الثلاثاء، 11 سبتمبر 2012

وقفة هادئة مع أحداث جامعة الأميرة نورة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد.
هذه البلاد غالية على قلوبنا،والحفاظ على وحدتها وأمنها مطلب ترخص فيه الأرواح، وتراق دونه الدماء.. والحفاظ على سفينة المجتمع مسؤولية الجميع إذ هي مركبنا في لجج زماننا.
الحدث:
في ظل ما تعيشه المنطقة من أحداث متسارعة وتغيرات مفاجئة، وما يتهدد بلادنا المباركة من أخطار داخلية وخارجية.. انتشرت هذا الأسبوع أخبار وصور حول دخول بعض الأساتذة على الطالبات في جامعة الأميرة نورة (وهي جامعة مخصصة للبنات)، وطار بها السرعان، وسار بها الركبان، وثارت ثائرة بعض الآباء وأولياء الأمور على بناتهم .
منذ أن وقعت الأحداث والمواطن الغيور يترقب أن تردم هذه الهوة بتحقيق أو بيان توضيحي وإجراء عاجل يضع النقاط على الحروف، ويميت الفتنة في مهدها.
ولكن، مضت الأيام وللأسف وكرة الثلج تتضخم، وأسهم في تضخمها ما انتشر من تقديم عميدة كلية التمريض اعتذارها عن عمادة الكلية (الخبر وصورة الخطاب منتشرة ولم ينفَ حتى الآن)، ثم تبع ذلك انتشار صورة اخطاب استقالة منسوب للأستاذة تركية العنزي، نفته الأستاذة في أقل من 24 ساعة وبينت أنه مزور، وأن الموضوع لا يعدو عن كونه إشاعة مكذوبة.
وأخيراً أصدرت وزارة التعليم العالي بياناً حول الموضوع، تضمن تشديد الوزارة على أن سياستها ترتكز في الأساس على الالتزام التام بالمبادئ والقيم الإسلامية، وأكدت فيه حرصها على عدم حدوث أي تجاوزات في هذا الأمر.
للأسف، لم يكن هذا البيان العام بمستوى الحدث، ولم يقضِ على توجس الناس وانتشار الإشاعات والبلبلة ضد نظام البلد، وكان من الأولى أن يكون البيان أكثر شفافية ووضوحاً وأن يعالج القضية التي أثارت الناس أو يتضمن إجراء التحقيق فيها وإجراء ما يلزم نحوها ويوضح الإشكال للرأي العام ويمتص غضبه .
ردود أفعال :
تحدث جمع من العلماء والدعاة والمتابعين في الموضوع وطالبوا المسؤول أولاً بالتثبت والتوضيح، ثم باتخاذ ما يلزم إن ثبت أي تجاوز، لكن شيئاً من هذا لم يحدث.
وفي ظل ضبابية الموقف، خاضت فيه أقدام، وزلت فيه أفهام..فقال بعض الناس: هذا الأمر جس نبض أو مقدمة لتغيير خطير في سياسة الدولة القائمة على الفصل في الجنسين في التعليم.
وتجاوز آخرون فقالوا: إن سكوت الجامعة ووزارة التعليم العالي يشير إلى الرضا والإقرار بهذا الأمر.
وعلى الطرف الآخر انبرت طائفة لتبرير الأمر وتأييد الاختلاط وتجاوز أنظمة البلد وفتاوى المرجعية الشرعية المتمثلة في كبار العلماء.
فيما تجاوزت طائفة انتهازية لتصفية حسابات فكرية مع عدد من العلماء والدعاة الذين تحدثوا في الموضوع وتصف فعلهم بأنهم أصحاب فتنة وتحريض وتهييج على ولاة الأمر، وتبعهم في هذا أصحاب التيارات اللادينية التي توجه سهامها ضد كل ما يمت للدين بصلة، أو يقف ضد تغريب المجتمع.
إشارات في التعامل مع المنكرات العامة والعلاقة بالدولة:
لا يكاد يسلم مجتمع من وجود الشر والظلم والمنكر، إذ هو طبيعة البشر.
نحن في هذا البلد لدينا من الشر والمنكر والفساد ما يجب رفعه وإصلاحه بالحكمة والطرق المشروعة المفضية للمصلحة، ولدينا في المقابل من الخير العظيم والمصالح الشرعية والدينية(وهو الأكثر) ما يجب المحافظة عليه.
