السبت، 8 يونيو 2024

تدبر : ﴿والبُدْنَ جَعَلْناها لَكم مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾

﴿وَالبدن جَعَلنَـٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰۤائرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيرࣱۖ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱسم الله عَلَيهَا صَوَاۤفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُوا۟ مِنهَا وَأَطۡعِمُوا۟ ٱلقَانِعَ وَٱلمُعتَرَّۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ سَخَّرۡنَـٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشكُرُونَ﴾ [الحج ٣٦]

﴿والبُدْنَ جَعَلْناها لَكم مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ أيْ مِن أعْلامِ دِينِهِ الَّتِي شَرَعَها اللَّهُ تَعالى، والبُدْنُ جَمْعُ بَدَنَةٍ وهي كَما قالَ الجَوْهَرِيُّ ناقَةٌ أوْ بَقَرَةٌ تُنْحَرُ بِمَكَّةَ، وفي القامُوسِ هي مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ كالأُضْحِيَّةِ مِنَ الغَنَمِ تُهْدى إلى مَكَّةَ وتُطْلَقُ عَلى الذَّكَرِ والأُنْثى وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعِظَمِ بَدَنِها لِأنَّهم كانُوا يُسَمِّنُونَها ثُمَّ يُهْدُونَها، وكَوْنُها مِنَ النَّوْعَيْنِ قَوْلُ مُعْظَمِ أئِمَّةِ اللُّغَةِ وهو مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ فَلَوْ نَذَرَ نَحْرَ بَدَنَةٍ يُجْزِئُهُ نَحْرُ بَقَرَةٍ عِنْدَهم وهو قَوْلُ عَطاءٍ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما لا تُعْلَمُ البُدْنُ إلّا مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ.وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ كُنّا نَنْحَرُ البَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ فَقِيلَ والبَقَرَةُ فَقالَ: وهَلْ هي إلّا مِنَ البُدْنِ، وقالَ صاحِبُ البارِعِ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ: إنَّها لا تُطْلَقُ عَلى ما يَكُونُ مِنَ البَقَرِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجاهِدٍ والحَسَنِ وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيَّةِ فَلا يُجْزِي عِنْدَهم مَن نَذَرَ نَحْرَ بَدَنَةٍ نَحْرُ بَقَرَةٍ، وأُيِّدَ بِما رَواهُ أبُو داوُدَ عَنْ جابِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««البَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ والبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ»» فَإنَّ العَطْفَ يَقْتَضِي المُغايَرَةَ وفِيما يَأْتِي آخِرًا تَأْيِيدٌ لِذَلِكَ أيْضًا، والظّاهِرُ أنَّ اسْتِعْمالَ البَدَنَةِ فِيما يَكُونُ مِنَ الإبِلِ أكْثَرُ وإنْ كانَ أمْرُ الإجْزاءِ مُتَّحِدًا.ولَعَلَّ مُرادَ جابِرٍ بِقَوْلِهِ في البَقَرَةِ وهَلْ هي إلّا مِنَ البُدْنِ أنَّ حُكْمَها حُكْمُها وإلّا فَيَبْعُدُ جَهْلُ السّائِلِ بِالمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ فِيما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إنَّ مُرادَهُ بِالبُدْنِ فِيهِ البُدْنُ الشَّرْعِيَّةُ، ولَعَلَّهُ إذا قِيلَ بِاشْتِراكِها بَيْنَ ما يَكُونُ مِنَ النَّوْعَيْنِ يَحْكُمُ العُرْفُ أوْ نَحْوُهُ في التَّعْيِينِ فِيما إذا نَذَرَ الشَّخْصُ بَدَنَةً ويُشِيرُ إلى ذَلِكَ ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ يَعْقُوبَ الرِّياحِيِّ عَنْ أبِيهِ قالَ: أوْصى إلَيَّ رَجُلٌ وأوْصى بِبَدَنَةٍ فَأتَيْتُ ابْنَ عَبّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ رَجُلًا أوْصى إلَيَّ وأوْصى بِبَدَنَةٍ فَهَلْ تُجْزِي عَنِّي بَقَرَةٌ ؟ قالَ: نَعَمْ ثُمَّ قالَ: مِمَّنْ صاحِبُكُمْ؟ فَقُلْتُ: مِن رِياحٍ قالَ: ومَتى اقْتَنى بَنُو رِياحٍ البَقَرَ إلى الإبِلِ وهِمَ صاحِبُكم إنَّما البَقَرُ لِأسَدٍ وعَبْدِ القَيْسِ فَتَدَبَّرْ.وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ أبِي إسْحاقَ وشَيْبَةُ وعِيسى «البُدُنَ» بِضَمِّ الباءِ والدّالِ، وقِيلَ وهو الأصْلُ كَخُشُبٍ وخَشَبَةٍ وإسْكانُ الدّالِ تَخْفِيفٌ مِنهُ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ نافِعٍ وأبِي جَعْفَرٍ.وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ أيْضًا بِضَمِّ الباءِ والدّالِ وتَشْدِيدِ النُّونِ فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا بُنِيَ عَلى فِعْلٍ كَعُتُلٍّ واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ التَّشْدِيدُ مِنَ التَّضْعِيفِ الجائِزِ في الوَقْفِ وأُجْرِيَ الوَصْلُ مَجْرى الوَقْفِ، والجُمْهُورُ عَلى نَصْبِ ( البُدْنَ ) عَلى الِاشْتِغالِ أيْ وجَعَلْنا البُدْنَ جَعَلْناها، وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَكُمْ﴾ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِالجَعْلِ، و﴿مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لَهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَكم فِيها خَيْرٌ﴾ أيْ نَفْعٌ في الدُّنْيا وأجْرٌ في الآخِرَةِ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعَنِ السُّدِّيِّ الِاقْتِصارُ عَلى الأجْرِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها.﴿فاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها﴾ بِأنْ تَقُولُوا عِنْدَ ذَبْحِها بِسْمِ اللَّهِ واللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُمَّ مِنكَ ولَكَ. وقَدْ أخْرَجَ ذَلِكَ جَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وفي البَحْرِ بِأنْ يَقُولَ عِنْدَ النَّحْرِ: اللَّهُ أكْبَرُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ واللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُمَّ مِنكَ وإلَيْكَ.﴿صَوافَّ﴾ أيْ قائِماتٍ قَدْ صَفَفْنَ أيْدِيَهُنَّ وأرْجُلَهُنَّ فَهو جَمْعُ صافَّةٍ ومَفْعُولُهُ مُقَدَّرٌ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ وابْنُ مَسْعُودٍ والباقِرُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وعَطاءٌ والكَلْبِيُّ والأعْمَشُ بِخِلافٍ عَنْهُ «صَوافِنَ» بِالنُّونِ جَمْعُ صافِنَةٍ وهو إمّا مِن صَفَنَ الرَّجُلُ إذا صَفَّ قَدَمَيْهِ فَيَكُونُ بِمَعْنى صَوافَّ أوْ مِن صَفَنَ الفَرَسُ إذا قامَ عَلى ثَلاثٍ وطَرَفِ سُنْبُكِ الرّابِعَةِ لِأنَّ البَدَنَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ تُعْقَلُ إحْدى يَدَيْها فَتَقُومُ عَلى ثَلاثٍ، وعَقْلُها عِنْدَ النَّحْرِ سُنَّةٌ، فَقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ رَأى رَجُلًا قَدْ أناخَ بَدَنَتَهُ وهو يَنْحَرُها فَقالَ: ابْعَثْها قِيامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ .والأكْثَرُونَ عَلى عَقْلِ اليَدِ اليُسْرى، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ سابِطٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وأصْحابَهُ كانُوا يَعْقِلُونَ يَدَ البَدَنَةِ اليُسْرى ويَنْحَرُونَها قائِمَةً عَلى ما بَقِيَ مِن قَوائِمِها» . وأخْرَجَ عَنِ الحَسَنِ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ تُنْحَرُ البَدَنَةُ؟ قالَ: تُعْقَلُ يَدُها اليُسْرى إذا أُرِيدَ نَحْرُها، وذَهَبَ بَعْضٌ إلى عَقْلِ اليُمْنى فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ كانَ يَنْحَرُها وهي مَعْقُولَةٌ يَدُها اليُمْنى، وقِيلَ لا فَرْقَ بَيْنَ عَقْلِ اليُسْرى وعَقْلِ اليُمْنى، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ أيْضًا عَنْ عَطاءٍ قالَ: اعْقِلْ أيَّ اليَدَيْنِ شِئْتَ.وأخْرَجَ جَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ فَسَّرَ ﴿صَوافَّ﴾ بِقائِماتٍ مَعْقُولَةً إحْدى أيْدِيهِنَّ فَلا فَرْقَ في المُرادِ بَيْنَ صَوافَّ وصَوافِنَ عَلى هَذا أصْلًا، لَكِنْ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ الصَّوافَّ عَلى أرْبَعٍ والصَّوافِنَ عَلى ثَلاثٍ. وقَرَأ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وشَقِيقٌ وسُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ والأعْرَجُ «صَوافِيَ» بِالياءِ جَمْعُ صافِيَةٍ أيْ خَوالِصُ لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لا يُشْرَكُ فِيها شَيْءٌ كَما كانَتِ الجاهِلِيَّةُ تُشْرِكُ، ونَوَّنَ الياءَ عُمَرُ وابْنُ عُبَيْدٍ وهو خِلافُ الظّاهِرِ لِأنَّ «صَوافِيَ» مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِصِيغَةِ مُنْتَهى الجُمُوعِ، وخُرِّجَ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنَّهُ وُقِفَ عَلَيْهِ بِألِفِ الإطْلاقِ لِأنَّهُ مَنصُوبٌ ثُمَّ نُوِّنَ تَنْوِينَ التَّرَنُّمِ لا تَنْوِينَ الصَّرْفِ بَدَلًا مِنَ الألِفِ، وثانِيهِما أنَّهُ عَلى لُغَةِ مَن يَصْرِفُ ما لا يُصْرَفُ لا سِيَّما الجَمْعَ المُتَناهِيَ ولِذا قالَ بَعْضُهم:
والصَّرْفُ في الجَمْعِ أتى كَثِيرا حَتّى ادَّعى قَوْمٌ بِهِ التَّخْيِيراوقَرَأ الحَسَنُ أيْضًا «صَوافٌ» بِالتَّنْوِينِ والتَّخْفِيفِ عَلى لُغَةِ مَن يَنْصِبُ المَنقُوصَ بِحَرَكَةٍ مُقَدَّرَةٍ ثُمَّ يَحْذِفُ الياءَ فَأصْلُ ﴿صَوافَّ﴾ صَوافِيَ حُذِفَتِ الياءُ لِثِقَلِ الجَمْعِ واكْتُفِيَ بِالكَسْرَةِ الَّتِي قَبْلَها ثُمَّ عُوِّضَ عَنْها بِالتَّنْوِينِ ونَحْوِهِ.
ولَوْ أنَّ واشٍ بِاليَمامَةِ دارُهُ ∗∗∗ ودارِي بِأعْلى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدى لِياوقَدْ تَبْقى الياءُ ساكِنَةً كَما في قَوْلِهِ:
يا بارِي القَوْسِ بَرْيًا لَسْتَ تُحْسِنُها ∗∗∗ لا تُفْسِدَنَّها وأعْطِ القَوْسَ بارِيَهاوعَلى ذَلِكَ قِراءَةُ بَعْضِهِمْ «صَوافِي» بِإثْباتِ الياءِ ساكِنَةً بِناءً عَلى أنَّهُ كَما في القِراءَةِ المَشْهُورَةِ حالٌ مِن ضَمِيرِ ( عَلَيْها ) ولَوْ جُعِلَ كَما قِيلَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ لَمْ يُحْتَجْ إلى التَّخْرِيجِ عَلى لُغَةٍ شاذَّةٍ ﴿فَإذا وجَبَتْ جُنُوبُها﴾ أيْ سَقَطَتْ عَلى الأرْضِ وهو كِنايَةٌ عَنِ المَوْتِ. وظاهِرُ ذَلِكَ مَعَ ما تَقَدَّمَ مِنَ الآثارِ يَقْتَضِي أنَّها تُذْبَحُ وهي قائِمَةٌ، وأُيِّدَ بِهِ كَوْنُ البُدْنِ مِنَ الإبِلِ دُونَ البَقَرِ لِأنَّهُ لَمْ تَجْرِ عادَةٌ بِذَبْحِها قائِمَةً وإنَّما تُذْبَحُ مُضْطَجِعَةً وقَلَّما شُوهِدَ نَحْرُ الإبِلِ وهي مُضْطَجِعَةٌ ﴿فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا القانِعَ﴾ أيِ الرّاضِيَ بِما عِنْدَهُ وبِما يُعْطى مِن غَيْرِ مَسْألَةٍ ولا تَعَرُّضٍ لَها، وعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْلُ لَبِيدٍ:
