نعم ولا. فإذا كنا بشكل رئيسي نتكلم عن السلفية في السعودية ومصر، فإن السلفية في مصر أفادت على عكس غيرها. كانت السلفية في مصر في مأزق تاريخي خطر، بلغ مداه قبل أيام فقط من انطلاق ظاهرة الربيع العربي في تونس ومصر.
فبعد تفجير كنيسة "القديسين" في الإسكندرية في مطلع شهر يناير 2011، كانت السلفية كبش فداء لتداعيات هذا التفجير.
كان تفجير الكنيسة قد أطلق أزمة حقيقية داخل المجتمع المصري، وهدّد بتفجير
حالة طائفية مريعة، فبعده مباشرة انطلقت صدامات واحتجاجات، منها تظاهرات
للأقباط، وللإخوان المسلمين.. والذين لم يحتجوا ولم يتظاهروا كانوا
السلفيين رغم أن أصابع الاتهام من الإعلام والحكومة كانت تشير إليهم، وأنهم
من جلب ثقافة كراهية (مستوردة) إلى مصر.
الحكومة وأجهزة حبيب العادلي القمعية قامت بالتنكيل بالسلفيين واعتقلت ما
يقارب الثلاثمائة منهم كردة فعل على هذه الحادثة. وفي السادس من يناير توفي
الشاب السلفي سيّد بلال تحت التعذيب.
لم يكن هناك ردة فعل سلفية على هذه القمع الحكومي المنهجي ضدهم، واستمر
شيوخ السلفية في الطلب من الشباب السلفي أن تكون ردة فعلهم منضبطة، ولم
يصدر أي فعل احتجاجي على ما تم ضدهم في هذه الحادثة.
كانت ردّة الفعل هذه متناغمة مع سلوكهم المعتاد، فمنذ انتشار السلفية
الدعوية في الإسكندرية وأماكن أخرى في مصر منذ بداية السبعينات في القرن
الماضي، كانت السلفية لا تتقاطع مع السياسي ولا ترد عليه، مع أنها كانت
تعيش ظروفا مقلقة مع النظام المصري، الذي سمح لها بالتمدد الدعوي ما لم
تقارب الشأن السياسي.
الشباب السلفي في مصر كان يستشعر وجود أزمة خانقة، ولم تكن توجد أي بوادر
انفراج لهم، فمن جهة يتعرضون للقمع، ورموزهم يحجمون عن الرد على هذا القمع
ولو في شكل احتجاج سلمي.
وقفت هذه الرموز والمشيخة ضد محاولة المشاركة والعمل على التحول السياسي،
وهو موقف استمر ينأى بنفسه عن التظاهر والشأن السياسي، إلى يوم سقوط
مبارك، فالداعية ياسر برهامي، وهو من أقوى الرموز السلفية في مصر، ذكر في
بيان، في العاشر من فبراير (بيان تنحي مبارك كان في اليوم الذي يليه)، عقّب
فيه على تصريحات بعض شيوخ السلفيين، وقال إن كلامهم "لا يعني أن موقف
الدعوة السلفية قد تغير إلى المشاركة في التظاهرات..".
هذا التباعد الذي سلكته السلفية عن الشأن السياسي والموقف السلبي من الرد
على ما يصدر تجاههم من تعد سلطوي، كان مهددا خطيرا للشباب السلفي. فانحسار
فرص القدرة على الفعل، كانت، كما وصفها أحد الكتاب، ستلعب دوراً "تحويليا"
ينقل هؤلاء الشباب الغاضبين إلى خانة السلفية الجهادية.
لكن مجيء الربيع العربي ساعد هؤلاء الشباب على جعل هذه العملية التحويلية
تصبح "سياسية"، فتمثل لهم فرصة مناسبة للفعل والمشاركة وإثبات الوجود.
وهذا ما يفسر انطلاقة هؤلاء الشباب في الربيع العربي. فالشباب السلفي هم
من ضغطوا بمطالباتهم ودفعوا بحزب النور إلى الوجود، وهو حزب متفرع عن
"الدعوة السلفية" التي تعتبر أقوى التجمعات السلفية في مصر.
التحركات السياسية الحيوية لهؤلاء الشباب لم تكن بلا ثمن، فمخالفتهم للخط
التقليدي للدعوة السلفية، أنتج حالة تباعد مستمر بين خط المشايخ والدعاة
وخط حزب النور. ولم تكن المسالك التي سار فيها الحزب مدعومة بـ"مراجعات
معتبرة" من قبل رموز الدعوة السلفية.
لكن الخط المستقل الذي تبناه الحزب، قد يدفع إلى إيجاد حالة تجديد ومرونة
داخل البنية السلفية ككل، طالما استمر الحزب محسوباً على الحركة السلفية،
ومستمرا في النشاط المدني والتوافقي. وهذا عكس ما يحدث في السعودية.