ومن المعلوم أن النهي عن المنكر وإصلاح المجتمع واجب شرعاً بالطرق المشروعة التي تتحقق بها المصلحة المقصودة من الإنكار وهي زوال المنكر أو تقليله.
وإذا كان المنكر يتعلق بولي الأمر أو نوابه في الوزارات والمصالح الحكومية ازدادت الحاجة إلى الانضباط بالحكمة والضوابط الشرعية والحذر من مسالك الغلو أونزع يد الطاعة والخروج عن سلطة الحاكم، وهو ما ورد التحذير منه في أدلة كثيرة في الصحيحين وغيرهما .
وفي المقابل ليس من الإنصاف ولا الورع أن يصنف كل من ينكر منكراً أو ينتقد خطئاً في أجهزة الدولة أنه محرض أو خارجي كما يحلو لمن أدمنوا الولوغ في الأعراض.
هذا هو منهج أهل السنة، وقد سار عليه أئمة السلف الكبار قديماً وحديثاً .
لقد سَبَقَنا علماء كبار لا نتَّهمهم في دينهم, ونرجو أنهم حطوا رحالهم في الجنان بإذن الله, كانوا أصدق في لهجتهم, وأصفى في طريقتهم, وأنصح للأمة وأبرَّ مـن غيرهم، منهم شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز .
كنت أحضر بعض دروسه في الجامع ولقاءاته في المنزل فيتملكني العَجَب، لا يدخل عليه إنسان يحمل في نفسه احتقاناً أو نقمة أو حماسة مفرطة ضد مسؤول أو جهة إلا احتواه بكل حكمة، ووعده خيراً بالسعي في الإصلاح ومناصحة المسؤول أو الجهة التي نابها التقصير، مع رعايته لحق الدولة والمصالح العامة العظيمة فيها.
وكان رحمه الله يقول: "هذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق، ونصر بها الدين، وجمع بها الكلمة، وقضى بها على أسباب الفساد وأمن الله بها البلاد، وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله، وليست معصومة، وليست كاملة، كل فيه نقص، فالواجب التعاون معها على إكمال النقص، وعلى إزالة النقص، وعلى سد الخلل بالتناصح والتواصي بالحق والمكاتبة الصالحة، والزيارة الصالحة، لا بنشر الشر والكذب، ولا بنقل ما يقال من الباطل
أتذكر أنه في سنة 1413هـ صليت المغرب مع سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز، وبعد الصلاة دخلنا مع الناس في مجلسه العامر في حي البديعة بالرياض، حيث وهب الشيخ نفسه لإجابة السائلين مشافهة أو عن طريق سماعتي الهاتف الّتين بجواره.. وبينما نحن جلوس، قام أحد الإخوة وجلس أمام الشيخ وشكا له ما ينكره من وجود منكر في أحد قطاعات الدولة، فما كان من الشيخ إلا أن سأله بعض الأسئلة ثم أجابه بكل لطف وهدوء ودعا له، وقال: سبق أن كاتبنا الدولة في هذا ولعل الله يصلح الأمور قريباً.
ليس هذا هو منهج الشيخ ابن باز فقط.. فهذا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله يقول: "لا يُوجَد الحمد لله مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة، وهي لا تخلو من الشر كسائر بلاد العالم، بل حتى المدينة النبوية في عهد النبي r وُجِدَ من بعض الناس شرّ
وهذا لا يعني في المقابل أن نتكلف الدفاع بالباطل عن أخطاء الحاكم أو نوابه في الوزارات المختلفة، أو نتعسف في الاعتذار عن الخطأ البيِّن الذي لامَدْفع له.
مشكلة بعض الناس أنهم لا يرون إلا سيئات الحكام دون اعتبار لحسناتهم، ويقابلهم آخرون يعتدّون بحسنات الحكام دون سيئاتهم .
توصيات:
1-(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا):
في ظل ما يحيط ببلادنا من أخطار وتهديدات، نحن بحاجة ضرورية لاجتماع الكلمة والمحافظة على وحدة البلاد.. بمنهج يحافظ أولاً على دين الله ويعتصم بحبل الله الذي هو أساس وحدة البلاد وقيام هذه الدولة القائمة على الشريعة الإسلامية.. ويتضمن ثانياً إصلاحاً يظهر أثره في حياة الناس ويلبي حاجاتهم ومطالبهم وما يأملونه من دولتهم.