فَمِنهم سَعِيدٌ آخِذٌ بِنَصِيبِهِ ∗∗∗ ومِنهم شَقِيٌّ بِالمَعِيشَةِ قانِعُ﴿والمُعْتَرَّ﴾ أيِ المُعْتَرِضَ لِلسُّؤالِ مِنَ اعْتَرَّهُ إذا تَعَرَّضَ لَهُ، وتَفْسِيرُهُما بِذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وجَماعَةٍ وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ومُجاهِدٌ وإبْراهِيمُ والحَسَنُ والكَلْبِيُّ: ﴿القانِعَ﴾ السّائِلَ كَما في قَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
وما خُنْتُ ذا عَهْدٍ وأيَّتُ بِعَهْدِهِ ∗∗∗ ولَمْ أحْرِمِ المُضْطَرَّ إذْ جاءَ قانِعا﴿والمُعْتَرَّ﴾ المُعْتَرِضَ مِن غَيْرِ سُؤالٍ، فالقانِعُ قِيلَ عَلى الأوَّلِ مِن قَنِعَ يَقْنَعُ كَتَعِبَ يَتْعَبُ قَنَعًا إذا رَضِيَ بِما عِنْدَهُ مِن غَيْرِ سُؤالٍ، وعَلى الثّانِي مِن قَنَعَ يَقْنَعُ كَسَألَ يَسْألُ لَفْظًا ومَعْنى قُنُوعًا. وعَلى ذَلِكَ جاءَ قَوْلُ الشّاعِرِ:
العَبْدُ حُرٌّ إنْ قَنَعَ ∗∗∗ والحُرُّ عَبْدٌ إنْ قَنَعَفاقْنَعْ ولا تَطْمَعْ فَما ∗∗∗ شَيْءٌ يَشِينُ سِوى الطَّمَعِفَلا يَكُونُ ﴿القانِعَ﴾ عَلى هَذا مِنَ الأضْدادِ لِاخْتِلافِ الفِعْلَيْنِ، ونَصَّ عَلى ذَلِكَ الخَفاجِيُّ حاكِمًا بِتَوَهُّمِ مَن يَقُولُ بِخِلافِهِ. وفي الصِّحاحِ نُقِلَ القَوْلُ بِأنَّهُ مِنَ الأضْدادِ عَنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ ولَمْ يَتَعَقَّبْهُ بِشَيْءٍ، ونُقِلَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ السّائِلُ سُمِّيَ قانِعًا لِأنَّهُ يَرْضى بِما يُعْطى قَلَّ أوْ كَثُرَ ويَقْبَلُهُ ولا يَرُدُّ فَيَكُونُ مَعْنى الكَلِمَتَيْنِ راجِعًا إلى الرِّضى، وإلى كَوْنِ قَنِعَ بِالكَسْرِ بِمَعْنى رَضِيَ وقَنَعَ بِالفَتْحِ بِمَعْنى سَألَ ذَهَبَ الرّاغِبُ وجَعَلَ مَصْدَرَ الأوَّلِ قَناعَةً وقَنَعانًا ومَصْدَرَ الثّانِي قُنُوعًا. ونُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ أصْلَ ذَلِكَ مِنَ القِناعِ وهو ما يُغَطّى بِهِ الرَّأْسُ فَقَنِعَ بِالكَسْرِ لَبِسَ القِناعَ ساتِرًا لِفَقْرِهِ كَقَوْلِهِمْ: خَفِيَ إذا لَبِسَ الخَفاءَ وقَنَعَ إذا رَفَعَ قِناعَهُ كاشِفًا لِفَقْرِهِ بِالسُّؤالِ نَحْوَ خَفِيَ إذا رَفَعَ الخَفاءَ، وأُيِّدَ كَوْنُ القانِعِ بِمَعْنى الرّاضِي بِقِراءَةِ أبِي رَجاءٍ «القَنِعَ» بِوَزْنِ الحَذِرِ بِناءً عَلى أنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِمَعْنى السّائِلِ بِخِلافِ القانِعِ فَإنَّهُ ورَدَ بِالمَعْنَيَيْنِ والأصْلُ تَوافُقُ القِراءاتِ، وعَنْ مُجاهِدٍ «القانِعُ» الجارُ وإنْ كانَ غَنِيًّا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أنَّ القانِعَ أهْلُ مَكَّةَ والمُعْتَرَّ سائِرُ النّاسِ، وقِيلَ: المُعْتَرُّ الصَّدِيقُ الزّائِرُ، والَّذِي أخْتارُهُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ أوَّلُها.