الأحد، 3 مايو 2020

البروتيوم البشري.

البروتيوم البشري.. مشروع يبحث عن سر داخل ثلاثة مليارات لغز
            مع مطلع القرن تم فك الجينوم البشري. ومن سبق إلى هذا كان العالم الأميركي كريج فنتر قبل المشروع الدولي في لوس آلاموس. وهو نفس مكان إنتاج القنبلة الذرية ومكان اكتشاف
شيفرة الوجود الإنساني. والآن يبدأ العلماء في مشروع عملاق جديد أعظم من الجينوم البشري هو البروتيوم البشري (Human proteom). ومشروع الجينوم البشري كان يدور حول دراسة الأحماض النووية في تركيب المادة الوراثية في نواة الخلية.

أما البروتيوم فهو دراسة البروتينات الموجودة في باطن الخلية. وإذا كانت دراسة المادة الوراثية على احماض ثابتة تقرأ مثل الحروف في صفحات كتاب بتتابع، فليس الأمر كذلك مع قراءة بروتينات الخلية التي تعتمد الأبعاد الثلاثة وتتغير في تركيبها على نحو دائم.

في الأسبوع الأول من اكتوبر عام 2003، اجتمع 3500 عالم من دول شتى في مونتريال في كندا لتوزيع هذه المهام على دول شتى في المشروع. وكانت حصة ألمانيا دراسة البروتينات في الجهاز العصبي. وإذا عرفنا أن عشرة بالمائة من الخلية مشحون بالبروتينات، وأنه يوجد ما لا يقل عن عشرة آلاف نوع من البروتينات، منها المستقر ومنها المتغير، يمكن تقريب التصور عن جسامة المشروع. والبروتينات التي سوف تدرس وتحدد تعمل على كل الوظائف في البدن سواء في الاستقلاب أو الإثارة العصبية أو الهضم أو هورمونات الجنس. وكما أعطي المشروع السابق اسم (الجينوم) فالمشروع الحالي أخذ اسم (الهيوبو Hupo). وسوف تكون الدراسة على البروتينات الموجودة في الدم والكبد والدماغ وسواه. والمشكلة التي اضطلع بها الألمان كانت في كشف اللثام عن البروتينات المسؤولة عن توجيه كل الفعاليات في جهاز الفكر والمشاعر والتصرف أي الدماغ. والتحدي أن الدماغ مادة ندر أن تبرع بها الناس. كما أنها سريعة التبدل مع الموت. وفي ميونيخ يوجد حاليا بنك خاص لجمع الأدمغة التي يتبرع بها أصحابها قبل الوفاة. فينتظرون موت صاحبها ثم يأخذونه إلى المشرحة فيفلقون الجمجمة، ثم يقطعون الدماغ في عشرات الشرائح الرقيقة، ثم يعمدون إلى معالجة الدماغ وحفظه بسرعة بتبريده من دون أن تتأثر الخلايا العصبية من التجمد. والاحتفاظ به على شكل شرائح للبحث العلمي، بحيث يمكن تزويد أي مخبر في العالم بالمادة الدماغية المحفوظة. وإذا كان الجينوم البشري قد أماط اللثام عن كامل التركيب الوراثي، فالمهمة الأصعب هي في تفسير النصوص فيه. ونحن نقرأ منه حوالي 140 ألف جملة مفيدة هي الجينات، ولكنها لا تمثل سوى 5% من بحر ثلاثة مليارات من الأحماض النووية. وتشبه العثور على لغة قديمة مكونة من ثلاثة مليارات حرف وتحوي جملا مفيدة. وحسب جيمس واتسون، الذي كشف عن تركيب المادة الوراثية للمرة الأولى عام 1962، فإن أمامنا 300 سنة لفك أسرار هذه اللغة. والجينات ليست مثل كبس الأزرار بحيث أن كل جين يعتبر مسؤولاً عن وظيفة محددة، إذا لكان الموضوع سهلاً، ولكنه يعمل على أساس تضافر الجينات وتبادل تأثيرها لإنتاج الوظائف. فقد عثر على ما لا يقل عن 200 جين تتشارك في تنظيم ضغط الدم عند الإنسان. ويمكن تصور اللغة الجديدة في مشروع البروتيوم بعد لغة الجينوم.

وتقول الباحثة (ميليتا شاخنر Melitta Schachner) من مركز البيولوجيا العصبية الجزيئية في هامبورغ إن بروتينا واحدا مثل البروتين لام واحد (L1) هو عالم قائم بذاته، وهو واحد من عشرة آلاف بروتين موجودة في الخلية العصبية. ونقصه أو فقدانه يقود إلى ما لا يقل عن أربعة أمراض عصبية تترافق بالتأخر العقلي واستسقاء الدماغ وغياب منطقة الجسر بين فصي الدماغ والشلل الارتعاشي واضطراب المشي. ومن أغرب الملاحظات التي لوحظت، هي أن الأم الحامل إذا عاقرت الخمر أصابت جنينها بهذا الخلل الذي يعطل عمل البروتين (لام واحد L1).

