النقاش سينصب على محورين،
المحور الأول عن الواقع العملي، والمحور الآخر عن النصوص القانونية
والشرعية. فالبعض يكتفي من النصوص القانونية أو حتى الشرعية بوجودها “فنحن
نطبق الشريعة” ولا يهتم إذا نُفِّذت أولا، وهل يوجد آليات لتنفيذها على
أرض الواقع، وهذا مأخذ انتشر لدينا بسبب الصبغة الاكاديمية لبعض المختصين
لا يمكن تجاوزه، فحروف القانون والفقه ليست ترانيم تتلى ونتبرك بها في مجال
البناء التشريعي، فهل يحق لنا أن نكتفي بمناظرات على حروف وقوانين وآراء
فقهية مصيرها أن ترمى في فناء السلطة القضائية وعلى مرأى من القضاة! أم
لابد من مراعاة الواقع الذي تُطبَّق فيه وكيفية تطبيقها “فالحكم على الشئ فرع عن تصوره”.
أما من ناحية الواقع –وباختصار-
فمعلوم لدى كثير من المختصين وعديد من غيرهم أن التدخل في القضاء حصل
ويحصل بشكل متكرر سواء كان ذلك بطريقة مقننة أو غير ذلك عن طريق عدة جهات
من السلطة التنفيذية، حيث يتناقل المختصون وجود اكثير من الوقائع التي توضح
تدخل أمراء المناطق في قضايا منظورة، وكذلك قيام عديد من الوزرات بالتدخل
في القضاء سواء مباشرة أو عن طريق الديوان الملكي كما حصل مع وزارة العمل،
وقد وصل حد التدخل إلى درجة قيام وزارة الداخلية بتفسير المقصود “بأعمال
السيادة” المنصوص عليها في المادة (14) من نظام ديوان المظالم، ومنع بموجب
هذا التفسير القضاء الاداري من نظر الآلاف من القضايا التي هي من اختصاصه،
ويذكر أن رئيس ديوان المظالم السابق قد أقيل؛ وذلك لرفضه التدخل في القضاء
وتمسكه باستقلالية القضاء. فهل هذه التدخلات تعد مبررة قانونيًّا أو
شرعيًّا وما النصوص القانونية في هذا الشأن.
تنص المادة (44) النظام الأساسي
للحكم على أن “تتكون السلطات في الدولة من السلطة القضائية- السلطة
التنفيذية- السلطة التنظيمية وتتعاون هذه السلطات في أداء وظائفها وفقًا
لهذا النظم وغيره من الأنظمة والملك هو مرجع هذه السلطات“.الذي
يعنينا في هذه المادة هو أن هنالك سلطة قضائية (على الأقل) لكيلا يخرج
علينا شخص غدا ويقول إنه لا يوجد سلطة قضائية أساسا! والأهم من ذلك في هذه
المادة هو النص بأن الملك مرجع السلطات. فما مفهوم “مرجع” في هذا النظام.
جاء في المعجم الوسيط مرجع بمعنى “محل الرجوع” وكذلك يأتي بمعنى “الأصل” ويأتي كذلك بمعنى “ما يرجع إليه في علم أو أدب من عالم أو كتاب” واستشهد بقوله تعالى “إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعلمون” المائدة 105.
وقد يكون من أعد النظام الأساسي
للحكم استند إلى رأي فقهي لمرجعية السلطة القضائية بأن الحاكم هو “قاضي
القضاة” إن صح التعبير فكل أمور القضاء ترجع إليه، طبعا الرأي الفقهي
المستند إليه هو رأي قديم (صدر قبل مئات السنين) بناء على ظروف الولاية في
تلك المدة، التي تشترط شروطا معينة في الحاكم. فكيف يستقيم هذا مع المادة
(46) من النظام نفسه، التي تنص على أن “القضاء سلطة مستقلة، ولاسلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامي“.
بل كيف يستقيم ذلك مع نص المادة (1) من نظام القضاء “القضاة مستقلون، لا
سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء “
وقد تبين أن الديوان الملكي
يرى أنه مرجع القضاء بلا منازع وذلك من خلال عديد من التطبيقات والقضايا.
