بعد معرض الكتاب مباشرة أرسل لي أحد
الصحافيين الشباب النابهين مجموعة أسئلة لأجيب عليها وذكر أنه سوف ينشرها ضمن
تحقيق صحفي، ولعله فعل ذلك. وأظن أنه من
المناسب نشر
إجابتي على أسئلته.
1- كيف ترى الحديث عن تراجع
الأيدلوجية الوهابيه السلفية التقليدية بين صفوف الشباب في الوقت الحالي ؟ تراها
واقع ام مجرد امنيات
قبل الإجابة على السؤال أشير إلى
حاجتنا إلى تحديد المقصود بماسميته الإيدلوجية السلفية الوهابية التقليدية، وربما
نكون ضحية غموض المصطلح فنكتشف أننا نتحدث عن موضوعين مختلفين.
إنني أجد كلمة التقليدية التي وصفت بها
المصطلح اختطفت المصطلح فشخصته في صورة محددة لايستطيع تجاوزها، وإذا حاول تجاوزها
باجتهاد فلابد أن نحذف مصطلح التقليدية لأن الاجتهاد لايتفق مع التقليدي، وحينئذ يصبح
حديثنا عن السلفية الوهابية فقط. وحذف هذه المفردة من التعريف يمنحنا فرصة أكبر
لمناقشة تطور الوهابية السلفية فكلمة تقليدية تقصر المصطلح على زمن معين وعلى
علماء محددين، ومن ثم يصبح عملنا هو في النظر في اجتهاد مجموعة محددة من العلماء
في عصر أو مكان محددين وفي مدى قدرة هذا التيار في استيعاب نوازل مستجدة.
النوازل التي يواجهها التيار السلفي
الوهابي يغلب عليها أنها من قضايا السياسة الشرعية كطبيعة نظام الحكم وأساليب
المعارضة السياسية كالمظاهرات وحقوق الأقليات وبعض قضايا المرأة، فهذه بعض القضايا
التي دار حولها الجدل من حين بدأ ماسمي بالربيع العربي.
وقضايا السياسة الشرعية من مواطن
الاجتهاد، والاجتهاد فيها يتأثر بالثقافة المجتمعية وبما يتصوره المجتهد من
المصالح والمفاسد المترتبة على الاجتهاد. ولهذا تجد اجتهادات أصحاب هذه الاتجاه
اختلفت من مجتمع إلى مجتمع فالعالم في السعودية مثلا له اجتهاده بينما نظيره الآخر
في مصر له اجتهاد مختلف والشباب يدرك هذا الاختلاف ويختار من بين اجتهادات
المجتهدين ويعذر بعضهم في اجتهادهم لما يدركه من ظروف يعيشونها.
وكما أننا بحاجة إلى تحديد المصطلح
فنحن أيضا بحاجة إلى تحديد المقصود بالشباب فهناك عامة شباب المسلمين ومنهم من
تدينهم يخالطه بعض الضعف وهناك الشباب المتدين عموما وهناك الشباب الإسلامي
المنتمي لتيار أو حركة إسلامية. والآن يمكن أن نسأل في أي قطاعات الشباب نجد السلفية الوهابية التقليدية أكثر
انتشارا؟
الذي يظهر لي أن المنتشر بين الشباب
الإسلامي سلفية متجددة وليس ما سميته بالتقليدية،
فطبيعة عمل هؤلاء الشباب هو مغالبة الباطل والتصدي لإديولوجيات يراها تحاول
اختطاف مجتمعه، وهذه الطبيعة لايناسبها إيديولوجية تقليدية.
ولهذا فجوابي ليس عن ماسميته بالسلفية
التقليدية وإنما عن السلفية فقط وهذه لا أرى بينها وبين الوهابية اختلافا فهما شيء
واحد.
والآن أجيب على السؤال واقول : لا أستطيع الاستنتاج بأن هناك تراجعا
في الأيديولجية السلفية بين صفوف الشباب لأمور:
الأول: السلفية قادرة على تجديد نفسها فمن
خلال تبنيها الاجتهاد واعتمادها على النص سواء كان قرآنا أو سنة تستطيع استيعاب
النوازل وتغليب مصلحة على أخرى. وهذا يمنح الاتجاه السلفي قدرة واسعة في تجاوز
اجتهادات الأشخاص وإحداث اجتهاد جديد يناسب المرحلة. والسلفية كما هو معلوم ليست
حركة مذهبية وهذا يجعلها غير ملزمة باتباع عالم أو إمام في الفقهيات ومواطن
الاجتهاد.