لسنا اليوم بحاجة لإجراءات استفزازية من بعض المسؤولين، وخاصة في بعض الإجراءات التي تتم دون فتوى من المرجعية الشرعية في البلاد.
وكذلك لسنا بحاجة لأعمال تحريضية، توسع دائرة المرض، وتعمم الأحكام، وتهيج الشباب ضد دولتهم.
2 -{وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} :
مما أفرزته مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت سهولة النشر وسرعة الانتشار وارتفاع سقف الحرية، لكن هذا أحياناً يكون على حساب الدقة والمصداقية.
انتشرت أخبار مكذوبة، وحسابات في (تويتر) مزورة، وصور مفبركة، ومشكلة بعض الناس أنه يصدق كل ما يصل إليه دون نظر في الخبر ومصدره ودلائله، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.
وفي سياق سورة النور آيات بينات في قصة الإفك والوعيد الشديد لأهله، والتهديد لمن يسعى في نشر الأكاذيب ولو بحسن نية، كما قال تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله}.
الوصية لكل مستخدمي الشبكات الاجتماعية (وخاصة الفيسبوك وتويتر) أن يتثبتوا وأن لا تأخذهم العجلة في بث الأخبار المكذوبة أو المحتملة، فضلاً عن أن يبنوا عليها أحكامهم على الأشخاص أو المؤسسات.
أما من يزور القول ويفتري الإفك ويطلق الشائعات فذاك متوعد بالعذاب العظيم بقدر جنايته{لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم} فليتق الله .
3-العلماء صمام أمان :
إن من أعظم أسباب حفظ وحدة ومصالح البلاد، تعزيز دور أهل العلم الكبار ولاسيما في القضايا العامة في المجتمع.
ما يحصل اليوم من غياب أو تغييب العلماء الكبار عن الساحة وقضايا الناس نذير شؤم على البلاد.
والعلماء في الشريعة لهم حقوق وعليهم واجبات.
فلهم حفظ المنزلة والالتفاف حولهم والرجوع لرأيهم،ولزوم الأدب دون غلو أو تقديس، وتربية الشباب على إجلالهم، والإبراز الإعلامي لهم.
وعليهم واجب نشر العلم الشرعي وبيانه للناس، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وعليهم مسؤولية تجاه ما ينزل بالبلاد من نوازل، ببيان الحق وسد ذرائع الفتنة.
ومع الانفتاح التي تشهده البلاد، وتوسع احتياجات الإنسان، يجدر بالعلماء وطلاب العلم أن يتفاعلوا مع قضايا الناس وهمومهم، وأن يشعر المواطن البسيط بأن لهم شعوراً بهمومه ومعيشته، واهتماماً بقضاياه، ومناصحةً وإعانةً لولاة الأمر على ذلك.
4- لا قداسة ولا تصنيف:
لا قداسة لعالم عن الخطأ.. لكن متى ما وقع العالم في خطأ أو تقصير، فإنه يناصح مع لزوم الحكمة والأدب، وفي المقام الأول ليس كل عامي أو صحفي أو مثقف يرد على العالم، بل لا يرد على العالم إلا عالم، كما لا يرد على الطبيب إلا طبيب .
ويجب العدل والإنصاف في التعامل مع دعاة أهل السنة المعروفين بالخير وسلامة المنهج، ومتى ما وقع من الداعية ما يراه بعض الناس خطئاً فإنه يستفسر منه ويناصح، ويعرف فضله الكثير بإزاء الخطأ، ويعذر إن كان مجتهداً، مع توخي العدل وسلامة الصدر.
كما يجب الحذر من تصنيف الناس بناء على الظن وتحميل ألفاظهم ومواقفهم ما لا تحتمل، وتحريض الدولة عليهم لإنكارهم ما يجب إنكاره، فضلاً عن الوقوع في أعراضهم نسأل الله السلامة.
أصلح الله أحوالنا، وهدى للحق قلوبنا، وحفظ على بلادنا أمنها وإيمانها،وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لكل خير، وهيأ لهم البطانة الصالحة، وجنبهم بطانة السوء .
  د. سامي بن خالد الحمود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..