بالرغم
من كثرة مسوّغات وأسباب الفرح في ختام شهر رمضان ، كالوصول لمرتبة
التقوى ولو في أدنى مراتبها ، وهي اتقاء المفطّرات عند جمهور الصائمين ،
وكزيادة
الإيمان بتحرك الناس ـ في الأغلب ـ لفعل الخيرات
وأعمال البر، وزيادة
العبادات الباطنة كالرجاء والمحبة والتعظيم للأوامر والنواهي والأزمنة
والأمكنة ، والخوف وحسن الظن بالله والقرب منه وإظهار الحاجة والفاقة
لرحمته
ومغفرته والطمع في جوائزه وأجره وثوابه ، والعبادات الظاهرة مثل : إنجاز
الصيام
وصدقة الفطر التي هي طهرةٌ للصائم واغناءٌ للفقراء ، والصلاة والصيام
وقراءة القرآن ، وصلة الرحم والتواصل والتراحم والتلاحم والتآخي ، وبالرغم
من أن
الشريعة الخاتـَمة المحكـَمة المهيْمنة
قصدت يوما عيدٍ يفرح فيهما المؤمن
فرح عبادة لا بذِخا ولا طرِبا ولا أشـِرا
ولا بطـِرا في العيد ، لئلا تخرجه
هذه العوارض إلى الفرح المذموم " إن
الله لايحب الفرحين " .
بالرغم من كل هذا إلا أن فـِئاما
من فضلاء الدعاة والخطباء والوعّاظ ، نوّر
الله بصائرَهم وجزاهم عن حرصهم على الأمة والتبليغ خير الجزاء .
يأبى هؤلاء الأخيار يحدوهم
الحرص والضرب على الحدود قبل برودته ، إلا تحويل ختام رمضان من العيد والفرح فيه
الذي هو عبادة الوقت ، والشعور بفرح الإنجاز وتأدية الطاعة ، والإيجابية والتفاؤل
لمواصلة المسيرة ، إلى مناحة وبكاء وحزن وغلوٍّ في جلد الذات ، موصل لليأس والقنوط ـ
عند بعضهم ـ وكأن معشر الصائمين لم يقدموا شيئا يجعلهم يحسنون الظن بالله ويرجونه حق
رجائه !!
يقيمون مناحة ً على شيءٍ ، هو
قدر الله في النهاية وسنـّتـُه الكونية
التي لاتتبدل في كل عام وهي انتهاء شهر رمضان ( إن عدة الشهورعند الله
اثناعشر شهرا ...) .
فواعظ يتمنى السنة كلها رمضان !
سبحان الله ! ربنا يترحّم بنا في خطابه ويخفف علينا ويهوّن علينا
الشهر كله ـ وهو الغني ـ بتقليل
الأيام علينا " أياما معدودات
" وهذا الأخ يتمنى لو كانت السنة كلها رمضان " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
" .
إنها مثالية فـُهمت من كلام
السلف ، توسـّع الفجوة بين خطابنا الواقعي ومانريده وندعوا إليه في زمن الضعف
والفتور ، إنها مثالية يخشى منها توريثُ إحباط ٍوقنوطٍ عند الأمة ، يقعدها عن اهتبال فرصة مواسم الطاعات والتزود
منها لسائر أيام العام ولربما أقعد عن العمل
للدين ومواجهة أقدار الله بأقدار الله
التي هي سننه .
وثان ٍ ـ بيّض الله وجهه ـ في
خطبته يرعد ويُزْبد مكررا " وإنا على
فراقك يارمضانُ لمحزونون " وأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقلها في رمضان .
ثم لماذا الحزن على فراق رمضان القدري الكوني ، والصيام والقيام وحتى
ليلة القدرـ على قول ٍ ـ متاحٌ ومقدورٌ
عليه في غير رمضان بل مرغّبٌ فيه طوال العام .
ومقطع ٌ في اليوتيوب بلغ عدد مشاهديه حتى البارحة ليلة الثلاثين من
رمضان قرابة خمسين ألف ، يأمر بالمحاسبة
يوما يوما واستعراض التقصير طيلة شهر رمضان ، وفتح ملف حسابات في ليلة العيد ليلة
الفرح والسرور، وكأن المحاسبة عبادة جاءت في الوحي وغير قابلة للتأجيل حتى في ليلة
الفرح والسرور ، أو كأنها عملية حسابية معقدة يقدمها الصائمون القائمون القانتون
بعد جهدهم طيلة شهر رمضان الكريم ، ويأمر بالاستغفار من التقصير !
