السبت، 18 أكتوبر 2025

بين فتوى الأمس وواقع اليوم الصلح مع اليهود ..

قبل أربعين سنة، أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-، على منبر الفتوى بميزان الشرع، لا يجره الهوى، ولا يضعف أمام صخب الشعارات، فقال كلمة الحق التي تليق بالعالم الرباني:
أفتى -رحمه الله- بجواز الصلح مع اليهود، ولو كان في ذلك شيء من الضيم والظلم للمسلمين، إذا كانت الأمة في حال ضعف وذلة، وكان العدو في حال قوةٍ وسطوة، لأن الشرع لا يكلف الأمة ما لا تطيق، ولأن الصلح في زمن الضعف ليس ولاء للكفار، بل درء للمفسدة الكبرى ودفع للدماء عن المسلمين.
فهاج الناس يومئذ، وضجت المنابر، وصاح الجاهلون والمتعالمون، وأصحاب الفكر المحدود، فاتهموا الإمام ابن باز بالعمالة، وأنه عالم سلطان، ووصفوه بالتخاذل، ونسوا أنه ما نطق إلا بدليل، ولا أفتى إلا بما يرضي الله، ونسوا قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
لم تكن فتواه حكما سياسيا، بل كانت فقها شرعيا واقعيا مؤصلا، يقرأ الموازين بعيون الشرع لا بعيون العاطفة والتحزب، ويزن الأمور بميزان المصلحة العامة للأمة، لا بميزان الشعارات الرنانة والعبارات الجوفاء.
غير أن تلك الفتوى كانت شوكة في حلق من باعوا عقولهم للعاطفة، فهاجموه، وتطاولوا على قامة لم يبلغوها علما ولا ورعا، وسبوه باسم (الغيرة على الدين)، وما علموا أن الغيرة الصادقة لا تكون على حساب النصوص، ولا على أنقاض العلماء.
ومضت الأعوام، وتعاقبت الأحداث، وتبدلت الأحوال، حتى أصبح ما كان (خيانة) يوصف اليوم بأنه نصر وفتح وكياسة سياسية!
صار الصلح ذاته الذي كان سببا للطعن في العلماء عنوان النضج والحنكة والواقعية!
لقد تغير الزمان، لكن الفتوى لم تتغير، لأن الحق لا يتغير بتغيّر المواقف، وإنما المواقف هي التي تفضح من كان مع الحق ومن كان مع الهوى.
السؤال المر الذي يفرض نفسه اليوم:
لماذا كانت فتوى العالم الجليل خيانة وركونا وعمالة وتطبيعا، واليوم أصبحت (فتحا مبينا) و(انتصارا دبلوماسيا)؟
هل تغير النص؟ أم تبدل الشرع؟
أم أن القلوب التي كانت تعادي الفتوى، لم تكن تعاديها لوجه الله، بل لحسابات حزبية و تحزبات فكرية ضيقة؟
إن قاعدة الشرع لا تجمع بين متناقضين، ولا تفرق بين متشابهين، ومن استباح لنفسه أن يطعن في عالم بالأمس ثم يصف فعله اليوم بالحكمة، فقد شهد على نفسه بالنفاق في الميزان، والتقلب في الموقف.
رحم الله الإمام ابن باز، فما نطق إلا بالقرآن، ولا أفتى إلا بما أفتى به نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين صالح المشركين، فظن بعض الصحابة أن في الصلح ضيما حتى ذكرهم أبو بكر الصديق بحكمة النبي - وهم على عتبات كتابة الصلح - فرجعوا عما كان في أنفسهم، ثم كان الصلح فتحا مبينا.
فيا من تجرأ بالأمس على العلماء، تذكر أن الصلح في الحديبية كان وحيا، والصلح في زماننا اجتهادا، ومن وافق الدليل فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
لكن من هاجم العلماء بجهل، فقد خسر الأجر والحق والعقل معا.
والدهر يدور، والأحداث تتكرر، ويبقى العالم الرباني ثابتا لا تهزه الرياح، لأنه ينطق باسم الحق لا باسم السياسة، ويفتي بوحي الكتاب والسنة لا بنصوص البيانات الحزبية.
فسلام على من عاش للحق ومات عليه، وسلام على من علم فعمل، وعلى من صدع بالحق حين صمتت الألسن، وخاف الله حين خاف الناس من الناس.
والله من وراء القصد.

بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني:
حرر بتاريخ 20 ربيع الأول لعام 1447هجرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..