بمجرّد الترحيب بنا من قبل مدير سجن “ذهبان” –الشيخين
الفاضلين اللذين شرفتُ بمرافقتهما وأنا- وجلوسنا في القاعة الرئيسية؛
بادرته مباشرة: “أتمنى أن يكون الأخوين جميل فارسي ود.عادل باناعمة من
ضمن
من سنزورهم في جولتنا اليوم”. وكنت ساررتُ الشيخين بذلك، واستأذنتهما قبل
الدخول للسجن، وكتمت أسباب ذلك عنهما. مدير السجن الخلوق، ردّ بابتسامة رضا
وثقة وقال لي: “أبشر.. سترونهما، وكل من تريدون. ليس لدينا تحفظ على أيّ
اسم”.
صدى المقالتين السابقتين عن الشيخين سلمان العودة وعوض القرني
كان عريضا، والحمد لله أنها بدّدت الأراجيف حيال تعامل الدولة مع أبنائها
الموقوفين، ولذلك كان الصياح المدوّي والألم من لدن أولئك المعارضين
التافهين في لندن، وهم يكيلون الشتائم تلو الشتائم بكل نرفزة وعصبية ونزق،
فضلا عن مرتزقة قطر في “تويتر” المتخفين خلف أسماء مستعارة، إضافة لخلايا
القميء عزمي بشارة، وهم –عبثا وبلا طائل- يردحون في المقالتين وصاحبهما،
بسبب أنهما بدّدتا كل ما روّجوه، وألّبوا به الرأي العالمي خلال الفترة
الماضية من تعرّض أبنائنا وإخوتنا الموقوفين هؤلاء للتعذيب والإهمال الطبي،
وغمط حقوقهم كموقوفين. وكنا -من باب الأمانة والشهادة- نسأل مباشرة مدير
السجن ومساعديه الفضلاء عن كل شكوى يقول بها من لاقيناه من إخوتنا
الموقوفين هناك، وكانوا في لحظتها يجيبون علينا، وبعض الأسئلة سألتهم لاحقا
عنها.
الألم والغيظ الذي تحدّث بهما أولئك المعارضون الفُلُس،
والشتائم التي كالوها لكاتب السطور، والتكذيب الذي يروّجونه؛ كنت أعلق
لأصدقائي عليها؛ أنها أوسمة ونياشين في صدري وتاريخي، وأحمد الله تعالى على
رفقة الشيخين الفاضلين لي، وشهادتهما بصدقِ ما كتبت. الطريف أن أحد
الشيخين أرسل المقالة لبعض طلبة العلم من أصدقائه، وردّ بعضهم بتكذيبي،
والشيخ يقول له إن الكاتب صَدَقَ في كل ما كتب. ولكن دون جدوى في إقناع
صديقه، وليت شعري كيف ستكون ملامحه، والصدمة التي ستصيبه؛ عندما يكتب
الشيخان -اللذان هما من أهل العلم والفضل- عن مقالاتي وزيارتنا هذه،
ويفصحان عن نفسيهما بعد انتهائي من سلسلة المقالات قريبا، ولربما تغريدة
الابن عبدالله العودة عن اتصال أبيه الشيخ سلمان العودة به بالأمس، وأنه
بخير وعافية؛ قطعت ألسنة المشككين في مصداقية ما كتبناه عن تعامل الدولة مع
أبنائها الموقوفين، وسيظل أولئك يشككون ويؤلبون، ولا ننتظر منهم عدالة أو
مصداقية لأنهم حاقدون على بلادنا.
فوجئت –إبان جولتنا- بدخولنا إحدى الغرف، ولمحتُ ثلاثة أسرّة
مرتبة بشكل جيد، وصوتٌ يرحّب بلهجة مكية مميّزة بمدير السجن ومرافقيه الذين
ولجوا الغرفة قبلنا، ومن فوري هرعت بالدخول وأنا أصيح: “أبا أحمد هنا”,
لينتبه لصوتي هو الآخر، وبكل ذهول ومفاجأة وعدم تصديق أقبل مسرعا لمعانقتي،
وسرعان ما انقلبت سحنة الصديق جميل فارسي من مفاجأة إلى ملامح سعادة
طافرة واشراقات أمل، فيما كنت أعانقه وأقبّل خدّيه، وكان يدافعني رافضا أن
أقبّل رأسه. قمتُ أقدّم له الشيخين، وقد عَرَف أحدهما وقال: “ظهرنا سويّا
في برنامج فضائي سابق”.
