يقود
صعود الإسلاميين إلى الحكم في دول الربيع العربي لنقاشات عديدة بخصوص
مستقبل نظام الحكم في تلك الدول وطبيعة علاقة الإسلاميين بنموذج الحكم
الديمقراطي،كما يطرح هذا الصعود أسئلة حول العلاقة بين الدين والدولة وحدود
تأثير الدين على قضايا الحريات العامة والشخصية وعلى وضع المرأة
والأقليات،وتطرح القوى غير الإسلامية والمثقفون والإعلاميون العلمانيون
مخاوفهم من أثر صعود الإسلاميين على النموذج الديمقراطي ومسألة
الحريات،وبعضهم أصلاً كان مؤيداً لأنظمة الاستبداد خوفاً من هذا الصعود
وما يمكن أن يجلبه من قيود على الحريات الاجتماعية وربما السياسية
والمدنية.
لا
يمكن الحديث عن الإسلاميين المشاركين في العملية السياسية الجديدة في
العالم العربي ككتلة صماء واحدة، فالإسلاميون مجموعات مختلفة وفي أحيان
كثيرة تعيش تنافساً كبيراً فيما بينها يصل حد التناحر والعداء،لكن
المجموعات الإسلامية الفاعلة في دول الربيع العربي والتي تملك امتدادات
مهمة في المنطقة العربية تنقسم إلى ثلاثة مجموعات رئيسية:الإخوان
المسلمون،والسلفيون
بتشكيلاتهم،وحركات ما بعد الإخوان (وهي تلك الحركات والأحزاب التي تجاوزت
الإطار الفكري والتنظيمي للإخوان المسلمين وصارت توصف بأنها أكثر انفتاحاً
من الإخوان فكرياً وسياسياً).
هذه
المجموعات الثلاث أيضاً قد تنقسم على نفسها كما يحصل مثلاً في الحالة
السلفية في مصر،وفي كل الأحوال من الضروري ملاحظة الاختلاف بينها في فهم
علاقة الدين بالسياسة ونظام الحكم،وفي علاقتها بالقوى السياسية الأخرى،وفي
نظرتها لقضايا الحريات والمرأة والأقليات،لكن يظل
انتماؤها الإسلامي مثيراً لنقاشات عديدة حول شكل الدولة الجديدة في العالم
العربي وعلاقتها ب”تطبيق الشريعة” وفكرة الدفع باتجاه تحييد الدولة تجاه
الدين.
الدين وهوية الدولة:
من
غير الممكن تجاهل دور الدين في ثقافة المجتمعات العربية،فالثقافة العربية
مرتبطة بالإسلام ارتباطاً وثيقاً،وحجم
التداخل بين العروبة والإسلام وحجم تأثير الدين على سلوك المجتمعات
العربية ووعيها أكبر من أي إمكانية لتجاهله،وكذلك لا يمكن اختزال الحديث عن
الدين بالحديث فقط عن كونه شأناً شخصياً،فالدين بطبيعته يُمَارس ضمن
جماعة،ومن الطبيعي بالتالي أن تكون مظاهره حاضرة في المجال العام،ومحاولات
قمعه في بعض البلدان العلمانية المتشددة كتونس بورقيبة وتركيا الأتاتوركية
لم تغيّر من هذه الحقيقة،ولم تسهم إلا في إعطاء زخم للحركات الإسلامية في
هذه البلدان.
مع
ذلك كله لابد من التوقف طويلاً عند محاولة تحويل الدين بما هو حالة
اجتماعية روحية إلى عقيدة سياسية للدولة،فالدولة الحديثة قامت على أساس
هوية قومية تعبر عن الأمة التي تمثلها،والهوية القومية تمثّل انتماءً إلى
أمة متخيلة وليست إلى دين،فالهوية الأميركية أو الفرنسية يمكن أن تضم
أشخاصاً ينتمون إلى الإسلام والمسيحية واليهودية كأديان،والدول الحديثة
تقوم على هوية قومية تعبر عن جامعٍ مشترك بين مواطنيها،وهو ما لا ينطبق على
أي هوية دينية بوصفها هوية تقسيمية تقود إلى روايات تاريخية مختلفة
ومتناقضة،حيث يبرز السؤال مباشرة:عن أي إسلام
نتحدث؟،وعن أي رواية تاريخية للإسلام؟،ومباشرة نذهب باتجاه التشظي
الطائفي،وهو ما حصل بالفعل في دولٍ كالسعودية وإيران والسودان قدمت هوية
دينية مذهبية للدولة فأحدثت خللاً في موازين المواطنة المتساوية وفضّلت
جماعات دينية على أخرى وأسهمت في دفع الجماعات المختلفة مذهبياً إلى مقاومة
تلك الهوية،ما أدى بالنتيجة إلى فشل مشروع الاندماج ضمن إطار الدولة وخلق
بؤر توتر طائفية.
