السابقة القضائية ليست سوى حكم محكمة عُليا يسرى على المحاكم الأقل درجة
منها , و تكون فى نفس نطاق اختصاصها, فالسابقة القضائية المصرية لا تسرى
على
محاكم الأردن مثلا, و إن كانت هناك مثل هذه الحالات( و التى ليست نادرة), و لكن فى نظم قضائية أخرى كما سأشرح بعد.
و تكون للسابقة " الملزمة للمحاكم" قوة القانون فى الحالات المشابهة للقضية التى صدر فيها هذا الحكم. و لكن ليس كل حكم محكمة يشكل سابقة, فإذا كان الحكم ليس سوى إعمالا طبيعيا للقاعدة القانونية, فلا يعتبر الحكم سابقة, حيث أن كلمة سابقة تعنى حرفيا " أنها لم يسبق لها مثيل فى التفسير"
و حكم المحكمة المكون للسابقة لا يخالف القانون , بل يكون تطبيقا للقانون, و لكن بتفسير لبعض كلماته على نحو لم يتم من قبل, طبقا للتغير فى الظروف السياسية, و الإجتماعية, و الإقتصادية, و البيئية..
و قد قدمت نموذجا لمثل هذه السوابق, فى القضية الفرضية التى نشرتها سابقا,
(والتى أشرت أن الذى ابتكرها هوالمرحوم الدكتور محمود الأفوكاتو عندما كان يُدرّس القانون فى جامعة " لييدز"),
و ذلك عندما فسرت محكمة ابتدائية فى إحدى بلديات شمال انجلترا كلمة " عربات مُحركية", ( أى تدار بالموتور) بأن قصد المشرع كان إدراج السيارات, و الأتوبيسات, و الجرارات, و اللوريات, الخ, فى القانون و لكن ليس......." كرسى للمقعد يديره موتور كهربائى صغي, يدار ببطاريةر, و ليس ثقيل الوزن, و لا يُخرج عادما, و لا يضر بيئيا بالحدائق العامة, و خضرتها و زهورها و جوها النقى".
و عندما تستأنف البلدية ( فرضا) هذا الحكم, و تؤيده محكمة الإستئناف, يصبح هذا " التفسير" الوارد فى هذا الحكم ملزما لجميع المحاكم الإبتدائية, و لكنه ليس ملزما لمحاكم الإستئناف الأخرى,
و لكن لو بلغ الأمر إلى محكمة النقض, و أقرت هذا التفسير, أصبح هذا " التفسير" سابقة قضائية" تسرى على جميع المحاكم فى الدولة, و يكون لها قوة القانون.
إذن , ليس كل حكم استئنافى يكون خالقا لسابقة, فالأحكام الاستئنافية قد تؤدى إلى الآتى:
1- إلغاء حكم سابق
2- تغيير الحكم السابق
3- تبديل مواقف المدعى أو المدعى عليه
4- إبداء إعتراض على الحكم السابق
5- تقديم تفسير لكلمة فى القانون لم تقدمها محكمة أخرى من قبل.
و هذه الحالة الأخيرة هى التى يمكن أن تخلق سابقة قضائية.
و لكن لهذا شروط:
1- يتكون الحكم من شقين, الشق الأول هو المبدأ القانونى الذى استند إليه القاضى فى إصدار الحكم, و يسمى هذا الجزء باللاتينية: ratio decedindi أى سند أو سبب الحكم.
و يتكون الشق الثانى من بعض ما ورد فى حيثيات الحكم, كالتعليق على جسامة الجريمة, و قسوة الجانى, وآلام أسرة المجنى عليه, و كثير من هذه المواد الإنشائية التى يجيدها بعض القضاة. و يسمى باللاتينية: obiter dicta أى كلمات تقال " على الماشى" أو " كلمات مرسلة" فى هذه الحالة بالذات, و لا تدخل فى المبدأ الذى توصل إليه القاضى.