وقَرَأ الحَسَنُ «والمُعْتَرِيَ» اسْمُ فاعِلٍ مِنَ اعْتَرى وهو واعْتَرَّ بِمَعْنى. وقَرَأ عَمْرٌ و وإسْماعِيلُ كَما نَقَلَ ابْنُ خالَوَيْهِ «المُعْتَرِ» بِكَسْرِ الرّاءِ بِدُونِ ياءٍ، ورَوى ذَلِكَ المُقْرِي عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وجاءَ ذَلِكَ أيْضًا عَنْ أبِي رَجاءٍ وحُذِفَتِ الياءُ تَخْفِيفًا مِنهُ واسْتِغْناءً بِالكَسْرَةِ عَنْها. واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الهَدْيَ يُقَسَّمُ أثْلاثًا ثُلُثٌ لِصاحِبِهِ وثُلُثٌ لِلْقانِعِ وثُلُثٌ لِلْمُعْتَرِّ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما بِقِسْمَتِهِ أثْلاثًا أيْضًا إلّا أنَّهُ قالَ: أطْعِمُ القانِعَ والمُعْتَرَّ ثُلُثًا والبائِسَ الفَقِيرَ ثُلُثًا وأهْلِيَ ثُلُثًا وفي القَلْبِ مِن صِحَّتِهِ شَيْءٌ.وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: لَيْسَ لِصاحِبِ الهَدْيِ مِنهُ إلّا الرُّبُعُ وكَأنَّهُ عَدَّ القانِعَ والمُعْتَرَّ والبائِسَ الفَقِيرَ ثَلاثَةً وهو كَما تَرى، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا كُلُّهُ عَلى جِهَةِ الِاسْتِحْسانِ لا الفَرْضِ، وكَأنَّهُ أرادَ بِالِاسْتِحْسانِ النَّدْبَ فَيَكُونُ قَدْ حَمَلَ كِلا الأمْرَيْنِ في الآيَةِ عَلى النَّدْبِ.وفِي التَّيْسِيرِ أمْرُ (كُلُوا ) لِلْإباحَةِ ولَوْ لَمْ يَأْكُلْ جازَ وأمْرُ ( أطْعِمُوا ) لِلنَّدْبِ ولَوْ صَرَفَهُ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَضْمَن شَيْئًا، وهَذا في كُلِّ هَدْيٍ نُسُكٍ لَيْسَ بِكَفّارَةٍ وكَذا الأُضْحِيَّةُ، وأمّا الكَفّارَةُ فَعَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِها فَما أكَلَهُ أوْ أهْداهُ لِغَنِيٍّ ضَمِنَهُ. وفي الهِدايَةِ يُسْتَحِبُّ لَهُ أنْ يَأْكُلَ مِن هَدْيِ التَّطَوُّعِ والمُتْعَةِ والقِرانِ وكَذا يُسْتَحَبُّ أنْ يَتَصَدَّقَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي عَرَفَ في الضَّحايا وهو قَوْلٌ بِنَحْوِ ما يَقْتَضِيهِ كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ في كِلا الأمْرَيْنِ وأباحَ مالِكٌ الأكْلَ مِنَ الهَدْيِ الواجِبِ إلّا جَزاءَ الصَّيْدِ والأذى والنَّذْرِ، وأباحَهُ أحْمَدُ إلّا مِن جَزاءِ الصَّيْدِ والنَّذْرِ، وعِنْدَ الحَسَنِ الأكْلُ مِن جَمِيعِ ذَلِكَ مُباحٌ وتَحْقِيقُ ذَلِكَ في كُتُبِ الفِقْهِ ﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ مِثْلُ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ البَدِيعِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿صَوافَّ﴾ ﴿سَخَّرْناها لَكُمْ﴾ مَعَ كَمالِ عِظَمِها ونِهايَةِ قُوَّتِها فَلا تَسْتَعْصِي عَلَيْكم حَتّى إنَّكم تَأْخُذُونَها مُنْقادَةً فَتَعْقِلُونَها وتَحْبِسُونَها صافَّةً قَوائِمَها ثُمَّ تَطْعَنُونَ في لَبّاتِها ولَوْلا تَسْخِيرُ اللَّهِ تَعالى لَمْ تُطَقْ ولَمْ تَكُنْ بِأعْجَزَ مِن بَعْضِ الوُحُوشِ الَّتِي هي أصْغَرُ مِنها جِرْمًا وأقَلُّ قُوَّةً وكَفى ما يَتَأبَّدُ مِنَ الإبِلِ شاهِدًا وعِبْرَةً.وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَما أمَرْناكم فِيها بِهَذا كُلِّهِ سَخَّرْناها لَكم ولا يَخْفى بُعْدُهُ ﴿لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ أيْ لِتَشْكُرُوا إنْعامَنا عَلَيْكم بِالتَّقَرُّبِ والإخْلاصِ

