لم يعد الفضاء الرقمي في المملكة مجرد وسيلة للتواصل أو نافذة للمعرفة، بل أصبح في بعض الممارسات بابًا لاستغلال التقنية في إيذاء الآخرين والنيل من كرامتهم الإنسانية. ومن أبشع هذه الصور ما يُعرف بظاهرة "الإيذاء المبهج" أو الـ Happy Slapping، وهي تلك الأفعال التي يقوم فيها بعض الجناة بالاعتداء على شخص بريء، بينما ينشغل آخرون بتصوير المشهد عبر هواتفهم المحمولة ثم نشره على المنصات الرقمية طلبًا للضحك الزائف أو للمشاهدات، فيتحول الألم إلى مادة للفرجة، وتتعرض الضحية لانتهاك مزدوج، مرة عند الاعتداء الجسدي ومرة عند نشر مقطع الإيذاء علنًا.
هذه الممارسة لا تعد جريمة مستقلة بمسمى خاص في النظام السعودي، لكنها تخضع لتكييف مزدوج يجمع بين الاعتداء البدني والاعتداء المعلوماتي. فمن زاوية الاعتداء الجسدي، تنطبق أحكام نظام الحماية من الإيذاء الصادر عام 1434هـ، الذي يجرّم الأفعال التي تلحق أذى جسديًا أو نفسيًا بالغير، ويخول الجهات المختصة التدخل لردع المعتدي وضمان حماية الضحية. كما يمكن للقضاء الشرعي التعزيري أن يفرض عقوبات متناسبة مع جسامة الفعل، من سجن أو غرامة أو تدابير أخرى، بحسب ما يقدّره القاضي. ومن زاوية النشر والتصوير، يطبق نظام مكافحة جرائم المعلوماتية لعام 1428هـ، الذي نص في مادته الثالثة على معاقبة كل من يقوم بالتشهير بالآخرين وإلحاق الضرر بهم عبر الوسائل التقنية بالسجن مدة تصل إلى سنة وبغرامة تصل إلى خمسمائة ألف ريال، بينما نصت المادة السادسة على عقوبة أشد تصل إلى خمس سنوات سجن وثلاثة ملايين ريال غرامة متى تعلق الأمر بإنتاج أو نشر ما من شأنه المساس بالنظام العام أو حرمة الحياة الخاصة أو الآداب العامة.
أما إذا كان مرتكب الفعل قاصرًا، فإن الموقف النظامي يختلف، حيث يخضع لأحكام نظام الأحداث لعام 1439هـ، الذي يغلب التدابير الإصلاحية والتأهيلية على العقوبات السالبة للحرية، مثل الإيداع في دور الملاحظة الاجتماعية، أو إخضاعه لبرامج توجيهية، أو إلزامه بالخدمة المجتمعية. وبهذا يوازن النظام السعودي بين الردع وحماية المجتمع من جانب، وبين الإصلاح وإعادة التأهيل من جانب آخر.
إن خطورة "الإيذاء المبهج" لا تنحصر في كونه اعتداءً جسديًا فحسب، وإنما تكمن في مضاعفة الأذى النفسي للضحية عند نشر مقطع الاعتداء للعموم، حيث يتحول الألم إلى وسيلة للتسلية والاستهانة بالإنسان. ولهذا فإن تجريم هذه الممارسات في المملكة يقوم على حماية شاملة تمتد من صيانة الجسد ضد الإيذاء المباشر إلى حماية الكرامة الإنسانية من التشهير والإذلال الرقمي.