2- الحكم الذى يكوّن السابقة لا يقتبس منه سوى " ratio decedindi,
3- لتطبيق السابقة, يجب أن تتشابه الأحداث و الظروف فى القضية الجديدة مع أحداث القضية المنتجة للسابقة.
4- يمكن لقاضى محكمة أدنى التهرب من تطبيق السابقة فى القضية المنظورة أمامه , و ذلك بذكر أن أحداث هذه القضية تختلف عن أحداث السابقة القضائية.( تفريد الوقائع), و عيه إثبات ذلك فى حكمه برفض قبول السابقة القضائية, و ربما يؤدى الأمر إلى إرجاع القضية لمحكمة النقض.
و السوابق القضائية يمكن أحيانا أن تطبق فى دولة أخرى عن طريق " الاستحسان" و ليس عن طريق " الإلزام", فقد يستشهد محام أمريكى بقضية إنجليزية شهيرة أرست سابقة مهمة.
و قد لجأت أستراليا إلى إقتباس كثير من السوابق البريطانية, إلى أن كوّن النظام القضائى الأسترالى سوابقه النابعة عن محاكمه.
و إغفال السوابق القضائية التى أستقر عليها الفقه القضائى فى مصر سببه واضح, و عمدى, و مقصود.
فالمشرع المصرى أردا أن يحرم المحاكم من حق البحث عن نية المشرع, فالدستور و القانون مكتوبان بطريقة تحقق تماما ما يريده رئيس السلطة التنفيذية, و لا مكان للمحاكم لكى تغير " بالتفسير" ما أراد رئيس السلطة أن يكون قانونا.
و لأن المحاكم المصرية حاولت إرساء بعض السوابق فى الماضى, فقد ردت الحكومة على هذه المحاولة بأمرين:
الأول : تجاهل هذه الأحكام التى تفسر القانون على غير هوى السلطة التنفيذية.
الثانى: قصر الحكم على الحالة الأصلية, و إصدار تعليمات بأن من من يتضرر من موقف قانونى معين, عليه , أثناء نظر قضيته, إثبات أن وقائع حالته " تتطابق تماما" مع القضية التى يستند إليها المتضرر كسابقة , أى أن العبرة هنا هى تشابه الوقائع, و ليس تشابه الموقف القانونى, أى التفسير القانونى للوقائع كما ثبت فى القضية التى يُستشهد بها كسابقة.
و يتبع ذلك أن على من يريد الإستشهاد بسابقة قضائية, عليه إقناع قاضى قضيته من جديد بالمبادئ التى وردت فى السابقة القضائية. و سكون رد القاضى:
سالتزم بوقائع قضيتك, و أحكم فيها بما أراه.
و لا يوجد ( حاليا) قانونيا أو دستوريا ما يلزم القاضى المصرى بتطبيق السوابق القضائية النهائية الصادرة من أعلى محكمة فى النظام القضائى حيث أن هذا ليس منصوصا عليه فى الدساتيرالأخيرة, و إن كان مبدءا قانونيا تلتزم به جميع النظم القانونية الدستورية فى العالم.
و مجرد إغفال ذكر" فقه السوابق القضائية" فى الدستور كمصدر للقانون هو فى حد ذاته تجريد صريح للمحاكم من حقها فى إرساء سوابق قضائية, قد تفضح الفشل التشريعى.
و على هذا, يمكن القول أن الامتناع عن الأخذ بالسابقة القضائية (كمصدر من مصادر القانون), و التوقف عن ذكر السوابق القضائية و فقهها فى الدستور كمصدر من مصادر القانون , قد تم فور قيام ثورة يوليو 52, (و إن كانت هناك بعض الحالات الفردية التى لم يكن الحكم فيها يشكل تغييرا جوهريا فى مفهوم القانون السائد, و قبلتها المحاكم كسوابق قانونية, ليس لأنها ملزمة, بل لأنها حلت مشكلة).
