حول سجال د. التويجري وجمال سلطان
لو لم يوجد خلاف بين المتراسلين السيدين
أحمد التويجري وجمال سلطان حول نسبة حوارهما إلى
العموم والعلنية عند الأول ونسبته إلى الخصوص والسرية عند الثاني لأحجمت عن الكتابة في رأييهما حول الأزمة المصرية. فما يدل عليه هذا الخلاف بعد اعتراض الأستاذ سلطان على النشر هو الذي أخرجني من التردد حول الإدلاء بدلوي: لولا ذلك لاعتبرت ما كتبته عن الأزمة المصرية والتونسية مغنيا عن أي زيادة. فالحوار بسبب هذا الخلاف والاعتراض صار ذا مستويين:
العموم والعلنية عند الأول ونسبته إلى الخصوص والسرية عند الثاني لأحجمت عن الكتابة في رأييهما حول الأزمة المصرية. فما يدل عليه هذا الخلاف بعد اعتراض الأستاذ سلطان على النشر هو الذي أخرجني من التردد حول الإدلاء بدلوي: لولا ذلك لاعتبرت ما كتبته عن الأزمة المصرية والتونسية مغنيا عن أي زيادة. فالحوار بسبب هذا الخلاف والاعتراض صار ذا مستويين:
مستوى الموضوع: القضية المطروحة أعني الأزمة المصرية.
مستوى مابعد الموضوع: طبيعة موقف المتحاورين من حوارهما.
وخاصية الحوار هذه-مستوى الموضوع ومستوى ما بعد الموضوع-هي التي تستحق
العلاج التأويلي (الهرمينوطيقي) لانتسابها إلى الأزمة الروحية والخلقية التي تعاني
منها النخب السياسية والإعلامية العربية كما تجلت بوضوح تام في معارك الربيع
العربي بعد أن كانت مغطاة بالاستبداد والفساد. وقد عالجت هذه الظاهرة ووصلتها
بالأزمة الروحية لحضارة ظلت تعاني قرونا من الانحطاط ومن الاستعمار حتى حصل الخلط
بين التنافس السياسي المحافظ على مصلحة الأمة والاقتتال المضحي بكل المصالح من أجل
الإخلاد إلى الأرض.
لذلك فإن المستوى الموضوع رغم أهميته ليس هو جوهر الإشكال في هذا الحوار بل
جوهره هو المستوى ما بعد الموضوع الذي يصله بأزمة النخب السياسة والإعلامية
العربية أعني الموقف الجلي أو الخفي من الموقف من الأوضاع: الوصول إلى تأييد حكم الاستبداد والفساد والتخلي عن
الحقوق والحربات بدعوى التحديث والعلمنة الفاصلين بين الديني والسياسي في معنى
يعقوبي منحط لا تجده إلا في إيديولوجيا المعادين لشعوبهم. وسأعالج المسألة من المستويين التاليين:
المستوى الأول-وهو مركز الاهتمام كما أسلفت- ما بعد معرفي ويتعلق بالنظر في
وصف صاحبي الموقفين لطبيعة الحوار الذي دار بينهما من حيث العمومية والعلنية من
جانب ومن حيث الخصوصية والسرية من الجانب الثاني. ولهذا المستوى صلة بالوضعين
التونسي والمصري حول حال النخب السياسية والثقافية في صلتها بالتنافس السياسي البالغ
إلى حد التضحية بأساسيات الوجود الجمعي.
المستوى الثاني -وهو ليس مركز الاهتمام كما أسلفت-معرفي ويتعلق بالنظر في
الموضوع الذي دار حوله الحوار أعني ما حدث في مصر بعد ما أقدم عليه السيسي والأحزاب
التي أغرته بالانقلاب على الشرعية بعد أن خسرت الانتخابات سعيا إلى الحكم باستعمال القوة. وله صلة كذلك
بالوضعين حول التقويم غير السوي للأحزاب السياسية وزعمائها لمحددات الأوضاع إلى حد
تجاهل المخاطر الخارجية بسبب الغرق في التزاحم الداخلي.