فما مناسبة النص في نظام القضاء على أنه “ليس لأحد التدخل في القضاء”،
وهل يعد الحاكم من ضمن “أحد” التي نص عليها نظام القضاء؟، وهل المرجعية
تؤسس له التدخل في القضاء بحيث يكون نظر الموضوع بصفته قاضي القضاة، يضاف
إلى ذلك من له حق تفسير هذا النص هل هو القضاء أو الملك ممثلا في “الديوان
الملكي” بحكم مرجعيته للقضاء؟
والذي يظهر أنه يمكن الجمع بين
النصوص السابقة نحو التالي، لا يوجد سلطان على القاضي إلا سلطان الشريعة،
بما معناه أنه لا يحق لأي شخص التدخل في سلطة القضاء بما فيهم مرجع القضاء،
ويمكن أن نفهم أن المرجعية هي فقط مرجعية تعيين الاختصاص وتحديده في
السلطة القضائية، ولكن بعد أن يعيين لا يحق له أن يتدخل فيها بناء على
النصوص الفقهية.
ويؤد ذلك ما ذكر السيوطي إن
الخليفة المعتضد وجه إلى القاضي أبي حازم كتابا يقول فيه: إن لي على فلان
مالا، وقد بلغني أن غرماءه أثبتوا عندك، وقد قسطت لهم من ماله فاجعلنا
كأحدهم، فكان رد القاضي للخليفة: يا أمير المؤمنين، إن الأمر قد خرج من عنقك وأصبح في عنقي، ولا
يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة ولم يجعل له شيئا لأن الخليفة
لم يقدم البينة. ويقول الدكتور نصر فريد واصل “مفتي الديار المصرية سابقا” “ فإذا لجأ بعض ولاة الأمور إلى التدخل من وراء ستار، وذلك بإعادة القضية للنظر في محكمة أخرى فهذا محض عبث، لأن حكم المحكمة الأخرى سيكون باطلا ما دام الأول لاخطأ فيه، ولو أُدخل القاضي الذي أصدر الحكم الاول في تشكيل المحكمة الجديدة ذرا للرماد في العيون، بل نص الحنفية على أن القاضي لا يجب عليه الامتثال لأمر دخوله في هذا التشكيل”، ويقول ابن أبي جمرة “من كان لا يقضى إلا بما أمره به من ولاه فليس بقاض على الحقيقة وإنما هو خادم رسالة، أي مبلغ أوبوق“وقد
عين أبو يوسف صاحب أبى حنيفة كأول قاضي للقضاة في العصر العباسي، وذلك
تدعيما لاستقلال القضاء حيث هو المهيمن على تعيننهم وعزلهم ومراقبة
أعمالهم. وهذه تعد أول حادثة لفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية
والتشريعية بشكل واضح.
بل وصل الأمر أن جمهور الفقهاء
من الشافعية والمالكية والحنابلة في إحدى الروايتين يرون أنه لا يجوز لولي
الأمر عزل القاضي من غير سبب يدعو لذلك، وجمهور هوؤلاء يرون عدم
نفاذ العزل لو وقع لأن تصرف الإمام ونابة منوط بالمصلحة، ولأن تولية القاضي
وقبوله القضاء عقد تم لمصلحة المسلمين فلا يملك الإمام عزله. ثم
إن القاضي وكيل عن الأمة ولا يجوز عزل الوكيل إذا تعلق بالوكالة حق الغير
وحق الغير هنا مصلحة المسلمين. فعندما يعزل القاضي لمصلحة السلطة التنفيذية
فسيندرج هذا العزل تحت هذا الرأي.
هذه شذرات حول استقلالية القضاء
توضح أن المشكل الأكبر ليس هو تكليف أو الدمج مستقبلا بين المجلس
والوزارة، بل هي إشكالية اختيارات فقهية ونصوص قانونية تؤدي إلى نتائج
تعارض استقلالية القضاء. وإن كان الدمج المنتظر سيضفي عليه صبغة قانونية
وشرعية جميلة بحرب مصطلحات فضفافة لكي يضيع مكنون القضاء وجوهره ويصبح
جزءًا لا يتجزأ من السلطة التنفيذية. أما موضوع الفصل بين السلطات وهو
الأسلوب الأمثل لاستقلالية القضاء، فقد قال قائلهم دفاعا عن التكليف بأنه
“لايوجد فصل بين السلطات في الإسلام” وهذا قول عظيم لايسلم له، وقد قرر
مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثامنة عشرة “مشروعية الفصل
بين السلطات(توزيعها) التنفيذية والتشريعية والقضائية حسبما استقر بعد عهد
التشريع وذلك استمداد من الممارسة العملية لصاحب الرسالة صلى الله عليه
وسلم في تنوع تصرفاته بين الرسالة والإمامة والقضاء”. فهل العشرات من جهابذة الفقهاء على مستوى العالم الإسلامي لا يعرفون الإسلام الذي يتحدث عنه!
خاص بموقع “المقال”.
عبدالعزيز الحصان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..