوقت ضرورة النظر بعين الريبة لاحتمالات أن يؤدي هذا التغييب لخلق وضع يسمح بتمرير قوانين تخالف الإسلام وثوابت القرآن والسنة.. لذلك نرى أن من واجب كلا الطرفين أن ينظر بموضوعية وتوازن، وأن يتفهم تخوفات الطرف الآخر..
هذا اعتراف بأن القرار ذهب إلى وجهة نظر العلمانيين!! ولم يأخذ بوجهة النظر الموضوعية المتوازنة المبينة في تعليل القرار.     

25. القضية ليست في كون الشريعة الإسلامية متضمنة وحافظة لجميع الحقوق والحريات الكونية، وبالتالي لا حاجة للقول بغيرها.. في اعتقادي أن الإسلاميين يجب أن ينظروا للموضوع من زاوية أنه لا مشاحة في الاصطلاح.. وبالتالي فإذا كان لفظ "الشريعة" يؤدي إلى جدل وتجاذب كبير، فيمكن الاستغناء عنه مع المحافظة على تضمين جوهر الشريعة الإسلامية، كمرجعية دستورية.. وبالتالي، نميل إلى عدم الإصرار على استعمال مصطلح الشريعة، والاكتفاء بالمرجعيات التي ستتضمنها توطئة الدستور، والتي يوجد حولها توافق وطني، وهي أربعة:
 1- أهداف الثورة (فَلَوْلا الثورة لما كنا هنا).
2- منظومة القيم الإسلامية.
3- مخزون التجربة الإصلاحية التونسية.
4- منظومة القيم الكونية.
الاستغناء عن بعض واجبات الشريعة التفصيلية المقطوع بها؛ لأجل أن بعض الناس لا يقر بها؛ حكم علماني، وليس حكمًا إسلاميًا.

26. حول خيبة أمل بعض الإسلاميين من موقف النهضة من مسألة الشريعة ووصمها بمصطلح "إسلام لايت" نقول له: هذا الإسلام اللايت هو الذي صمد في السجون لأكثر من 20 سنة.. وهذا الإسلام اللايت هو الذي صمد في الغربة.. وهذا الإسلام اللايت لم يذهب ولم يجر وراء بن علي، ليطلب ما يطلب.. وهذا الإسلام اللايت هو الذي شارك في هذه الثورة مع الآخرين، حين غاب عنها بعض الذين يزايدون الآن على الحزب في التمسك بالإسلام.. ونقول لهم: هذا نوع من التكفير أن يقال لنا: "إسلامكم إسلام لايت".. وهو أيضا خداع للناس بالقول أن هذا "إسلام قوي" وذاك "إسلام ضعيف".. والله تعالى يقول: "هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى".. فنرجو ألا ندخل عنصر التخوين (فلان خائن، وفلان كافر) لأن هذا عنصر مدمّر.. بل يجب أن يحترم بعضنا البعض، ويكفي القول: "نحن مختلفون في الرأي"، لأننا لسنا مختلفين في الإسلام، ولسنا مختلفين على الإسلام، وإنما نحن مختلفون حول تنزيل الإسلام في الواقع: هل ننزّله بقوّة الدولة، وندمّر تماسك المجتمع التونسي، وندخله ربما في حرب أهلية؟ أو نقول إن الإسلام يتنزل على قدر فهم المجتمع؟ فلنعط إذن للمجتمع التونسي الوقت لفهم الإسلام.. وعلى قدر فهمه للإسلام، وما دامت الدولة ديموقراطية، فسيترجم ذلك مستقبلا..
مادام مبدأ الحركة أن لا تحكم إلا بالإسلام أو الشريعة التي يرتضيها الناس؛ فإنها تحكم بحكم الشعب، ولن تحكم بالإسلام أو الشريعة... لكن أصحابها لا يكفرون بحكمهم بغير ما أنزل الله؛ لأنهم فعلوا ذلك واستحلوه متأولين...
وقد قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليمًا) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان: (فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل على أن هذه الغاية فرض على الناس؛ فمن تركها كان من أهل الوعيد؛ لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب، فإن الله إنما وعد بذلك من فعل ما أمر به وأما من فعل بعض الواجبات وترك بعضها؛ فهو معرض للوعيد. ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء ألا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما حكم، ويسلموا تسليمًا).
وقال في الفتاوى (21/208): (فإذا كان هؤلاء لا يؤمنون؛ فالذين لا يحكمونه، ويردون حكمه، ويجدوا حرجًا مما قضى؛ لاعتقادهم أن غيره أصح منه أو أنه ليس بحكم سديد؛ أشد وأعظم...).
     

27. موقف حركة النهضة يرفع من مصداقيتها لدى المتشككين والمرتابين في صدق توجهها المدني والديموقراطي، والباحث عن الوفاق الاجتماعي وعدم التفرد بالقرار أو توظيف أغلبيتها.. وهو في نفس الوقت يضع حسابات بعض السياسيين المتربصين بها في التسلل، لأن الجميع كان ينتظر أن تعلن عن تضمين الشريعة حتى يبدأوا حملتهم الدعائية ضد النهضة ويظهروها بمظهر "الشعبوية" (populism) إلى غير ذلك من الاتهامات الجاهزة.
(ليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم)، (الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه؛ فإن الملام على ذلك كثير ).
فهذا ليس حجة ملجئة إلى ترك إظهار بعض الشريعة والأمر به والإنكار على من خالفه المتعلق بحسب القوة والأعوان، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن غربة الإسلام في الفتاوى (18 / 298): (وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة؛ ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير [به] غريبًا بينهم، لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد، ومع هذا فطوبى لمن تمسك بتلك الشريعة كما أمر الله ورسوله؛ فإن إظهاره والأمر به والإنكار على من خالفه هو بحسب القوة والأعوان).
والله المستعان.


 فؤاد أبو الغيث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..