السبت، 6 فبراير 2021

نزعتنا التسولية

         لما كُنَّا في البعثة ودخلنا معهداً لدراسة اللغة الإنجليزية، وقف المدرس ذو الخبرة الطويلة، كما يبدو من عمره الذي قارب الستين، وطلب كتابة موضوع إنشائي، واقترح أن (يتصور) كُلُّ واحدٍ منَّا أنه يعيش في قرية صغيرة نائية في بلده، وأن هذه القرية تنقصها الكهرباء، وعليه أن يكتب خطاباً للمسؤول في بلدية قريته، يطلب فيه توفير هذه الخدمة على أن يحضر كل طالب الخطاب ويقرأه في الفصل غداً. 

   كان الفصل أشبه بأمم متحدة فالطلاب من آسيا وأوروبا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، فهم قادمون من اليابان والصين وماليزيا وإيران، ومن دول شرق أوروبا ومن ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، ومن دول أمريكا الجنوبية، بالإضافة إلينا نحن العرب سواء من مشرق العالم العربي أو مغربه. 

في اليوم التالي أحضر كل طالب الخطاب الذي أعده، وقرأه على زملائه، وصحح المدرس أخطاءه ولكننا لاحظنا شيئاً غريباً، فعندما قرأ أول طالب عربي خطابه ابتسم المدرس، وأخذت ابتسامته تزداد كلما قرأ طالب عربي آخر، وبدأ الطلبة الآخرون ينظرون إلينا نظرات غريبة؛ فظننا أن الابتسامة كانت إعجاباً بمستوى لغتنا الإنجليزية، ولكن سرعان ما أفقنا من نشوة الغرور هذه، عندما أدركنا أن أخطاءنا لم تكن أقل من أخطاء زملائنا من الجنسيات الأخرى. 

فعدنا نقارن بين خطاباتنا وخطابات زملائنا الآخرين، فتجلى الفارق الكبير بينها، كانت خطابات الطلبة العرب كلها - دون استثناء - تسولية، تبدأ بالثناء على المسؤول وجهوده القيمة.. ثم تتوسل إليه - وتتسول - بأن يتكرم بالتوجيه لإجراء اللازم لتوفير هذه الخدمة تفضلاً منه وإحساناً، ثم بختم الخطاب بمثل ما بدأ به ثناءً وشكراً. 

أما خطابات زملائنا من الجنسيات الأخرى فتختلف جذرياً، فيبدأ الخطاب بإشعار المسؤول بمسؤوليته المباشرة، وتقصيره في عدم توفير هذه الخدمة، وأن من واجبه تصحيح الأمر في أقرب وقت. ويختم الخطاب بأن أي تباطؤ في تحقيق الخدمة سيؤدي إلى رفع الأمر إلى المسؤول الأعلى منه، بل بعض الطلاب ذكر أنه سيرسل نسخة من خطابه إلى المرجع المباشر للمسؤول. 

ولعل تلك النزعة التسولية لدينا نابعة من فقدان إحساس المسؤول بواجباته، وعدم محاسبته على التقصير في أدائها، فالمسؤول الذي أعلى منه لا يختلف عنه، وفاقد الشيء لا يعطيه. وإذا أردت تخليص أي معاملة لك فعليك أن تتسول الموظف، فأنت تحت رحمته، فبإمكانه أن يقف حجر عثرة في طريقك بحسب هواه. 

وهذه النزعة التسولية متجذرة في مجتمعنا العربي، وإن كانت متفاوتة فيه، فبعضها عميقة الجذور، وبعضها سطحية، مع أن ذلك ينافي قيمنا الإسلامية وشيمنا العربية، وهي نبتة خبيثة، ينبغي اجتثاثها من فوق الأرض فما لها من قرار. 

وتختلف درجة التسول باختلاف السلم الوظيفي للمسؤول، فإذا كنت تحتاج إلى توسلات بسيطة ومحدودة لموظف صغير ليؤدي عملاً من واجبه أن يؤديه، فإنك تحتاج إلى سلسلة من العبارات التسولية، وخطبة تمهيدية مليئة بالتوسلات كلما عظم شأن المسؤول، وقد روى لي أحد الزملاء نموذجاً لهذه، مما جعلها تتفوق على عبارات المتسولين في المساجد. 

وإذا كانت هناك إدارة خاصة لمكافحة متسولي المساجد وأشباههم، فنحن أحوج إلى مكافحة النزعة التسولية المستشرية في إداراتنا ووزاراتنا، فأغلبنا متسول أو متسول عنه، أو هما معاً. ولو وضع مقياس لنجاح أي إدارة هو قضاؤها على هذه النزعة التسولية لكان ذلك قمة النجاح؛ لأن معناه أن كل موظف فيها قد قام بواجبه وأدى ما عليه، وهذا هو الغرض من وجود تلك الإدارة. 

د.عبدالله بن حمد العويشق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..