الاثنين، 2 يونيو 2014

بين "جنّي القاضي".. و"جنيّتي الحسناء"

حمدت الله تعالى، على أن تمت إدانة القاضي بالمدينة المنورة، المتهم باختلاس 600 مليون ريال، ولم تنظر هيئة الرقابة والتحقيق للهرطقات التي ساقها، بأن ثمة "جنيا" يسكنه، ويملي عليه أفعاله، وهو الذي استعان بالراقي الذي يرقيه، ليشهد له في قضية الفساد العريضة التي تورط فيها، ومعه 36 من رفاقه المتهمين بالمشاركة في فضيحة الاختلاس الكبيرة. وجَلت في تلك القضية ـ التي مضى عليها أكثر من عام كامل ـ أن يأخذ المسؤولون بما أورده القاضي المتهم، ذلك أن ثقافة "تلبس الجني للإنسي" شائعة في مجتمعنا بشكل كبير، بل وباتت تجارة رابحة، يقوم على سوقها بعض المنتفعين من فشو هذه الثقافة للأسف الشديد.
لست مشاركا في الزفة التي يقوم بها بعض مناوئي التيار الديني، والتسخيف الممنهج من قبلهم، بدون نقاش علمي، وإنما لمجرد الشماتة لكل ما يتعلق بالتيار الديني أو منسوبيه.
بيد أنني – وغيري - مسؤولون في المقابل عن هذا الجهل المستشري في أوساط العامة حيال مسائل "الميتافيزقيا" أو الماورائيات، التي تجد سوقا رائجة في مجتمعنا. وإن كان ذلك مسوغا في الماضي لأميّة المجتمع؛ إلا أننا في عصر "قوقل" و"الهندسة الوراثية"، نحتاج إلى وقفات ملية حيال بعض تلك الاعتقادات التي ألبست لبوس الدين،
فما الذي جعل المرأة إن ظهرت بثور في وجهها لنوعية أكلها، تهرع لتقول بأن صديقتها أصابتها بعين، والأخرى التي يتساقط شعرها بسبب سوء التغذية أو نوعية الماء، لتطلب بصفاقة أن تتفل قريبتها - التي حسدتها - على شعرها ليصحّ ويتألق. دعك من رسوب تلك الطالبة المميزة التي ألمّ بها صداع ولم تذاكر، فتطالب بـ"غُسل" زميلتها المنافسة لها، بحجة أنها أصابتها بعين.
ممارسات متخلفة، تقف خلفها ثقافة قديمة توارثناها، قدمها أربابها للمجتمع باسم الدين، وتوسعوا فيها بشكل مبالغ، ولست هنا بالمنكر للعين أو الحسد أو السحر، فهي موجودة في ديننا، وحاشاي أن أنكرها، لكنني أؤمن بها في حدودها الحقيقية الضيقة، وأنا ضد هذا التوسّع الذي تحول لثقافة غبية، نفسر عبرها كل أخطائنا وتقصيرنا وإخفاقاتنا.
وأعلم والله أن دعاة فضلاء قاموا بالإصلاح والتوعية، ولكن أصواتهم تشتت أمام فشو وتجذر هاته الثقافة، وصمْت الكثيرين منهم عن تلك الممارسات الخاطئة، إلى أن وصلت الأمور إلى ما نحن فيه: ثقافة سلبية متفشية وتجارة مشروعة باسم الدين، في مجتمع محافظ، ينحاز أغلبه ويحتكم للدين وأهله في شؤون حياته.
سآتي لموضوع القاضي المتحجج بتلبس جنيّة كي يبرر ذلك الاختلاس، فابتداء؛ لن ينكر مسلم وجود الجن، فسورة بكاملها أنزلت باسمهم، في قرآن يتلى ليوم القيامة، وليس هذا مجال بحثنا هنا، بيد أن الذي سأناقشه هنا: مسألة خلافية بين العلماء، حول تلبس الجان للإنس، ودخولهم في أجسادهم، وتفسير نوبات الصرع النفسية بأنها من الجني الساكن بالجسد، وأكثر من ذلك؛ إملاء التصرفات عليهم، بما تحجج به القاضي الآنف.
ولكي أقطع الطريق على من سيحاججني بأن هذه مسألة شرعية، لا يجوز أن يخوض فيها إلا متخصص شرعي؛ لأجيبه بأن كلامه حق، وأنني إنما أنقل سجالا كنت مشرفا عليه قبل خمس سنوات في مجموعة عبدالعزيز قاسم البريدية، بين كوكبة من طلبة العلم حول هذا الموضوع، إلى أن حسمه أحد الباحثين من الأردن – بالمناسبة هو من التيار السلفي - وقد أمضى سنوات عديدة في هذه القضية، وألفّ كتابا حولها.