ففي السعودية، وتبعا لشدة انغلاق البنية السلفية، نجد أن الباحثين الشباب
من ذوي المرجعية السلفية، الذين قدموا مراجعات ونمط تجديدي تتوافق مع
المسار المدني والديمقراطي الحديث، قد تم إخراجهم من (القبيلة السلفية)
باعتبارها لا تحتوي هذا النوع من الممارسات. ويتوافق الباحثون الشباب مع
السلفية في أن المسمى السلفي لا ينطبق عليهم (يُطلق عليهم في العادة مسمّى:
تنويريون).
ولأن السلفية في السعودية رافضة للتجدد والتغيير، نجد أنها في العمق كارهة
للربيع العربي. فالقوى الإسلامية في دول الربيع قدمت مراجعات (تسمّى
تنازلات عند بعض السلفيين)، تعتبر لدى السلفية أشد وطأة من أي نظام وحال
قائم الآن!.
إن الربيع العربي يفرض حمولة مراجعات ومواكبة ثقافية للموجة المدنية
والديمقراطية، ولا تتصور السلفية هنا أن تقبل مثلا بالتوافقية التي قدمها
حزب النهضة بتونس مع غيره من القوى أو الديمقراطية والحرية التعددية التي
أقرها حزب النور في مصر!.
ومن يعرف الفكر السلفي جيداً، يدرك أن المراجعات الفكرية لرمز إسلامي
كراشد الغنوشي الذي قبل نصاً دستورياً يقرر أن الدين الرسمي لتونس هو
الإسلام، مع عدم الإصرار على أن "الشريعة الإسلامية" مصدراً رئيسياً
للتشريع، وبعض مراجعاته الأخرى كقبول حكم غير المسلم أو المرأة.. هي الأبعد
عن حسابات البيدر السلفي في أي مسار تنظيري محتمل.
من هنا، فالسلفية السعودية لم تستفد من الربيع فكريا، لأن الشباب الذي
استلهم وتأثر وأحدثت موجة الربيع العربي نقلة في فكره، لن يكون محسوباً على
هذه السلفية.. وستظل طبقة المشايخ تعيد انتاج ذات المفاهيم والرؤية، حيث
أنهم كطبقة لا زالوا مستفيداً أكبر من الحكومات والناس، وأي تغير في النهج
القائم سيجلب تبعات لا يرغبون في رؤيتها. إضافة أن التغيرات المدنية
والفكرية المطلوبة في زمن ظاهرة الربيع العربي، ليس لها تأسس ولا امتداد
ثقافي لديهم، ولا تستحق من طبقة المشايخ الراهنين في السلفية أي جهد
لأجلها!.
ستكسب سلفية مصر إن أنجبت رموزاً وقيادات جديدة نابعة من رحم ممارستها
وتجربتها السياسية والتوافقية، وهو أمر عسر تبعا للتطورات والمشاكل الأخيرة
في حزب النور، حيث تحاول الطبقة التقليدية من المشايخ مصادرة هذا الانجاز
السياسي من الشباب.
أما السلفية في السعودية، فغير قادرة على المواكبة، وستتجاوزها حالة
التغير التي تعيشها المنطقة. إنها سلفية تخسر بمرور الوقت، لأنها في الأصل
في معركة مع الزمن ومع كل "محطة" جديدة.
ففي "حرب الخليج" حدثت هزة كبيرة حين انفصلت طبقة العلماء الرسميين في
البلد عن الطبقة الجديدة من الشيوخ والدعاة كسفر الحوالي وسلمان العودة.
وبعد "تفجيرات سبتمبر" برزت موجة ثقافية شبابية متحررة من المنهجية
التقليدية التي رسمتها السلفية، وكان لهؤلاء الشباب (الليبرالي في الأغلب)
حضور مراجعات واضح لهذا الفكر في الإعلام والصحف، كمنصور النقيدان ومشاري
الذايدي وصفا واسعا من كتاب عرفوا عبر الصحف السعودية.
وبعد "الربيع العربي"، ظهرت بوضوح طبقة تنويريين يعملون بوضوح على
المواءمة بين الفكر الإسلامي والمفاهيم المدنية والديمقراطية. وهذه الفئة
الأخيرة من الشباب أنتجت أعمالا تتحدى بنية الفكر السلفي السائد، ولا تسلّم
بنمطه السائد والمحافظ، فكتب عبدالله المالكي كتابه "سيادة الأمة قبل
تطبيق الشريعة" لإعادة الاعتبار إلى الناس كمصدر سلطة وسيادة.
كما ألف محمد العبدالكريم كتابه "صحوة التوحيد" لإعادة النظر في مفهوم
التوحيد وربطه بقيمة "العدل"، وتحريره من الارتباط فقط بجزئيات تعيق عن
تحقيق قيمته الأسمى. ولكن يبقى أن هذه الأعمال وغيرها ليست محسوبة على
الكيان السلفي في السعودية، وهذا ما يضعف إمكانية التجديد في هذا الكيان.
.......
عبدالعزيز الحيص
العصرعبدالعزيز الحيص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..