وتنقل مجلة در شبيجل الألمانية عن (شاخنر) قولها «إن هذه البروتينات (الموجهة) تسبح بين الخلايا أو تعلق على الجدار وما عرفناه منها هو في حدود المائة، ولكن حدسي يقول لي إن هناك أضعاف هذا العدد». وهذه المواد تسبح في طرق لا نهاية لها في الجملة العصبية المكونة من مائة مليار خلية عصبية تتصل في ما بينها بأمكنة تزيد عن مائة مليون مكان اتصال (العدد مرفوع إلى أس 14)، بحيث تقفز احتمالات الاتصالات إلى ما فوق الجوجول (عشرة مرفوعة إلى قوة مائة) وهي أكثر من كل جزيئات الكون (عشرة مرفوعة إلى قوة 83). والمشكلة في هذه البروتينات أنها تتبدل في ديناميكية حركية لا تعرف الهدوء. ولا تتصرف خلية عصبية مثل أختها. فواحدة قد تستجيب للسيروتونين والثانية تتأثر بالدوبامين (نقصه يؤدي لمرض باركنسون أي رعاش اليدين)، وأخرى تفرز غلوتامات.

ويبدو أن المشاعر والأفكار لها قاعدة مادية. وقد استطاع عالم من كندا معرفة كيمياء الخوف، فاستخلص مادة تقي من الخوف، فإذا حقن المرء منه انتفى. ولكنه مضر لأن ذهاب الخوف يقضي على الحياة. والخوف والغضب والحزن قد جعلت من أجل المحافظة على الحياة. فلو لم نعد نخاف من عضاض الأفاعي وتعذيب المخابرات والسقوط من شاهق، أصبنا بالعطب وتهشمت أعضاؤنا. وما يعتزم فهمه الباحثون في مشروع البروتيوم البشري (Human Proteom) هو القاعدة المادية لوظائف الدماغ من الذاكرة والفهم والعواطف. ومما ذكرت (شاخنر)، أن هناك آلية سحرية في الدماغ تشبه نبع الشباب فالخلايا العصبية عندها قدرة بناء شبكات وطرق منذ الطفولة وحتى الشيخوخة وإخراج استطالات من جوانبها للاتصال بالخلايا الأخرى (المحاور الأسطوانية)، وهنا يحصل المزيد من الخبرات. ولكن الخلية التي تريد مد يد التعارف لخلايا أخرى يجب أن تقلب نفسها إلى مرحلة الطفولة فليس مثل براءة الأطفال، وبهذه الآلية يبقى الدماغ يجدد نفسه بدون توقف. وقامت شاخنر بتجارب على الفئران في تعطيل عمل البروتين لام واحد فقاد إلى النسيان. وهو ما يحصل في عمليات التعلم وتطور الجنين. وهو يفسر تأثر الجنين بمعاقرة الأم الخمر. وقد أعلن 90 باحثا من العالم الآن عن مشاركتهم لكشف بروتينات الدماغ. وتقول شاخنر إنه من السذاجة الاعتقاد أن البروتينات لها وظائف محددة بل نحن أمام شبكة في غاية التعقيد. وعندما تضع يدك فتسحب نهاية جسيم البروتين ينتقل التغير للنهاية المقابلة. وقد يكون تلقيم كافة المعلومات إلى كومبيوتر متقدم حلا للمشكلة من خلال برامج التقليد (Simulation). وتقوم المهمة على معرفة بروتينات الخلية التي تمتلئ في حجم يصل إلى عشر الخلية بأن تعزل من السكاكر والشحوم ثم تغير البروتينات بسائل لزج تحت تأثير حقول كهربية وجاذبية فيقع في يدنا ما لا يقل عن عشرين ألف نوع من أنواع الجزيئات. مع هذا فلا تزيد عن ربع المكونات السابحة المنوعة. وأصعبها السابحة خارج جدار الخلية، مع أنها تلعب الدور الرئيس في تبادل التأثيرات بين الخلايا. وأعظم المشاكل تحديا للفهم هي أن هذه البروتينات تتبادل التأثير في ما بينها. فتشبه اللغة حين تتشابك الحروف فتتولد المعاني. بحيث يصبح مشروع الجينوم البشري لعبة أطفال أمام مشروع البروتيوم البشري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..