والاستغفار وإن كان مشروعا جملة فأين حض عليه الشرع وطلبه وأكده في ليلة ويوم العيد !! وبعد كل عمل صالح مرجو
ٍّ عند الله كالصيام والقيام !!
ثم يستغفر في ماذا ياعم ؟ من الفضائل والنوافل والمستحبات التي لم يطلبها
الشرع طلبا جازما ولم يثرّبْ على تارِكها !!
وواعظ ٌ آخر يبالغ في جلـْد الذات ، إلى حد أن يطلب من الناس إن لم يتقبل الله منهم
، أن يطلبوا من الله الكريم الرحيم أن
يثيبهم على مصابهم في عدم قبول أعمالهم ( اللهم إن حرمتنا أجر قبول الصيام والقيام فلا تحرمنا أجر مصابنا في عدم
قبول أعمالنا .. ) الخ .
سبحان الله إلى هذا الحد من التعدي والغلو وجلد الذات بله الظن السيئ
في الأمة الخيرة المجتباة المختارة !!
وخامس وسادس و.... يحملق في جمهور المسلمين التائبين الراجعين للتفيئ
في ظلال المساجد والعبادات وحلق العلم والذكر ،
بعبارة " بئس القوم لايعرفون الله إلا في رمضان " ويهجم على
الرمضانيين وكأننا نجرمهم لانهتبل فرصة رجوعهم ونقوي فيهم التمسك والمدامة على
الطاعة بعد رمضان !
ناهيك عن الأدعية المخترعة
التي تثمرُ القنوط واليأسَ وتحطّم الفأل
الحسن وحسن الظن بالله الجواد الكريم ، التي لم تكن مقصودة شرعا في نهاية رمضان .
ولعمر الحق إنها صورة من الغلوّ في خطابنا الدعْوي ؛ فبد لا من دعوة
الناس لإظهار الفرح بالانجاز وإكمال العبادة
،والتوسعة على النفس والعيال والجيران والعمال والغرباء والمجتمع ، حتى مع مصائب الأمة العظام وظروف وهموم وغموم
الأفراد نفرح وسن لنا الفرح في ختام الشهر.
ولا تعارض بين الأمرين بل
هناك انسجام وتداخل اقتضته طبيعة التشريع والجبلة والفطرة البشرية ،
الفرح ـ ياجماعة الخير ـ عملٌ قلبيٌ فطريٌّ ، يحتاج
الإنسان إلى إشباعه حتى لايؤدي
نقصه إلى القنوط والرهبنة المنهي عنهما ، والرتابة في الحياة سبب للملل والفتور والمكانيكية
والآلية التي لا بد من كسره جبلة ً . والضغوط النفسية وكثرة مصادر القلق في الحياة
تـُعـالـَج بالفرح . والتجديد والترويح والتغيير والتنويع مقاصدُ شرعية ٌ مطلوبة .
الفرح عند النفسيين غيره في الشريعة ، فهو عندهم الشعور بالرضا عن
الظروف الحالية أو الوضع الراهن .
والذي تقصده الشريعة ـ في ظني ـ من العيد ، نوعُ سرورٍ متوازن ٍ منضبط ، ومشاعرُ إيجابيةٌ متفائلة ٌ بسبب إنجاز عبادات
في شهر رمضان ، الفرح عندهم عامل خارجي ، بخلاف السعادة فإنها تنبع من
الداخل، وحتى الأخصائيون النفسانيون عندهم
مايسمى بالعلاج بالفرح ، وعندهم مرض يسمونه الخوف من الفرح .
والشريعة التي نظمت الحياة والآخرة وجعلتهما
منسجمتين متوافقتين لم تفصل بين الفرح والحزن بفاصل متكلف كما النفسانيين ، فحتى
انفعالاتنا منه سبحانه وتعالى :
( وأنه
هو أضحك وأبكى ) .
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم تغب عنه مؤامرات فارس والروم
والمنافقين وعرب الجزيرة يفرح ويأذن باللهو اللعب " لتعلم يهود أن في ديننا
فسحة " ، ويصحح للصديق أبا بكر مفهومه في العيد في قصد التوسعة على الأهل
والعيال بالترفيه البرئ واللهو المباح وتشريع إجمام النفوس وارتياحها بعد العبادة
وقد بوّب الأئمة وأصحاب السنن على حديث عائشة باب الرخصة في اللعب
الذي لامعصية فيه في العيد وتبويب البخاري أظهر حيث قال : باب سنة العيدين لأهل
الإسلام .
