مع بداية العام الهجري الجديد 1434، تباشر شركة بن لادن-السعودية، ومنذ الخميس 15 نوفمبر 2012، العمل في مشروع توسعة مطاف الحرم المكي الشريف والذي وضع دراستها معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة. ويتحدث عن تفاصيلها الدكتور محمد بن عبدالله إدريس وكيل المعهد قائلاً بأن "الدارسة التي ينفذ على أساسها المشروع، ترتكز على الاستفادة القصوى من المساحة المتاحة للمطاف والإمكانيات المتاحة لزيادتها مع الحفاظ على الهوية المعمارية للمسجد الحرام ولصحن المطاف بصفة خاصة والأصالة والمعاصرة، من خلال الاستفادة من التقنيات الحديثة في التطوير. كما سيكون المشروع مرتكزا على فصل صحن المطاف عن أماكن الصلاة وربطه بالأدوار المختلفة وتسهيل حركة الدخول والخروج من وإلى صحن المطاف، مع تفتيت الكتل البشرية في الساحات وعند المداخل وفي الممرات، واستحداث الربط المباشر لصحن المطاف بممر المسعى وتوفير المرافق والخدمات اللازمة في الأماكن المناسبة". كما يقول بأن المشروع "سوف يستحدث العربات المتحركة المعلقة في المطاف والمسعى في سقف الدورين الثاني والثالث يمكن الوصول إليها عن طريق محطات خارج الحرم ومن السطح وتستخدم لكبار السن وأصحاب الاحتياجات الخاصة، كما سيتم تزويد الدور الأخير من المطاف بصحن متحرك يدور حول الكعبة بسرعة مناسبة تختصر وقت الطواف، ما يضاعف الطاقة الاستيعابية ".
وتعني التوسعة في معناها المباشر، هدم وإزالة المطاف القائم بالكامل ثم إعادة بنائه بالكامل على الشكل المشروح أعلاه على شكل عدد من الأدوار المفتوحة على بعضها البعض مع السماح بمشاهدة الكعبة من كل الجهات ، فضلاً عن العربات المعلقة والمطاف المتحرك، مما سوف يرفع طاقة المطاف من 28 ألف مصل/مصلية في الساعة إلى 220 ألف مصل ومصلية في الساعة.
والهدم والإزالة وإن كانت حاصلة منذ أول توسعة شهدها الحرم المكي في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 17هـ (638م)، عندما اشترى الدور المحيطة بالكعبة ثم هدمها وأدخلها في المسجد الحرام ثم أخذ الخلفاء بين كل عصر وآخر يزيدون في بناء ومساحة المسجد الحرام بإضافة أروقة وإضافة مآذن وإضافة أعمدة وإضافة أبواب وإضافة زخارف وزينة وقناديل ومحاريب وعقود وكرانيش وتجديد أسقف وأرضيات وإضافة المزيد من الزخرفة والكتابات المنمقة التي تؤرخ لكل زيادة إضافة وإهداءات، وكل توسعة مرت عليها بعد عمر بن الخطاب مروراً بسيدنا عثمان بن عفان فعبدالله بن الزبير، فالوليد بن عبدالملك في العصر الأموي، فأبو جعفر المنصور فالمهدي فهارون الرشيد فالمعتضد فالمقتدر في العصر العباسي، فالناصر فرج بن برقوق والسلطان الأشرف برسباي فقايتباي ثم السلطان الغوري في العصر المملكوكي. وفي العصر العثماني، سليم الأول ثم سليمان القانوني فسليم الثاني فعبدالحميد الأول وانتهاء بالسلطان عبدالمجيد. ثم أتت التوسعة السعودية التي شهدت توسعات في عهد كل ملك من ملوك المملكة العربية السعودية الخمسة السابقين تفوق سابقتها حتى وصلنا اليوم إلى التوسعة السادسة والأكبر في تاريخها بهدم كل الأحياء المحيطة بالحرم من الناحية الشمالية فأزيلت أحياء الشامية وحارة الباب وغيرها وسبقتها الناحية الجنوبية بإزالة أجزاء كبيرة من منطقة أجياد بما فيها قلعة أجياد وجبل بلبل الذي كانت تقع عليه ليقوم مقامه وقف الملك عبدالعزيز بفنادقه ومتاجره وبرج الساعة. مما يجعل من الحرم المكي كتاباً مفتوحا ًيحكي تاريخ الإسلام وعمارته وفنونه وإبداعه.
وقد رفعت هذه التوسعات طاقة استيعاب الحرم إلى بضعة ألوف من المصلين واقتربت اليوم من المليونين، والمخطط الشامل والخطة الاستراتيجية لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة تعمل على أن يستوعب المسجد الحرام بعد ثلاثين عاماً تقريباً في عام 1462 ، 14 مليوناً.