عندما اصطففنا وقوفا، في داخل الغرفة الواسعة التي احتوتنا،
بالمناسبة كان الشيخ سعيد بن مسفر إبان إيقافه في هذه الغرفة مع جميل والأخ
سامي الثبيتي قبل أن يعفى عنه ويخرج؛ قال مدير السجن للصديق جميل فارسي:
“أخونا عبدالعزيز ألحّ كثيرا عليك، وعلى صديق آخر له، مصرّا على رؤيتكما
بشكل كبير، ولا نعرف سبب إصراره”. قالها بروح أخوية.. بادرتُ كل من الغرفة،
من مدير السجن ومساعديه والشيخين الكريمين، وقلت: “أمّا سبب إصراري؛
فلمكانة هذا الرجل في نفسي، ولسابقة له معي، إذ في مقالات السجون الأولى
التي كتبتها قبل ستّ سنوات، وقف معظم من كان في مجلس “الثلوثية” –وغيره من
المجالس- يكذّب ما جاء في سطوري، ويرميني بالتملّق ومجاملة الدولة خلا هذا
الرجل، فهو الوحيد في ذلك المجلس الذي صدّق تعامل الدولة مع السجناء، وما
تقدمه من خدمات في سجون المباحث، وقام بالدفاع عني -مجاهرة- في ذلك المجلس،
بل وفي غيره من المجالس النخبوية. لم يكن ثمة دافع له أبدا، إذ كانت
علاقتي به سطحية وبسيطة، إلا وطنيته وحبّه لكل مشروع وطني متمدّن، فأكبرته
وحفظت له ذلك، وجئته اليوم هنا حفظا لموقفه النبيل ذاك، فمواقف المروءات لا
تضيع عند الرجال”.
قلت له –ككل من التقيتهم- وسألته: “أبا أحمد، هل تعرّضتَ هنا
لتعذيبٍ، أو هدرِ حقوق أو ضيم أو تضييق. أسألك بالله أن تقول بما في نفسك،
فهذان الشيخان سينقلان ما تقول للمسؤولين!!”. لم يدعني حتى أكمل، وقال
بلهجته العامية المكّية التي يعرفها أصدقاؤه مفجوعا: “أعوذ بالله، اش هذا
الكلام يا أبو عزة، فين نحن!! والله لا تعذيب ولا هم يحزنون.. كلام فاضي
وهباب.. ايه الجُنان اللي بتقوله!!”.
أفهمه أحد الشيخين بما يُحاك في الخارج من قبل الحاقدين على
الوطن، فبادرَنا: “أنا قلت لزوجتي وأهلي، احمدوا الله أنني مسجونٌ هنا في
السعودية.. كل شيء نطلبه يأتينا.. لا أجاملهم، فكل من في السجن يعاملني كأخ
أكبر لهم.. أنا لا أرضى أبدا أن يتكلم أحد في موضوعي.. هل تعرفون لماذا؟!
ثقة مني تجاه الدولة التي تعاملني كابن لها.. الاتصالات والزيارات مفتوحة
لي والحمد لله، وشددتُ على أبنائي ألا يكتبوا شيئا، وألا يسمحوا لأحد أن
يتكلم في قضيتي، لا من قريب ولا من بعيد، بل لم أطلب من أيّ أحد أن يتكلم..
هذه مسألة بين الدولة وابنها”..
التفتَ لي، وأنا طيلة الوقت بجواره وممسكٌ بيده تخفيفاً
وأخوّة، وقال: “تتذكر -أخي عبدالعزيز- كيف أنّ كثيرا من الأشياء التي
طالبنا بها في البرامج الفضائية التي ظهرتُ فيها معك؛ تتحقق اليوم في هذا
العهد الجديد والحمد لله.. أنا رجل وطني، أحب وطني بدرجة كبيرة، ولذلك
أنتقده لأني أحبه، وبقصد الإصلاح. تتذكر –أخي عبدالعزيز- موضوع رسوم
الأراضي التي بدأتْ من حلقة في برنامجك أقمناها قبل سنوات، وها هي اليوم
تتحقق، بل وكثير من الأشياء التي طالبنا بها -بقصد الإصلاح- تحققت والحمد
لله”.