ولما كان لا فرق عندي بين الوصول إلى الحكم على ظهر الدبابة الأمريكية
مباشرة كما حصل في العراق والوصول إليه بصورة غير مباشرة على ظهر دبابة هي في
الغاية أمريكية لأنها تأتمر بأوامرها إما في الحين أو خلال التكوين فإن موقفي واحد
من الحالتين. فلا يمكن أن يقنعني أحد بأن العسكر يمكن أن يأتوا بما يفضل أي نظام
مهما كان رديئا. لذلك فموقفي من البداية واضح: لا يمكن أن أفهم موقف من يدافع عن السيسي في مصر ومن
يماثله في تونس حتى ضد الإخوان أو من يماثلهم في تونس رغم أني لا أنتسب إلى أي
حزب.
المستوى الأول: ما بعد المعرفي
المنطلق ما بعد المعرفي حول الوقف من الحوار
أبدأ بالقول إني لا أدعي الدراية بشعاب مصر موضوع الحوار رغم أن شعابها
صارت من جنس شعاب تونس إذ بات المؤتلف في الوطن العربي وفي دار الإسلام متقدما على
المختلف للتماثل في الوضعيات ولأن أعداء حرية الشعوب وحقوقها متحدون ويعملون معا
تحت إمرة موجهيهم من سادة الاستعمار غير المباشر. لذلك فسيقتصر قولي أو يكاد في
المستوى الثاني لاحقا على ما لا يتجاوز التساؤل والمقابلات الناتجة عن مقارنة ما
قد ينتج عن الأجوبة المحتملة للأستاذ جمال سلطان. لكني سأدلي بدلوي في هذا المستوى
الأول ما بعد المعرفي بصورة قد لا يعجب الأستاذ جمال توجهها التأويلي لأن الكلام
فيه سيدور حول ما يدل عليه حجاجه ولومه على نشر الحوار. وسأقتصر على مسألتين
تتعلقان بوصف طرفي الحوار للحوار:
المسألة الأولى: هي ما يخفيه الوصف من فهم لتشخيص المشكل.
المسألة الثانية: هي علاقة ذلك بصورة الأزمة عند انعكاسها على منطور الضمير
الديني (الأستاذ التويجري) وعلى منظور البراجماتية السياسية (الأستاذ سلطان).
إن أولى خاصية تبين الفرق بين المتراسلين من الحوار بينهما ومن ثم من طبيعة
العلاج المعرفي الدائر فيه هو موقفهما من العلنية والسرية:
فالأستاذ التويجري يعتبره حوارا
ينتسب إلى الفضاء العام. ومن ثم فهو بالطبع خطاب علني معيار تقويمه هو معيار ما هو
عمومي أعني المعرفة الموضوعية. وحكمها هو دائما حكم الجماعة العلمية: لذلك نشره في
موقعه.
والأستاذ جمال يعتبره حوارا منتسبا إلى الفضاء الخاص. ومن ثم فهو بالطبع خطاب
سري لكنه عندئذ بمقتضى تعريف الخصوصي خارج مجال المعرفة وينتسب إلى الذوق أو إلى
ما يراد إخفاؤه: لذلك لام أو عاتب على نشره.
فيكون السؤال حول موقفهما من حوارهما أهم من السؤال حول علاجهما لمضمونه.