وعلى الصعيد المقارن، فقد واجه القضاء الفرنسي ذات الظاهرة تحت مسمى Happy Slapping، حيث أسست محكمة النقض الفرنسية مبدأ قضائيًا صارمًا في هذا الشأن. فقد اعتبرت أن مجرد الإمساك بالكاميرا لتسجيل وقائع الاعتداء، متى اقترن بالتعليقات اللفظية المشجعة التي تقوي عزيمة الجناة وتكشف عن الانخراط الواعي في نيتهم الإجرامية، يعد صورة من صور التواطؤ الجنائي بالمعنى الوارد في المادة 121-7 من قانون العقوبات الفرنسي، حتى وإن لم يباشر المصوِّر الاعتداء بيده. ومن ثم فإن التصوير ذاته لا يمكن النظر إليه باعتباره فعلًا محايدًا، بل يتحول إلى مشاركة إيجابية تساهم في تنفيذ الجريمة وتعزز آثارها النفسية والاجتماعية.
وفي القضية محل الطعن كان المتهم "كوينتن X" قاصرًا وقت ارتكاب الأفعال، وقد اقتصر دوره على تصوير الاعتداءات التي مارسها أقرانه ضد الضحية "فيكتور A"، مقرونًا بتعليقات لفظية مشجعة. وقد رأت محكمة الاستئناف في ريوم بتاريخ 22 يناير 2009 أن هذا السلوك يمثل مشاركة إيجابية تكشف عن انخراطه الواعي في نية الجناة وتقوية عزيمتهم، ومن ثم اعتبرته شريكًا في جريمة العنف المشدد. ورغم تمسكه أمام محكمة النقض بأن مجرد التصوير لا يشكل وسيلة للمشاركة الجنائية وفقًا للمادة 121-7 من قانون العقوبات، فإن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض قضت بتاريخ 28 أكتوبر 2009 (الطعن رقم 09-81.057) برفض الطعن، مؤكدة أن التصوير المصحوب بالتشجيع يندرج في إطار التواطؤ الجنائي، وبالتالي يبرر الإدانة.
وقد اكتفت المحكمة بمعاقبته بأربعين ساعة من العمل للنفع العام، مراعاة لكونه قاصرًا وقت ارتكاب الأفعال، الأمر الذي يستدعي تغليب التدابير الإصلاحية والتأهيلية على العقوبات السالبة للحرية. كما حمّل الحكم والديه "هوبرت X" و"فابيَن Y" المسؤولية المدنية عن التعويضات المقررة لصالح الضحية، بما يجسد فلسفة القضاء الفرنسي القائمة على المزج بين الردع والإصلاح في قضايا الأحداث.
وعليه، يتضح أن الموقفين السعودي والفرنسي يلتقيان في جوهر حماية الضحية من الإيذاء الجسدي والنفسي، غير أن القضاء الفرنسي توسع ليعتبر التصوير بحد ذاته فعل مشاركة جنائية، بينما يظل التكييف في السعودية موزعًا بين نظام الحماية من الإيذاء ونظام مكافحة جرائم المعلوماتية. ومن هنا تبرز الحاجة مستقبلًا إلى نص نظامي خاص يُدرج "الإيذاء المبهج" كجريمة مستقلة، باعتباره سلوكًا مركبًا يمس الجسد والكرامة الإنسانية معًا.
💢 كتبه/ مازن المليح .
المادة 121-7 (Code pénal français)ذات السيق .
النص الرسمي بالفرنسية:
Est complice d'un crime ou d'un délit la personne qui sciemment, par aide ou assistance, en a facilité la préparation ou la consommation.
Est également complice la personne qui par don, promesse, menace, ordre, abus d'autorité ou de pouvoir aura provoqué à une infraction ou donné des instructions pour la commettre.
الترجمة العربية لنص المادة :
يُعدّ شريكًا في جناية أو جنحة كل من يسهم عمدًا، بالمساعدة أو العون، في تيسير الإعداد لها أو ارتكابها.
ويُعدّ شريكًا أيضًا كل من دفع إلى ارتكاب جريمة أو أعطى تعليمات لتنفيذها عن طريق هدية، أو وعد، أو تهديد، أو أمر، أو إساءة استعمال السلطة أو النفوذ .
محكمة النقض،الفرنسية
الدائرة الجنائية ،،الحكم ،،
👇🏻👇🏻👇🏻👇🏻👇🏻👇🏻👇🏻👇🏻

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..