أين تكمن مقدرة التافه الرئيسية؟ في تعرُّف تافه مثله. هكذا يعملان معا بمبدأ: أضئ لي أقدح لك، وبيِّن لي أجبك، حتى تقوى شوكة جماعة عددها في ازدياد، إذ لن يطول بهما الأمد في حشد أمثالهما إليها. ليس المُهِم تجنب السَخافة، بل جعلها تكتسي صور السلطة. (ألان دونو، «نظام التفاهة» لوكس، كندا، 2016).
لقد أصبحت ثقافة التفاهة تسيطر على الحياة اليومية للبشر وتأخذ من جهد عقولهم الكثير فتجد الناس يقضون أغلب ساعات أعمارهم في جدال ونقاش وخصام أحيانا حول أجمل قميص وأفضل حذاء رياضي وآخر صيحات الموضة الرجالية والنسائية والشبابية وأجمل طلة يمكن أن تقدم بها نفسك للناس وأجمل بقرة في العالم وأفضل ثور وما هي أحلى نظرة للمعز وتقام الحلقات النقاشية والأمسيات الطويلة في التلفزات حول العالم لمناقشة ذلك ويجتمع كبار خبراء عيون المعز للتناظر حول أحلى نظرة ويصوت الجمهور لاختيار المعزة ذات العيون الجميلة صاحبة النظرة الحالمة معبودة الجماهير ويطاف بها حول العالم ويكسب من خلفها مالكها آلاف المليارات من التفاهة المنتشرة في عالم اليوم. إن التافهين أصبحوا قدوة للأجيال القادمة حتى أصبح العالم مهددا بتأبيد سلطة التفاهة.إن نظام الرداءة والتفاهة يسمح لإنسان تافه وجاهل بأن يتاجر في المخدرات، ويعمد إلى تبييض أمواله، فيبني مستشفى يُشغل فيه الأطباء، أو يُشيد مدرسة أو جامعة تُشغل مدرسين وأساتذة، أو يُنشئ مقاولة يُوظف فيها مهندسين، فيغدو هذا التافه النكرة رمزا وقدوة في المجتمع، لا بل صاحب الرأي والمشورة والسلطة والقول؛ أمرا ونهيا. كما بين ألان دونو. بل ويصبح أيضا صاحب السيادة في الدولة ويوجه ثقافة المجتمع مع زمرة من الإعلاميين التافهين حتى يحقق التطبيع بين الفساد والمجتمع لدرجة تصبح فيه الفضيلة خطيئة تستوجب العقاب والخطيئة فضيلة الفضائل. وتغدو الطيبة حمقا والخبث عبقرية وذكاء.
لقد سيطرت التفاهة على العالم حتى أصبح الحديث عن الثقافة ضربا من العبث العقلي في العصر الراهن فالإنسان الحالي لا رغبة له في التأمل والتفكير ولا وقت له لذلك فلقد حاصره التافهون من كل حدب وصوب بالمشاهد وحاصروه بالصور حتى أصبحت الصورة هي الوسيلة الوحيدة للتفكير وأصبحت الكتابة غريبة في العصر الراهن وغدت الكلمات مشردة تبحث لها عن مأوي بين الأنامل فلا تجد. فقد احتلت الصورة كل المواقع.
يبدو التفكير اليوم غريبا في صحراء قاحلة لا ماء فيها وهو مهدد بالموت جوعا وعطشا ولا أحد من العابرين حوله يرغب في نجدته. لا أحد يريد أن يزعج نفسه بالتفكير فالتفكير يمثل مصدر ازعاج للجميع. الكل يتجنب التفكير مثلما يتجنوا مرضا خبيثا. لقد قرروا وضع التفكير في الحجر الصحي خشية إصابة المجتمع بعدوى التفكير. فالتفكير كالفيلسوف يمثل تهديدا ليقين المجتمع الذي أسسه التافهون.
في النهاية إن التحرر من سيطرة التفاهة مسؤولية الجميع إذا ما
أرادوا انقاذ الإنسان الأخير. فالمسؤولية عن انقاذ الذات هي في النهاية
مسؤولية عن انقاذ الكل فعندما نقول إن الإنسان مسؤول عن نفسه لا نعني أن
الإنسان مسؤول عن وجوده الفردي فحسب بل هو بالحقيقة مسؤول عن جميع الناس
وكل البشر كما يقول سارتر.
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..