الثاني: لاأجد للمذاهب والتيارات
الإسلامية الأخرى تقديم رؤى إسلامية مستقلة فيما يواجه المجتمع المسلم فالأزمة
التي قد تواجهها السلفية يواجهها غيرها. وكما أنه مطلوب من السلفية تجديد نفسها
فهو مطلوب أيضا من غيرها من المذاهب أو التيارات الإسلامية الأخرى. ومحاولات بعض
المفكرين الإسلاميين الفكرية بعضها مقبول من الاتجاه السلفي وبعضها لايعدو عن كونه
إعادة إنتاج للمنتج الغربي ولكن بثوب إسلامي، وهذا لايغري المفكر الجاد أو الشاب
الباحث عن الحق.
الثالث: للسلفية ميزة أخرى غير قضية
الاجتهاد في النوازل وهي اهتمامها بالتدين الشخصي والجانب التعبدي وهذا يمثل للمجتمع المسلم ولاسيما قطاع الشباب خلاصا
فرديا وتطهرا ذاتيا يسعى إليه ويستهويه ويعلي من شأن اصحابه. فمثلا اللحية وحجاب
المرأة وإقامة الصلاة وتجنب مايوهن التدين من سلوك كلها مما يستثير العاطفة
الدينية عند الشاب ويرى أصحابها مثالا للتقوى والورع في مجتمع غلبت عليه المادية.
الرابع: من ناحية واقعية نجد أن التيار السلفي حقق
مكاسب في مصر مفاجئة للمراقبين وهو كذلك ينمو في تونس وفي ليبيا وفي غيرها.
الخامس: القضايا الفكرية التي هي مثار
جدل ليست بارزة لكل شاب ولجميع فئات المجتمع والشاب المراقب يرى السلفية في صورة
أخرى غير الصورة التي يراها به المفكر فهي تمثل في ذهنه مثال الطهر والحرص على
الدين واحترام الشعائر وكل هذه مرغبات وعوامل جذب.
السادس: لعله من السابق لأوانه
الاستنتاج أن حركة ما أو مذهبا ما انحسر بسبب تغير سياسي كالذي نشهده في الربيع
العربي. إن التغير الذي نشهده الآن يمثل تحديا للجميع ونحتاج فترة من الزمن لنحكم
أن حركة ما انحسرت أمام هذا التغير وعجزت عن مواكبته
2- معرض الكتاب الحالي شهد اقبالات
كبيرا على دور نشر معينة عنيت بنقد السائد الديني والثقافي والفكري وطرح اطروحات جديدة
، هل تعتقد أنها مجرد رغبة بالاطلاع على الجديد ، او تهافت الانتاج السلفي
التقليدي ؟
كما قلت سابقا الربيع العربي بما أحدثه
من تغير في المجال السياسي يمثل تحديا للجميع السلفية وغير السلفية والكل يحاول أن
يقدم إجابة على التحدي.ولهذا فالإقبال على دار نشر أو معرض كتاب يمثل البحث عن
المعلومة ومحاولة للفهم ولكنه لايمثل منتجا، ومن الخطأ في التقييم أن نعامل خطوات
جمع المعلومات كما نعامل المنتج. إننا نحتاج فترة من الزمن كي نرى المنتج فنقومه. ومما
يوضح ذلك أن أننا نعلم أن كثيرا ممن كتب
في القضايا المعاصرة في الشأن العام وفي الشأن السياسي خصوصا ليسوا من ذوي الاتجاه
التنويري وإنما من العلمانيين وأكثر من نشر فيها دور نشر علمانية، فهل يمكن
والحالة هذه أن نقول إن المستقبل للعلمانية في عالمنا العربي وأن الاتجاهات
الإسلامية بدأت تتهافت مفسحة المجال للتوجهات العلمانية؟ طبعا لا، إذ كل المؤشرات
توحي بخلاف ذلك.