وقد قام على هذه الخطط العملاقة على كافة الأصعدة المتعلقة بالمسجد الحرام ومكة المكرمة بشكل عام وبنيتها التحتية، عدد كبير من الدور الهندسية العالمية والعربية وعدد كبير من المهندسين والمستشارين من جامعات المملكة، الذين يطرحون الحلول المختلفة في كيفية التوسعة وإلى أي حد يمكن لمكة أن تتجه وكيف يمكن تحديثها لتصبح مدينة "عصرية" عالمية.
كل هذا شيء جميل جداً وتُثاب عليه النوايا الحسنة التي تسعى إلى التخفيف عن المسلمين في أدائهم شعائرهم، ولكن. ونأتي إلى الـ "لكن" التي توجع القلب لاسيما إن كان قلب مؤرخة من قلب "أجياد" مكة المكرمة ويقوم كل فهمها للحضارة على تراكمها التاريخي الذي يشهد على إنجازها الحضاري المستمر والمتعاقب والمشارك في الحضارة الإنسانية، والتي لا تستطيع فهم أن تكون الحلول جذرية عندما يتعلق الأمر بشواهد تاريخية بنيت وأقيمت في عصرها بطريقتها وفنونها وسواعد أبنائها وأبناء العالم الإسلامي في تلك الفترة التي لا يمكننا أن نعيد تصورها أو محاكاتها مهما حاولنا، وهو ما يقدم لهويتنا البناء الداخلي الذي يشعرنا بالفخر بالانتماء إليه. إن المسجد الحرام في تراكم بنائه التاريخي يشكل جزءاً من الهوية المكية التي تعكس تاريخاً يمتد منذ آلاف السنين منذ أن استقرت بها السيدة هاجر وعمرتها مع ابنها ومنذ رفع سيدنا إبراهيم القواعد مع إسماعيل وحتى يومنا هذا، تراكماً يقدم عمقاً لن تُعوضه كل شركات العالم الهندسية التي تجد أن عبقريتها الهندسية في الهدم وإعادة البناء، فهذه ليست الحلول التي يتعلمونها في كليات العمارة والهندسة. التحدي هو كيف يمكنك أن تبني ما تشاء وتحافظ في الوقت نفسه على المكونات التاريخية والحضارية والفنية والإنسانية للموقع الذي تحاول إيجاد مخرج هندسي له، ناهيك عن المكونات الدينية لهذا الموقع.
و"لكن" التي أحشرها هنا تجعلني أطرح بعض الأسئلة الجوهرية، مثل لماذا نريد توسعة الحرم؟ وكيف لمكة المكرمة بمساحة واديها المحدودة أن تستوعب مليار وربع مسلم ومسلمة؟ وهل هذا هو الهدف النهائي؟ وإذا قبلنا بمخطط التوسعة الشامل بأن تستوعب مكة بعد ثلاثين عاماً أربعة عشر مليون زائر، فماذا نفعل ببقية المسلمين؟
الناتج هو أننا دوماً وأبداً سنشعر بالتقصير وعدم الرضا، فإلى أين سيصل بنا الحال؟ ستنتهي بنا الحلول والأفكار إلى أن لا حل سوى القبول والتصديق بأن مكة ذات مساحة محدودة وأنها لا تستطيع أن تستوعب أكثر مما تستوعب إلا لو بنينا مكة أخرى.
إن اتخاذ قرار البدء بالهدد لن يكون في صالحنا على المدى البعيد وسوف يؤكد الصورة الذهنية عنا بأنا شعب لا يُقدر تاريخاً ولا حضارة ولا فناً وأن ابن خلدون لم يجانب الحقيقة عندما تحدث عن مبغضي الحضارة : "الذين يفرون من الاستقرار والعمران، ويهدمون المباني لتحويل أحجارها إلى أثافٍ للقدور، ويهدمون السقف ليتخذوا من أخشابها أوتاداً للخيام".
أدعو خادم الحرمين الشريفين من هذا المنبر أن يعيد النظر في كل ما يتصل بالتطوير عن طريق الهدم والإزالة للتاريخ والحضارة في بلاد الحرمين الشريفين ويعيد استشارة المعماريين/ات المبدعين/ات في إيجاد الحلول الحقيقية التي تحافظ على الحضارة والبيئة وفي نفس الوقت تحقق الهدف المشروع الذي نصبو إليه وهو أن نجعل من تجربة زيارة بيت الله الحرام تجربة تتناسب مع قدسية وروحانية المكان.بقلم : د. هتون أجواد الفاسي
مقال منع من النشر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..