الباحث اسمه د. جمال أبو حسان، وناقش بعض طلبة العلم السعوديين، وانتهى الرجل في بحثه إلى أن تلبس الجان في بدن الإنسان مفهوم متداول بين الناس منذ دهور طويلة سبقت ظهور الإسلام، وتعزز هذا المفهوم وارتبط لدى البعض بالثقافة الإسلامية، وعدّه بعضهم جزءا من مفاهيم الشريعة السمحة،
وخلصت الدراسة إلى أن مفهوم تلبس الجان هو محض ثقافة وموروث شعبي، أضيف لاحقاً للتراث الإسلامي، في العصور الإسلامية المتأخرة، مما يستدعي وقفة حازمة للتخلص منه. وقال إن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم، وإنه يمسّ الإنسان بوسوسته فقط، ولا يغير عقلاً وجسماً، وإن التلبس من أوهام الناس وخرافاتهم، وإنه ليس للجن مع الإنسان إلا الدعوة والوعد والوسوسة والإغراء والتزيين،
وإنه لم يتحدث بها الناس في عصر الرسول الأكرم، لأنها تفاهات تنتشر في عصور التراجع والهزيمة، وأخيرا، فإن الأمراض العصبية والتصرفات غير الطبيعية هي أمراض نفسية وليست تلبّساً.
ومعظم الأحاديث التي وردت في موضوع التلبس، إما منكرة أو ضعيفة، وأهم ما يتحجج به المؤيدون، هي الآية الكريمة: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ..)، وردها د. أبو حسان، الأكاديمي بجامعة الزرقاء الأردنية، بأن هذا المسّ المقصود به الوسوسة فقط، وساق ما جاء في قصة أيوب عليه السلام: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)، كما يقال فيمن تفكر في شيء يغمه قد مسّه التعب، وبين ذلك قوله في صفة الشيطان: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).
وأما الحديث الأشهر الذي رواه البخاري ومسلم في قصة أم المؤمنين صفية بنت حيي: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو شيئاً"، والحديث الآخر الصحيح عن المرأة السوداء التي قالت بأنها تصرع، وخيرها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين أن تصبر ولها الجنة، أو يدعو لها فتشفى، فاختارت الصبر.
يرد المنكرون بأن ما ورد في حديث زوجة النبي يدل وبوضوح تام على أن تعبير الشيطان يجري مجرى الدم في العروق؛ إنما هو تعبير مجازي محض، فالحديث يشير وبوضوح تام إلى دفع الشبهات واتقاء وساوس الشيطان.
سطور المقالة لا تفي بتفكيك مقولات المؤيدين لتلبس الجني، ولكني أنبه بأن ثمة من استغل مسائل الرقية وإخراج الجان، بطريقة شائهة، أساء فيها للعلماء وأهل الشريعة، وحوّل المسألة لتجارة، ومن المفترض أن يتصدى لهؤلاء جمهرة العلماء الربانيين، والدعاة المتفانون للدعوة، وهم الأكثرية التي نفاخر بهم، ومن الضروري عدم التعاطف مع أولئك القلة، بسبب سيماء الصلاح والاستقامة، من تطويل اللحى وتقصير الثياب، وهم في دواخلهم فسدة ومرتشون وفسقة، إلا من رحم الله.
سأختم بما كتب لي الصديق الحبيب الشيخ بندر الشويقي قبل خمس سنوات، في نهاية ذلك السجال عن تلبس الجان، بأن المسألة لا تحلّ إلا بتلبس جنيّ مارد لعبدالعزيز قاسم، قلت له: على الأقل ادع أن تكون جنية حسناء، فبعض الشر أهون من بعض.. وها أنا بعد كل السنوات لم تأتني.
المصدر

       بقلم:عبدالعزيز قاسم
           صحيفة الوطن

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..