قاد
تسييس الحالة الدينية إلى تصعيد الاحتقان الطائفي في العالم العربي،وتحولت
الجماعات الدينية إلى أحزاب سياسية بعدما تحولت المذاهب الدينية إلى عقائد
سياسية،وكان لأزمة الدولة الحديثة في العالم العربي المتمثلة بغياب قيمها
وآلياتها،ولضمور وتراجع المشروع العربي،إسهام كبير في انفجار الهويات
الفرعية بهذا الشكل،ما يعني أن الجهود يجب أن تبذل لمعالجة الخلل وإعادة
الحالة الدينية والمذهبية إلى وضعها الطبيعي.
وكما
أن اعتبار الدين هوية للدولة يقود إلى إشكالات اجتماعية وسياسية،فإن
الوصاية الدينية على مؤسسات الدولة يقود إلى
إشكالات على صعيد نظام الحكم،فلا يمكن تصور نظام حكم ديمقراطي مع وجود
وصاية دينية على المؤسسات أو في فرض مظاهر التدين قسرياً على أفراد
المجتمع،ويبدو النموذج الإيراني مثالياً في شرح هذه الإشكالية،فرغم وجود
مؤسسات دولة منتخبة في إيران،إلا أن هذه المؤسسات خاضعة بحكم الدستور
لوصاية الفقيه وولايته عليها،وهو ما يعني تعارضاً واضحاً بين الإرادة
الشعبية وإرادة الفقيه الذي يُقَدَّم على أنه ممثل الإرادة الدينية،ويؤثر
هذا الوضع الديني على مسألة الحقوق والحريات،إذ إنها تخضع في النهاية
للتفسير الديني الذي تتبناه المؤسسة الدينية
الحاكمة في إيران،وبالتالي نصبح أمام نظام حكم غير ديمقراطي وإن كان يتمتع
بشرعية انتخابية وشعبية.
ما
يجب التأكيد عليه هو الدفع باتجاه حياد الدولة تجاه الدين لتستوعب جميع
مواطنيها باعتبار المواطنة معياراً للانتماء إلى الدولة ومؤسساتها،وأن
إقحام الدين في أي نظام حكم سيؤدي إلى تحوله إلى نظام حكم ديني غير
ديمقراطي،ولا يكفيه وجود ممارسة انتخابية ليكون ديمقراطياً طالما أن مبادئ
الديمقراطية غائبة وأن الوصاية الدينية على المؤسسات قائمة.
تطبيق الشريعة:
يتردد
شعار “تطبيق الشريعة” كثيراً على لسان أعضاء الحركات والأحزاب الإسلامية
على تنوعها واختلافها،وقد كان هذا الشعار يرفع في وجه الأنظمة الاستبدادية
قبل الثورات،لكنه ظل يتردد بعد الثورات أيضاً،وخاصة في عز التنافس
الانتخابي كما حصل في مصر من قبل جماعة الإخوان المسلمين
والتشكيلات السلفية،كما يتردد أيضاً في نقاشاتٍ تجري بين الإسلاميين
أنفسهم وبينهم وبين غيرهم في العالم العربي.