ولعل البدء بتحديد داعي اختيار الوصفين من كلا الصفين:
فما الذي أراد الأستاذ سلطان إخفاءه بوصف الحوار بالخصوصية والسرية؟
وما الذي أراد الأستاذ التويجري كشفه بوصف الحوار بالعمومية والعلنية؟
أليس ما يريد الأول اخفاءه هو عين ما يريد الثاني كشفه؟ ألا نجد في ذلك
مطلبين متقابلين. فالأستاذ التويجري الذي نشر الحوار في موقعه (قبل النشر في
المجموعة) كأنه يدعو محاوره للدفاع عن موقفه أمام الرأي العام بعد أن يئس من
إقناعه بأمر توجه بخصوصه إلى ضميره الديني والخلقي وخاصة عندما طلب منه أن يكون
رحيما بمساجين؟
ولكن ألم يحتج الأستاذ جمال ضمنيا بحجة أهل مكة أساسا للعلاج المعرفي ذي
الصفات الموضوعية عندما ذهب إلى حد الدراية بمكنون الضمائر الدينية لتبرير موقفه؟
لكن الانتساب إلى مكة في هذه الحالة ألا يعد عائقا دون الموضوعية بدلا من أن يكون
مساعدا عليها؟ فحتى لو كان السيسي أصدق تدينا من الشاطر فلا يمكن أن يحتج بذلك من
يريد أن يقنع بأن موقفه أساسه رفض الفاشية الدينية. فهل يعني ذلك أن الأستاذ سلطان
يعتقد بأن السيسي أولى بالدفاع عن الإسلام من الإخوان ؟ أم هل يعني أن الإسلام ليس
مستهدفا حتى بعد مساعي إعادة كتابة الدستور بدوافع تتعلق بالذات بهذه الإشكالية ؟
وصاحب الوصف بالسرية لكأنه يخشى أن تنكشف دوافع موقفه التي بينها صراحة
لمحاوره ظنا أنها ستبقى سرية. ومن ثم فهو بهذا الوصف يعترف ضمنا بأنه ما كان ليقفه
لو تكلم علنا خوفا من مطالبته بمعايير الموضوعية عند تشخيص المشكل. فيكون الأساس
هو طغيان أحكام ناتجة عن علاقات ذاتية بصفي النزاع أحكام تعبر عن أحوال النفس وليس
عن موقف رجل دولة يقيم وضعية بلده الذي قد ينزلق إلى حرب أهلية. ويمكن فهم ذلك من
خلال القضيتين التاليتين:
فالحكم على إيمان من لعله من الخصوم وإيمان من لعله الأصدقاء المحتملين في
العهد الجديد رغم أن أي سياسي لا يجهل أن السياسة ليس فيها صداقة لا يمكن أن يكون
موضوعيا. ذلك أن مثل هذا الحكم مهما ادعى القاضي به معرفة بالمقضي في شأنه لا يمكن
أن يصمد أمام رد محاوره بأثر شق الصدر.
والحكم على فلسفة حكم مرسي الفاشية بالمقابل مع حكم السيسي الديموقراطي لا
يستند إلى شيء للعلم بأن الأول لم يكن لديه شيء من شروط الحكم ليحقق ما يتهم به
والثاني لا ينقصه شيء من أدوات تحقيق ما بدأ يحققه أعني ما يتهم به الأول: الفاشية
التي عاشت عليها مصر منذ بداية عهد من يريد السيسي أن يكون نسخة منه.
ما يستنتجه أي قارئ للحوار غير منحاز لأي من طرفيه يقبل الرد إلى قضيتين
بسيطتين تتعلقان برؤية الأزمة في الضمير الديني عند الأستاذ التويجري لا يستثني
دور مسألة الشرعية الديموقراطية وبرؤيتها في العقل البراجماتي السياسي يستثني دور
الدين الإيجابي عند الأستاذ سلطان:
فالأستاذ التويجري شخص المشكل
المصري فاعتبره ذا مستويين سياسي يخص الضحية وهي هنا شروط الشرعية الديموقراطية رغم
أنه لم يركز عليها ودافع التضحية بها وهو هنا الصراع العلماني الإسلامي الذي يراه
مستهدفا الإسلام وعليه كان تركيزه. لذلك فهو قد لجأ إلى ضمير مخاطبه الديني ولم
يكتف بالحجاج السياسي الخالص.
والأستاذ سلطان ينكر الدافع إلى الإنقلاب فلا يراه تأثير دور الصراع
العلماني الإسلامي بل هو يجده في ضد ذلك إذ يصور زعيم العسكر أكثر تدينا وضمنا
أكثر دفاعا عن الدين من الإخوان. فيكون السيسي قد قام بالانقلاب لمنع الفاشية
الدينية ولتركيز الديموقراطية دون وصف حتى يمكنه الفصل بين دين السيسي ونظرته
السياسية. وحتى يوفر لنفسه ردا على توجه مخاطبه إلى ضميره الديني قدم رأيا في
إيمان السيسي وإيمان زعيم الإخوان الذي ينسب إليه عادة السلطان الفعلي في الجماعة.
وإذن فهناك سوء تفاهم بين المتحاورين. منطلق الرجلين مختلف بإطلاق فضلا عن
كون احدهما ليس طرفا في النزاع الجاري في مصر ومن ثم فمن المفروض أن يكون أكثر
موضوعية أو على الأقل أن تكون له المسافة الممكنة من الرؤية الأدق والثاني طرف فيه
ما قد يحول دونه والحكم الموضوعي لتضييقه رؤيته. لذلك فكلام الأول أساسه الموقف
الديني والسياسي بالمعنى العام وكلام الثاني أساسه الموقف الحزبي والسياسي بالمعنى
النفعي. ومن ثم فلا يمكن للحوار أن يتجاوز
المجاملات والترضيات بين الأصدقاء. وبهذا المعنى فلا فائدة من الإيغال في التحليل حفاظا
على الود الأصيل.