(تفسير الآلوسي — الآلوسي (١٢٧٠ هـ))


مواضيع مشابهة-أو-ذات صلة :

تدبر:قاعدة لغوية في القرآن الكريم تنطبق على جميع السور

ماالفرق بين يا ويلتنا ويا ويلنا ؟

الـفرق بين: ميِّت (بالتشديد) و ميْت (بالسكون على الياء):

الفرق من الناحية البيانية بين قوله تعالى (فنفخنا فيها) وقوله (فنفخنا فيه) في قصة مريم عليها السلام

ما الفرق بين *(إنا رسول رب العالمين)* بالإفراد و *(إنا رسولا ربك )* بالتثنية في القرآن؟

الفرق بين يفعلون و يعملون و يصنعون في القرآن الكريم

الفرق بين (طوعت ) و(سولت ) في القرآن الكريم

الفرق بين أتى وجاء في القرآن الكريم

مقارنة بديعة بين قصتي ( يوسف وموسى ) عليهما السلام

تأمل قوله تعالى: "(دعانا لجنبه) و (على جنوبهم)

تدبر كلمة في آية : " ِكسَفا و كِسٍفا"

ما الفرق بين (العصا) و(المنسأة)في القرآن الكريم ؟

ما الفرق بين (عليم حكيم) و(حكيم عليم) في القرآن الكريم ؟

ماالفرق بين : ( والله بما تعملون بصير ) و: ( والله بصير بما تعملون )؟

ماالفرق بين الكُره والكَره .. في القرآن الكريم ؟

الفرق بين النصيب والكفل في سورة النساء من حيث المعنى ودلالة استخدامهما في القرآن

مالفرق بين المكث واللبث فى التعبير القرآنى ؟

ما اللمسة البيانية في استعمال كلمة (سلام) و (السلام)؟في القرآن الكريم ؟

ماالفرق بين المودة والرحمة؟ والفرق بين الرأفة والرحمة

الفرق بين ( النظر و البصر و الرؤية ) في القرآن الكريم

الفرق بين (فيما كانوا فيه يختلفون ) و ( فيما فيه يختلفون ) في القرآن الكريم

ما الفرق بين (أولئك عليهم لعنة الله ) و (أولئك يلعنهم الله ) /في القرآن الكريم ؟

لِمَ أخَّر( للناس) في سورة الـكهف وقدمها في سورة الإسراء؟

ينظر >>>والبلاغة في القرآن الكريم

لماذا قال أسرى بعبده ولم يقل برسوله ولا بمحمد وإنما قال بعبده ؟

الرشد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..