الجمعة، 16 نوفمبر 2012

الوحدة واليتم


لم يكد يمُرُّ على قرع جرسِ الحصَّة الأولى أكثرُ من رُبع ساعةٍ حتى راحَت جُدران المَمَرِّ الضَّيِّقِ تُردِّدُ صَدى صوتِ أَحَد معلمي الصَّف الثاني الابتدائي، وهو يمسك بيدِ خالدٍ بِقوة، ويصرُخُ عليه بِحَنَق، وهو يثور ويَمُور، وبَدَأ يسحَبُ الطالب بشدَّة لِيرغمَهُ على الدُّخولِ إلى مكتبي، وخالدٌ يتمنَّع ويثبِّتُ رجليه في الأرض بكلِّ ما أوتي من قُوَّة، لقد نَجَحَ المعلم القوي بإرغام الطالب على الدخول إلى مكتبي وصَرَخَ المعلمُ بِغيظٍ: هذا طالب!! هذا مصيبة... أنا لم أعد أحتمل بقاءَه في الصف... إنّـَهُ يُخرِّب علينا الدرس.



حسناً يا أستاذ.. لا عليك.. هدِّئ من غَضبِك، أَدركِ الطلابَ، ها هُم تَبِعوك جميعهم. ولم أناقشْهُ في حينها كعادتي في امتصاصِ غَضَبِ الزُّمَلاء في مثل هذه المواقف.



وما إن مسحت ُ على رأسِ خالدٍ أسائلهُ عما أحدثَه من إزعاجٍ لمعلمه وزملائه في الحصَّة منذ الصَّباح الباكر حتى أمالَ برأسه الثَّائِر المُنهك وأودَعَـه بين يديَّ، عندئذٍ جلستُ على الكرسي، واضِعاً رأسَه المثقل بإشارات الاستفهام التي لا يجدُ لها حلاً وبِأُوارِ الجراح التي ألمَّت بفؤاده الغضِّ بين يَديَّ.



أحسستُ بِهِ حَمَلاً وديعاً، أو عُصفوراً اهتدى إلى العُشِّ بعد ضياعٍ طويل، نعم، لقد أحسَستُ في ذلك الوقت أَن خالداً أَلطفُ طِفلٍ عرَفته في حياتي، َوعندما انتهى من احتساءِ جُرعة الحنان التي اعتادَ أن يرشِفَها من راحتيَّ، جلسَ وقد عَلَت ملامحَهُ علاماتُ الخجَل والنَّدَم، ثم قال بضيقٍ مَشوب بالحزن: أنا آسفٌ يا أستاذ، لكنَّ جميعَ المعلمين لا يحبُّونني، كلُّهم يكرهونَني ما عداك... وحالَ البكاءُ بينه وبين الكلام، أكملَ حديثَهُ المتقطِّع قائلاً: "لم يشترِ لي عمي ألواناً كالتي عندَ ماهر مع أَنَّه وعَدني أن يشتريها لي، وأنَّه عندما يعودُ في ساعةٍ متأخِّرة من الليل سيُعطيها لأمي كي تضعَها في حقيبتي.



• لقد فتَّشتُ الحقيبةَ أكثر من عشر مرات- وَكُلُّي أَملٌ في أَن أَجِدَ ضالَّتي لأُري زُملائي الألوان - لكِنِّي لم أعثر على شيءٍ!!.



• لقد كَسَرَت قلبي هذه الكلماتُ البريئة الصَّادِقة، وأحسستُ أَنَّ هَدمَ قَلعَةٍ أَخَفُّ وطئاً من كَسر فؤاده. قَدَّمتُ له قطعةَ حلوى، وزيَّنتُ جبهتَه بالنجوم المتلألئة. وخرجَ خالدٌ مبتسماً. يحملُ بين يديه ورقةً كُتِبَ عليها "الأستاذ الفاضل تحية وبعد: لا مانع من دخول الطالب إلى الفصل، تمَّ اتخاذُ اللازم، للحديث بقيَّة في الفسحة الأولى".



جاءَ المعلمُ في الفُسحة الأولى، وقد باشرني بعبارات النَّدم على عدم استيعابه لخالدٍ قائلاً: والله إني لأستوعبهُ دائما لأنّه يتيم، لكنه اليومَ لم يكن طبيعيّاً، يفتحُ الحقيبة، وينثرُ ما فيها على الأرض، فأنبَّههُ، وقبل أن تستقرَّ حقيبتُه في الدُّرج لِمُدَّة ثانية يعاوِدُ فتحها، ويفتِّشها وَيُبعثِر ما فيها، والمُشكلة أنَّ جميع زُملائِه قد انشغلوا بِه، وانصَرَفوا عن الدرس بِسَببه.



أخبرتُ المعلمَ عن السبب فهدأت حالُه، وتَأَثَّرَ أَشدَّ التَّأَثُّر بمـا سمِعه منّي، والتمسَ لخالدٍ عذراً. وذكَّرتُ المعلم بفضل رعاية الأيتام والإحسانِ إليهم فضلاً عن الرِّسالة العظيمة التي نَحملها -نحن المعلمين- في تَربية النَّشءِ على الصَّبر والتحمُّل والتماس الأعذار للآخرين.



خالدٌ - ذلك الطفل المجروح واليتيم الصَّغير- مات أبوهَ قبل أن يذوقَ طعمَ قبلته ودفء أبوَّته. وأمُّه تزوجت بِرجُل يمنعُها من مشاهدته إلا في العيدين. هو يعيشُ عند جدتـه وحيداً.



لكنَّ خالداً لم يُقِرَّ بوفاة أبيهِ أَبداً فهو حَيٌّ في ذاكرته، وكثيراً ما يُحَدِّثُ زملاءَه عنه ويقول لهم:" أبي اشترى لي كذا، وأخذني إلى الحديقة في إجازة نهاية الأسبوع، وسافرتُ معه في الصيف إلى دولة كذا، أما أمُّهُ فمَيْتَةٌ في ذاكرته على الرغم من أنها لاتزال على قَيدِ الحياة. لقد وجدَ خالدٌ البديلَ في قَلبِ جدتـه الرَّؤوم.



وهكذا استمرت يوميَّات خالدٍ معي زُهاءَ ثلاث سنوات أناصره وأنافح عنه، وأَمسحُ على رأسه وكنتُ أَتَأَلَّم كثيراً لظروفه التي هي أَكبر بكثير من أن يتحمَّل مرارتَها طفلٌ مثلُ خالد. وفي العـام المنصرم كُنتُ قد اتصلتُ بالمدرسة التي نُقِلَ إليها، وحدثتُ المرشد الطلابي عن حالته، ففاجأني بأنَّ جدَّة خالدٍ توفِّيَت، وأنَّه يعيش الآن عند إحدى عمَّاته التي لا تنجب.

 بدر الحسين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..