المستوى الثاني
. المنطلق المعرفي
حول موضوع الحوار
قلت إن هذا المستوى الثاني ليس مطلوبي على أهميته لأني قد درسته في غير
موضع. لكن لابد من جملة من الملاحظات. ويكفي أن نبين أنه يدور حول مسألتين كلتاهما
مضاعفة وهما:
تشخيص المتحاورين للوضع المصري بعد
الانقلاب
وعلاج المتحاورين لهذا الوضع بعد الانقلاب.
فأما التشخيص فنجد فيه خلافا بين المتحاورين حول طبيعة الداء الذي أدى إلى
الانقلاب. فالأستاذ التويجري يعتبره متمثلا في العملية الانقلابية ذاتها أعني
عسكرة الحكم وفي الإيديولوجية الدافعة إليها من ورائها أعني التطرف العلماني والليبرالي
وهما معا تمثلان الداء ذاته. ويستنتج ذلك من اعتباره المستهدف بالعملية الإسلام والشرعية
السياسية وليس الإخوان. لكن الأستاذ سلطان يعتبر الداء متمثلا في حكم الإخوان وأن
الانقلاب لا يمثل أي خطر على والشرعية وأن من وراءه لا يمثل خطرا على الشرعية
والديموقراطية. ويستنتج ذلك من اعتباره الهدف من الانقلاب وتأييده له منع الفاشية
الدينية وتركيز الديموقراطية الليبرالية.
أولا التشخيص: طبيعة الداء والهدف منه
لست بحاجة إلى التدليل على صحة تشخيص المحاور الأول ولا لإثبات خطأ تشخيص المحاور
الثاني حتى لو قبلنا بحجة أهل مكة. فما يجري في الصراع العلماني الإسلامي واللجوء
للانقلاب العسكري لحسمه لصالح العلمانيين ومن يسندهم من القوى الاستعمارية حتى
يحكموا الشعب بأفكارهم وبتحكموا بقيمهم من طبيعة واحدة في تونس ومصر على حد سواء: فهم دائما يستندون إلى الانقلاب العسكري والسند الأجنبي
لفرض إرادة الأقلية على الأغلبية تيسيرا للتحكم الخارجي لأن تسيير من لا شرعية له
عن بعد أيسر من التلاعب بإرادة شعب يختار حاكمه.
وطبعا فمن اليسر أن يتهم كل من يشخص هذا التشخيص بكونه إخوانيا في مصر
ونهضويا في تونس. لكن الجميع يعلم أني لست هذا ولا ذاك وأني لم أبق في الحكم لما
رأيت ما يماثل الأخطاء التي يلام عليها حكم الإخوان لكين لم استنتج أن ذلك يبرر
الانقلاب على الشرعية خاصة والحرب على الإسلام وهوية مصر وتونس تمثلان رهان أعداء
الأمة. إنما المعرفة بتاريخ الاستعمار وبتاريخ النخب التي تتصور الحداثة تماهيا مع
قيمه هو الذي يوصل إلى هذا الحكم هي منطلقي في أحكامي على ما يجري.
