الأربعاء، 9 يوليو 2025

السلطوي المستطيع

‏" السلطويّ المستطيع: حين يُصبح العرشُ مرآةَ النفس، ويغدو القانونُ سيفًا بلا غمد "
السلطة، في جوهرها العميق، ليست مجرد منصب يُتداول، ولا نفوذ يُتفاخر به، بل هي بئرٌ لا ينضب من الشهوة المتجددة، وفتنةٌ متخفيةٌ في رداء المصلحة، تُغري القلب إن خلا من نور الوازع، وتفتك بالنفس إن استسلمت لغوايتها.

من يضع يده على مفاتيح السُّلطة، ويتقن قواعدها، ويُحسن تدوير موازينها، سرعان ما يتماهى معها حتى تُصبح امتدادًا لذاته، أو بالأحرى: تُصبح (ذاته هي السلطة، والسلطة هي ذاته).

ومن يصل هنا، فلا حدّ لشهوته، ولا قاع لرغبته، فكلما اغترف من بئرها ازداد ظمؤه، وكلما دانت له كينونتها، اتسعت حدود سطوته بما يتناسب مع حدود قدرته، لا مع حدود ما يجب أن تكون عليه عدالته.

وهل رأيتم سلطوياً شبع من سطوته؟
أم هل صادفتم طاغيةً قال يومًا: "بلغتُ غايتي، وأخذتُ من السلطة كِفايتي؟" 

انظروا في التاريخ: قياصرة تآكلوا من عروشهم، فراعنة ضلّوا في معابد جبروتهم، وصولاً لحكام البعث المعاصرين، التهموا شعوبهم دون رأفةٍ ولا شفقة، بحثًا عن مزيدٍ من السيطرة.

السلطةُ سُكرٌ لا يُفطم، وسُعارٌ لا يُروّض،
ورغبةٌ تتناسخ حتى تبتلع الإنسان وتُعيد صياغته -ظلًا شاحبًا- لنسخته التي كان عليها.

وحين تتعانق أدوات القهر مع دوائر الطاعة، وتُغلق الحلقة بين الخوف والتمجيد، تستحيل الدولةُ مسرحًا للعبادة الذاتية، ويغدو القانون سكينًا مغلفًا بورق الدستور.

فما الذي يردع هذا التوحش المتجذر؟
ما الذي يُلجم السلطويَّ القادر، إذا تيسّرت له أسباب البطش، وانفتحت أمامه أبواب التسلط بلا رقيب؟

لا شيء في الدنيا كلها، لا دستور، ولا نظام، ولا رأي عام، يمكنه أن يكبح جماح (السلطوي المستطيع)، سوى مخافة الله.

ذاك الخوف الذي لا يُرى، ولا يُقنّن، ولا يُكتسب من جامعات السياسة ولا معاهد الحكم،
بل يُغرس في القلب غرسًا، ويُروى بخشية الحساب بين يدي من لا تخفى عليه خافيةٌ ولا أسباب.

هو الحاجز الأخير أمام تحوّل (السلطوي المستطيع) إلى ذئبٍ بثياب القانون، هو النور الباطنيّ الذي يجعل من السلطة تكليفًا لا تشريفًا، وأمانةً لا غنيمة.

فإذا انطفأ هذا النور،
تحولت السلطة إلى سيفٍ بلا غمد،
يُـبْـقِـرُ به السلطويّ ذاته، قبل أن يُبقر به رقاب أولئك الذين يُخضِعُهم بسلطانه.

فمن يستطيع أن يجمع بين مُلكية السطوة، ومُلكية نفسه!!؟؟ من يستطيع أن لا يخسر نفسه أمام رغبات سلطته!!؟؟ من تحجبه "مخافة الله" عن إرخاءِ حبال السطوة؟؟!!
ذاك هو خليفة الله في أرضه، وتلك هي العقدة التي بها يُكتب التاريخ… أو تُمزَّقُ أوراقه كما مزّق -آل الأسد- نصفَ قرنٍ من تاريخ الشامِ شرَّ مُمَزّق.

بينما في مقابل نماذج أنظمة البعث المجرمة، وعموم الجمهوريات المتجبّرة، لا يسع الناظر المنصف إلا أن يُقرّ بأن (أُسر الحكم الخليجية) قد استطاعت، خلال العقود الماضية، أن تُرسّخ نموذجًا فريدًا من ممارسة السلطة، يقوم على عقلنة القرار السياسي، وضبط نوازع التسلط، وربط السطوة بالمسؤولية لا بالرغبة المجردة.
ولا أدلَّ على ذلك من النمط الريعي الذي اعتمدته هذه الدول في توزيع الثروة، وتأمين سبل العيش، وضمان الرفاه الاجتماعي لشعوبها، حتى تَمثّلَت السلطة في الخليج بوصفها أداة بناء وتوازن واستقرار ورفاه، لا أداة قهر أو افتراس أو امتصاص.

وهذه الحقيقة، على أهميتها السياسية، تُعدُّ أيضًا دلالةً حضاريةً على أن السلطة إذا قيّدها العدل، وضبطتها النية الخيّرة، ورافقتها البصيرة والمصلحة العامة، غدت نعمةً لمجتمعها لا نقمة، ورسالةً إنسانيةً ساميةً عامةً لا غنيمةً خاصة.

إنّ النماذج التي تصنع الفرق، وتنجو من فخاخ السلطة ، ليست تلك التي تقف عند حدود النصوص المجردة، بل التي تبني عقدها الاجتماعي على الثقة، وتربط الاستطاعة بالمحاسبة، والتمكين بالرحمة، وتُدير الملك بالوازع قبل الرادع.

وإنّ في استقرار وازدهار دول الخليج في الوسط العربي، ورضا شعوبها، ما يُشير إلى أن معادلة التوازن الصعبة بين "السلطة والعدالة" ممكنة التحقيق في عموم عالمنا الإسلامي، خاصةً حين تترسخ مخافة الله في قلب من بيده السلطان، وتتجلى تطابقات الرؤية الحاكمة مع المصلحة العامة.
الصورة
 
د.عبدالله خالد الغانم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..