من
الواضح أنه شعار فضفاض،إذ إنه يثير تساؤلين لا يجدان إجابات شافية:ما هي
الشريعة؟وكيف يتم تطبيقها؟.بالنسبة للسؤال الأول يمكن الحديث عن تعريف
الشريعة بما هي أحكام عقائدية أو عملية سنها الله سبحانه لعباده –كما يرد
في الموسوعة الفقهية- لكن هذا الكلام لا يكفي لإجابة السؤال،فالأحكام
تستنبط باجتهادات مختلفة تعتمد على تأويلات مختلفة
للنصوص القرآنية والنبوية،وبالتالي لا يمكن الحديث عن الشريعة إلا بربطها
بفهم أشخاص أو اتجاهات معينة داخل الحالة الإسلامية،وهذا الفهم يختلف من
اتجاهٍ لآخر ومن مجتهد لآخر،حتى في توصيف ما هو قطعي وما هو ظني من أحكام
الشريعة،ما يعني أن الحديث هنا ليس عن حالة ثابتة اسمها “أحكام الشريعة” بل
عن محاولات فهم واجتهادات مختلفة تفضي إلى “شرائع” مختلفة،دون أن نغفل عدم
وجود تصور واضح لدى بعض التوجهات والمجتهدين حول أحكام الشريعة في القضايا
المطروحة في الواقع المعاش واكتفائهم بترديد الشعار دون أي تفاصيل حقيقية
حول تطبيقاته،ومحاولتهم
إقحام المسألة الدينية قسراً في قضايا ذات بعد تقني صرف معتمدين نهج
“تديين الدنيا” الذي لا يستقيم مع واقع الحياة.
أما
السؤال الثاني فتتفاوت الإجابة عليه من بين الحركات الإسلامية
ومنظريها،وفيما لا يقدم البعض إجابة وافية ذات مدلول واضح،يذهب البعض الآخر
إلى القول بضرورة وجود هيئة شرعية من العلماء تمنع تشريع ما يتعارض مع
الشريعة الإسلامية في مؤسسات الدولة،أو بوجوب مرور القوانين المشرعة من
البرلمان على المؤسسة الدينية لتقر بشرعيتها الدينية،وفي
الحالتين وفي أي حالة أخرى يتدخل فيها رجال الدين في مراقبة عمل المؤسسات
المنتخبة نكون أمام حالة “ولاية فقيه سنية” على غرار النموذج الإيراني،ولا
يفيد اختلاف التسميات في إخفاء حقيقة المسألة،حيث أننا سنكون أمام دولة
بهوية دينية تقسيمية.
الدعوة
إلى دورٍ لمؤسسات دينية في تحديد أو تقييم سياسات الدولة هي محاكاة
للنموذج الأوروبي ما قبل الثورات حين كانت الكنيسة شريكة في الحكم وإدارة
الدولة وتحديد سياساتها العامة،وهذه المسألة لم تكن موجودة أصلاً في
الواقع الإسلامي،إذ إن الخلافة الإسلامية لم تكن قائمة على شراكة رجال
الدين أو مؤسسة دينية بعينها في إدارة الحكم وتحديد سياسات الدولة،وكان
تأثير الحالة الدينية قائماً من خلال المجتمع والتأثير عليه عبر المنابر
الدينية وحلقات التعليم بما يشكل عامل ضغط اجتماعي على السلطة
السياسية،وحتى تقريب بعض الخلفاء لبعض رجال الدين في فترات معينة لم يكن
ليغير المعادلة السياسية التي لم ترتكز على شراكة رجال الدين للخلفاء في
السلطة السياسية.
بالنظر
إلى ما
يقوله المفكر محمد عابد الجابري من أن الشريعة لم تطبق كاملة في يوم من
الأيام يمكن القول إن مسألة “تطبيق الشريعة” هي شعار غير واقعي ولا يمكن
الحديث معه عن نموذج واحد للشريعة تم تطبيقه سابقاً ويراد إعادته إلى
الواقع العملي اليوم،وهذه النظرة الواقعية قادت قوى إسلامية كحركة النهضة
إلى الوصول لفهم متقدم للشريعة يتصالح مع الديمقراطية بمبادئها من خلال
الحديث عن قدرة الديمقراطية على تحقيق مقاصد الشريعة،مسلِّمة بذلك بالخيار
الديمقراطي وبعدم استخدام أدوات الدولة في فرض وجهة نظر دينية محددة.