لكني سأفترض أن هذا الحكم خاطئ
وسأحاول فهم التشخيص الذي يقدمه الأستاذ سلطان مع التسليم بحسن النوايا في كل
الأحوال لأني لا يمكن أن أزايد على أحد لا في الفهم ولا في الوطنية ولا في حب
الإسلام. فهل يمكن حقا أن يصدق الأستاذ سلطان أن تجنب ما يفترضه من فاشية إخوانية
ممكنة وغير حاصلة بعد يكفي حجة للقبول بفاشية واقعة ؟
وماذا لو تأكدنا أن الإخوان في مصر والنهضة في تونس لا يمكنهما تحقيق
التمكن الفاشي في دولة عريقة المؤسسات الإدارية الثقيلة مثل مصر وتونس حتى لو
أرادوا لأن الجميع يعلم أن ما ينسب إليهم من قدرات لو صح فعلا لما حصل ما حصل من تكتيك
مخابراتي استرد في سنة واحدة من حكمهم دولة مبارك في ثلاثة أيام بعد الانقلاب ولم
يصل بعد إلى ذلك في تونس لكنه يكاد لولا اختلاف الجيشين؟ ثم كيف يكون رفض الفاشية
الممكنة حجة للقبول بالفاشية الحاصلة التي هي فاشية عسكرية جربناها طيلة ستين سنة
في مصر وفي الكثير من أقطار الوطن؟
لذلك فالأستاذ سلطان لم يجد من حجة يرد بها على خوف الأستاذ التويجري على
الإسلام والهوية في مصر إلا الرجم بالظن تفضيلا لإيمان السيسي على إيمان الشاطر. وما
لا أستطيع له فهما هو هذه الحجة المناقضة لتبرير الانقلاب برفض الفاشية الدينية:
فإذا قبلنا بالانقلاب العسكري خوفا من الدولة الدينية وكان الشاطر غير صادق
في إيمانه.
وإذا قبلنا بالانقلاب العسكري وكان السيسي صادق الإيمان فإنه هو الذي سيجمع
بين الفاشيتين العسكرية والدينية.
أما الشاطر فإنه إذا صحت شهادة
الأستاذ جمال يعد من المتاجرين بالدين ومن ثم فهو منافق لأن جعل الحكم الديني
فاشيا مع قلة الإيمان ليس شيئا آخر غير قمة النفاق: فالفاشية تعد على الحقوق
والحريات وقلة الإيمان تبرير لهذا العدوان وتلكما هما صفتا النفاق بالجوهر. ولما
كان الإخوان فاقدين لقوة العسكر فهم سيكونون براجماتيين فلا يبقون من الدين إلا شكلياته من أجل تحقيق
المصلحة بالتوافق مع العلمانيين. والمعلوم أن ما يتهم به متشددو السلفيين الإخوان
في مصر ولنهضة في تونس هو هذا الوصف الذي بينا أنه النفاق بعينه أي الجمع بين
الفاشية الدينية والبراجماتية السياسية للتعامل مع العلمانية من أجل الحكم.
لذلك فنحن نعتبر هذا الحكم على الشاطر والسيسي الحكم الذي قد لا يعار
اهتماما نعتبره بيت القصيد من موقف الأستاذ سلطان: فالأمر ذاتي ونفعي لا غير. لكن الأستاذ
جمال لا يجهل أن العلمانيين والليبراليين قد اختاروا في التعامل مع الأخوان في مصر
ومع النهضة في تونس خطة فتح ضد حماس: الحصار والتعجيز. فكان ذلك علة ما يبدو وكأنه
أخونه ونهضنة ما دام الجميع رفض مشاركتهم في بناء مصر وتونس الجديدتين: رفض الحكم معهما ومحاصرتهما بل واتهامهما بالإرهاب مع
الحجة الأخيرة التي أضافها السيسي في حواره مع صحيفة أمريكية هي حجة السعي لإحياء
الخلافة لعل ذلك يمكنه من الحصول على التأييد بعد فشل الانقلاب.
ثانيا: تصور
العلاج
1-من حيث الموجود والمطرود في
الحاضر
2-ومن حيث المنشود والموعود في المستقبل
لو صح أن الموجود بعد الانقلاب أفضل من المطرود بسببه في الحاضر لكان كلام
الأستاذ جمال متناسقا ولقبلناه دون إشكال. ولو صح أن المطابقة بين المنشود عند
الشعب المصري الذي تنسب إليه هبة الثلاثين من يونيو والموعود الذي يقدمه السيسي للمستقبل
قابلة للتصديق لكان على ما يقوله الأستاذ سلطان عين الحق كذلك. لكن كيف لنا أن
نسلم بأن الهبة نفسها لم تكن اصطناعا استعلاميا وفلوليا لإفشال الحكم الديموقراطي بالتخريب
وبالتعطيل النسقيين طيلة السنة التي حاول فيها مرسي حكم دولة لا سلطان له على
أدوات الحكم فيها أعني الأمن والجيش والإدارة والقضاء فضلا عن الإعلام الفاسد
والأجير إلخ.... أعني أن الدولة الخفية فضلت إيقاف الحياة في مصر للإطاحة بمرسي
على أن تصل معه إلى حل غير الحل الذي طبقته فتح مع حماس.