3- دائما ما نسمع عن تيار (
التنوير ) المعني بشكل ما : بطرح اطروحات غير تقليدية وتجديدية ، هل تعتقد أن (
التنوير ) اصبح تيارا حقيقيا الآن بين الشباب ، وهل ترى أن هناك تسرب كبير فعلي من
السلفية الحركية تجاه هذا التيار ؟
يبدو لي أن وصف اتجاه إسلامي نفسه بأنه
تنويري ربما يتضمن هذ الوصف رغبة بمحاكاة موقف الاتجاه التنويري الذي نشأ في أوربا
في القرن السابع عشر من الكنيسة، وهذا مغالطة كبيرة لأن الإسلام ليس الكنيسة،
والعجز الذاتي الذي كانت تعيشه الميسحية في ذلك العصر وأجبر الناس على التمرد
عليها يقابله قوة ذاتية في الإسلام لازالت جاذبة للناس إليه لتدين بالدين الحق.
والله سبحانه وتعالى أنزل دينه ووصفه بالكامل والنعمة التامة في قوله:"اليوم
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" فهو كذلك إلى
قيام الساعة، ولايحتاج جهد بشر ليطوعه كي يكسب صفة الكمال والنعمة التامة.ومن باب
التنزل سوف أستخدم هذا المصطلح وإلا فالأقرب هو مصطلح العصرانية. وأقول اتجاه
التنوير أو العصرانية أعجز من أن يكون تيارا معرفيا علميا، وربما ينجح ليكون تيارا
سلوكيا ولكنه لن يكون تيارا علميا. والسبب في ذلك لأنه يصطدم مع طبيعة الناس في
التدين، ورسالة هذا التيار سلبية مناقضة لهذه الطبيعة والفطرة. رأيت أحدهم في إحدى
القنوات يتحدث في برنامج حواري ربما بلغ الساعة ورسالته سلبية تماما فهو يقول
للناس خلال هذ الوقت الطويل لاتثريب عليكم إذا لم تصلوا في المسجد جماعة، ولاتثريب
عليكم إذا اختلطتم بالنساء أو لم تغط المرأة وجهها، أو استمعتم الموسيقى. وبغظ
النظر عن الجدل الفقهي في بعض هذه المسائل إلا أن جمعها في حديث واحد يقدم صورة
نمطية سلبية عن الاتجاه التنويري تنفر منها الفطرة الباحثة عن التدين.وبعض الناس قد
يتهاون في الصلاة مثلا أو في العلاقة بالمرأة ولكنه لن يسمي هذا دينا بل يعلم أنه
بهذا السلوك يبتعد عن حقيقة التدين، فإذا ماصدمته وقلت له إن ماتفعله هو في
الحقيقة مقتضى دين الله نفر منك لأنه يعلم ماداخل نيته من الهوى الذي يبرأ به منه
التدين الصحيح.
ومشكلة الاتجاه التنويري أو العصراني
ليست مع التدين الفطري فقط بل مع الدين المدون: مع تراث الدين الفقهي ومع علماء
الأمة، وربما ارتقى الخلاف ليكون مع نصوص القرآن والسنة حيث يرى بعض التنويريين
أنها بحاجة إلى تأويل أو إعادة فهم.
ولهذا لا أرى التنوير بدأ يتبلور في
اتجاه محدد المعالم، أو أنه أصبح تيارا حقيقا فهو لازال في البدايات، وربما يستفيد
من انحسار الاتجاه العلماني حيث يتحول بعض العلمانيين إلى الاتجاه التنويري. وربما
تتبناه بعض الجهات وتقدمه للشباب ليكون بديلا للاتجاه الإسلامي الأصيل. أما سؤالك
عن التسرب من الحركة السلفية فنعم هناك تسرب ولكن لانستطيع أن نقول إنه كبير،
ولاتنس أنه يقابل هذا التسرب أعداد أكبر تنتمي إليها ولاسيما في البلاد التي فيها
حرية الانتماء الفكري متاحة.
4- دائما
نلحظ أن قضية ( الديموقراطية ) و ( مدنية الدولة ) اشد نقاط الاختلاف بين الحركية
السلفية وبين ( التنوير ) ، وهي قضايا تطبيقات اشكال الحكم السياسي ، كيف اثرت
الثورات العربية برأيك على الطرفين سلبا وايجابا !
لعل أول تأثير للثورات العربية أن الإسلاميين في السابق كانوا يتحدثون عن الآخر
الذي يحكم ويناقشون تصرفاته ويصدرون على الحاكم أحكاما تميل إلى عدم الإعذار فيما
قصر فيه، ولكن بعد الربيع العربي أصبح الحديث عن الحاكم لم يعد حديثا عن الآخر، وإنما
أصبح حديثا عن الذات وماذا يستطيع الحاكم أن يطبق من الشريعة وهل الأولى التدرج أم
لا. بعد الربيع العربي أصبح من في سدة الحكم ليس العلماني وإنما الإسلامي فخفتت
نظرة الشك وبدأ يحل محلها نظرة الاعذار ومدى القدرة في تطبيق الشريعة.
