الأحد، 5 أكتوبر 2025

💢 الاعتراف بين الإرادة الحرة وإمكانية العدول: قراءة في قضية جنائية في عهد النبي ﷺ  !

        في زمن تتسارع فيه الخبرات الجنائية وتتعمق فيه المناهج التحقيقية، لم يعد مقبولاً الركون إلى المقولة التقليدية: "الاعتراف سيد الأدلة"، دون تمحيص أو تدقيق. فقد دلّت التجربة القضائية والفقهية على أن الاعتراف قد لا يكون في كل حال مجزياً، ولا يعتدّ به إذا لم يكن وليد إرادة حرة واعية.

الواقعة الشرعية :
ومن أبلغ الشواهد على ذلك قصة ماعز الأسلمي رضي الله عنه، التي تعد بحق من أقدم القضايا الجنائية التي أرست قواعد راسخة في نظام الإثبات. فقد جاء ماعز إلى النبي ﷺ معترفًا بارتكاب الزنا، فقال: "يا رسول الله، إني زنيت"، فأعرض عنه النبي ﷺ، ثم كررها ثانية فأعرض، ثم ثالثة فأعرض، حتى كررها أربع مرات. وهذا الإعراض النبوي لم يكن عبثًا، بل رسالة بليغة أن الاعتراف لا يُنتزع من المقرّ انتزاعًا، بل يُترك له باب العدول مفتوحًا لعلّه يتراجع، فيتوب بينه وبين ربه.

ثم إن النبي ﷺ لم يكتف بظاهر القول، بل أمر أن يُشمّ فم ماعز للتأكد من أنه ليس تحت تأثير مسكر قد يؤثر على إرادته وإدراكه. فلما ثبت أنه في كامل وعيه، قال: "اذهبوا إلى قومه فانظروا في عقله"، أي تحققوا من سلامة قواه العقلية. وهذا منهج جنائي رفيع يؤكد أن الاعتراف لا يُبنى عليه إلا بعد التأكد من صدوره عن عقل سليم وإرادة حرة.

ومع ذلك، حين أقيم الحد واشتد الرجم، خاف ماعز وهرب، فلحقه بعض الصحابة وقتلوه، فلما بلغ ذلك النبي ﷺ قال معاتبًا: "هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه"، وفي هذا إشارة واضحة أن العدول عن الاعتراف جائز، وأن المتهم يملك أن يتراجع عنه، بل قد يكون تراجعه بابًا للتوبة بينه وبين الله.

وقد كان النبي ﷺ رحيمًا في تعامله مع ماعز، فلم يكتفِ بالإعراض والتثبت من سلامة عقله، بل فتح له أبواب الأعذار بقوله: «لعلك قبّلت، لعلك لمست، لعلك غمزت»، وكأنما يدفعه دفعًا للرجوع عن إقراره والاكتفاء بالتوبة بينه وبين ربه. وهذا يقرر قاعدة جنائية أصيلة أن الرحمة والشفقة واجبة في التحقيق والقضاء، وأن الأصل هو التماس ما يُنجي المتهم إن كان له وجه من العذر. 

القواعد المستفادة :
هذه الواقعة تحمل في طياتها قواعد جنائية عظيمة:
1. الاعتراف لا يعتد به إلا إذا صدر عن إرادة حرة وعقل سليم.
2. الإعراض المتكرر عن المقر يفتح له باب العدول، فلا يؤخذ بكلامه إلا إذا أصرّ عليه.
3. التحقق من سلامة العقل وخلو الإرادة من المؤثرات شرط أساسي في قبول الاعتراف.
4. جواز الرجوع عن الاعتراف حتى بعد صدوره، وهو ما يترتب عليه عدم إلزام المتهم به إذا عدل عنه.
5. الرحمة والشفقة والبحث عن المبررات لفتح باب التراجع عن الاعتراف، تمثل أصلاً راسخًا في منهج النبي ﷺ، حيث كان يهيئ للمقر مخارج تحفظ له كرامته وتتيح له سبيل التوبة.

الموقف النظامي السعودي :
فقد نصت المادة (102) من نظام الإجراءات الجزائية على أن "لا يُعتد بأي قول صدر من المتهم تحت وطأة الإكراه أو التهديد"، كما أكدت السوابق القضائية السعودية أن الرجوع عن الاعتراف مقبول متى قام ما يبرره، وهذا قرار مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة :
إذا ثبت أن الاعتراف حصل عن طريق الإكراه، فلا يبنى عليه الحكم" (م ق د): (111/3)، (9/2/1421).

القضاء المقارن :
وهذا قرار محكمة النقض الفرنسية الجمعية العمومية (Assemblée plénière) بتاريخ 6 مارس 2015، رقم 14-84.339
قضت المحكمة بأن وضع المشتبه بهم في زنزانتين متجاورتين والتنصّت على حديثهم لاستدراج اعترافات يُعَدّ أسلوبًا غير مشروع (déloyal)، وينتهك حقهم في الصمت وضمانات الدفاع.
 وبناءً عليه: ما يُستخلص من هذه الظروف من اعترافات أو إقرارات لا يُعتمد به قضائيًا لأنه لم يكن وليد إرادة حرة، فتُستبعد من ملف الدعوى، 👇🏻👇🏻👇🏻👇🏻👇🏻👇🏻👇🏻

الرأي والنتيجة :
الاعتراف ليس سيد الأدلة على إطلاقه، وإنما هو دليل كبقية الأدلة، لا يُقبل إلا إذا توافرت فيه شروط الحرية والعقلانية، ويجوز العدول عنه. وتُعد هذه الواقعة نموذجًا شرعيًا وقانونيًا رائدًا في تقرير هذه القواعد، بما يؤكد سبق الشريعة الإسلامية إلى ما تسعى إليه النظم الوضعية الحديثة من ضمانات للمتهم وصيانة لإرادته الحرة، وترسيخ لمبادئ العدالة الجنائية الرفيعة.
💢كتبه / مازن المليح . 
يوم السبت بتاريخ 1447/04/12هـ
الموافق 2025/10/04م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..