لكن فلننظر في الأمرين هل هما كذلك أي هل الموجود أفضل من المطرود في
الحاضر وهل الموعود قابل للمطابقة مع المنشود في المستقبل؟ وهل يمكن حقا أن يكون
الأستاذ سلطان العارف بالساحة المصرية معرفتي بالساحة التونسية أو أكثر لكونه
صحفيا وسياسيا مقتنعا بما يقول قبل أن يحاول إقناع غيره بقابلية الجواب الإيجابي
على هذه الأسئلة؟ أم إن للأمر علاقة يمكن فهمها بما يصلها بحكمه على الرجلين
اللذين قيم إيمانهما ومن ثم بموقفه من الإخوان فلا يكون قولا ذا مضمون معرفي بل هو
مجرد موقف حزبي منحاز لمنفعة؟
فهب أن حكم مرسي كان ساعيا إلى فاشية إخوانية بالفعل رغم أنه ما يزال في
بدايته فاشية بالقوة وليس بعد بالفعل. وهب أن طرد هذه الفاشية الممكنة عوضها السيسي
بموجود أفضل هو الديموقراطية التي يحلم بها الأستاذ سلطان. فكيف يفسر لنا تعطيل
الدستور؟ وحل الشورى؟ وإلجام إعلام المعارضين؟ وجوقة إعلام المؤيدين؟ وقتل
المحتجين؟ وحبس الزعماء؟ وتوزير الفلول؟ وتسريح المجرمين؟ وحصر الوزارة أو يكاد في
الجبهة؟ وفي من ماثلهم من الفاشلين في الانتخابات؟ وتعيين لجنة الدستور بدل
انتخابها؟ أعني تماما أن هذا الانقلاب يحكم بمن لا شرعية لهم إلا بتعيينهم من قبل
صاحب الدبابة؟ وكيف يتصور الديموقراطية ممكنة في المستقبل البعيد فضلا عن القريب:
إذا كان هؤلاء لا يمكن أن ينجحوا
في أي انتخابات إلا إذا كانت مزورة لصالحهم أو إذا عينهم الجيش.
وإذا كان أولئك لا يمكن أن يفشلوا في الانتخابات إن سمح لهم بالمشاركة فيها
أصلا إلا بعكس هذين السلوكين من قبل الجيش.
أعني في النهاية أن الموعود ليس هو
المنشود بل هو قديم الموجود أي عودة نظام مبارك. هل هذه الديموقراطية تعني أن
الأقلية العلمانية والليبرالية ينبغي أن تكون هي الحاكمة رغم أنف الشعب لأنها
قادرة في كل مرة على الإطاحة بمن ينتجبه خوفا من الفاشية الدينية الممكنة ورضا
بالفاشية العسكرية الحاصلة؟
وهبنا الآن قبلنا بأن السيسي سيطبق وعوده التي يزعمون أنها مطابقة لما
ينشده الشعب المصري. فهل الشعب المصري مثلا يطلب ما يريده نمنم واللجنة غير
المنتخبة التي ستكتب دستورا لشعب كان قد وضع دستوره وصوت عليه بثلثي المقترعين لأن
الشعب المصري كما وصفه نمنم علماني بالفطرة أم إن الشعب المصري ينحصر في من
يعتبرون أنفسهم "أبناء ناس" وبعض من يرضون عنهم من المطبلين لهم أعني
فاسد النخب؟
أما غيرهم من أبناء الشعب فلا حسبان لهم بل إن الدعاية الآن بدأت تشكك حتى
في مصريتهم بل إنهم ذهبوا في حملاتهم على الديموقراطية التي أتت بمرسى ذهبوا إلى
حد المطالبة بحصر حق الانتخاب في المتعلمين أمثالهم أعني في المستعمرين ذهنيا؟
أليس الموعود حقا هو ما بدأ يتحقق في الشهر الأول من عهد السيسي أعني العودة ستة
عقود لنسخة أبهت وأبشع من ناصر تطبيقا لنصائح الأستاذ هيكل الذي يبدو أنه قد اختفى؟
خاتمة
حتى لا اعتبر حشريا
من المعلوم أن الكثير من العرب يعتبرون كلام أي عربي من خارج قطرهم في
شؤونه "حشريا" في ما لا يعنيه على الأقل بحجة أهل مكة أدرى بشعابها. وهي
حجة يستعملها عادة من لم يدرك بعد دلالة الربيع العربي. لذلك اخترت هذا العنوان
لبيان طبيعة الدلالة التي تشكك في الزعم بأن أهل مكة أدرى بشعابها: فبعد الربيع العربي لم يعد أهل مكة بالضرورة أدرى
بشعابها خاصة إذا تعلق الأمر بشعابها السياسية من حيث صلتها بأزمة الأمة الخلقية
والروحية كما تتجلى في سلوك نخبها قولا وفعلا.