ما
قامت به حركة النهضة من فصلٍ بين ما هو دعوي (أو ديني) وبين ما هو سياسي
هو الخيار الأكثر واقعية في مقاربة مفهوم الشريعة والأكثر تصالحاً مع
الديمقراطية،حيث تطرح الحركة نفسها كحزب له برنامج عمل سياسي ضمن حالة
تنافسية ديمقراطية،وهذا الحزب يلتزم بالمرجعية الإسلامية دون أن يُلزم بها
الآخرين (وهو الخطاب المعلن للحزب رغم تشكيك بعض العلمانيين في تونس
فيه)،وبالتالي يمكنه أن يسن قوانين وتشريعات تتوافق مع الشريعة إن حصل على
ثقة الناس عبر صناديق الاقتراع شريطة ألا تتعارض هذه القوانين مع
مبادئ الدستور والديمقراطية،خصوصاً وأن الشريعة مصدر من مصادر التشريع
بحكم الدساتير المختلفة في العالم العربي،ما يجعلنا نتحدث في هذه الحالة عن
اعتبار الحزب فهمه للشريعة مرجعية له لا مرجعية للدولة،حيث لا تجتمع
الديمقراطية مع إلزام الدولة للناس بالمظاهر الدينية واستخدام أدوات الدولة
لفرض وجهة نظر دينية تحت شعار تطبيق الشريعة.
معركة التجديد:
يقدم
الإسلاميون تفسيرات مختلفة للشريعة ولعلاقتها بنظام الحكم،لكنهم دخلوا
العملية الديمقراطية في أكثر من بلد عربي،وحتى أولئك الذين جاهروا بموقف
حاد من الديمقراطية دخلوها بعد الربيع العربي،وصار بالإمكان توقع تغيير في
الرؤية عندهم مع ممارسة العمل السياسي في بيئة حرة مفتوحة،لكن هذا لا يغني
عن نقاش المفاهيم خصوصاً في مرحلة التحول الديمقراطي هذه التي تتطلب
إيماناً عميقاً وجازماً من النخب السياسية بالمسألة الديمقراطية،كما لا
يعني دخول العملية الديمقراطية زوال الشكوك
حول بعض القوى الإسلامية في موقفها من الديمقراطية وتطلعها لنموذج الدولة
الدينية خصوصاً وأن بعضها لم يقم بمراجعات تدل على تغيير فكري عميق (مثل
السلفيين)،وأن بعضها الآخر (كالإخوان المسلمين) لا زال يردد شعارات دينية
ويقوم ببعض الممارسات التي تعطي مؤشراً على عدم تجذر المفاهيم الديمقراطية
والمدنية في خطابهم ورؤيتهم رغم ترديد شعارات الديمقراطية بين حينٍ وآخر.
إن
الدفع باتجاه تكوين أحزاب سياسية لها برامج عمل ذات طابع تنافسي تفصل بين
ما هو دعوي وما
هو سياسي في الحالة الإسلامية،ورفض هيمنة الدين والفتوى على الدولة وإحداث
حالات استقطاب تؤدي إلى إشكالات أهلية،وتطوير النقاش والانتقال به من
النقاش حول الديمقراطية بمبادئها الرئيسية إلى الحريات العامة والخاصة في
رؤية الحركات الإسلامية وكيفية تعاطي هذه القوى مع الحريات الاجتماعية،كلها
باتت ضرورات ملحة يفرضها الواقع الجديد في العالم العربي،ومن يبتعد عن هذا
التجديد سيجد نفسه في موقف محرج.
يمكن
للشباب المتبني للقيم المدنية والذي ساهم في صنع
الثورات أن يدفع أيضاً باتجاه التجديد عبر تأكيده على تبني المبادئ
الديمقراطية في نظام الحكم وعبر التأكيد على كون البرامج السياسية
والاقتصادية وليس الانتماءات الدينية هي المعيار للحكم على القوى السياسية
المختلفة،وكذلك من خلال رفض الانخراط في قوى وجماعات دينية/مذهبية تعزز
حالة الاستقطاب المذهبي في العالم العربي.
علاقة
الدين بالدولة أحد المسائل المهمة التي يجب أن تناقش بشكل جاد من خلال طرح
مفاهيم الشريعة والعلمانية والدولة المدنية
والديمقراطية للنقاش الموضوعي والتأكيد على أن الحديث العام الفضفاض حول
هذه المفاهيم لا يكفي وأن نقاش التفاصيل بات أولوية في وقتنا الحالي.
خاص بموقع “المقال”
9 نوفمبر, 2012
http://www.almqaal.com/?p=2586
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..