لعل هذا يشرح أسباب تفاوت و تعارض الأحكام القضائية الذى نشهده الآن.
محمود تركي
المصدر
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
محاكم الأردن مثلا, و إن كانت هناك مثل هذه الحالات( و التى ليست نادرة), و لكن فى نظم قضائية أخرى كما سأشرح بعد.
و تكون للسابقة " الملزمة للمحاكم" قوة القانون فى الحالات المشابهة للقضية التى صدر فيها هذا الحكم. و لكن ليس كل حكم محكمة يشكل سابقة, فإذا كان الحكم ليس سوى إعمالا طبيعيا للقاعدة القانونية, فلا يعتبر الحكم سابقة, حيث أن كلمة سابقة تعنى حرفيا " أنها لم يسبق لها مثيل فى التفسير"
و حكم المحكمة المكون للسابقة لا يخالف القانون , بل يكون تطبيقا للقانون, و لكن بتفسير لبعض كلماته على نحو لم يتم من قبل, طبقا للتغير فى الظروف السياسية, و الإجتماعية, و الإقتصادية, و البيئية..
و قد قدمت نموذجا لمثل هذه السوابق, فى القضية الفرضية التى نشرتها سابقا,
(والتى أشرت أن الذى ابتكرها هوالمرحوم الدكتور محمود الأفوكاتو عندما كان يُدرّس القانون فى جامعة " لييدز"),
و ذلك عندما فسرت محكمة ابتدائية فى إحدى بلديات شمال انجلترا كلمة " عربات مُحركية", ( أى تدار بالموتور) بأن قصد المشرع كان إدراج السيارات, و الأتوبيسات, و الجرارات, و اللوريات, الخ, فى القانون و لكن ليس......." كرسى للمقعد يديره موتور كهربائى صغي, يدار ببطاريةر, و ليس ثقيل الوزن, و لا يُخرج عادما, و لا يضر بيئيا بالحدائق العامة, و خضرتها و زهورها و جوها النقى".
و عندما تستأنف البلدية ( فرضا) هذا الحكم, و تؤيده محكمة الإستئناف, يصبح هذا " التفسير" الوارد فى هذا الحكم ملزما لجميع المحاكم الإبتدائية, و لكنه ليس ملزما لمحاكم الإستئناف الأخرى,
و لكن لو بلغ الأمر إلى محكمة النقض, و أقرت هذا التفسير, أصبح هذا " التفسير" سابقة قضائية" تسرى على جميع المحاكم فى الدولة, و يكون لها قوة القانون.
إذن , ليس كل حكم استئنافى يكون خالقا لسابقة, فالأحكام الاستئنافية قد تؤدى إلى الآتى:
1- إلغاء حكم سابق
2- تغيير الحكم السابق
3- تبديل مواقف المدعى أو المدعى عليه
4- إبداء إعتراض على الحكم السابق
5- تقديم تفسير لكلمة فى القانون لم تقدمها محكمة أخرى من قبل.
و هذه الحالة الأخيرة هى التى يمكن أن تخلق سابقة قضائية.
و لكن لهذا شروط:
1- يتكون الحكم من شقين, الشق الأول هو المبدأ القانونى الذى استند إليه القاضى فى إصدار الحكم, و يسمى هذا الجزء باللاتينية: ratio decedindi أى سند أو سبب الحكم.
و يتكون الشق الثانى من بعض ما ورد فى حيثيات الحكم, كالتعليق على جسامة الجريمة, و قسوة الجانى, وآلام أسرة المجنى عليه, و كثير من هذه المواد الإنشائية التى يجيدها بعض القضاة. و يسمى باللاتينية: obiter dicta أى كلمات تقال " على الماشى" أو " كلمات مرسلة" فى هذه الحالة بالذات, و لا تدخل فى المبدأ الذى توصل إليه القاضى.
2- الحكم الذى يكوّن السابقة لا يقتبس منه سوى " ratio decedindi,
3- لتطبيق السابقة, يجب أن تتشابه الأحداث و الظروف فى القضية الجديدة مع أحداث القضية المنتجة للسابقة.