أما في نقطة الخلاف بين السلفيين والتنويريين في
قضية تطبيق الشريعة ومدنية الدولة فيبدو لي أن البعض أخطأ في التعبير حينما وضع
المقابلة بين حاكمية الشريعة وحاكمية الشعب، ونتج عن ذلك خطأ في فهم ما يريده وخطأ
في التعبير عما يقصده هو، وهذا باعد بين المتحاورين. وهذه المعالجة جعلت المدخل
لهذه القضية مدخلا عقديا، وفي المدخل العقدي يمكن تقسيم الناس إلى مؤمن و كافر.
وفي هذا حرج شديد وإدراك غير سليم للمسألة المطروحة.
إن الأولى في نظري أن يعالج الموضوع
معالجة فقهية، وهذا يجعلنا نعيد الموضوع برمته إلى حكم الشريعة ونستفتيها في هذه
النازلة، والشريعة بحمدالله ليست عاجزة عن الإجابة عما ينزل بنا من نوازل. وإذا
كان المدخل العقدي لمسألة الحكم بالشريعة يقسم الناس إلى مؤمن وكافر فإن المدخل
الفقهي يقسم الناس إلى مستطيع وعاجز أو مكره، والجميع كلهم مسلمون مأجورون مرفوع
عنهم الحرج إذا صدقت نياتهم. والأخوة الذين اثاروا قضية الديمقراطية ومدنية الدولة
كان بإمكانهم الوصول إلى هذه النتيجة تحت راية الشريعة فإذا ثبت عجز فئة أو مجتمع
عن تطبيق الشريعة فهم معذورون، وقد أفتى عدد من العلماء السلفيين برفع الحرج عن
حزب العدالة والتنمية التركي في عجزه عن تطبيق الشريعة، كما أفتوا ايضا بالتدرج في
تطبيقها.
وبعض من طرح مدنية الدولة ربما كان
مشغولا بحقوق الأقليات، وهذه يمكن أيضا أن تعالج تحت راية الشريعة. فالشريعة لم
تأت لمصادرة حقوق الأقليات ولا لانتقاص حقوق الأكثرية ومنحها للأقلية. ولن تجد
دينا ولا مذهبا فكريا أنصف الأقليات وحفظ حقوقها كما فعل الإسلام. فالإسلام سمح
للأقليات بالتحاكم إلى دينهم فيما هو خاص بهم كما سمح لهم بالمتاجرة فيما هو مباح
في دينهم كالخمر والخنزير بشرط ألا يباع على المسلمين، وقد طبق المسلمون هذا في
عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
5- نجد
حالة من النشوة لدى السلفية الحركية بانتصار احزاب اسلامية سياسية في بلدان
الثورات العربية ، البعض يتحدث عن خدعه فالاحزاب في بلدان الثورة العربية قد تختلف
جذريا معهم ، كيف ترى ذلك ؟
هذه النشوة التي تحدثت عنها في السؤال هي ماينفي
التقليدية عن الاتجاه السلفي ويثبت واقعيته ومقدرته الاجتهادية. إن الذين فرحوا
بانتصار الأحزاب الإسلامية السياسية يعلمون مقدار الاختلاف الفقهي بينهم وبينها في
بعض المسائل ومع ذلك لم يكن الخلاف مانعا لهم من إدراك قيمة انتصارهم في بلدانهم
ورؤيتهم لهذا الانتصار انتصارا للإسلام في الجملة. وهذا يثبت أمرين: الأول إيمان
هؤلاء السلفيين بالتدرج في تطبيق الشريعة والثاني إيمانهم بأن تطبيق الشريعة
مناط بالاستطاعة، كما قال
تعالى:"لايكلف الله نفسا إلا وسعها".
وهذا الفرح بالانتصار له فائدة أخرى وهو وجود تواصل
بين التيار السلفي والتيارات الإسلامية الأخرى وهذا التواصل يفضي إلى تفاعل بين
هذه التيارات ويساعد في إعادة تشكلها معرفيا ينشأ به تيارات سلفية ضمن هذه الأحزاب
الإسلامية وينشأ به تغير داخل التيارات السلفية أقرب إلى تلك الأحزاب الإسلامية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..