روى البخاري في صحيحه(كتاب العيدين) عن عائشة رضي
الله عنها قالت{دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان (من جوار
الأنصار)(وفي رواية: قينتان) (في أيام منى, تدففان وتضربان), تغنيان بغناء (وفي
رواية:بما تقاولت)الأنصار يوم بعاث, (وليستا بمغنيتين)فاضطجع على الفراش, وحول
وجهه, ودخل أبو بكر (والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبة)فانتهرني أو فانتهرها
وقال: مزمارة أو مزمار الشيطان عند(وفي رواية:أمزامير الشيطان في بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم مرتين.
فاقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم(وفي رواية: فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه) فقال: دعهما ياابابكر فان لكل قوم عيدا وهذا عيدنا, فلما غفل غمزتهما فخرجتا)
فاقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم(وفي رواية: فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه) فقال: دعهما ياابابكر فان لكل قوم عيدا وهذا عيدنا, فلما غفل غمزتهما فخرجتا)
فما أكثر مسوغات الفرح في نهاية رمضان يجد فيها الداعية المتحدث للناس
مادة إيمانية وعظية تهز القلوب وتنشط الناس بعد شوط مرهق في العبادة مضن ٍ في شهر
رمضان .
الفرح في نهاية شهر رمضان بوصول كل صائم إلى التقوى باتقاء المفطرات
في نهاره على الأقل منزلة ومرتبة من مراتب التقوى ( لعلكم تتقون ) .
والفرح بإكمال وإتمام عدد أيام الصيام المفروضة علينا وحفظ رمضان على الأمة من الزيادة والنقصان عبادة : ﴿
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
والتكبير فرحا بتوفيق الله على إتمام الطاعة والعبادة في شهر رمضان ،
لأن كل طاعةٍ مهما بلغ فيها المكلـَف ُ من
الإحسان فهي دون حق الله وأقل من شكره
وتوقيره وتبجيله سبحانه .
والفرح بإتمام الله علينا
نعمة الهدايتين هداية العمل وهداية العلم مسوّغ ٌ ومطلوب ٌ شرعا ، فمن صام
رمضان فقد أتم الله عليه هدايته هداية العمل والتطبيق لأمر الله له بالصيام والعبادة في شهر رمضان ، والهداية
العلمية في إثبات ودخول الشهر والاجتماع والاتفاق بين المسلمين على قدرٍمهم مشترك بينهم
، وهو أن لاينقص شهر رمضان عن تسعة وعشرين يوما ولا يزيد على ثلاثين يوما فهذه
هداية علمية متفق عليها ـ في الاختلاف في مسألة اثبات الأهلة ـ نفرح بها .
والفرح بإرداة الله بنا نحن الأمة المباركة الشاهدة على الأمم، الخَيّرة عند الله سبحانه إذ أراد بنا
اليسروالسهولة والرحمة في تشريع الصيام أيضا مسوغٌ وسببٌ ظاهر
.
الفرح
بعدم
مصادمة طبائع بعض الناس الذين يحبون اللهو والتوسعة في المباح ، كالأنصار
الذين يعجبهم اللهو، وأمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه ، التي تأنس
بلعب الحبشة ولهوهم ، ويقرها صلوات الله وسلاماته وبركاته عليه ،
يقرها على إشباع غريزتها من هذه التوسعة
المباحة والفسحة في الدين التي لامنكر
فيها .
والفرح
بعودة الناس إلى المساجد والصلاة والخيروحلق الذكر يحتاج منا لخطاب خاص حان ٍ
يتألف هؤلاء الرمضانيين بدلا من مهاجمتهم وتنفيرهم ومعاتبتهم هذا العتاب الشنيع
وكأن استدامة التوبة من الذنب شرط ٌ في
قبولها ، لا بل نفرح بهم ونشجعهم ونرغبهم ونمزج
خطابنا الوعظي بالعقلي المنطقي التحليلي لظاهرة رجوعهم للمقاطعة مع المساجد
والصلاة والصيام فيكون فرحا بهم لاهجوما عليهم .
كل هذه الأنواع ، فرحُ عبادةٍ يؤجَرُ عليها المسلم ، ومقصِد ٌ تكليفي ماكان
ليغيب عنا في خطابنا الدعْوي في أيام
الأعياد ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا .
وشرع في كل وقت عبادة هي له من غيرها أرضى . والله يتولانا وهو حسبنا ونعم الوكيل
. وكل عام وأنتم بخير وصحة وسلامة وفرح وسرور، والسلام .
بقلم / د. محمود المختار الشنقيطي ـ أبو معاذ
بقلم / د. محمود المختار الشنقيطي ـ أبو معاذ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..