4- يمكن لقاضى محكمة أدنى التهرب من تطبيق السابقة فى القضية المنظورة أمامه , و ذلك بذكر أن أحداث هذه القضية تختلف عن أحداث السابقة القضائية.( تفريد الوقائع), و عيه إثبات ذلك فى حكمه برفض قبول السابقة القضائية, و ربما يؤدى الأمر إلى إرجاع القضية لمحكمة النقض.
و السوابق القضائية يمكن أحيانا أن تطبق فى دولة أخرى عن طريق " الاستحسان" و ليس عن طريق " الإلزام", فقد يستشهد محام أمريكى بقضية إنجليزية شهيرة أرست سابقة مهمة.
و قد لجأت أستراليا إلى إقتباس كثير من السوابق البريطانية, إلى أن كوّن النظام القضائى الأسترالى سوابقه النابعة عن محاكمه.
و إغفال السوابق القضائية التى أستقر عليها الفقه القضائى فى مصر سببه واضح, و عمدى, و مقصود.
فالمشرع المصرى أردا أن يحرم المحاكم من حق البحث عن نية المشرع, فالدستور و القانون مكتوبان بطريقة تحقق تماما ما يريده رئيس السلطة التنفيذية, و لا مكان للمحاكم لكى تغير " بالتفسير" ما أراد رئيس السلطة أن يكون قانونا.
و لأن المحاكم المصرية حاولت إرساء بعض السوابق فى الماضى, فقد ردت الحكومة على هذه المحاولة بأمرين:
الأول : تجاهل هذه الأحكام التى تفسر القانون على غير هوى السلطة التنفيذية.
الثانى: قصر الحكم على الحالة الأصلية, و إصدار تعليمات بأن من من يتضرر من موقف قانونى معين, عليه , أثناء نظر قضيته, إثبات أن وقائع حالته " تتطابق تماما" مع القضية التى يستند إليها المتضرر كسابقة , أى أن العبرة هنا هى تشابه الوقائع, و ليس تشابه الموقف القانونى, أى التفسير القانونى للوقائع كما ثبت فى القضية التى يُستشهد بها كسابقة.
و يتبع ذلك أن على من يريد الإستشهاد بسابقة قضائية, عليه إقناع قاضى قضيته من جديد بالمبادئ التى وردت فى السابقة القضائية. و سكون رد القاضى:
سالتزم بوقائع قضيتك, و أحكم فيها بما أراه.
و لا يوجد ( حاليا) قانونيا أو دستوريا ما يلزم القاضى المصرى بتطبيق السوابق القضائية النهائية الصادرة من أعلى محكمة فى النظام القضائى حيث أن هذا ليس منصوصا عليه فى الدساتيرالأخيرة, و إن كان مبدءا قانونيا تلتزم به جميع النظم القانونية الدستورية فى العالم.
و مجرد إغفال ذكر" فقه السوابق القضائية" فى الدستور كمصدر للقانون هو فى حد ذاته تجريد صريح للمحاكم من حقها فى إرساء سوابق قضائية, قد تفضح الفشل التشريعى.
و على هذا, يمكن القول أن الامتناع عن الأخذ بالسابقة القضائية (كمصدر من مصادر القانون), و التوقف عن ذكر السوابق القضائية و فقهها فى الدستور كمصدر من مصادر القانون , قد تم فور قيام ثورة يوليو 52, (و إن كانت هناك بعض الحالات الفردية التى لم يكن الحكم فيها يشكل تغييرا جوهريا فى مفهوم القانون السائد, و قبلتها المحاكم كسوابق قانونية, ليس لأنها ملزمة, بل لأنها حلت مشكلة).
لعل هذا يشرح أسباب تفاوت و تعارض الأحكام القضائية الذى نشهده الآن.
محمود تركي
المصدر
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..