قلت له: “هل من مطالب لك أبا أحمد؟! هل ينقصك شيء؟!.. أخبرنا
قبل أن نغادر”. أجابني: “والله كل شيء متوفر، وما قصّر هؤلاء –مشيرا إلى
مدير السجن ومساعديه- معي، ولكن لي رجاء إن كان بالإمكان زيادة عدد زيارات
عائلتي لي، وإلا فكل شيء متوفر والحمد لله، ومعاملة من أرقي ما يكون”.
عندما غادرنا غرفته، وكنت آخر من يغادر؛ ختم لي كلامه وأنا
أعانقه مودعا: “أنت تعرفني جيدا، وأنّ قصدي الإصلاح من كل النقد الذي قلته،
وإن كان ثمة خطأ فأنا أعتذر عنه، ولا بد للإنسان أن يخطئ، وفرقٌ بين من
يعتذر عن خطئه، وبين من يكابر ويصرّ عليه”.
صديقي الآخر د. عادل باناعمة، لم نجده في الغرفة عندما مررنا
عليه، إذ كان موعد زيارة عائلته له. وبعد تطوافنا؛ كرّرت الرجاء على مدير
السجن، فرحّب بذلك، وذهبنا إلى غرفة “الضيافة” التي لاقينا فيها الشيخ عوض
القرني، ولم نلبث قليلا إلا وصديقنا د. باناعمة يأتينا، بمثل هيئته التي
أعرفها، وبمجرد أن ميّزنا؛ انفرجت أساريره، وارتسمت سعادة كبيرة على
محيّاه، وهرع إلينا يعانقنا واحدا تلو الآخر، وكالعادة عَرَف الشيخين
الفاضلين، وعندما استوى المجلس بنا، قمتُ أهاذره تخفيفا، لدالتي عليه وقربي
منه: “أيّ شِعرٍ كتبت أبا البراء..أسمعنا.. أم طار الشِعرُ من رأسك”،
ابتسم تلك الابتسامة الودودة التي يعرفها أصدقاؤه، وقال: “لا أكتب الشعر
هنا.. الوقت لمراجعة القرآن الكريم. انتهيت من 30 ختمة كاملة، وقراءة في
صحيح البخاري والحمد لله”.
التفتُّ لمدير السجن والشيخين وقلت: “أما سببُ إلحاحي على لقاء
د. عادل، فهو أيضا ممن كان ينافح عن المقالات تلك وتعامل الدولة مع
أبنائها، أمام الحقوقيين المعارضين وبعض المحامين الناشطين، وكان يدفع عني
تهمهم الباطلة في التملق والارتزاق وكثيرا مما رموا به بفجور وكذب، والرجلُ
صديقٌ قديم وحبيبٌ لي، أعرف وطنيته في شعره وخطبه ومقالاته”.
سأله أحد الشيخين عن المعاملة، ووَضَعه في الصورة، وسببِ
مجيئنا، فقال د. باناعمة: “المعاملة ممتازة منذ أن وصلنا، والتغذية مميزة.
والتعذيب لم أتعرض له أبدا، بل لم أسمع به من أحد من زملائي. الزيارات
مفتوحة لنا والاتصالات كذلك. طلبتُ بعض الكتب، ولم يقصّر المسؤولون هنا،
وأكرموني بجلّها. وأنا لا أقبل أبدا أن يتاجر أحد في قضيتي، فليست هنالك
أية مصلحة.. نحن أبناء الدولة، ودخول أيٍّ كان مرفوضٌ ولا نقبله، وكنت
أناقش بعض زملائي الموقوفين بهذا، وكلنا أجمع على ذلك، في استنكار دخول أحد
أو جهة أو منظمة بيننا وبين دولتنا”.