فقد يكون صحيحا أن أهل مكة كانوا أدرى بشعابها لما كانت مما كان معتادا
منها ومرتادا. لكن الحوار لا يتعلق هنا بمعرفة الشعاب بل بالاختيار الصائب للأفضل
منها سعيا لهدف سلوكها الذي حدده الربيع العربي ببيتي الشابي وبالحرية والكرامة
والعدالة الاجتماعية. وكل ذلك لا يمكن أن يحققه جيش تسيطر قياداته الفاسدة على جل
ثروة البلاد. ثم إن الشعاب أصبحت على حال تحددها حركة الشعوب. فهي التي تخطها من
جديد لتحدد بنفسها مسيرها ومصيرها. لذلك فالمعرفة بالشعاب القديمة وحدها ليست غير
كافية فحسب بل هي عائقة. ذلك أن أول خصائصها الآن هي أنها لم تعد قطرية.
ولعل هذا التحول هو الدلالة الأساسية لثورة الربيع العربي التي يراد وأدها
في مصر وفي تونس أي في الأزمة التي هي موضوع هذا الحوار. فتأثيرها لا يعترف
بالحدود الفاصلة بين الأقطار إن لم يكن بالأحداث فبالأحاديث الدائرة حولها. لذلك فإنه
يحق للأستاذ التويجري أن يتكلم في الشأن المصري على الأقل ناصحا. ويحق لي أن أتكلم
على لأقل محللا دون أن ننفي أن يكون الأستاذ جمال أكثرنا صلة مباشرة بما يتعلق به
الأمر حتى وإن كنا لا نعتقد أنه يعلم السر وأخفي بخصوص إيمان الناس. فعدم الاعتراف
بالحدود بين الأقطار العربية في الانشغال بشؤونها لم يعد مقصورا على مجرد التعاطف
المستمد من الرابطة القومية أو الدينية بل هو يتجاوز ذلك إلى التعين الفعلي للوعي
الحي بالمصير الواحد.
ففشل الثورة في مصر أو في تونس أو
في أي قطر من الأقطار التي عرفت مثل هذه الظاهرة لا قدر الله سيعيد العرب إلى
خمسينيات القرن الماضي: وعندئذ يحق لقادة إسرائيل أن يعتبروا ما تحقق بانقلاب السيسي قد حقق لها
أكثر مما حقق لها جيشها في 67. ذلك أن انكسار الجيوش مجبور ولو بعد حين. لكن روح التحرر إذا انكسرت لا تنجبر:
ولا يمكن لشعب تداس إرادته
بجرة قلم ضابط أشبه بالقذافي منه بعبد الناصر أن يبقى له كيان حر. فالقوة المادية
للجيوش قابلة للتجديد ما ظلت روح المقاومة قائمة. أما العكس فممتنع.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن ما جرى في مصر فأسقط المخلوع سبقه نظيره في تونس وأن
ما يحدث مصر الآن قد يكون له نظير في تونس فإن انشغالي بالحوار يشبه مشروعا. وهذا
التعاكس بين الأوضاع من حيث التوالي يجعل المصير بالضرورة واحدا لذلك فمداخلتي
ليست بسبب اختصاصي فحسب بل هي تتعداه إلى التزامي بالوضع التونسي المماثل إلى حد
كبير للوضع المصري. ولنا من المواقف المماثلة لموقف الأستاذ جمال الكثير. لذلك
فليعذرني إذا وجد في كلامي ما قد لا يعجبه لكن الخلاف لا ينبغي أن يفسد للود قضية.
أبو يعرب المرزوقي
منزل بورقيبة في 2013.08.12
مواضيع مشابهة - أو -ذات صلة :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..