بكثير من الثقة أكمل لنا د. باناعمة: “قد تكون هناك بعض
الاجتهادات في بعض المواقف، والأصل أنّ هذه بلادنا، وهؤلاء ولاة أمرنا،
وقلت للمحقق بأنّ لي 30 عاما أكتب وأخطب، ولاحقا أغرّد.. فإن أخطأت فالأصل
حبّ هذا الوطن والانتماء له، والتقييم ليس على خطأ أو بضعة أخطاء غير
مقصودة، بل على كل مواقفي.. موقعي فيه أكثر من 6000 صفحة، ولا توجد فيها
مؤاخذة أو إساءة للدولة، وإن فرض أنني أخطأت؛ فالاعتذار وارد، ولست بالذي
يصنع بطولة مع الدولة، ففي النهاية هم بمثابة الأب ونحن الأبناء”.
صارحتُ أخي الحبيب د. عادل باناعمة ببعض المؤاخذات، ولأني أدلّ
عليه، وأعرف وطنيته من خلال مزاملته في الصحافة، وأن البعض قصّر في إعلان
الوقوف مع الدولة، فأجابني: “وقفنا مع بلادنا في عاصفة الحزم، ولا مزايدة
في ذلك فهو واجب. أما قطر؛ فحصلت أكثر من مرة أزمة معها، ما لبث أن رضت
قيادتنا عنها، وباتت الأزمة عابرة، ولم يكن مطروحا وقتها لماذا لا نكتب؟!
ولو طُلب منا الكتابة فلن نتأخر أبدا، فهذه بلادنا في النهاية. أما بخصوص
البيعة والانتماء؛ فيؤلمني أنكم تطرحونها.. دونكم مقالاتي وخطبي موجودة في
موقعي، بل لي قصيدة بعنوان (زهو العلا في كفه والغمد) عن ولاة أمري، وربما
كان اندفاعنا في البداية نحو الربيع العربي، قبل أن نعرف مآلاتها وما وصلت
له، ووقفنا إبّان دعوة (حنين) مع بلادنا في منابرنا ومجالسنا ولا نقبل أبدا
أن تمسّ.. أما مؤتمرات التغيير، فهل هناك أفضل من هذا التغيير الذي نعيشه،
ويقوده الأمير محمد بن سلمان.. تغيير مبشّر، وبحكم شبابه وحيويته استطاع
أن يحقق قفزة كبيرة في فترة قصيرة”.
سألنا عن خاله د. علي بادحدح إن كان رآه، فقال أنه لم يلتقه
أبدا مذ إيقافه، فرجا أحد الشيخين مدير السجن إن كان بالإمكان رؤية الشيخ
في حضور ابن أخته، فأومأ بموافقته، وما هي إلا دقائق ودخل علينا الشيخ علي
بادحدح، لنشاهد منظرهما يتعانقان، وتلك حكاية أخرى في مقالة مقبلة.
نقلتُ بدقة وأمانة ما سمعناه، ويتعاظم الأمل في ولاة أمرنا
حيال أبنائهم هؤلاء ممن عرف خطأه وتقصيره، وخصوصا أولئك الذين يوقفون لأول
مرة في حياتهم؛ أنهم وَعَوا الدرس الكبير، وفطنوا لموضع الخطأ الذي وقعوا
فيه من خلال التحقيقات التي أجريت لهم، وفي النهاية هؤلاء الأبناء قوة
ناعمة للدولة، بحكم تخصصاتهم وحضورهم في الشأن العام، ويقينا أن كثير منهم
لن يتوانى أبدا في الوقوف مع بلادهم وقيادتهم، خصوصا بعد تجربتهم هذه.
مليكنا الكبير سلمان بن عبدالعزيز، عُرف عنه الحزم والقوة
وكذلك الأبوّة والرحمة في آن واحد ، ولا أرى إلا أبيات المتنبي هنا تصلح
لهؤلاء الأبناء مع والدهم:
وأَنــتَ حَيــاتُهُم غَضِبَــت عَلَيهِـم
وهَجـــرُ حَيــاتِهِم لَهُــمُ عِقــابُ
وعَيــنُ المُخــطِئينَ هُــمُ ولَيسُـوا
بِــأَوَّلِ مَعشَــرٍ خَــطِئُوا فَتــابوا
وَمــا جَــهِلَت أَيــادِيَكَ البَــوادِي
ولكِــنْ رُبّمــا خَــفِيَ الصَــوابُ
المقالة القادمة والأخيرة: ما الذي قاله لنا علي بادحدح ومحمد موسى الشريف؟!
-
.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..